نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة الخامسة والعشرون

شواهد التاريخ الباقية – الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

أما بعد، إخواني في الله وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُكمِل معكم أيضاً في هذه الحلقة الثالثة الحديث عن الشواهد التاريخية على المسار التطوري والبادية عبر البقايا الأثرية ودلالاتها وأيضاً عبر العيوب الخلقية أو عيوب التصميم على فرض أن هناك تصميماً ما، وقفت في الحلقة الماضية عند حيوانات الكهوف المُظلِمة التي فقدت أعينها أو فقدت الانتفاع بها تماماً كما فقدت ألوانها، وأنتم ترونها في اليوتيوب YouTube كائنات بلا لون، فهى بيضاء، أي أنها فقدت الصبغيات Pigments، فهى أيضاً لا تحتاجها لعدم وجود الضوء وهذا لا يُمكِن أن يخدمها في أي شيئ، فمِن باب الاقتصاد انتهى هذا الشيئ، ففقدت حتى الصبغيات وفقدت ألوانها كما فقدت عيونها أو كادت، فبعضها تكاد تفقد هذه العيون بحسب المسار نفسه التطوري، أي أين هى تقع عليه، وأكيد هذه التي بقيَ لها بقية من عيون ستفقدها بعد قدر مُعين من السنين إذا بقيت تعيش في هذه الكهوف، فإذن لا انتفاع بالعين ما لم يكن هناك ضياء، فالأعمى لا ينتفع بضياء الشمس، وإمامنا الغزالي – رحمة الله تعالى عليه – دائماً يُمثِّل علاقة العقل بالشرع بمسألة أو بمثال علاقة العين بالضوء، أي بالنور، فالنور لا فائدة منها بخصوص المجال البصري وميدان الإبصاربغير عين، والعين لا يُمكِن أن يُستفاد بها بغير نور، فالعين مثلها مثل العقل عند الإنسان، هذا العقل إذا بقيَ مُفرَداً متروكاً وحده بغير ضياء الشرع ضل، وطبعاً التشبيه ليس تاماً من جميع النواحي، فلماذا إذن؟ لأن الإنسان يُمكِن أن ينتفع بعقله بغير شرع أيضاً وذلكم أن مصدرهما واحد، فمصدر العقل هو الله تبارك وتعالى، وإلا مَن الذي أنعم علينا بنعمة العقل؟ الله، مَن الذي أعطانا هذا العقل وحط فيه هذه القدرة والقوانين؟ رب العالمين، مَن الذي أنزل الشرع على وفاق العقل ولا يتناقض معه، فهو قد يعلو عليه وقد يسبقه لكنه لا يُناقِّضه؟ هو الله تبارك وتعالى، فلذلك يُمكِن، لكنه تشبيه غير تام طبعاً، وعلينا أن ننتبه إلى أن كل تشبيه وكل مجاز – كما يقول علماء النقد الأدبي خاصة الأجانب – له نُقطة مُعينة يتلاشى عندها أو ينهار، أي لا تستطيع أن تمضي مع المجاز Metaphor والتشبيه إلى آخره وإلى آخر كل افتراضاته، هذا غلط وخطأ كبير جداً جداً خاصة في ميدان الفكر، فبعض المُفكِّرين يأخذ المثال ويمضي مع استخلاصاته حتى النهاية وبالتالي طبعاً يتورط في فضائح فكرية، لذا هذا غير صحيح، فعند نُقطة مُعينة ينهار المجاز Metaphor وينتهي الأمر، فهنا يُوجَد عدم مُطابَقة تامة أو عدم مُطابَقة من جميع الجهات، أو تُوجَد مُطابَقة من بعض الجهات ومُخالَفة من بعض الجهات، فالعقل وحده نافع بلا شك ينفع، لكنه لا يتم النفع به بمنأى عن هدى السماء وعن ضياء الوحي وعن نور الرسالة والشريعة.

على كل حال نعود إلى مسألة هذه الحيوانات التي فقدت أعينها، فكما قلنا لكم هذه تعيش في وسط مُظلِم دامس طامس وهى أنواع كثيرة، منها سلمندرات Salamanders مثلاً، فالسلمندر Salamander هذا لا يرى، ومنها أنواع من الجمبري، وطبعاً تعيش في كهوف فيها برك ماء – Pools – وما إلى ذلك، ومنها بعض الأسماك وجراد البحر، ومنها العناكب والديدان الألفية، فكثير منها يعيش في هذه الكهوف المُظلِمة ولا عين له، ومنها صرصار الليل، فصرصار الليل تقريباً لا يكاد يرى، والآن يُوجَد سؤال مُهِم جداً، فما هو؟ هذه الأعين الباقية شأنها غريب، فقد يقول قائل حتى لو كانت تعيش في الظلام الطامس الدامس أليس كان – حتى بالمعنى التطوري الآن، وهذا اعتراض على التطور طبعاً، فالخلقويون بعترضون بهذا الاعتراض – من الأفضل والأحكم والأنفع لها أن تستبقي أعينها هذه وهى لا تنتفع بها في التو واللحظة لكن في نُقطة مُعينة في المُستقبَل قد تحتاج إليها؟ يعني قد يحدث – مثلاً – أن ينكشف هذا الظلام بأي طريقة، كأن يحدث انهيار في الجبل فتنكشف – مثلاً – الغابة عن هذه البحيرة ويأتي الضياء الآن الغامر، فإذا لم يكن لديها أي عيون سوف تهلك ولن تستطيع أن تُنافِس على البقاء، لكن من خلال العيون سيكون لديها فرصة، فإذن هذه – كما قلنا – ضمانة إضافية، فلماذا لم يستبقها التطور والمفروض أن الانتخاب الطبيعي يعمل على استبقاء الأصلح مثلاً؟ هذا اعتراض هام، والتطوريون يُجيبون طبعاً بمُقترَحات مُتعدِّدة من أذكاها قول بعضهم لا يُوجَد شيئ بغير كُلفة، في الحياة وفي سباق التطور لا يُوجَد شيئ مجاني، كل شئ له كُلفة وكل شيئ له ثمنCost، فهذه العيون لو بقيت في الظلام الطامس حيث لا نفع الآن في التو واللحظة ستُكلِّف، فلماذا إذن؟ وتُكلِّف ماذا؟ ستُكلِّف لأنها لكي تبقى شغالة وصالحة لابد أن تدور دائماً في محجرها، أي تدور في المُوق كما يُسمى، وهذا الدوران يُبقيها رطبة وصالحة للعمل، ولكن في الوقت عينه دورانها في المُوق أو في المحجر لكي تبقى رطبة يُعرِّضها للإصابة – Infection – وللالتهاب وقد يقضي عليها، وهذا طبعاً راجح جداً، فالأفضل لها في بيئتها ما حدث لها، وذلك طبعاً لأن الاحتمال هناك أكثر من تسعة وتسعين في المائة أن تبقى في هذه البيئة، وهى تعيش فيها من ملايين السنين هى وأسلافها، فإذن بالأرجح – بنسبة تسعة وتسعين في المائة – الأفضل لها أن تتخلى عن هذه العيون، ولذلك تُغشي عليها بغاشية جلد ولا تعود تتحرك وكأنها غير موجود – كما قلت – وكأنها عيون دُمى أو عيون تماثيل وأصنام، وهذا يُعطيها ميزة في البقاء أكثر من التي لا تزال أعينها تشتغل ورطبة وتدور في محاجرها، فهذه تتعرض للعدوى وتتعرض للالتهاب وتتعرض للموت أكثر، وهذا جواب مُقنِع، وطبعاً بحسب هذه البيئة وهذه الشروط كل شيئ له كُلفة، فلا يُوجَد شيئ بغير ثمن، وعلى ذكر العين والعيون المفقودة – Lost Eyes – نأتي إلى العين البشرية الآن، فالعين البشرية التي يظن كثير من غير المُتخصِصين أنها آية في إبداع التصميم وأنها مُعجِبة ومُثيرة ومُدهِشة يرى العلماء المُتخصِصون غير هذا الذي يظنون تماماً، لكنك قد تقول لي كيف هذا؟حدِّثنا عما نعلم، لا تُحدِّثنا عن شيئ لا نعيشه ولا نعلمه، فالذي نعلمه أن أعيننا تشتغل بكفاءة أكثر من راقية وأكثر من رائعة، ونحن والصقور والعقبان – جوارح السماء – نرى بطريقة مُمتازة، والإنسان يُميّز الألوان ويرسم اللوحات ويُميّز ألوفاً بل مئات ألوف من الألوان تعود إلى ألوان الطيف، فهو يُميّزها بدقة شديدة، ومن هنا تنجح الشركات المُتعلِّقة بالكاميرات Cameras وشركات الأيفونات IPhones وشركات النيكون Nikon والسامسونج Samsung وما إلى ذلك، فكل شركات الكاميرات Cameras والعدسات تنجح وتبيع دائماً، وبينها سباق محموم، فلو لم تكن العين بهذه الكفاءة لما نجحت هذه الشركات ولما وقع بينها مُنافَسة أصلاً، وإلا سوف تُنافِس في ماذا؟ إذا عين معيبة لا تستطيع أن تُميّز الصورة النقية من الصورة غير النقية والصورة الأكثر نقاءاً من الصورة النقية فما الفائدة؟ وهذا صحيح، فالعين تشتغل بهذه الطريقة، لكن لا بفضل العين وإنما بفضل المخ الذي يفعل هذا وليست العين، وعلينا أن ننتبه إلى أن العلماء والأطباء يعرفون هذا، فعلماء الفسيولوجي Physiology يقولون العين لو تُرِكَت لوحدها وتصميمها سوف تكون معيبة جداً، فهى بها عيوب كثيرة تماماً، وستكون الرؤية بها من أبشع ما يكون، لأنها ستكون رؤية سخيفة وغير واضحة ومُقطَّعة، أي أشبه بالعمى، لكن الذي يُعوِّض كل هذا العيب ما هو؟ المخ، فالمخ يتدخَّل وكأنه جهاز فوتوشوب Photoshop، ويُعوِّض كل هذه العيوب الإبصارية، ويعطيك صورة مُتواصِلة مُمتَدة نقية مُتساوية في الوضوح مُوهِماً إياك أن العين هى التي فعلت، والعين لم تفعل هذا، فما هذه القصة إذن؟ وما هذا الكلام؟ قالوا لك هذا كلام العلم، فبعيداً عن موضوع التطور وغير التطور هذا هو العلم نفسه، وهذا مُدرَك من القرن التاسع عشر، فالعالم الألماني والفيزيائي الكبير المعروف هرمان فون هيلمهولتز Herman Von HelmholtZ له إسهامات عدة في مجال الأحياء، فهيلمهولتز HelmholtZ معروف كفيزيائي لكن للأسف عوام الناس يجهلون أنه كان عالماً في الأحياء وعالماً في علم النفس، وإسهاماته في العلمين أعظم وأهم من أسهاماته في علم الفيزياء، أي أنه عالم موسوعي، فهو موسوعي العلم في الفيزياء أكثر من ذلك في علم الأحياء وفي علم النفس، وله عبارة مشهورة طبعاً يتكئ عليها ويُشيد بها التطوريون لأنها تُفيد قضيتهم في التسخيف من فكرة التصميم وإبداع العين وعظمة الصنعة في العين، حيث يقول هيلمهولتز HelmholtZ “لو ذهبت إلى بصرياتي – أي Optiker – وأعطاني جهازاً صنعه بمثل كفاءة العين لقرّعته على إهماله وعدم إتقانه الصنعة ورددت إليه بضاعته”، أي سأقول له خُذها، ما هذا؟ هل هذا جهاز؟ أنا أصنع عدسة وأصنع كاميرا Camera أحسن من هذا, فهيلمهولتز HelmholtZ هو الذي يقول هذا، مع أنه استتلى طبعاً في فقرة أطول مُبيناً ما ذكرته لكم وفرغت من بيانه للتو، حيث كتب أن الرؤية الواضحة والجميلة التي يقوم بها هو المخ، أي أنه يفهم أن هذا بفضل المخ لا بفضل العين، فالعين الإنسانية معيبة، لكن قد يقول لي أحدكم لماذا هى معيبة؟ وكيف تكون معيبة؟ أولاً سنذكر عيبان على الأقل، العيب الأول هام، وأنتم تعرفون الآن الشبكية والخلايا المخروطية التي تلتقط الضوء والألوان، ببساطة المفروض أن تكون هذه الخلايا الضوئية في الأمام وأن تكون الكابلات – إن جاز التعبير – الموصولة بها والتي تلتقط أو تستقبل ما تُزوِدها به هذه المخروطيات وتذهب بها إلى المخ أن تكون في الخلف، فهذا هو التصميم البسيط، أي أنه أبسط تصميم، لكن الواقع عكس هذا تماماً، فالخلايا الضوئية هنا في الخلف والكابلات أمامها، أي أن الكابلات أمام الخلايا الضوئية، فكلها تُوجَد هنا على هيئة كتل من الكابلات، وحين يأتي الضوء حاملاً معه الصورة ما الذي يتصدى له؟ الكابلات قبل هذه الخلايا الضوئية والمخروطيات والأقماع والعصي، وكونه يفعل هذا قبله يجعله يُؤثِّر كثيراً على استقبال الصورة ووضوح الصورة ونقاء الصورة، فما هذا التصميم العجيب إذن؟ والتطوريون طبعاً الملاحدة لا أقول يُبالِغون بل بكل بساطة يتجرأون فيقولون هذا ليس تصميماً فاسداً بل هذا تصميم في مُنتهى الغباء، فإذا قلت لي أنه تصميم سوف أقول لك أنه تصميم غبي، فهم لا يُؤمِنون طبعاً بإله ولا بتصميم، ولذا يقول لك الواحد منهم هذا ليس تصميم أصلاً، فلا يُوجَد لا إله ولا مُصمِّم – Designer – ولا كل هذا الكلام، هذا عمل الطبيعة وهذا عمل التطور وهو أمر عادي، فالتطور تقع فيه هذه الأشياء، ويأخذ على عاتقه سمكرتها وإصلاحها بطرق دائماً تبقى شاهدة على وقوع العيب الأصلي، فهو يشتغل عليها ويُحاول أن يُحسِّن العيب لكن العيب يبقى موجوداً، لكن لو كان هناك أي تصميم لكان من المُستحيل أن يضع المُصمِّم في خطته هذا العيب من الأول، هذا مُستحيل بل سيفعل العكس هو كما يفعل صانع الكاميرات وصانع هذه الأشياء، فمُستقبِلات الضوء تكون في الأمام والكابلات تكون في الخلف، وهذا أبسط مبادئ التصميم للعين، لكن ما حدث هو العكس تماماً.

ثانياً يُوجَد العيب الثاني وهو عيب اضطراري، فالآن هذه الكابلات لكي تذهب إلى المخ ماذا عليها أن تفعل؟ عليها أن تتجمع وتخترق الشبكية في نُقطة فيها، وفي الحقيقة هى ليست نُقطة – Spot – وإنما هى رُقعة – Patch – أو لطخة، لكن هم يقولون النقطة العمياء Blind Spot، فالعلماء يقولون هناك نوع من المبُالغَة لتحسين الحالة وللدعم المعنوي لنا كما لو كان الخطأ بسيطاً، لكن هى ليست نُقطة، فياليتها كانت نُقطة، هناك مجموعة كابلات تُريد أن تجتمع كلها وتخرج وتذهب إلى المخ – أي إلى الدماغ – طبعاً، وهذه ليست نُقطة، وإنما رُقعة عمياء -Blind Patch – أو لطخة عمياء.

إذن هذه قصة كبيرة، وطبعاً واضح الآن أنها عمياء طبعاً، فمُستحيل أن الإنسان يرى من خلال هذه اللطخة، هذا لا يُمكِن لأن ليس فيها خلايا مُستقبِلة للضوء، لا أقماع ولا عصي ولا ما إلى ذلك، فالإنسان أعمى هنا، وطبعاً هناك تجارب يُمكِن أن تدخل على اليوتيوب YouTube وتُحاوِل أن تُجرِّبها على نفسك، كالتي تتعلَّق بكيفية تُحرِّك القلم وما إلى ذلك، ففي نُقطة مُعينة سوف لن تعود تراه، لأنه سوف يُواجِه النُقطة العمياء أو الرقعة واللطخة العمياء، فواضح أننا عميان بهذا الصدد، وهذا جميل جداً، لكن لماذا مع ذلك نرى بوضوح ونقرأ ونرى الألوان ونرى المشهد كاملاً؟ هذا جميل يا أخي، فنحن لا نُعاني من أي شيئ، وليس لدينا أي مُشكِلة مع العين، فما الذي يحصل إذن؟ الذي يحصل هو أن هناك ما يُعرَّف بالُنقرة المركزية Fovea Centralis، وهذه النُقرة المركزية Fovea Centralis مُهِمة، فجزء من الشبكية هو الذي نستخدمه بشكل رئيس للقراءة وحتى لقيادة السيارة، وهذا جميل جداً، وهذه النُقرة المركزية هى التي نمسح بها المشهد أو نمسح أجزاءً من المشهد، لكن بقية المشهد تقريباً سلهوت Silhouette، ومن ثم نحن شبه عُمي فيه، ومن ثم – سبحان الله – هنا يتدخل الدماغ، فماذا يفعل الدماغ إذن؟ يُكمِّل القصة، فيجعلك ترى بقية المشهد وكأنك ترى كما ترى بالنُقرة المركزية، أي أنه يمسحه فترى أن المشهد كله تقريباً على نفس الدرجة من الوضوح، فمَن الذي عمل هذا الفوتوشوب Photoshop؟ الدماغ وليس العين، فلو تُرِكَت العين وحدها ماذا سوف ترى؟ سوف ترى أمامك فقط، مثلاً نفترض بعرض أصبع واحد سوف يكون المشهد واضحاً لكن الباقي كله سوف يكون عائماً في بعضه ولن ترى شيئاً، لكن الدماغ يقوم بعملية الفوتوشوب Photoshop هذه ويُساوي فيُصبِح المشهد كله على درجة واحدة من الوضوح، أي أنه سوف يتساوى وضوحاً.

وعلى كل حال العبرة في هذا الحديث والدرس من هذا الحديث كما يقول التطوريون هى أن العين جهاز غير مُصمَّم بل جهاز مُتطوِّر، ولا أدري لعلي حدثتكم في حلقات سابقة عن النمط المشهور في تطور العين وكيف تطورت من خلية واحدة مُستقبَلة للضوء على جلد إلى مجموعة خلايا، فهناك مجموعة خلايا تقعرت، وهناك مجموعة خلايا زاد تقعرها، وهكذا ظل يزداد هذا التقعر حتى أصبحت مثل كرة ولم يبق لها إلا منفذ واحد ثم اقتربنا من العين وإلى آخره، والعجيب – فعلاً هو عجيب ومُدهِش – أن كل هذه المراحل المفروضة لتطور العين لاتزال موجودة في المخلوقات إلى اليوم، فهناك مخلوقات لها نمط بدائي شديد البدائية من العين، أي مُجرَّد مجموعة خلايا بسيطة ومُلتقِّطة للضوء وحساسة للضوء فقط، فهذه موجودة طبعاً، ولدينا في الرخويات بالذات تقعر بسيط، والآن تذكرت أنني حدثتكم في الحلقات عن هذا الحديث لأننا طوَّلنا، فنحن لنا أعمار – For Ages كما يُقال – ونحن نتحدَّث عن التطور، وعلى كل حال يُوجَد منها ما يُوجَد مع تقعر بسيط، وهناك مع تقعر أكثر و مع حدة أكثر وهكذا، وكله هذا موجود، فهذا موجود وهذا موجود وهذا موجود وهذا موجود، والعين الإنسانية موجودة، وعين العقاب والصقر والنسر موجودة، كل هذا موجود الآن وحي، فهى كائنات حية وتتمتع بها، وبالتالي ما المانع أن يكون فعلاً في المسار التطور يحدث هذا التطور للعين نفسها بالطريقة هذه من مُجرَّد بضع خلايا حساسة للضوء إلى هذا التقعر المليء في نهاياته العميقة بخلايا مُتخصِصة – أقماع وعصي لاستقبال الضوء والألوان المُختلِفة – والذي يعمل بتعاضد وتساند وتآزر مع الدماغ لكي يُعطينا هذه المشهدية البصرية الألوانية في مُنتهى الروعة والإثارة؟ فهم يحتجون بهذا احتجاجاً واثقاً على موضوع التطور ووقوع التطور.

هناك مثال آخر ربما أكثر شهرة من مثال العين المعيبة وهو مثال العصب الحائر، أو كما يُسمى باللاتيني الـ Vagus، لكن هم يُسمونه العصب الجوال، أي راكب التعاسيف كما يُقال بالعامية، فهو لا يعرف إلى أين يذهب، فهو يذهب ويأتي دون أن يعرف إلى أين ولذلك هم أسموه بالعصب الحائر، لكن ما قصة هذا العصب الحائر؟ وما هذا المثال؟ العصب الحائر هو أحد الأعصاب الجمجمية، والأعصاب بشكل عام منها مَن يخرج مِن الجمجمة مُباشَرةً، وهذه يُسمونها بالأعصاب الجمجمية، ومنها مَن يخرج مِن ماذا الحبل الشوكي – Spinal Cord – الذي تعرفونه، وهذا ليس من الأعصاب التي تخرج من الحبل الشوكي، وإنما من الأعصاب الجمجمية، من الأعصاب القحفية وإسمه العصب الحائر، علماً بأننا لن نتحدَّث عنه وعن فروعه، فهو عنده فروع وأشياء مُعقَّدة، لكن باختصار أحد فروعه الأربعة عصب إسمه العصب الحُنجري الراجع – Recurrent – المُرتَد، لكن لماذا هذا الفرع الرابع منه؟ ينزل هذا الـ Vagus، هناك واحد على اليمين وآخر على الشمال، والمفروض هذا أن يذهب إلى الحُنجرة، وأن يذهب هذا إلى الحُنجرة، ولو ذهب إلى الحُنجرة سوف نجد أن المسافة بسيطة جداً لأن الطريق قصير، لكن هو لا يفعل هذا، هو ينزل إلى القلب جهة الشمال ويلتف على الأورطة Aorta، وبعد أن يلتف عليها يرجع، ثم يلتف الذي في اليمين على الشريان المُقابِل للأورطة Aorta ويرجع للمكان الخاص به ولهدفه، فما هذه اللفة إذن؟ ولماذا؟ لذلك يُسمونه بالعصب الحُنجري الراجع Recurrent Nerve، لكن مت هذه الركوبة؟ وما هذه الطريقة وهذا التيه والضلال الذي عمله؟ وطبعاً هذا يزيد طوله ثلاث مرات، أي بضع بوصات أو إنشات، ففي الزرافة البالغة يصل طوله إلى أربعمائة وخمسين سنتيمتراً، أي أربعة ونصف متر، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، وطبعاً هناك مقطع في اليوتيوب YouTube من الجميل أن تُشاهِدونه، وهو لريتشارد دوكينز Richard Dawkins، وطبعاً ليس هو بطله وإنما بطله فريق التشريح بالكلية الملكية البيطرية التي تقع قرب لندن وإسمها الكلية الملكية – Royal – البيطرية، ففي ألفين وتسعة صادف وأسعد الحظ ريتشارد دوكينز Richard Dawkins أن خاض في هذه التجربة، وهو مُنتشٍ إلى اليوم بها، فهو – سبحان الله – عالم كبير، فسواء تختلف معه أو تتفق معه هو رجل عالم وعنده نفسية عالم ومشاعر عالم، وهو يُقدِّس العلم ومُبتهِّج بالعلم ويفرح بالعلم بشكل غير طبيعي، وهو يكتب بنوع من الانتشاء دائماً عن هذه التجربة وكيف أنه شاهدها واستطاع أن يراها، لأن هذه تجربة لا تتكرر، وهذه التجربة أُجريت فيما نعلم مرتين فقط، مرة في سنة ألف وثمانمائة وسبعة وثلاثين أو ألف وثمانمائة وثلاثة وسبعين على ما أذكر، ولكن المُهِم هو أنها أُجريت على يد مَن؟ ريتشارد أوين Richard Owen الذي تعرفونه طبعاً وهو الذي أسَّس متحف العلوم الطبيعية، وهو عدو داروين Darwin، فهو كان صديقه لكنه أصبح عدوه بعد ذلك، وهوعالم تشريح مُقارَن كبير، وهو الذي اكتشف الديناصور Dinosaur وأعطاه هذا الإسم، فمعروف مَن هو هذا الرجل، ولكن كان ضد التطور، وطبعاً هو رأى كيف يكون اختلاف الكائنات التي حدثناكم عنها أكثر من مرة وأدرك أن هناك الكثير من الاختلافات في الكائنات وقال لا يُوجَد تطور، فالله هو الذي خلقها بهذه الطريقة، فكل كائن خلقه الله خلقه هكذا، ولا مُشكِلة في وجود هذه التشابهات، علماً بأنه شرّح الزرافة وشرَح هذا العصب بالذات، وهذا العصب من الصعب أنك تُشرِّحه، خاصة لما يرجع ويُصبِح نحيفاً جداً – وهو راجع يكون نحيفاً – كالخيط الرفيع في الإنسان، فصعب جداً أن تُشرّحه وتفصله دون أن تقطعه، ولكن ريتشارد أوين Richard Owen شرّحه ونجح في هذا، لكن الغريب أنه لم يُلاحِظ ولم يُدرِك دلالة هامة، فهو لم يتسأل بصدد التفاف العصب، ولم يقل لماذا هذا العصب التف هذه اللفة الطويلة التي هى فيما يظهر لفة غبية حمقاء ولا حاجة إليها؟ فلماذا فعل هذا؟ المفروض دائماً في كل تصميم ذكي أن يُراعى مبدأ الاقتصاد، وذلك بأقل تكلفة وأكبر فاعلية ومن أقصر طريق، فهذا هو التصميم الصحيح، مثل بناء النظرية، فعندما تبني نظرية وتأتي لنا بتفسير فنحن نُريد دائماً هذا بأقل فروض مُمكِنة وأقل خطوات مُمكِنة، فلماذا هذه اللفة الطويلة وما إلى ذلك؟ على كل حال ريتشارد أوين Richard Owen أول من فعل هذا لأول مرة، والمرة الثانية حصلت في ألفين وتسعة في الكلية الملكية البيطرية بالقرب من لندن، وأسعد الحظ ريتشارد دوكينز Richard Dawkins بأنه كان موجوداً، فكان سعيد جداً بها، وصُوِّرَت التجربة وهى منشورة على اليوتيوب YouTube ومن ثم من المُمكِن أن ترونها بأعينكم وأن تروا هذا العصب، فهناك أستاذة شاطرة جداً في التشريح رفعت عنه كل شيئ وأمسكته بيدها لكي تتمكَّنوا من رؤيته، وهذا شيئ مُذهِل فعلاً، وهذا العصب طويل وفعلاً راجع – لا إله إلا الله – إلى الحُنجرة، لكن لماذا؟ أنت أنت نزلت من فوق ومن ثم يجب أن تذهب إلى هدفك، لماذا تفعل هذا؟ هنا الخلقوي تعضل به المسألة لأن من الصعب أن يُقدِّم تفسيراً، ومن ثم سوف يقول لك “عليك أن تسكت فأنا لا أعرف، ولكن لله حكمة في كل شيئ يا أخي”، وطبعاً عنده نموذج تفسيري عام يقول كل شئ ولا يُفسِّر شيئاً، وهذا معناه طبعاً أنه يقول هذا لأنه لا يفهم لماذا في حين أن التطوري يفهم لماذا، وطبعاً هذه قصة طويلة، إذا أحببتم أن تقرأونها بالتفصيل هناك كتب كثيرة فصلت فيها منها كتاب دوكينز Dawkins أعظم استعراض على الأرض، فهو تكلَّم عن هذه المسألة في ثمان صفحات تقريباً بشيئ من التفصيل المُمِل، وأجرى مُقارَنات وما إلى ذلك، ولكن هذا التفصيل ليس تخصصياً وإنما هو تفصيل للعوام لأن هذا الكتاب أصلاً للعوام، فهو تكلَّم في حوالي ثمان صحائف في كتاب أعظم استعراض على الأرض The Greatest Show on Earth عن هذا العصب الراجع أو الحنجري الراجع، لكن باختصار سوف نُبسطها لكي نفهمها، فببساطة ما حصل هو كالتالي:

بما أننا نحن والزرافة والشِمْبانزِي Chimpanzee والكائنات كلها طبعاً جميعاً أبناء السمكة، وجدنا أو جدتنا الكُبرى الأولى – ليست الأولى بالمعنى الحرفي وإنما الأولى نسبياً – هى السمكة فالحل عند السمكة، ومن ثم سوف تعودون مرة ثانية إلى كتاب السمكة في داخلك Your Inner Fish، ومن ثم سوف تقعون أيضاً على تحليل لنفس المسألة، وهو تحليل بسيط، أكثربساطة من تحليل دوكينز Dawkins، وهذا سوف يكون أجمل ومن ثم يُمكِن أن ترجعوا إليه.

على كل حال حتى كوين Coyne – جيري كوين Jerry A. Coyne – كتب أيضاً زُهاء صفحتين عن هذه المسألة لكن بشكل غير واضح، فكلامه كمُعقَّد وفيه أخطاء – أخطاء حتى رقمية – لأنه يزعم أن هذا العصب يطول عند الإنسان ويُصبِح تسعين سنتيمتراً، وهذا غير صحيح بالمرة، علماً بأنه ليس طبيباً طبعاً وليس فسيولوجياً حتى ولكنه أخطأ ولا أدري لماذا، وعلى كل حال هو ادّعى أن هذا العصب الراجع عند الإنسان يُصبِح طوله ثلاثة أقدام أو تسعين سنتيمتراً وهذا غير صحيح، وعلى كل حال أيضاً القضية باختصار أن في الأسماك – طبعاً الأسماك ليس لها رقبة – هذا العصب النازل من رأس السمكة يأتي ويُغذّي آخر ثلاثة خياشيم، وأنتم تعلمون أن هناك ستة خياشيم في أحد جهات السمكة وهناك ستة خياشيم في الجهة الأُخرى، لكن هو يُغذّي الخياشيم الثلاثة الأخيرة، ويأتيها من الجهتين طبعاً من أقرب طريق، وهذه عملية سهلة وليس فيها أي شيئ، لكن الآن حصل تطور وسمكرة للسمكة، فهذه سمكرت عبر ملايين السنين، لكن الذي حصل في المُقابِل أن هذه الخياشيم اختفت، وأصبح مكانها في الإنسان في المرحلة الجنينية الأولى – أي وهو جنين – شيئ إسمه الأقواس البلعومية، علماً بأنكم تستطيعون رؤيتها وهى شيئ عجيب، ويُمكِن رؤية هذا بمُجرَّد كتابة هذا الإسم خاصة في أي كتاب في الامبريولوجي Embryology،فانظر إلى شكل الإنسان وهو ابن خمسة أسابيع، فهو عنده شيئ إسمه الأقواس البلعومية، ونفس هذه الأقواس موجودة في الأسماك وهى التي ستتطور إلى خياشيم Gills، وفي الإنسان طبعاً لا تتطور إلى خياشيم وإنما تتطور إلى أعضاء أخرى، منها الدرقية – أي ومنها جرت الدرقية Parathyroid – ومنها طبعاً صندوق الصوت – الحنجرة – وأعضاء أخرى وأشياء ثانية، ولا علينا من هذا، فالمُهِم هو أننا ليس عندنا أي خياشيم، لكن عندنا هذه الأعضاء الأخرى، وهنا مع هذه السمكرة وهذا التمطيط والمد وإعادة التشكيل والتحولات لم تعد المسألة بتلك السهولة ولم تعد علاقة هذه الأعضاء البسيطة – الخياشيم مع هذا العصب – سهلة ومفهومة، فالعملية دخل بعضها في بعض، ورأينا أن هذا العصب الحائر يتفرع منه فعلاً هذا الفرع الرابع، وهو لا يعمد إلى هدفه من أقصر طريق وكأنه يتيه أو يضل ويمتد – كما قلنا وشرحنا الامتدادة – ليعود من الجهتين، من جهة الشمال ومن جهة اليمين، فمن جهة الشمال يعود مُلتفاً على الأورطة Aorta، ومن جهة اليمين يعود مُلتفاً على ما يُقابِل الأورطة Aorta في هذا التاج المشهور، ومن ثم قال العلماء أن هذا بسبب أننا سمكة مُعدَّلة اختلف تموقع بعض أعضائها واختفت بعض الأعضاء وجاءت أعضاء أخرى، فالمسألة كلها تطورية وناتجة عن التعديل وليست مُصمَّمة، فلو كانت مُصمَّمة – Designed – لكان هذا العصب يعمد مُباشَرةً إلى هدفه من أقصر طريق كما هو في الأسماك الأصلية، ولكنه لا يفعل .

حين ترون – كما قلت لكم – هذا الفيديو Video سوف ترون شيئاً مُثيراً حقاً، فأنتم سوف ترون هذا بأعينكم، وطبعاً – كما قلت لكم – دوكينز Dawkins يفتخر به ويعتبره دليلاً ساحقاً ماحقاً، ولكنه دليل قابل للكلام والنقاش كما سنرى في السلسلة الثانية بإذن الله تبارك وتعالى .

أُحدثكم الآن عن الـ Vas Deferens، فما هو الـ Vas Deferens؟ هو الأسهر أو ناقل المني، وأحسب أنني ذكرت هذه المسألة في حلقة سابقة، لكن الآن هذا موضوعها العتيد تماماً، فهذه الموضوعة – كما قلنا – لها علاقة بالمسار التاريخي للتطور، وأثرها – Vestige – باقي إلى اليوم كشاهد تاريخي، فهذا شاهد تاريخي جاثم في أبداننا وكامن في أبداننا، فما علاقة الأسهر أو الحبل ناقل المني بهذه القضية؟ القضية ببساطة كما تعلمون كالآتي: نحن لدينا الآن كُليتان، وينزل من الكُليتين هذا الحالب الذي يحمل البول وما يحتويه إلى المثانة Blase، وبعد ذلك لدينا هنا – لا مُؤاخَذة – الخصيتان وعضو الرجل، وبعد ذلك يخرج من كل خصية حبل – أي وعاء ناقل – إسمه الأسهر، أو الحبل – أي أنبوب – ناقل المني، والمفروض لو يُوجَد تصميم من أول الأمر أن هذا الحبل يكون قصيراً جداً – هذا أفضل له وأفضل لنا – وأن يأتي مُباشَرةً من الخصية إلى مكانه في عضو الرجل، فهذا هو المفروض، والذي لم يدرس التشريح سوف يقول لي أكيد هو كذلك، لكنه ليس كذلك، فللأسف الشديد الحاصل غير هذا، واذهب إلى أي كتاب تشريح وحاول أن تنظر وسوف تجد الخصيتين وأن هذا الأسهر يرتفع ويلتف على الحالب – Ureter – ثم يعود إلى مكانه في القضيب، فما هذا؟ لماذا هذه اللفة؟ والآخر نفس الشيئ طبعاً، فهذا الأسهر يذهب إلى فوق ويلتف على الحالب في جهة الشمال ثم يعود إلى عضو الرجل، فما هذه اللفة؟ وهذا – كما يعلم الجراحون – يتسبب كثيراً لدى الرجال بالذات في الفتق الأربي، وهو فتق إذا لم يُعالَج قد يقتل، أي أنه قد يُسبِب الموت بعد ذلك، فإذن هذا الشيئ خطأ كبير، هنا يُوجَد شيئ غير معقول، فما الذي يحصل؟ ولماذا؟ هذا ليس تصميماً، لأن لو هناك أي تصميم من أول الأمر لما كان التصميم كذلك، فالتصميم يكون كما قلت لكم، لكن التطور هنا يتدخل ويقول لك المسألة مفهومة عندي وسهلة تماماً، فما هى إذن؟

هو يقول لك أن المسألة كالتالي: نحن أبناء السمكة، والغدد الجنسية في الأسماك قريبة – هى في الأعلى – من القلب – وفعلاً الغدد الجنسية كذلك – طبعاً، والغدد الجنسية في أسلاف الإنسان – أي التي كانت أسلافاً للإنسان – كانت فوق، فالخصيتان كانتا فوق، في مكان قريب بل مُوازي للكُليتين، وبالتطور لأننا كنا كائنات رباعية الأطراف وكان العمود الفقري أفقياً وليس عمودياً انتصبنا بملايين السنين، وحين انتصبنا نزلتا، ولما نزلتا الخصيتان – أي هاتان الغدتان الجنسيتان – نزلتا لأسباب، والمُرجَّح من هذه الأسباب هو ذلك السبب المُتعلِّق بالحرارة، لأن فعلاً الحرارة لا تُواتي المنويات، فكان الأفضل أن تنزل خارج البدن في كيس الصَفَن، وهذا ما حدث، لكن في رحلة النزول هذه حدث هذا الخطأ والتف هذا الأسهر على الحالب من الجهتين، فهذا هو إذن، أنت كنت تمشي بشكل أفقي ثم صرت عمودياً بمرور ملايين السنين، وبدأ النزول – طبعاً أخذ فترة طويلة جداً – وحدث هذا الخطأ وإلى اليوم أثره موجود.

هذا تفسير عجيب وذكي ومُقنِع إلى حد بعيد جداً، فإذن المسألة ليست تصميماً، ولكن المسألة – كما نقول دائماً نقلاً عنهم – هى مسألة سمكرة وليست مسألة تصميم.

روبن ويليامز Robin Williams – ليس المُمثِل الذي انتحر وكان إسمه على ما أعتقد أيضاً روبن ويليامز Robin Williams – عميد المُذيعين في سيدني Sydney بأستراليا Australia هو رجل له اهتمامات علمية أيضاً، وهو كاتب ورجل فَكِه وعنده حس الفكاهة، وتقريباً يبدأ برامجه الصباحية – تقريباً كل البرامج – بالشكوى من ظهره، فهذا الرجل عنده آلام في الظهر، وفي كل مرة يُنوّه – أي عنده تنويه خاص بها – عليها، فهو يأتيك بأشياء ثم يُردِّد قائلاً “يستطيع أو يُمكِن لكل ظهر   – كل Back – بشري في الدنيا أن يُقيم دعوى مُباشَرة على مَن يعتقد بوجود تصميم مُسبَق للظهر”، أي أنه يقول أنت تستطيع أن تُقيم دعوى على مَن يقولون بوجود تصميم وبوجود مُصمِّم وأن هذا الظهر تم تصميمه بشكل خاص ومن المُؤكَّد أنك سوف تكسبها، لكن لماذا هذا؟ لكثرة متاعب الظهر، فلو وُجِدَ تصميم ما حدث هذا، وتقريباً مُعظم الرجال – وأنتم منهم – على الإطلاق – نسأل الله أن يُجنبنا وإياكم متاعب الظهر والعنق والبروستاتا والركب التي تكون في هذه الحياة – بعد سن الأربعين يُعانون من آلام الظهر، فهم عندهم الكثير من الآلام في الأعلى أو في النصف أو في الأسفل أو عند العصعص أو الرقبة، فلماذا إذن؟ قال لك روبن ويليامز Robin Williams لأن هذا ليس تصميماً، هذا مسار تطوري وسمكرة غبية، وهذة حتى الآن غير جيدة، لكن لماذا؟ حين كنا كائنات رباعية الأطرف نمشي بطريقة أفقية كانت المسألة مُحتمَلة ولم يكن هناك أي ضغط على العمود الفقري ولا يُوجَد أي ضغط حتى على فقرات الرقبة، ومن ثم لم يكن عندنا أي مشاكل لأننا نسير أفقياً، ولك أن تتخيَّل ما حدث حين انتصبنا، علماً بأننا سوف نُحدثكم – إن شاء الله – عن هذا في الحلقات المُقبِلة – أوشكنا على الانتهاء، فقد بقيَ لنا حلقتان أيضاً – عن تطور الإنسان، فنحن سوف نختم هذه السلسلة بتطور الإنسان وأدلة تطور الإنسان ومما تطور الإنسان وعن ماذا تطوَّر، وعلى كل حال لما انتصبنا أو بالأحرى اضطُرِرنا أن ننتصب لنسير في السافانا لكي نُلاحِق غذاءنا بعد أن انحصرت الغابات وأصبحت مساحات مكشوفة أصبحنانمشي على أرجل – علماً بأن هذه قصة طويلة – وبدأنا نُعاني المتاعب في الرقبة وفي الظهر والعمود الفقري بشكل عام، وآخر الدراسات في هذا الحقل كان في هذه السنة – أي في ألفين وخمسة عشر – قبل تقريباً أقل من شهرين – لعميد الجراحين في إحدى كُبرى المشافي لجراحة العظام والعمود الفقري خصوصاً، فعميد الجراحين هناك كتب دراسة أو أنجز دراسة يقول فيها “أنت حين تميل برأسك إلى الأمام ستين درجة فإن هذا بمثابة وضع ثقل على فقار الرقبة بوزن سبعة وعشرين كيلو جرام” ولك أن تتخيَّل هذا، ومن هنا خطر جداً جداً على مَن يدرس وعلى مَن يكتب ألا يلتزم بهذا الكلام، وهذا الجراح الكبير يقول “هذا مُهِم خاصة مع الأطفال والكبار والصغار الذين يتعاطون مع الأجهزة الذكية لمدة قد تصل إلى أربع ساعات وخمس ساعات، فهذا مُدمِّر للرقبة، ومن بعد ذلك للعمود الفقري، وقد يستدعي بعد بضع سنين – حتى في حق الشباب – تدخلاً جراحياً”، فعليك أن تنتبه إذن، إياك وهذه الحركة العبيطة، فعليك أن تجلس كما قال هذا الرجل بهذه الطريقة مع أنها صعبة كثيراً، لكن يجب عليك أن تجلس هكذا، فتقرأ هكذا وتكتب هكذا و تقوم بعمل Chatting هكذا وتدخل على الفيس بوك Facebook هكذا وكل شيئ ينبغي أن يكون هكذا، أي مثل الروبوت Robot وإلا ستُعاني مُعاناة شديدة، فالسبب هو التطور، وهذه هى مُشكِلة التطور، فأنت لم تُخلَق لكي تعيش مُنتصِباً، وإنما كنت مخلوقاً بشكل أفقي ولكنك أحببت أن تُصبِح مُنتصِباً وبالتالي عليك أن تدفع الضريبة، وهذه هى مُشكِلة متاعب الظهر، فنحن غير مُتكيفين منذ الأصل لكي نعيش في وضعية انتصاب، نحن لم نُخلَق لكي نعيش هكذا ولكننا أردنا أن نتكيف مع هذه الوضعية، وإلى اليوم لانزال ندفع الأثمان الباهظة، وطبعاً الإنسان لم ينتصب إلا في المليون سنة الأخيرة، ونحن لا نتحدَّث عن الإنسان الهومو ساپيانس Homo-sapiens، وإنما عن الأسلاف القريبين جداً له من هذه الإنسانيات، ويُقال هذا قبل مليون سنة ويُقال غير ذلك، فهناك طبعاً خلافات في هذا، لكنه على كل حال بدأ ينتصب وبدأ يدفع هذا الثمن.

نأتي الآن إلى عيب تصميم آخر، فأنتم تعرفون الكوالا koala، هذا الحيوان الجرابي أو الكيسي الأيقوني – أصبح مثل أيقونة Icon – المُسمى بالكوالا koala على وشك أن ينقرض طبعاً، فهو في رأس المُرشَحين للانقراض، وهذا الحيوان الكيسي المشهور وهو من أستراليا Australia طبعاً فيه عيب كبير، فهو يقضي مُعظم وقته وهو يتشبث ويتسلق على جذوع الأشجار وعنده كيس فيه مٌشكِلة، وهو حيوان كيسي – كما تعرفون – طبعاً، أي أنه حيوان جرابي من الحيوانات الجرابية، والثدييات عموماً ثلاثة أنواع، أولاً الثدييات المشيمية مثلنا، فنحن من المشيميات، ومُعظم الحيوانات مشيمية ثديية، بالجنين ينمو ويكتمل نموه في المشيمة – Placenta – ويخرج كاملاً، ثانياً هناك حيوانات ثديية جرابية أو كيسية مثل الكانجرو Kangaroo الكيسي ومثل الظباء الكيسية ومثل الكوالا koala الكيسي، وهناك أيضاً فئران كيسية، فالكيسيات كثيرة وتعيش في أستراليا Australia، وهذا الحيوان يكون في الداخل ويخرج غير نامٍ، فيُكمِّل نموه وهو كجنين في الكيس أو في الجراب طبعاً وهو لايزال جنيناً، ثالثاً – النوع الأخير – هناك كائنات وحيدة المسلك، مثل الـ Platypus، أي منقار البط أو البطيطة كما يُسمى، وعلى كل حال هذه الكوالا koala فيها عيب، وهذا العيب لا يُمكِن أن يحكي تصميماً ذكياً، بل يحكي أيضاً تطوراً بطريق السمكرة، فما هذه السمكرة إذن؟ وما هى القصة؟ العيب هو أن الكيس الخاص بالكوالا koala يفتح إلى أسفل، وهذا خطأ فظيع، فالكوالا koala دائماً ما تتسلق الأشجار، ولذلك المنطقي أن يفتح إلى أعلى لكي تضع ابنها فيه وتتسلق الأشجار ولكنه ليس كذلك، فهو يفتح ناحية الأسفل، وبالتالي الله يعينها ويعين ابنها مسكين لأن من المُمكِن أن يسقط دائماً، وهذه مُشكِلة كبيرة، فهذا المسكين يُحاوِل أن يتشبث ولكنه يكون Nervous ومُضطَرِب و Stress وهذه مُشكلِة، فيرتفع الضغط عنده والسكر وما إلى ذلك، لأن الكيس مفتوح لأسفل وهى تتسلَّق الأشجار، فما القصة إذن؟ ولماذا حدث هذا؟ فعلاً العقل – والعقل العلمي بالذات – يقول هنا لا يُوجَد أي تصميم، وإلا أي تصميم هذا الذي يعمل مثل هذا الشيئ؟ هذا ليس تصميماً وإنما هو تطور، لكن عن أي كائن تطور؟ هناك حيوان إسمه الومبت Wombat، وهذا الومبت Wombat حيوان حفّار، والكوالا koala تطورت عن حيوان شبيه جداً بالومبت Wombat وليس عن الومبت Wombat نفسه، وإنما عن حيوان شبيه جداً به وهو حفّار مثله أيضاً، علماً بأن الومبت Wombat أيضاً كيسي، فهو حيوان كيسي قديم جرابي مثل الومبت Wombat وهو حفّار مُتخصِص في الحفر، وهذا الومبت Wombat يُمكِن أن تدخل على النت Net لكي تراه، فقط اكتب ومبت Wombat وسوف تجده، فحين تراه سوف تجد أنه يحفر بقوة كأنه جرافة – سبحان الله – أو كأن يديه وبراثنه – أي البراثن الخاصة به – تعمل كالمجراف، فهو يحفر ببراثنه بقوة ويدفع التراب إلى الوراء بقوة شديدة وبسرعة لأنه حفّار ماهر، فهو مثل الخلد ولكنه أقوى، وطبعاً هذا الومبت Wombat الأول – أي السلف Ancestor – القديم للكوالا koala كان جرابياً، وكان من الطبيعي أن الجراب عنده يفتح إلى أسفل، لكن لماذا؟ لأنه حين يحفر الآن سوف تُواجِهه مُشكِلة لو كان الجراب يفتح إلى أعلى، فأين سيذهب التراب وهو يحفر لو كان الجراب يُفتَح إلى أعلى؟ إلى داخل الجراب طبعاً، ومن ثم سيهلك تقريباً أو يتضرر ضرراً بالغاً الصغير – صغيره – طبعاً، لأن التراب سوف يدخل إلى عينيه وإلى فمه وأسنانه وبالتالي سوف يُؤذيه وقد يُهلِكه، لكنه كان يفتح إلى أسفل ومن ثم لن تُوجَد أي مُشكِلة أبداً لأنه لن يأتيه التراب، فعلينا أن ننتبه إلى أنه لو كان يفتح إلى أعلى سوف يدخل التراب في الكيس.

هذه هى القضية إذن، وهذا كلام جميل ودقيق وعجيب، وهذا معناه أن الكوالا koala كيسها يفتح إلى أسفل لأنها مُجرَّد تطور وسمكرة لحيوان حفّار كيسي قديم شبيه بالومبت Wombat كان جرابه يفتح إلى أسفل، لكن لماذا إلى أسفل؟ لأن هذا الأفضل لحفّار يحفر تحت الأرض، وهو أن يُفتَح جرابه إلى أسفل وليس إلى أعلى، وبقيت هذه الحالة إلى اليوم، فالكوالا koala تطورت رغم أنها لا تحفر وإنما تتشبث بالجذوع وتعلو ولكن هذه آثار – Vestiges – باقية إلى اليوم كشاهد تاريخ على وقوع التطو .

أخيراً – وأختم بهذا لأن أدركنا الوقت – لدينا جيوبنا الأنفية Sinuses، فنحن عندنا الجيوب الجبهية عند جانبي الجبهة، وعندنا عند جانبي عظمة الأنف من الأعلى بالقرب من العين الجيوب الشوكية، وعندنا على جانبي الأنف من الأسفل بالقرب من الفك العلوي الجيوب الأنفية الفكية، وهذه الجيوب الأنفية الفكية كبيرة، وهذه الجيوب الجبهية أكبر قليلاً، ولكن هناك عيب ما، فكثير من الناس يُعاني من مشاكل الجيوب الأنفية مثل الصداع وغيره من المشاكل وكذا، وذلك لوجود مُشكِلة تتعلَّق بهذين الجيبين – الجيبان الأنفيان الفكيان – الآن، وطبعاً أنتم تعرفون أن الجيب له دائماً نقاط تصريف ومسارب تصريف لنزول السائل، لكن أين نُقطة التصريف للجيب الفكي؟ المعقول لهذا الجيب أن تكون النُقطة – مثلاً – في الأسفل عند الفك العلوي أو أبعد قليلاً ولكن في الأسفل أيضاً عند الفك العلوي، وذلك لكي تستغل ميزة الجاذبية الأرضية، ففيها سوائل ينبغي أن تُصرَف طبعاً لئلا يستضر بها صاحبها، فكان يجب ان تُصرَف هكذا وتنتهي المسألة، لكنها للأسف موجودة أين؟ فوق عند جانبي عظمة الأنف من الأعلى بالقرب من العين، أي في القمة، وهذا ضد الجاذبية، فكيف سيتم التصريف إذن؟ هذه عملية صعبة، وبالتالي سوف يحصل احتقان، ومن هنا مشاكل الجيوب عند كثير من الناس الذي يُعانون منها، فالتصريف فوق عند جانبي عظمة الأنف من الأعلى بالقرب من العين، وليس في الأسفل عند الفك العلوي، وهذا يعمل ضد الجاذبية، لذا لن يتم التصريف بطريقة سلسة، وسوف يحصل احتقان، حيث ستدخل الفطريات ويحدث التهاب فطري وروائح كريهة وألم وقلق والكثير من المشاكل، وهذا شيئ فظيع جداً، ولك أن تتخيَّل هذا، ولذا هم قالوا هذه ليست قضية تصميم، وإلا أين التصميم في هذا؟ لكن عن ماذا نتج هذا؟ نحن كنا كائنات رباعية تمشي أفقياً، وكان الرأس بشكل أفقي لأنه كان امتداداً للجسم أفقياً، ونُقطة التصريف لم تكن في الأعلى بل كانت في الأمام، وهى نُقطة منطقية ومعقولة جداً بالنسبة لموضع الجيوب، فالتصريف كان أسفل الجيوب، فأهلاً وسهلاً بهذا، لكن حين انتصبنا لم يعد هذا الوضع منطقياً بالنسبة للجيوب، لأن التصريف أصبح في أعلى الجيوب، ومن ثم حدثت لنا المشاكل وأكلنا الهواء كما يُقال.

هو هذا إذن، فهذا مثال أيضاً ذكي ومُوحٍ يُؤكِّد أن القضية فيها فعلاً تطور وليس لها علاقة بالتصميم.

نختم بهذا التعليق الذي يقول بوجود فرق فعلاً بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، قال الله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۩، فلما يتكلَّم إنسان في شئ لا يفهمه ولا يُحسِنه سوف يظل أسير المانشيتات والكليشهات – Clichés – العامة التي يظن أنها تحكم على الوقائع والحقائق، وهو لا يدري شيئاً عن الوقائع والحقائق، لكنه يقول لك “كل شيئ مُصمَّم وكل شيئ تم بدقة وكل شيئ يُوجَد في مكانه، فأنت لا تجد أي شيئ إلا في مكانه” وهو لا يعرف شيئاً، فإذا وُجِهَ هذا المسكين بمثل هذه الحقائق والوقائع سوف يُقطَع به مُباشَرةً، فنحن سنقول له تفضل هذه الحقائق، هل مثل هذا الشيئ في مكانه؟ ومن ثم لن يعرف الإجابة، فإما أن يُكابِر وإما أن يُقطَع به، وهذا هو الفرق بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، ولكن بعد أن تعلم هذه الوقائع الآن سوف تكون أمام تحدٍ وهو أن تُقدِّم المُقارَبة الأكثر معقولية لتفسيرها فتقول هذه هى المُقارَبة، فكل هذه الأشياء التي ذكرناها والتي لم نذكرها – هناك أشياء كثيرة أيضاً ولكن هذه ربما من أهمها في الحقيقة – إلى الآن واضح أنها تشهد على القدرة التفسيرية العالية لنموذج التطور ولنظرية التطور، فهذه النظرية نظرية تتميز بقدرة تفسيرية عالية، فهى تُفسِّر أشياء كثيرة لا تستطيع النظرية التكوينية الخلقية أو الخلقوية – Creationism -أن تُفسِّرها، والله – تبارك وتعالى – قال وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ ۩، إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: