نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة الرابعة والعشرون

شواهد التاريخ الباقية – الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُكمِل معكم في الحلقة الرابعة والعشرين من هذه السلسلة التي أسأل الله أن يعيننا على إنهائها والخروج منها ما انقطع من الحديث عن المُشاكَلة الجينية، المُشاكَلة على مُستوى الـ DNA كما قلنا.

ألان ويلسون Alan Wilson وفنسنت سيرتش Vincent Sarich
ألان ويلسون Alan Wilson وفنسنت سيرتش Vincent Sarich

طبعاً ربما تكون أحسن طريقة وأضمن وأوثق طريقة للوقوف على وجوه هذه المُشاكَلة والمُشابَهة أن نُقارِن بين الجينومات، مثل بين جينوم Genome الإنسان – مثلاً – وجينوم Genome الفأر جيناً جيناً Gene، ونقرأ الحروف والتتابعات لكل جينٍ جين Gene، وواضح أن هذه مسألة تحتاج إلى أموال هائلة، فالجينوم البشري تقريباً امتد العمل فيه مدة طويلة، وطبعاً عمل فيه عدد هائل من الرجال والنساء، وأُنفِقَت الكثير من الأموال باهظة، والذي أعرفه أنها جاوزت المليار، لكن كم مليار تحديداً لا أدري بالضبط الآن فقد نسيت، وعلى كل حال ألف مليون من الدولارات، فهذه أموال باهظة وأُنفِقَت على مدى زمني اقترب من عشر سنوات، وفي الحقيقة لما أُعلِن عن اكتماله لم يكن قد اكتمل تماماً حيث بقيَ فيه فضلة، لكنهم استعجلوا لأسباب معروفة، وطبعاً لدينا كتب ومُجلَدات عن قصة هذا المشروع الجينوم البشري والعمل فيه، علماً بأنها قصة ملحمية كبيرة، فبعض العلماء يقول “لم يُحقِّق الجنس أو النوع الإنساني فتحاً أعظم في باب العلم يُضاهي ويُضارِع هذا الفتح إلا ربما إنزال أول مركبة على القمر”، فهذا مشروع – أي مشروع الجينوم البشري – خطير جداً، فلكي نُنجِز أيضاً دراسة كاملة لجينوم Genome الفأر أيضاً سوف نحتاج إلى وقت طويل، وطبعاً تطور الحاسوب – الكمبيوتر Computer – جعل هذه العملية – بفضل الله – أكفأ وأسرع، لكن أيضاً تحتاج إلى وقت وتحتاج إلى جهود جبارة وتحتاج إلى أموال، وبفضل الله بعد ذلك – بعد ذلك بسنوات – أنجز العلماء مشروع جينوم الشِمْبانزِي Chimpanzee، فهو كامل تقريباً أيضاً، والآن هناك مشروع جينوم الإنسان ومشروعات أخرى، وإذا أصبح هذا في الإمكان بوفرة واقتصاد أفضل ربما يُكمِل العلماء مشروعات لمئات وربما ألوف من الكائنات الحية وخاصة الثديية التي يُوجَد منها بضعة آلاف من الأنواع، وحين إذن يُمكِن إجراء هذه المُقارَنات لجينوم Genome مع جينوم Genome – كما قلنا – وعلى مُستوى الجينات Genes جيناً جيناً Gene ويُمكِن أن نقرأ التتابعات بدقة، ولكن – كما قلنا – إلى الآن هذه الطريقة ليست ميسورة، وهناك طريقة قديمة تعود إلى ستينيات القرن العشرين المُنصرِم، فهى غير مُكلِفة وتم اعتمادها في ستينيات القرن أيضاً المُنصرِم، وسيرتش Vincent وويلسون Wilson – ألان ويلسون Alan Wilson – وفنسنت سيرتش Vincent Sarich استخدموا هذه الطريقة وأثبتا بها لأول مرة أن المُشاكَلة بين الإنسان وبين الشِمْبانزِي Chimpanzee ووجوه الشبه أو المشابِه أكثر مما كان يُتوقَع، وطبعاً صُدِمَ المُجتمَع العلمي بنتيجة هذه الدراسة، لكن تعتمد ماذا هذه الدراسة؟ هذه طريقة أخرى ميكانيكية أو آلية أخرى لدراسة المُشاكَلة الجينية تعتمد على الجهاز المناعي، لكن كيف هذا؟ الجهاز المناعي في كل حيوان يقوم بالعمل التقليدي المعروف ويُولِّد الأجسام المُضادة للبروتينات Proteins الغريبة الداخلة فيه بكل بساطة وبتبسيط شديد جداً، واعتمد العلماء الجهاز المناعي للأرنب، ويُمكِن طبعاً أن يعتمدوا أي حيوان آخر، لكن الأرنب أسهل وأفضل لأشياء مذكورة في أماكنها، وفي الإنسان نستطيع أن نعرف أن إنساناً ما أُصيب في يوم من الأيام بالسعال الديكي أو لم يُصَب مثلاً، لكن كيف هذا وهو من المُمكِن أنه أُصيب قبل أربعين سنة في طفولته؟ نعرف الآن بعد أربعين سنة أنه اُصيب بالسعال الديكي بفحص الأجسام المُضادة في دمه – أي في جمسه – ومن ثم نستطيع نعرف أنه في يوم من الأيام تعرض لهذا المرض وولد مُستضادات أو أجسام مُضادة لهذا البروتين Protein – مثلاً – المُعين، وكذلك في الأرنب، فالآن لو أتينا إلى أرنب وحقناه ببروتين Protein الشِمْبانزِي Chimpanzee، ما الذي سيحصل؟ سيُولِّد جهازه المناعي أجساماً مُضادة لهذا البروتين Protein الدخيل الغازي، وهذا أمر جميل، وقد ينجو الأرنب، وبعد ذلك نأتي نحقنه ببروتين Protein للغوريلا Gorilla، فماذا سيحصل؟ هل سيتعافى مُباشَرةً؟ لأ طبعاً، لكن علينا أن ننتبه إلى وجود صلة قرابة بين الشِمْبانزِي Chimpanzee وبين الغوريلا Gorilla كما تعلمون، فالأجسام المُضادة التي كوّنها جسم الأرنب ضد بروتين Protein الشِمْبانزِي Chimpanzee سوف تعمل في مُقاوَمة بروتين Protein الغوريلا Gorilla جزئياً لكن بكفاءة أضعف، وذلك بحسب الفرق طبعاً، وهذا جميل جداً، وسينجو في الأرجح، ولو أتينا الآن وحقنا الأرنب ببروتين Protein الكانجرو Kangaroo مثلاً، فإن الكنغر سينطبق عليه نفس الشيئ، فالأجسام المُضادة التي ولّدها ضد بروتين الشِمْبانزِي Chimpanzee والغوريلا Gorilla سوف تُسعِفه الآن لكن بدرجة أقل كفاءة، وهلم جرا طبعاً، لكن ما الفرق بين هذه الكفاءات أو ردات الفعل في كفاءتها هنا وهنا وهنا؟ هذا يكون بحسب ماذا؟ بحسب درجة قرب هذا الحيوان صاحب البروتين Protein الغازي من هذا ومن هذا ومن هذا، وبهذه الطريقة نستطيع أن نعرف ما نُريد بتبسيط شديد جداً، وبهذه الطريقة أجرى العالمان المذكوران – سيرتش Vincent وويلسون Wilson – التجارب على الإنسان والشِمْبانزِي Chimpanzee، فوجدا أن درجة القرابة بينهما وبالتالي المُشاكَلة والمشابِه أكثر مما كان يُعتقَد، بمعنى أن بروتين Protein الشِمْبانزِي Chimpanzee قريب جداً من بروتين Protein الإنسان، وجهازه المناعي يعمل بكيفية قريبة جداً من تلك التي يعمل بها الجهاز المناعي لدى الإنسان، فهو قريب – لن نقول أنه مُتطابِق، فهو ليس مُتطابِقاً طبعاً ولكنه يُعَد قريباً – إلى درجة مُحيرة، وهناك طريقة ثالثة وهى الطريقة المعروفة – هى طريقة حديثة طبعاً وقوية أيضاً – بطريقة تهجين الـ DNA، أي الـ DNA Hybridization، وطريقة تهجين الـ DNA هى الطريقة هى المسؤولة عن الإفادات – Statements – التي دائماً ما نقرأها في الكتب العلمية عن أن جينوم Genome الشِمْبانزِي Chimpanzee أو الشِمْبانزِي Chimpanzee بشكل عام يتشارك مع الإنسان في ثمانية وتسعين ونصف من الجينوم Genome مثلاً، ونتساءل ما معنى هذا؟ طبعاً هذا الموضوع سنعود إليه في حلقات نقد التطور بتعمق واسع، فهذه قضية مُشكِلة وكبيرة، ولذلك الآن سنختصر قضية تهجين الـ DNA، فالقضية مُشكِلة وكبيرة جداً، وإلا ما معنى أن الشِمْبانزِي Chimpanzee يتشارك مع الإنسان في ثمانية وتسعين ونصف في المائة من الجينات Genes؟ ما معنى هذا؟ وهل معنى هذا أنه على مُستوى الذكاء والتصرف والسلوك – Behavior – وعلى مُستوى العواطف والوجدان وعلى مُستوى الإبداع وعلى مُستوى حتى الاهتمامات يكون الفارق بيننا وبين الشِمْبانزِي Chimpanzee واحد ونصف في المائة؟ طبعاً لأ، فإذن ما معنى أن يتشاركا في ثمانية وتسعين ونصف في المائة؟ هذا الذي سوف نشرحه عندما نتكلم عن نقد نظرية التطور علمياً أيضاً والنقد المُوجَه لها علمياً، وسوف نرى أيضاً إفادات مُضادة وتفسيرات مُختلِفة لهذه النُقطة.

نأتي الآن إلى آلية أخرى أسهل وأوضح تتعلَّق بدرجة انصهار اللولب المُزدوَج Melting Point، أي نُقطة الانصهار للـ DNA، لكن ما هو اللولب المُزدوج Double Helix أو اللولبان المُزدوَجان Two Helixes؟ نأتي – مثلاً – إلى اللولب المُزدوَج عند الإنسان، وهو لولب الـ DNA الذي يكون كالضفيرة، هذا اللولب المُزدوَج Double Helix يتكون من ضفيرة من اثنتين أو من خيطين مضفورين، أي الـ Two Helixes، ولو سخناه قليلاً قليلاً – عملنا له تسخين Heating – عند درجة خمس وثمانين سيلسيوس Celsius أو مئوية سوف ينفك الخيطان، وتعرفون أنتم الـ (أدينيـــن Adenine – تيمين Thymine) والـ (سيتوزين Cytosine – جوانين Guanine)، فإذن هو ينفك وهذا جميل، وبعد التبريد قليلاً قليلاً يعودان يلتحمان مثل السوستة، كسوسنة الجاكيت Jacket التي تستطيع أن تفكها وأن ترجع تلتحم، فهى بالبرودة تلتحم أيضاً، والآن ضروري أن تلتحم أو يلتحم هذا الخيط من الـ Double Helix الخاص بالإنسان بالخيط الآخر إذا وُجِد، وهذا أفضل شيئ طبعاً، فهو يلتحم به بشكل كامل تماماً كما كان، ولو نحينا هذا الخيط وأبقينا خيطاً واحداً وأتينا بخيط ثاني من الشِمْبانزِي Chimpanzee فإنهما يلتحِمان، فهما يلتحِمان في مُعظم المواضع، إلا في المواضع التي وقع فيها الاختلاف، فلا يُمكِن أن يقع الالتحام، لكن في المُعظم يلتحمان، فإذن الترابط الآن يكون قوياً أم يكون ضعيفاً؟ يكون قوياً، لكن ليس في قوة ترابط خيطين من DNA الإنسان نفسه، لكن هناك التحام قوي، ولو نحينا هذا وآتينا بخيط آخر من غوريلا Gorilla سوف يحدث نفس الشيئ، فهو سوف يلتحِم ولكن بطريقة أضعف، وكذلك الحال إذا آتينا بخيط من أورانجوتان Orangutan، فإنه يلتحِم ولكن بطريقة أضعف من والغوريلا Gorilla أيضاً، وكذلك إذا آتينا بخيط من الكنغر – الكانجرو Kangaroo – فإنه يلتحِم، وهو ما يحدث مع الفأر لأنه أيضاً سيلتحم، ومن التفاح أيضاً سوف يلتحِم، ومن القرنبيط سوف يلتحِم، أي أن نفس الشيئ سوف يحدث لكن في كل مرة يكون الالتحام أضعف بحسب البعد، وهنا يتدخل التطور، فالأمر ليس مُجرَد أنها شيفرة واحدة ولغة واحدة، مرة أخرى هناك درجة قرابة، ومعنى درجة قرابة أن كلما كان الكائن أقرب إليك في سُلَّم التطور وفي فروع شجرة الحياة كلما أمكن الالتحام بقوةٍ أكبر، فإذا أتيت لي – مثلاً – بخيط من الـ Double Helix الخاص بالإنسان مع خيط من الـ Double Helix الخاص بالتفاح فإنهما سيلتحِمان إذن، ولكن لن يلتحِما في مواضع كثيرة، تماماً مثل السوستة التي إذا لم تجد ما يُناسِبها أو لم تجد أختها فإنها تبقى فارغة، لكن هل هناك قاعدة لدراسة قوة القرابة ومدى القرابة بين كائنين بطريقة الالتحام هذه؟ موجودة طبعاً، وهى سهلة وبسيطة مثل المسخرة كما يقول العلماء، فهى أسهل مما تخيَّلوا، لكن كيف هذا؟ نحن قلنا أن الـ Double Helix الخاص بالإنسان ينفرط عقده عند درجة خمس وثمانين، وهذا جميل، الحيوانات الأخرى تختلف في درجة حرارتها، فلو الآن عملنا Double Helix من خيطٌ من الإنسان وخيط آخر – نبدأ من أعلى شيئ – من الشِمْبانزِي Chimpanzee وسخناه الآن فهل من المفروض أن ينفرط عقده عند خمس وثمانين أم أكثر أم أقل؟ أقل طبعاً، فلن يكون الأمر عند خمس وثمانين درجة وإنما أقل، لأنه أضعف إلى حدٍ ما، فسوف تجده عند أقل من خمس وثمانين قد انفرط، ولو كان للإنسان لما حدث هذا قبل خمس وثمانين، ولو كان للغوريلا Gorilla لكان أقل من درجة انصهار Double Helix الإنسان والشِمْبانزِي Chimpanzee، فهو أقل من هذا طبعاً، ولو افترضنا إن الشِمْبانزِي Chimpanzee على أربع وثمانين – مثلاً – أو أقل من ذلك، في الحقيقة سوف يصل إلى ثلاث وثمانين أو اثنين وثمانين ونصف، وسوف أقول لكم لماذا لأن هناك قاعدة، وهى قاعدة مُحوسَبة وبسيطة، وعلى كل حال الشِمْبانزِي Chimpanzee سوف يكون أقل من هذا، من المُمكِن أن يصل إلى اثنين وثمانين، أما الأورانجوتان Orangutan فمن المُمكِن أن يصل إلى ثمانين، والقرنبيط من المُمكِن أن يكون عند الخامسة عشرة، أي أنه سينفرط مُباشَرةً، وهناك أشياء أخرى من المُمكِن عند سبع درجات أن تنفرط، لكن ما هى القاعدة؟ القاعدة تقول كل درجة حرارة واحدة أنقص من الدرجة المعيارية – المعيارية عند الإنسان هى خمس وثمانون، وقد فهمناها الآن – واحد درجة سلسيوس Celsius تُساوي فروقاً في الجينوم Genome من هذا إلى هذا – أي في الجينات Genes – بنسبة واحد في المائة” وهذا أمر عجيب، فالإنسان يحدث لديه الانفراط عند خمس وثمانين ولو وجدنا أن الـ Double Helix الخاص بالإنسان والخاص – مثلاً – بالكولوجو الذي حدَّثناكم عنه مرة – عند خمسين ينفرط فهذا معناه أن الفرق عندنا في الجينوم Genome بنسبة تصل إلى خمس وثلاثين في المائة، فهناك فرق وراثي بنسبة خمس وثلاثين في المائة بين الإنسان وبين الكولوجو مثلاً، وهذا افتراض طبعاً، فهذا لم يحصل لكن نحن نفترض فقط، وعلى كل حال هذه هى القاعدة، وهذا هو معنى درجة واحدة أقل من درجة الانصهار Melting أو نُقطة الانصهار Melting Point، فإذن هذه طريقة عبقرية وسهلة وغير مُكلِفة، لكن طبعاً لها بعض المشاكل التقنية، وهذا شيئ ثانٍ، لكن نحن نتحدث دائماً أيضاً عن المُخطَطات العامة، وطبعاً الإنسان إذا أراد أن يتخصص – نحن لسنا مُتخصِصين – سوف يرى كم هى المسألة مُضنية ومُشقية، كل شيئ نتحدَّث عنه هنا – وخاصة في هذه الأشياء – مكتوب عنه كتب ودراسات ومئات الصفحات، وبطريقة فنية مُزعِجة ومُعقَّدة جداً جداً جداً طبعاً، وبعد ذلك يتم التبسيط بهذه الطريقة، فنحن نعطيكم خلاصات فقط، ولذلك أنا دائمأ أقول – وأحمد الله على هذا الشيئ – أن علينا دائماً أن نتواضع أمام هذه الأشياء، فلا يجب أن نُسارِع إلى تسخيفها وتكذيبها أبداً، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فهذه ليست تخصصاتنا، ولسنا من الأساتيذ العالميين الكبار فيها، من الجيد أننا حاولنا أن نفهم خلاصاتها ونقدمها، فهذا من الجيد والله، لكن لا ينبغي أن نأتي ونُسخِّف منها ونعتبر أننا فهمناها ونُريد أن ننقدها، فهذا لعب صبياني لا يليق بإنسان يحترم نفسه، وهذه كلها تبسيطات وقد تكون مُخِلة.

نأتي الآن إلى موضوع التشاكُل الذي مازلنا فيه، فنحن الآن من خلال كل هذا مازلنا مع التاريخ ومع الأدلة المُستمَدة من تاريخ المسارات التطورية، والحلقة الفائتة وهذه الحلقة وربما أيضاً الحلقة اللاحقة ستكون عن نفس الشيئ، فكلها أدلة من التاريخ، وتُعتبَر كلها شواهد تاريخية، لكن هذه الشواهد سوف تكون ذات طبيعة خاصة.

الْقُشْعَرِيرَة تحصل للإنسان حين يشعر بالبرد الشديد، فيقب ويقف وينتصب شعر بدنه،طبعاً نحن نقول كأن عنده شعر، فهذا ليس شعراً وإنما بقايا شعر، نحن تقريباً كائنات جرداء، فالذي يُريد ان يرى كائنات عندها شعر فلينظر إلى الغوريلا Gorilla – مثلاً – لأن عندها هذا الشعر أو عند الشِمْبانزِي Chimpanzee الذي عنده هذا الشعر، لكن نحن ليس لدينا هذا الشعر، هذه بقايا شعر فقط، أشياء تُذكِّر بأن كان لدينا أجداد كانوا شَعورين أو كانوا مُغطَين بالشعر، وعلى كل حال يقب شعر البدن ويقف شعر البدن دون أن يعمل شيئاً طبعاً، فهو لا يُخيف أحداً، لكن الأسد إذا حصل له استفزاز أو استغضاب فإن شعره الذي يُوجَد في الأعلى يقف طبعاً، وداروين Darwin رآه مرة وقال “هذا شيئ عجيب، فهو إذا غضب جداً يقف شعره”، وطبعاً هذا في عالم الوغى وفي ساحة الوغى وفي الغاب إشارة إنذار مُخيفة جداً وموهوبة، لكن لا يُوجَد إنسان حين يقف شعر بدنه يخاف الآخرون، لأن هذا شيئ أثري، فهذه أثريات – Vestiges – ليس لها قيمة ولكنها موجودة إلى اليوم.

“لقد قفَّ شعر بدني – تقول أمنا عائشة – مما قلتم” وذلك في حديث مسروق، ومن هنا يقولون انتصب شعر البدن وقب شعر بدنه، فلماذا يحدث هذا إذن؟ الحيوانات تفعل هذا قديماً وتفعله إلى اليوم لأغراض، فهذا يحدث عند الخوف الشديد وعند الغضب والنرفزة وعند الشعور بالبرد وعند الانفعال، فقد تسمع قطعة موسيقية رائعة أو ناياً حزيناً أو قراءة للقرآن خشوعة أو تشهد مشهداً درامياً مثل لقاء أم بابنها بعد أن يئست من وجدانه لكنه وجدته بعد عشرين سنة فتبكي هى ويبكي هو وتبكي أنت، وتقول طبعاً لقد اقشعر شعر بدني، وقد تسمع بيتاً شعرياً مُؤثِراً عن الذات العلية – لا إله إلا الله – فيقف شعر بدنك، فعند الانفعالات – مثل انفعالات الجلال وانفعالات الخشوع وانفعالات الرقة – يشعر الإنسان بهذا ويقول قد وقف أو قب شعر بدنه، فما قضية الْقُشْعَرِيرَة هذه إذن؟ علماً بان العوام يقولون القَشعريرة، وعلى كل حال نقول الْقُشْعَرِيرَة أو الْقُشْعَّرِيرَة، فما قضية هذه الْقُشْعَرِيرَة؟ نفس الشيئ، فهذا أثر بقيَ لدينا من أسلافنا الأولين، وطبعاً إلى اليوم حين نشعر بالبرد يقف شعر البدن في مُحاوَلة يائسة لا تُفيد لكنها مُحاوَلة تاريخية لعمل طبقة لحجز الهواء داخل الجسم، لأن الشعر حين يقف يُحاوِل أن يحجز الهواء في هذه الطبقة البسيطة، فالشعر يعمل وكأنه طبقة أو مثل طبقة مُخمَل أو طبقة سجاد، وهذه الطبقة الآن بالشعر الواقف تُحاوِل أن تحجز الهواء بينها، وهذا يعمل على الاقل على الحفاظ على حرارة البدن، لكي لا تتغير بالخروج، فهنا يُوجَد هواء يحبسها، وبالتالي لا تخرج الحرارة من جسمك، لكن – كما قلنا – لا تنجح طبعاً لعدم وجود الشعر، فهذا يُفلِح مع الحيوانات فعلاً لأن لها شعر وثخين ويُمكِن ان يقف فتحتفظ بالحرارة – أي تحتفظ بحرارتها – ولذا هو ينجح معها، لكنه معك لا ينجح، فأنت تُحاوِل أن تُقلِّد فقط، وكما قلنا هذا شيئ تاريخي، ولكنك قد تقول لي هذا مفهوم إلى الآن، لكن لماذا حين أحزن وحين أشعر بالإجلال وأشعر بالرقة زبالانفعال يقف شعر بدني؟ هو هذا، فهذه مسألة تطورية، أي أن هذا كان يجري للحيوانات في الأول لأغراض دفاعية وقتالية وهجومية وحيوية أيضاً، وهناك موضوع التبريد والتسخين كما قلنا، فهذا كان ولايزال يحصل معها، وأنت ارتقيت من هذه الحيوانات، فهؤلاء أجدادك وهؤلاء أسلافك وآباؤك الأولون، ومن ثم ورثت هذا منهم، وهم يُسمون هذا بماكينة – Machinery – انتصاب الشعرHair Erection، فهذه هى ماكينة انتصاب الشعر التي لاتزال موجودة إلى اليوم فينا، لكن لا تكاد تُؤدي غرضاً حقيقياً من الأغراض التي تتوسل لتحقيقها الحيوانات المُتوفِرة على هذه الماكينة، ونحن في مسارنا التطوري الطويل استبدلنا بتلك الأغراض أغراض التواصل الاجتماعي، مثلما ترى الدموع في عيني – مثلاً – فمن المُمكِن أن تُلاحِظ وقوغ شعر بدني، فهذه أصبحت مسألة ثقافية واجتماعية ولم تعد مسألة حيوية أو مسألة عضوية.

تشارلز داروين
تشارلز داروين

طبعاً أنا من حقي أن أحترم العالم الكبير تشارلز داروين Charles Darwin، فأنا أحترم هذا الرجل، وأنا قرأت له وأقرأ له، فأنت كلما تقرأ له تحترمه، هو عالم فذ في عصره حقيقةً واستطاع في ظروفه أن يلتفت إلى كل ما التفت إليه وأن يكتب كل ما كتب، فهو لديه كتاب إسمه التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان، وهو كتاب عجيب يدل على رجل دؤوب مُجتهِد فعلاً، فماذا أقول لك إذن؟ هو راسخ القدم وطويل البال – كما يُقال – وعنده نفس طويل في البحث والمُلاحَظة، فهو يُلاحِظ ما تُخطيء العين الأخرى أن تُلاحِظه، وعلى كل حال هو كتب عن هذا الموضوع – موضوع انتصاب الشعر وانتصاب الزوائد اللحمية – أكثر من عشر صحائف، وتقريباً ثلث هذه الصحائف مُلاحَظات ذاتية هو لاحظها في الكلاب وفي الخنازير وفي الماعز وفي غير ذلك، فضلاً عن أنه لاحظ أشياء عن قرد البونوبو Bonobo والشِمْبانزِي Chimpanzee والأورانجوتان Orangutan، فهو لاحظ كل هذا أيضاً وحاول أن يُفسِّره، وطبعاً هذا كله لكي يخدم نظريته من خلال مُلاحَظاته، فهو رجل دؤوب على خدمة النظرية، وهذا كتاب ضخم جداً من ستمائة صفحة لكي يتحدث فقط عن وسائل وآليات وكيفية التعبير عن الانفعالات والعواطف – Emotions – والوجدانيات في الإنسان والحيوان، وعلى كل حال هو كتب عشر صحائف هامة، فإذن داروين Darwin لاحظ هذه القضية بطريقة مُعمَّقة، ومن ثم قام الرجل بتسجيله، لكن تفسيرها – كما قلنا لكم – هى مُجرَد مسألة آثار بقاية Vestiges – Vestige تعني الأثر الباقي – من أشياء تعود إلى الماضي البعيد لأصولنا، فواضح أيضاً أنه أثر من آثار التطور، إذن هناك تطور يشتغل، وإلا هذا لا يعمل عملاً حقيقياً ولا يُفيد الإنسان في أغراض البقاء Survival، فهذا الكلام غير موجود بالمرة، لكنه في الحيوانات يُفيد – كما قلنا – لأغراض قتالية وهجومية، ومن المُمكِن أيضاً أن يُفيد لاستعراضات جنسية كما يقول علماء التطور، أي لأغراض الاستعراض الجنسي.
dolphin-kristian-sekulic-ispنأتي أيضاً إلى فتحة التنفس في الدرافيل ، أ ي الدولفينات Dolphins التي تحدثنا عنها في حلقة سابقة لا أدري رقمها، لكننا تحدثنا عن هذه الفتحة وقلنا أن الدولفين Dolphin هو حيوان مائي ثديي مُنحدِر من تيترابود Tetrapod- من رباعي الأطراف – فقاري ثديي بري، وطبعاً الدولفين Dolphin له رئة، فهو يتنفس من رئة، وبما أنه له رئة ويتنفس برئة فإذن هو يحتاج إلى أكسجين الهواء، فلو بقيَ الدولفين Dolphin في عمق الماء لفترة طويلة أطول مما ينبغي لغرق ومات، فهو يغرق كما يغرق الإنسان، ف الإنسان لو دخل تحت الماء ولم يكن لديه الأكسجين الكافي فإنه بعد فترة يغرق ويموت، وكذلك الدولفين Dolphin يحدث معه نفس الشيئ، والحوت يحصل معه نفس الشيئ، والأطوم أو خنزير الماء ينطبق عليه نفس الشيئ، والحل حتى لا يغرق هو أنه لابد من أن يصعد إلى السطح وأن يأخذ كمية هواء يحتبسها في جسمه ثم يعود إلى الماء، وهكذا تفعل الأُطُم – خنازير الماء – والحيتان – الحيتانيات بشكل عام كما يُسمونها – والدلافين Dolphins، لكن كيف يأخذ هذا الهواء؟ كيف يستنشق وهو ليس له منخاران؟ هو تطور عن حيوان – كما قلنا – له منخاران في مُقدِمة رأسه، وهذان المنخاران ظلا يتراجعان ويتكيفان حتى صارا في النهاية أو آضا إلى فتحة في أعلى رأس الدولفين Dolphin، فهو مثل الحيتان التي قلنا أن بعضها لديها فتحتان، فعند الحيتان فتحة فوقية، وهذه الفتحة – سبحان الله – عريضة، فلماذا إذن؟ لكي تأخذ في وقت قصير كمية كبيرة من الهواء، فلو كانت صغيرة لاحتاجت إلى وقت طويل وبالتالي من المُمكِن أن تتعرض للخطر، ولذلك هى فتحة عريضة ولها صمام – صمّام كما يُقال – لحمي يُغلِقها طبعاً، لأن حين يدخل الماء فإنه لا يحتاج إلى أن تبقى مفتوحة طبعاً، فيُغلِقها إذن، وهذا شيئ عجيب، لكن هذا تم عبر ملايين السنين، والعلماء المُتخصِصون يقولون في هذا المسار من تطور المنخارين في مُقدَم الرأس إلى فتحة التنفس في أعلى رأس الدولفين Dolphin تم التغلب على مشاكل كثيرة جداً، أيتم المرور بمشاكل وتحديات وفيرة ولكن تم التغلب عليها شيئاً فشيئاً عبر ملايين السنين، لكن ماذا يقولون الآن كتطوريين؟ لو كان الأمر يتعلَّق بتصميم سابق أو تصميم ذكي أو تصميم إلهي -Divine – فلماذا كل هذا العناء؟ لماذا كل هذا التعب؟ أصلاً لماذا الرئة وهو لا يحتاج إلى رئة؟لو كان خُلِقَ خلقاً مُستقِلاً – Special Creation – وفي الماء كحيوان مائي فإنه سوف يحتاج إلى الخياشيم Gills ولن يحتاج إلى رئة، فهو سوف يحتاج إلى الخياشيم فقط، فلماذا الرئة إذن؟ ولماذا لكي تشتغل هذه الرئة بكفاءة نحتاج إلى فتحة تهوية من فوق وبالتالي يحتاج الدولفين Dolphin كل حين وحين أن يخرج وأن يأخذ نفساً من الهواء؟ في الحقيقة المسألة لا تتعلَّق بتصميم، المسألة تحكي لنا مساراً تطورياً، لأنه أتى من البر، وأتى من كائن ثديي يتنفس الهواء وله رئتانوله منخاران، وحين اضطُر أن يعود إلى الماء حدث كل هذا التغير وكل هذه التحولات – Transformations – التطورية عبر ملايين السنين، وهذه الآثار الباقية شاهدة على هذا، فالرئة واضح أنها أثر باقٍ، فتحة التنفس – Blowhole – التي تُوجَد فوق هى أثر باقٍ، وطبعاً ليست هذه هى الآثار الباقية وحدها فقط عند الدلافين Dolphins – كما قلنا – التي تُؤكِد الأصل البري له وتحدره من ثديي رباعي الأطراف بري، فهناك أشياء كثيرة مثل الولادة ومثل إدرار اللبن ومثل إرضاع أولاده ومثل القلب بالغرف الأربعة، ويُمكِن أن تعودوا إلى الحلقات السابقة لمعرفة هذا،والدولفين Dolphin كالحوت عنده قلب بغرف أربعة، والإنسان عنده قلب بغرف أربعة، وكثير من الثدييات البرية لديها قلب بغرف أربعة وليس بغرفتين، وإنما قلب وبغرف أربعة، والأعجب من هذا ما ختمنا به على ما أعتقد حلقة سابقة وهو عن كيف تعوم الحيتانيات، فهى تعوم بالطريقة التي تعدو وتسير بها الفقاريات رباعية الأطراف البرية، كيف نسير نحن؟ كيف تسير الفقاريات رباعيات الأطراف؟ عمودها الفقري يتماوج علواً وسفلاً وليس شمالاً ويميناً، ولذلك الدلافين Dolphins والحيتان تضرب حتى بذيولها ليس شمالاً ويميناً وإنما تضرب من فوق إلى تحت ثم من فوق إلى تحت، وهكذا بنفس الطريقة، وهذا شيئ عجيب، لكن هذه المُلاحَظات على ما أعتقد لا يُمكِن لأي إنسان أن يلتفت إليها ولا أن يفهم حتى دلالاتها، لكن العلماء التفتوا إلى هذا وفهموا هذا، وعلى كل حال سائر الأسماك تعوم بطريقة الضرب ناحية الشمال وناحية اليمين، ثم ناحية الشمال وناحية اليمين، لكن هذه تضرب من فوق إلى تحت ثم من فوق إلى تحت، وذلك لأنها مُنحدِرة من هذه الفقاريات البرية.
جميل !

أيضاً فيما يتعلَّق بالبقايا الأثرية – Vestiges – حدَّثناكم عن البقايا الأثرية المطمورة في مُؤخِرة الحيتان، وهى عظام صغيرة جداً، وطبعاً في الزعانف الأمامية واضح أن لدينا ما يُشبِه تماماً عظام الطرفين الأماميين، وذلك في الزعنفتين، وفي خلف الحوت – علماً بأننا شرحنا هذا من قبل – هناك عظام صغيرة مطمورة، لكنها تحكي ماذا؟ تحكي بقايا حزام الحوض، وهناك عُظيمات أخرى تنتمي إلى الأطراف الخلفية – Hind Legs – التي كانت للأسلاف.

الريا Rhea
الريا Rhea

ندخل الآن في موضوع جديد، وهو بالأحرى ليس موضوعاً جديداً، فهو عن نفس الشواهد ولكننا سنتحدَّث عن شاهد جديد، فهناك الطيور التي لا تطير، وينطبق عليها نفس الشيئ، وهى شواهد حية من التاريخ تعيش بيننا لاتزال، فنحن لدينا طيور ولا تطير، وطبعاً الطيور التي تطير كثيرة ومعروفة، فنعام الريا Rhea – مثلاً – لا يطير، والنعام عموماً لا يطير، وطيور الموا Moa – يقولون مواس Moas بالأنجليزية – لا تطير، والبطريق ال Penguin لا يطير، وهناك طائر في الجلاباجوس Galápagos قد رآه داروين Darwin بعينيه وهو لا يطير، وهذه الطيور التي لا تطير منها ما هو بارع في العدو والجري وسريع جداً، ومنها ما هو بارع في العوم وليس في العدو والجري، ولهذا دلالة طبعاً، فنأتي الآن إلى الطيور التي تعدو جيداً – كما قلنا – مثل الريا Rhea والآموس Emus والنعام، فنحن نُلاحِظ أن كل هذه الطيور التي لا تطير لها أجنحة، وهى ليست أجنحة كاملة تُساعِدها على الطيران، فهى لا تستطيع أن تطير بها، ولكن لها أجنحة على كل حال وفيها ريش، ولديها تكوين للجناح تماماً، لكن الآن ماذا يقول الخلقوي التكويني؟هذه مُلاحَظات بسيطة جداً، ربما يعترض الإنسان الخلقوي الذي يقول بالخلق المُستقِل وأن الله خلق الأنواع خلقاً مُستقلاً – كُنْ فَيَكُونُ ۩ – خاصاً، فهو يقول أن الله خلق كل نوع بشكل مُنفصِل من غير ما يُوجَد تطور أو تطوير، أي تطور مٌوجَه Oriented Evolution، فهذا هو التطوير، لأن التطوير هو تطور مُوجَه، ولكن في الحقيقة نحن هذا الذي نُؤمِن به في نهاية المطاف لكي ترتاحوا، وهذا الذي سيُفسِّر لنا أشياء يعجز التطور عن تفسيرها، وبهذا ننتهي إلى أن فعلاً التطوير هو أسلوب الله في الخلق، فهو أراد أن يخلق الكائنات بهذه الطريقة، وهذه طريقته لا إله إلا هو، فهذا تطور مُوجَّه Oriented Evolution، أي تطوير إلهي، ولكن الآن الخلقوي أو التكويني لا يستطيع أن يُفسِّر لنا لماذا هذه الطيور لها أجنحة ولا تطير، فهل الله تبارك وتعالى وهل الله عز وجل يخلق شيئاً عبثاً ويخلق شيئاً بلا وظيفة – Function – وبلا أهمية وبلا هدف؟ تقول الآية الكريمة وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، فكل شيئ يُوجَد في مكانه، فما مكان هذه الأجنحة إذن؟ النعامة عندها أجنحة ومع ذلك لا تطير، الأمو Emu عندها أجنحة ولا تطير، الريا Rhea لها أجنحة ولا تطير، والبطريق أيضاً عنده أجنحة ولا يطير، وطائر الجلاباجوس Galápagos الذي رآه داروين Darwin عنده أجنحة ولا يطير، فلماذا إذن؟ طبعاً سيسكت الواحد منا وسيحك رأسه قائلاً لماذا فعلاً؟ لكن التطور يقول لك الجواب سهل، فهذه الكائنات مُنحدِرة من طيور كانت تطير فعلاً، لكن لأسباب أو لأخرى – طبعاً كل مرة يُقدِّمون لك مُقترَحات جديدة في كل حالة حالة – غدت هذه الكائنات لا تطير، فمثلاً سيقول لك أن هذه الطيور – طيور الموا Moa – جاءت من مكان إلى مكان، علماً بأنني ذكرت قبل قليل الأمو Emu والموا Moa والمواس Moas، وطيور المواس Moas هى طيور تعيش في نيوزيلندا New Zealand، وعلى ذكر نيوزيلندا New Zealand أُحِب أن أقول أن نيوزيلندا New Zealand لها حظٌ كبير وحظٌ وافر من الطيور التي لا تطير، فكثير من الطيور التي لا تطير تُوجَد في نيوزيلندا New Zealand، فلماذا إذن؟ لأن نيوزيلندا New Zealand تخلو من الثدييات، فهى ليس فيها أي حيوانات ثديية، وفي الآثار القديمة جاءت هذه الطيور – أي المواس Moas – بالطيران – لأنها كانت تطير – وحطت في نيوزيلندا New Zealand، أي أنها وصلتها وهى تطير، وهناك مساحة بيئية هائلة شاسعة مفروشة – كما نقول باللغة العامية اليوم – ومتروكة ولا نزاع عليها، فقد تركتها الثدييات لأنها غير موجودة هناك، فهى تركتها لهذه المُهاجِرات الجديدة، وهذه تطورت فيها بهدوء لأن كل شيئ كان مُتوفِراً مثل الطعام والشراب من غير نزاع ومن غير صراع Conflict ومن غير أي شيئ، فوجدت نفسها غير محتاجة حتى أن تطير لكي تبحث عن رزقها في الأجواء أو تهرب من مُفترِسات الثدييات، فلا يُوجَد أي مُفترِسات لعدم وجود ثدييات أصلاً، فأصبحت الأمور سداحاً مداحاً كما يُقال، وفعلاً بفعل عامل الزمن فقدت الحاجة إلى الطيران، فتحور الجنحان شيئاً فشيئاً وفقدا لياقة الطيران، فهذه الطيور نسيت كيف تطير أصلاً، وفي أنواع منها يقول أحد علماء التطور أن الطائر منها نسيَ أنه نسيَ كيف يطير، فما معنى هذا؟ ما الفرق بين نسيَ كيف يطير ونسيَ أنه نسيَ كيف يطير؟ نسيَ كيف يطير أي أنه لا يُحاوِل أن يطير ولا يفعل هذا لأنه لا يستطيع، لكن حين ينسى أنه نسيَ كيف يطير فسوف يُحاوِل أن يطير – كما يقول هذا العالم – ومن ثم سيقع مثل الطوبة، فهو يكون على أعلى الشجرة ويُريد أن يطير لكنه نسيَ أنه نسيَ كيف يطير.

طائر الكاكابو Kakapo
طائر الكاكابو Kakapo

طائر الكاكابو Kakapo العرب يسمونه الكاكاب، وهو ينطبق عليه نفس الشيئ، فهذا الطائر يعيش في نيوزيلندا New Zealand، وهو الطائر الذي حكيت لكم عنه، فهذا نسيَ أنه نسيَ كيف يطير، فهذا الكاكابو Kakapo المسكين يُلقي بنفسه، فيقع مثل الطوبة في الأرض، ويظل يُحاوِل أن يُكرِّر هذا باستحماق لأنه يُريد أن يطير، ولا يفهم هذا المسكين أنه توقَّف عن الطيران من قديم ولذلك يُحاوِل.

إذن فهمنا الآن الطيورالتي لها أجنحة ولا تطير لماذا لا تفعل، فهذا مسار تطوري فقط، والقضية كلها قضية تطور، هو هذا لأن خلقياً وتكوينياً سيكون من الصعب أن تُفسِّر هذا، فإذا كان لدينا الخلق المُستقِل لابد أن يكون هناك هذا التصميم وهذه الخُطة المُناسِبة، وأن يكون كل شيئ في مكانه بلا زيادة وبلا نقصان وبلا عيوب Imperfections – كلمة Imperfection تعني عيب – ولامشاكل، فإذن ما هى القضية؟ القضية قضية تطور، فهناك تطور أو تطوير.

النمل الشغال Worker Ants
النمل الشغال Worker Ants

لدينا حشرات فقدت أجنحتها ويحدث معها نفس الشيئ أيضاً، هل يُمكِن أن تُوجَد حشرة من غير أجنحة؟ المفروض أن الحشرة بأجنحة، والحشرة عموماً المفروض أن لديها أربعة أجنحة، أي في الحشرات الـ Standard عموماً، لكن هناك حشرات بلا أجنحة بالمرة، وهناك حشرات بجناحين اثنين مثل الذبابة، فهذه المسكينة والهبلة أو بالأحرى هذه الذكية الملعونة عندها جناحان فقط وليس أربعة أجنحة، أسلافها البعيدون كانوا بأربعة أجنحة، لكن البعوضة بجناحين أيضاً وليس بأربعة أجنحة، فسبعة وتسعون في المائة من الحشرات مُجنَّحة، وثلاثة في المائة منها غير مُجنَّحة أو فقدت الأجنحة، ومثلما قلنا هناك مَن فقدت جناحين، ومنها مَن فقدت الأجنحة كلها، وهذا شيئ عجيب، فلماذا إذن؟ مثل النمل الشغال Worker Ants الذي ليس فيه أجنحة، فالذكور الذين يخرجون في الخارج عندهم أجنحة، والملكة عندها أجنحة إلى حين، فهى تفقدهم بعد ذلك، لكن هذه الشغالات تحت الأرض ليس عندها أي أجنحة، فالنمل ليس عنده أجنحة نهائياً، وسوف نرى لماذا وما هى الحكمة من هذا، وطبعاً من المُهِم ألا يكون عندها أجنحة، فهذا أفضل طبعاً وإلا كيف تعيش تحت الأرض وتكون بأجنحة؟ سوف تحدث مشاكل كبيرة، والعجيب أن هناك مَن يتطفل على الأَرَضة وعلى النمل مثل أنواع من الطفيليات، وبعضها خنافس، فهى تفقد الأجنحة ولا يكون لها أجنحة لأنها تعيش تحت الأرض ومن ثم سوف تعوقها، فالأفضل تحت الأرض أن تتحرك هذه الشغالات بلا أجنحة، لذلك فعلاً فقدتها، فإذن المسألة تطور بحسب الحاجة ولذلك فقدتها!

نعود إلى الذباب الآن، فمن المُؤكَّد أن الذباب – كما قلنا – تَحَدَرَ من حشرات رباعية الأجنحة، لكن هو الآن ثنائي الأجنحة، فأين ذهبا الجناحان الآخران؟ موجودان طبعاً، لما تدرس تشريح الذبابة سوف ترى جناحين فوق الذبابة وهما الجناحان الخلفيان، فهما موجودان وتحتهما ترى جناحين صغيرين مُوازِنين Two Halteres، فهما يعملان توازناً Halterung، فالجناح الواحد منهما يكون صغيراً لأنه اختُزِل – أي Reduziert باللغة الألمانية – وأصبح مُختزَلاً في مُوازِن Halter صغير هنا وهنا في محل الجناحين، لكن كيف عرفنا أنه هو الجناح فعلاً وليس شيئاً ثانياً؟ لأنه في نفس المكان تماماً، فهناك سيمترية فعلاً، حيث يُوجَد واحد ناحية الشمال وآخر ناحية اليمين، وهو يتحرك نفس حركة جناح الذبابة، أي مثل الجناح الذي يُوجَد فوق الذبابة، لكن كيف يتحرَّك جناح الذبابة؟ لا يتحرَّك رأسياً ولا يتحرَّك أفقياً وإنما يتحرَّك على شكل رقم ثمانية – Eight – باللغة الإنجليزية، ولك أن تتخيَّل هذه الحركات العجيبة، فهذا الجناح يتحرك بهذه الطريقة على شكل رقم ثمانية باللغة الإنجليزية، وهذا شيئ غريب، وهذا المُوازِن أو هذان المُوازِنان يتحرَّكان في شكل أو في نمط رقم ثمانية باللغة الإنجليزية، فإذن هما جناحان، وإذن هناك تطور، فهناك أشياء تختفي وأشياء تُختزَل، وأشياء تُختزَل وأشياء تظهر وهكذا.

لاحسة السكر Silverfish
لاحسة السكر Silverfish

هناك حشرة تُسمى لاحسة السكر Silverfish، هذه الحشرة ليس لها أجنحة أصلاً، فهى حشرة بلا أجنحة وبالتالي – كما قلنا – هى داخلة في الثلاثة في المائة من الحشرات، لكن من المُؤكَّد أنها تطوَّرت من حشرات بأجنحة وبأربعة أجنحة، ثم فقدتها ولم تعد تحتاج إليها.

البراغيث – Flöhe باللغة الألمانية أو Fleas باللغة الإنجليزية – ليس لها أجنحة، أو اختُزلِتَ أجنحتهاإلى حد بعيد جداً جداً تماماً، لكن نقدر أن نقول هى فقدت الأجنحة مع أنها في الماضي البعيد أكيد كان لها أجنحة.

القمل – Lice باللغة الإنجليزية أو Flöhe باللغة الألمانية – والعياذ بالله منه ليس له أجنحة، لكن أسلافه لها لها أجنحة، إذن يُوجَد تطور، فهناك تطور يحدث – كما قلنا – بالفقد أو بالاختزال.

العثة الغجرية Gipsy Moth
العثة الغجرية Gipsy Moth

العثة الغجرية Gipsy Moth – علماً بأن كلمة Gipsy معناها الغجري أو النوري – عندها عضلات أجنحة، فالعضلات التي تُحرِّك الأجنحة موجودة عندها، لكن ليس عندها أجنحة، وبالتالي هل تطير أم لا تطير إذن؟ لا تطير طبعاً، فلماذا تُوجَد عضلات الأجنحة إذن؟ هى آثار باقية – Vestiges – تُحاوِل أن تدلنا وأن تقول لنا وأن تحط الأصبع على شيئ هام لكي ننتبه إلى أن هنا في يوم من الأيام قبل عشرات ملايين السنين كانت هناك أجنحة تتحرَّك ولكنها اختفت، فالتطور اختزلها أو حذفها أو شطب عليها، وهذه العضلات هذه الآن أي وظيفة، ومن المُمكن بعد خمسين مليون سنة أو عشرة مليون – لا ندري بالضبط – أو ما إلى ذلك أن تُفقَد حتى العضلات، لكن في هذه المرحلة هذه العضلات في العثة الغجرية Gipsy Moth موجودة إلى اليوم، أي أن هذه العضلات موجودة في حشرة لا تطير ولا تحتاج أن تطير، فلماذا إذن؟ طبعاً علينا أن ننتبه إلى أن الـ Gipsy Moth الأنثى هى التي فيها هذه الحالة، لكن الـ Gipsy Moth الذكر ليس كذلك، فهو يطير بشكل عادي، لأن عنده أجنحة ومن ثم يطير، لكن الأنثى هى التي لا تطير، فلماذا إذن؟ هى لا تحتاج أن تطير لأنها تُفرِز مادة كيمياوية شديدة الإغراء للذكر وشديدة التركيز بحيث أنك مهما خففتها – علماً بأن العلماء عملوا التجارب طبعاً وحاولوا أن يخففوها بالماء وبالمحاليل وما إلى ذلك – سوف يشمها الذكر ويأتي، أي سوف يأتي على المسار الكيماوي أو الممال الكيمياوي الخاص بها كما يقولون، فهو يشتم هذه الرائحة ويأتيها، لكن ماذا يقول علماء التطور أنفسهم هنا؟ طبعاً هناك أشياء يجب أن تتذكَّروها جيداً، وأنا أعتقد أن جميعكم تُلاحِظونها، لكن ما هى هذه الأشياء؟ هناك شيئ غير مُفسَّر، هناك شيئ غير مفهوم، هناك شيئ يعجز علماء التطور عن التقاطه طبعاً، هناك خُطة وراء كل هذه القضية أصلاً، هناك منطق كبير حاكم على كل القصة، هناك ذكاء مُهيمن على المشهد كله، وأنت من المُمكن أن تُسميه منطق أو ما إلى ذلك، فأنا – مثلاً – الآن ليس عندي مُشكِلة مع التطور بهذه الطريقة، هذا أسلوب الله في الخلق، لكن هناك منطق أبعد من هذا، بمعنى أنك تقول لي أن أنثى الـ Gipsy Moth لا تطير وعندها العضلات لكنها لا تطير لأن ليس عندها أجنحة في حين أن الذكر يطير، وتقول أن السبب هو أنها لا تحتاج أن تطير، لكن الحكاية ليست حكاية أنها لا تحتاج، وإنما الأفضل ألا تطير، لأنها لو كانت تطير لن يتلقيا إلا ما شاء الله، فلن يأتيها الذكر طبعاً، علماً بأن هذه الحيوانات ليست حيوانات اجتماعية، فهم لا يعيشون في قبيلة – Tribe – معاً وما إلى ذلك، هذا لا يحدث أبداً، فدائماً الذكور في مكان والإناث في مكان لأنها ليسن حشرات اجتماعية مثل النمل والنحل، هم يعيشون وهم مُفرَّقون دائماً، أي طرائق قددا وأيادي سبأ مثل العرب اليوم، فالعرب المساكين في الألفية الثالثة يعيشون وهم مُفرَقون، وعلى كل حال لكي تجذب هذه الأُنثى الذكر من أجل أن يواصلا الحياة والتناسل وإلى آخره فلابد أن تُفرِز هذه المادة الكيميائية ولابد أن تظل في مكانها، فهى تتحرَّك حركة بسيطة ليست بحركة طيران في مكانها، والذكر يكون أسرع منها، فهو يستنشق الرائحة ثم يكون عندها ويأتيها بسرعة، فلو كانت تطير الأنثى لكانت في الوقت الذي يحتاجه لكي يصل إليها ذهبت في عالم آخر، وهكذا لن يلتقيا أبداً، علماً بأن هذا ليس كلامي وإنما هو كلام علماء التطور، فالسؤال إذن هل التطور ككل في مثل هذه المسائل محكوم بشيئ ومحكومة بغاية أم لا؟ هناك غايات وأهداف، يُوجَد شيئ يُحذَف وشيئ يُزاد وشيئ يُنقَص لكي يُحقَّق شيئ، فالمسألة ليست ضرباً عشوائياً، ولكن هذا سوف نتكلَّم عنه بتعمق أكثر من هذا، فأنا ذكرت هذه الملحوظة من أجل أن تُفكِّروا بهذه الطريقة فقط، ولكن هناك أشياء أعمق من هذا بكثير، وهى التي ستجعلنا نفهم بالضبط ما هى روح التطور وما الذي يقبع خلف هذا التطور، ولذلك نحن مُطمئنون – كما قلنا مائة مرة – إلى أن التطور هو فعلاً أسلوب الله تبارك وتعالى – لا إله إلا هو – في الخلق.

عندنا مسألة أخرى شبيهة بالحشرات التي فقدت أجنحتها والطيور التي فقدت خاصية الطيران ونسيت ذلك وهى الحيوانات الكهفية التي تعيش في الكهوف المُظلِمة، ولذلك تُسمى حيوانات الكهوف المُظلِمة، وهذه فقدت أعينها تماماً أو لم تفقدها تماماً ولكن تكاد تفقد النظر، فهذه ليست سلهوت Silhouette وإنما هى شيئ أبشع من السلهوت Silhouette، فهى ترى وكأنها لا ترى، أي ترى طشاش كما نقول بالعامية، وبعضها لا يرى بالمرة لكن مازال عنده شكل عين، ولك أن تتخيَّل هذا، وبعضها مسيح دجال الكهوف، لأن العين مُختفية خلف جلد كعين الدُمى – وأنتم تعرفون طبعاً كيف تكون عين الدُمية – أو عين الأصنام، فالصنم يضعون له عيناً، وهذه العين تكون مثل عين صنم أو عين دُمية – Doll – عليها غاشة جلد، بمعنى أن المحجر الخاص بالعين ليس له أي حركة، فالعين لا تتحرَّك في المحجر، فلماذا هذا إذن؟ هنا الخلقوي التكويني يقف عاجزاً، ومن ثم عينا أن ننتبه وأن نتساءل قائلين كيف يُفسِّر هذه العين الذي يقول أن الله خلق كل شيئ مُباشَرةً بضربة واحدة خلقاً خاصاً – Special Creation – مُستقِلاً؟ إذا هذا خلق مُستقِل ويحكي التصميم السابق فلماذا تُوجَد مثل هذه العين؟ لماذا عين الدُمية أو عين التمثال هذه موجودة؟ما الفائدة منها؟ هذا حيوان يعيش في ظلام طامس دامس، بمعنى أن لا يُوجَد أي ضوء، وهل عند العين من غير ضوء أي أهمية؟ ليس عندها أي أهمية أبداً، هل عند العين أي وظيفة؟ ليس عندها أي وظيفة أبداً، وبالتالي هو لا يحتاجها بالمرة.

نُكمِل في الحلقة الثالثة، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: