نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة الثانية عشرة

متاعب وتحديات

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

أما بعد إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وقفنا في الحلقة الماضية عند تلخيص وتكثيف الأدلة التي استعرضها تشارلز داروين Charles Darwin في أصل الأنواع بإسهاب طبعاً كبير في هذا الكتاب الكبير على صحة نظريته والتي أيد بها نظريته في التطور العضوي بآلية الانتخاب الطبيعي وهى الآلية الرئيسة الي يعمل من خلالها وبها أو بواسطتها التطور، وفي المُقابِل هناك جُملة اعتراضات ثارت في وجه

تشارلز داروين
تشارلز داروين

داروين Darwin وكتابه ونظريته، وقد عرضنا بشكل انتقائي وبشكل أيضاً غير مُمنهَج لجماعة من هذه الاعتراضات في مواضع وأوقات مُختلِفة من السلسلة، والآن نُريد بشكل سريع – إن شاء الله تعالى – أن نُجمِّع أشهر هذه الاعتراضات، ولعلها أربعة أو خمسة على الأكثر حتى ننطلق بعد ذلك إلى أفق آخر في مُعالَجة هذه النظرية، فكان في رأس هذه الاعتراضات الاعتراض الذي تقدم به عالم الحيوان الإنجليزي المعروف بسانت جورج ميفارت Saint George Mivart، فميفارت Mivart كان مُعارِضاً لآلية الانتخاب الطبيعي ومن هنا يقول “يُمكِن للانتخاب الطبيعي نظرياً أن يُفسِّر لنا العمل على واستبقاء التغيرات التكيفية ذات الامتياز – أي الناجحة والتي تتلاءم مع البيئة وشروطها – ولكن لا يُمكِن للانتخاب الطبيعي أن يُفسِّر لنا المراحل الأولى أو الأولية لنشوء وتطور هذه التكيفات وهذه التغيرات”، وطبعاً علينا أن ننتبه لوجود مبدأ أساسي في الداروينية – Darwinism – أو في نظرية التطور وهو مبدأ التدرجية، فالأمور لا تتم دُفعةً واحدة ولا تتم مرة واحدة، إنما تتم تدرجياً شيئاً فشيئاً بشكلٍ أو بهيئة تراكمية.

سانت جورج ميفارت
سانت جورج ميفارت

عالم الحيوان ميفارت Mivart يقول “ما الذي يُبرِّر في المراحل الأولى لنشوء تغير ما أن يستبقي الانتخاب الطبيعي المرحلة مثلاً A لأنها غير مُفيدة الآن إلا إذا سلمنا بأن هناك خُطة مُسبَقة؟ فهناك خُطة مُسبَقة تُرغِم هذه التغيرات أن تتراكم لكي تنتهي في النهاية إلى تأكيد غاية مُحدَدة وإلى الوصول إلى هدف مُحدَد، وهذه بالضبط هى وجهة نظر التكونيين أو الخلقويين تماماً الذين يُقابِلون بنظريتهم نظرية التطور”، فنظرية التطور لا علاقة لها بالتصميم، هى كافرة مُنكِرة للتصميم والتخطيط المُسبَق، فلا يُوجَد تصميم ولا تخطيط مُسبَق وإنما هى مُجرَد تغيرات عشوائية، لكن ما معنى عشوائية؟ اعتباطية، وما معنى اعتباطية؟ صدفية، أي تنتج بالصدفة، لكن يأتي الانتخاب الطبيعي فينتقي ويستبقي منها ويستفضل منها الذي يتوفر على شرط التكيف مع البيئة، وهذا هو معنى بقاء الأصلح، ومن هنا يقول هذا العالم الإنجليزي الكبير “يبدو أن منطق الانتخاب الطبيعي يفشل هنا”، وطبعاً أنا سردت لكم الجواب الذي ساقه تشارلز داروين Charles Darwin وهو جواب في غير قليل من الذكاء والتبصر العلمي، وفي الحقيقة هناك وقائع سنعرضها حين نذكر بالتفصيل مُؤيِدات النظرية العلمية تُؤكِد صحة هذا التبصر العلمي، فداروين Darwin يقول “قد ينشأ تغير ما واضح أنه في الحقيقة لا يخدم الهدف الذي ينتهي إليه بعد ذلك وإنما يخدم في اتجاه ما، ثم يحدث بعد ذلك تغير في وظيفة هذا التغير وفي مُهَمة هذا التغير فيخدم في اتجاه آخر”، فمثلاً الريش الذي ينبت على بدن حيوان كان خالياً منه لأول مرة، وطبعاً سيستحيل هذا بعد مراحل طويلة إلى جناحين ليطير بهما هذا الطائر، لكن حين نبت هذا الريش البدائي الأولي كان من المُستحيل أنه يخدم في اتجاه الطيران، فلا تُوجَد أي علاقة بين الطيران وبين هذا الريش البدائي، ولذا يقول تشارلز داروين Charles Darwin “لكن هذا الريش كان – مثلاً – يُؤدِي وظيفةً أخرى، كأن يكون عازلاً حراراياً وبالتالي كان مُهِماً ومن ثم يستبقيه الانتخاب الطبيعي، وحين يتكامل بتغيرات أخرى – بتغيرات وليس بطفرات لأنه لم يتسخدم مُصطلَح طفرة Mutation – لكي يُصبِح جناحاً يخدم في اتجاه الطيران فسوف يستبقيه الانتخاب الطبيعي أيضاً” وساق أمثلة أخرى، فمن الواضح أن هذا التبصر كان قوياً وفي محله.

توماس هنري هكسلي
توماس هنري هكسلي

على كل حال – كما قلت لكم في الحلقة السابقة – مبدأ الانتخاب الطبيعي لم يكن مُقنِعاً لأكثر العلماء بل حتى لأكثر المُؤيِدين لتشارلز داروين Charles Darwin وفي رأسهم – كما قلت لكم – توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley الذي حذر أستاذه داروين Darwin بالقول “إنكَ إذا بقيت مُصِراً على أن التطور يحدث تدرجياً – Gradually – من خلال تراكمات صغيرة تتراكم ويُتراكَم بعضها فوق بعض حتى تنتهي إلى نهاية حميدة جيدة فأنت تحفر قبرك بيديك”، فهو لم يكن مُقتنِعاً بأن هذه الآلية يُمكِن استبعابها ويُمكِن التدليل عليها، وطبعاً هو كان مُقتنِعاً أيضاً بأن هذه الآلية لا يُمكِن أن تُرى وهى تعمل، وأكيد طبعاً أنها لا يُمكِن أن تُرى وهى تعمل وذلك لأنها تعمل في زمانية طويلة جداً، في حين أن الآخرين رفضوا أصلاً أنها تعمل، لكن هكسلي Huxley قال “لنفترض أنها تعمل، لكن مَن يراها؟ أنت تقول هذا يحدث في عشرات ألوف أو مئات ألوف أو ملايين أو مئات ملايين السنين، فمَن عساه يرى هذا؟ فيا أستاذي – ينصحه – لا تُصِر على هذه الآلية”، وطبعاً ليس أمام داروين Darwin هامش كبير للمُناوَرة، لأن هذه هى الآلية الحقيقية التي يعمل بها التطور، بل هى روح التطور والماكينة والمُحرِك الحقيقي للنظرية وللتطور Engine of Evolution، فإذا تخليت عن هذا – أي عن الانتخاب الطبيعي -ماذا يبقى في نظريتي؟ وأنا أقول لكم أنه إذا تخلى عنه سوف يتخلى طبعاً عن إضافته وسوف يتخلى عن أصالته، فداروين Darwin حين قال بالتطور لم يكن أصيلاً، لكن ما معنى لم يكن أصيلاً؟ أي كان مسبوقاً، فهناك غير واحد من العلماء – وبعض هؤلاء العلماء من المشاهير – قالوا بالتطور، وكان لدينا أكثر من موديل Model وأكثر من نموذج للتطور لكن أصالة داروين Darwin جاءت – بغض النظر طبعاً أو علاوة على هذا الحشد الكبير المُنظَّم للأدلة والمُلاحَظات والتبصرات – في الانتخاب الطبيعي كآلية تُفسِّر عمل التطور بشكل كما عرضناه، وواضح أنه شكل مُمنهَج ودقيق، لكن هل يُمكِن التدليل عليه عملياً؟ هل هو قابل للمُراقَبة وقابل للاختبار Observable And Testable؟ هل هو كذلك أو كذلك؟ واضح أنه لا إلى الآن، ولذلك ذكرت لكم في الحلقة السابقة على ما أذكر أن في عام ألف وتسعمائة وتسعة تقريباً – في العقد الأول من القرن العشرين – حين أقاموا احتفالية بالداورينية Darwinism كان الغائب الأكبر هو الانتخاب الطبيعي، وهذا شيئ غريب أن يُحتفَل بداروين Darwin والداوينية Darwinism ولكن يكون الانتخاب الطبيعي غير موجود، فمعنى هذا وجود شبه بيان ضمني أو مُضمَن بالتخلي عن الداروينية Darwinism، فالتطور لم يُتخَل عنه، والتطور موجود بصياغة مُختلِفة وموديلات – Models – مُختلِفة، لكن الداورينية Darwinism والتطور الدارويني تم التخلي عنه، فهل ماتت الداروينية Darwinism؟ لم تمت، وسيتم إنعاشها من جديد – كما قلت لكم – بفضل علماء مثل الطبيب الألماني وعالم الأحياء وايزمان Weismann – أوغست وايزمان،  August Weismann – الذي ساهم أيضاً في أن تصل الداورينية – Darwinism – إلى هذا الموصِل طبعاً وأن تصير إلى هذا المصير.

Hugo de Vries هوجو دي فريس
هوجو دي فريس

نظرية الطفرة التي اكتشفها الهولندي هوجو دي فريس Hugo de Vries كانت مُعارِضة تماماً أيضاً لروح التدرجية في نظرية داروين Darwin، فهذه طفرة وهذه تدرجية، وسنعرض لهذا بُعيد قليل، لكن نأتي الآن إلى الاعتراض الثاني وأيضاً عرضنا له وهو الاعتراض المُتعلِق بالأشكال الانتقالية أو الأشكال الوسيطة Intermediate Forms or Transitional Forms، فكان دائماً يُلقى بهذا في وجه داروين Darwin ويُقال له “أرِنا يا سيد داروين Darwin أشكالك الوسيطة” أي الحلقات المفقودة، فهذه تُسمى الحلقات المفقودة مثل الأشكال الانتقالية بين أصل الإنسان والقرود وبين الإنسان والقرود وهكذا، فهم يقولون له “أنت تقول أن هناك حلقات وسيطة فأين هى؟ أين مُستحاثاتها؟ أين حفرياتها؟ لا تُوجَد مثل هاته الأشياء وإلا أرِنا إياها، فأنت تدّعي أن الحوت تطور من رباعي الأطراف بري، ورباعي الأطراف يعني له زوجان من الأطراف، فهو كائن بري وتحوَّل بعد ذلك إلى حوت عبر مراحل كما تقول، إذن أرِنا الحلقات الانتقالية التي هى ليست بحوت وليست بهذا الرباعي الأطراف البري، أين هى؟” وكان يقول دائماً “هذا أقوى اعتراض يُلقى به في وجهي أو في وجه نظريتي”، فهو كان يعترف بهذا، ولكنه كان يقول أيضاً “ربما أنكَ وارث جيولوجية مُعينة أدت إلى غياب وإلى انسحاق وإلى انطماث هذه الحلقات الوسيطة”، وطبعاً في إطار هذا الجواب بحد ذاته هناك ثغرة كبيرة، فلماذا أدت هذه الكوارث الجيولوجية إلى اندثار الحلقات الوسيطة بالذات ولم تندثر الأشكال الأساسية السوالفية أو السالفة أو اللاحقة؟ لماذا هذا؟ لكنه كان يأمل أن العلماء والباحثين بمُواصَلة البحث والعلم والتنقيب والدرس سوف يسدون الفجوات -Gaps في هذا السجل الأحفوري Fossil Record، فهو كان يأمل في هذا، وعلى كل حال هذا ما تحقق، لقد سدوا ثغرات كثيرة، والآن عندنا السجل الأحفوري سجل مُدهِش، لا نقول في تكامله ولكن في اقترابه من تنوير الحقيقة الأصلية للتطور، فهو مُدهِش جداً، علماً بأن اليوم لا يُوجَد إنسان يحترم نفسه ويُتابِع الأبحاث العلمية يقول “الحلقات المفقودة” فمثل هذا الكلام غير موجود، هذا كلام فارغ، لا يُمكِن لأحد أن يقول مثل هذا الكلام الآن، وحتى في حق تطور الإنسان لا يُمكِن أن يقول أحد “الحلقات المفقودة” فلا يُوجَد شيئ إسمه الحلقات المفقودة الآن، الحلقات المفقودة أصبحت موجودة وتملأ المتاحف حول العالم، والدراسات المُعمَقة من الأخصائيين حولها بالمئات وربما الألوف، فهذا كلام قديم وهو كلام أكل الدهر عليه وشرب.

وليام طومسون
وليام طومسون

 الاعتراض الثالث تقدَّم به عالم الفيزياء الإنجليزي الشهير وليام طومسون William Thomson المشهور باللورد كلڤن Lord Kelvin، وأنتم تعرفون كلڤن Kelvin طبعاً وكلكم سمعتم به، فهذا هو طومسون Thomson الذي له لقب إسمه اللورد كلڤن Lord Kelvin، وكان عالماً من كبار العلماء ومن أذكياء العلماء، فتقدَّم بورقة بحثية إسمها تفنيد مُوجَز لمبدأ الاتساق، أي لنظرية الاتساق – Uniformitarianism – في الجيولوجيا Geology، فهو قال أنه تفنيد مُوجَز، وكان الهدف من هذا التفنيد – Refutation – الرد على نظرية تشارلز لايل Charles Lyell، ونظرية تشارلز لايل Charles Lyell هى – كما شرحتها لكم أكثر من مرة – في الأصل نظرية الإسكتلندي بلدي لايل Lyell وهو هوتن Hutton، فهى نظرية هوتن Hutton لكن لم يُنتبَه إليها في القرن الثامن عشر، ثم بعثها تشارلز لايل Charles Lyell وبسطها ومدها ونورها بأدلة جديدة وأصبح بهذا هو تقريباً أنبل وأشهر وأعظم عالم جيولوجي في عصره، أي تشارلز لايل Charles Lyell، وعلى كل حال كلڤن Kelvin كان يرد عليه، وكان الهدف الثاني لورقة كلڤن Kelvin التفنيدية كان تشارلز داروين Charles Darwin ونظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، علماً بأنه صرح بهذا، لكن كيف؟ يقول كلڤن Kelvin “أنا أجريت دراسة، وعبر ومن خلال هذه الدراسة استطعت أن أحسب عمر الأرض بدقة لأنني فيزيائي، فالأرض هذه كانت كرة نارية انفصلت من الشمس – هذه النظرية الشائعة إلى الآن وهى الصحيحة تقريباً – إلى أن تبردت وصار لها قشرة وأصبحت الأرض كما نعرفها الآن، وبعد أن أجريت حساباتي وجدت أن عمر الأرض لا يزيد عن مائة مليون سنة، ليس أكثر من هذا، فعمرها ليس بالملايير – أي ليس بألوف الملايين – ولكن عمرها في الحد الأعلى مائة مليون سنة، ومائة مليون فترة زمانية نسبياً قصيرة ولا تكفي لكي تُحدِث تغيرات لايل Lyell المُتلكِئة أثرها المُنتظَر”، ثم يقول كلڤن Kelvin ” أنت تقول أن العوامل المُختلِفة من الزلازل والطوفانات وعوامل التعرية والترسيب وإلى آخره هى التي شكَّلت تضاريس الأرض بهذه الطريقة، لكن مائة مليون لا تكفي، فنحن نحتاج

تشارلز لايل
تشارلز لايل

أكثر بكثير من مائة مليون”، وهذا يعني أن مبدأ التماثلية أو الاتساقية أو التنميطية أو النظامية أو التنظيمية – كما قلت لكم تُوجَد ترجمات كثيرة عند العرب، فالمُصطلَح واحد والترجمات كثيرة، لأن كل مرة يُترجَم بطريقة مُختلِفة للأسف – غير صحيح كما هو واضح، ولكن ما هى علاقة داروين Darwin بهذا؟ نفس الشيئ ينطبق هنا طبعاً، فهذا أساس في نظرية داروين Darwin، لأن إذا كان عمر الأرض – ليس عمر الحياة وإنما عمر الأرض كل الأرض – مائة مليون فإذن لا يُوجَد عندنا زمان كافٍ لكي تتطور فيه مئات الأنواع بل ألوف بل ملايين الأنواع – Species – من خلية واحدة بدائية أو بروتوزوا Protozoa، ولذا قال “هذا مُستحيل، فمائة مليون لا يكفي”، وفي مُحاضَرة أمام جمهوره في سنة ألف وثمانمائة وثمانية وستين صرَّح اللورد كلڤن Lord Kelvin للجمهور بالقول “نعم أنا مُدرِك وأعترف بأن تفنيدي هذا وتحديدي لعمر الأرض من حيث هو ومن حيث ذاته لا يتعارض ولا يتناقض مع فكرة التطور – أي لا مُشكِلة لي مع التطور بمعنى خروج نوع من نوع، فكلامي هذا ليس له علاقة بهذا الشيئ، وبالتالي هذا أمر مُمكِن، فلم لا؟ – ولكن واضح أنه يتعارض مع نُسخة داروين Darwin من التطور”، ففكرة التطور كفكرة لا يُنكِرها، لأن من المُمكِن أن تقول لي بوجود تطور فُجائي وتطور طفروي، فهذا واضح ولا يتم تدريجياً، وبالتالي طبعاً مائة مليون تكفي، لكن أن تُصِر يا داروين Darwin على ما تقول فهذا خطأ، وهنا تأتي نصيحة توماس هكسلي Thomas Huxley لما قال له “إذا بقيت مُصِراً على أن الموضوع يحدث بتدرجية شديدة بطيئة فأنت تحفر قبرك بيديك”، وتقريباً اللورد كلڤن Lord Kelvin كان هو الحانوتي الذي أراد أن يدفن داروين Darwin، وقد أزعجه جداً، حتى أن داروين Darwin أسر مرةً إلى ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace بالقول “أصبح يُزعِجني شبح كلڤن Kelvin الكريه”، أي أنه أصبح مُزعِجاً جداً بالنسبة لي، وذلك لأنه أقنع العلماء وأقنع الناس بثغرة كبيرة وخطأ أساسي في نظريتي، فداروين Darwin يتذمر لألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace من كلڤن Kelvin ويقول له “أصبح يُزعِجني شبح كلڤن Kelvin الكريه”، لكن كلڤن Kelvin يقول “لا تُوجَد مُشكِلة، لكن نُسخة داروين Darwin للتطور بالانتخاب الطبيعي في الزمانية الطويلة بالتدرج تتناقض تماماً مع السيناريو

ألفرد راسل والاس
ألفرد راسل والاس

الذي أُقدِمه لعمر الأرض”، وبالفعل إذا أنت قبلت تحديد كلڤن Kelvin لعمر الأرض بأنه مائة مليون سنة عليك بل لابد أن تتخلى عن نظرية داروين Darwin، فهذا تحدٍ – تحدي كلڤن Kelvin – كبير، والأسوأ من هذا أن اللورد كلڤن Lord Kelvin بعد بضع سنوات أعاد حساباته من جديد وقال “هذا غير صحيح، فأنا كنت مُخطِئاً، لأن عمر الأرض لا يزيد عن ثلاثين مليون سنة، بل يُمكِن أن يهبط إلى عشرة ملايين سنة، حيث أعدت الحسابات وأخذت بعض المسائل بعين الاعتبار لأنني لم أكن واعياً بها آنذاك”، أي أن عمر الأرض هبط، فهو ليس مليون سنة وإنما أصبح ثلاثين مليون، فضلاً عن أنه قال “ويُمكِن أن يهبط إلى عشرة ملايين” أي يهبط من مائة إلى ثلاثين إلى عشرة ملايين، وهذه ضربة قاسمة لو صدق فيها، وطبعاً أنتم الآن في القرن الحادي والعشرين – في الألفية الثالثة – وتعلمون هل صدق أم لا، فهو غير صادق بالمرة، فهو أخطأ عندما قال عشرة ملايين سنة، وهذا خطأ تجاوز الرقم الحقيقي فقط بخمسمائة مرة، فعمر الأرض خمسة آلاف مليون سنة وليس عشرة ملايين، فاضرب إذن عشرة في خمسمائة وسيكون الناتج هو خمسة آلاف، إذن كلڤن Kelvin أخطأ فقط بفارق خمسمائة ضعف فقط، وهذا خطأ فظيع لكنه وقع فيه مع أنه عالم فيزيائي كبير، ولذلك العلماء ليسوا آلهة والعلماء ليسوا أنبياء ولا ينبغي حتى أن يُتخَذوا كُهاناً أبداً، فالعلماء بشر، نعم نواياهم طيبة زيُحِبون أن يتعرفوا الحقيقة وأن يخدِموا مُؤسَسة

توماس هنري هكسلي
توماس هنري هكسلي

العلم، – أهلاً وسهلاً بهذا – ولكنهم يُخطِئون ويُصيِبون، وكلڤن Kelvin هذا أكبر فيزيائي في زمانه ولكنه أخطأ خطأً فاحشاً، لكن داروين Darwin – سبحان الله – كان إيمانه بنظريته وإيمانه بفكرة التطور والانتخاب الطبيعي من العمق والقناعة الباطنية الداخلية بحيث أنه جعله أصح استبصاراً، فقال “أنا أشك في حسابات كلڤن Kelvin، نعم لست مُتخصِصاً ولست فيزيائياً وليس عندي ذكاء ولياقات كلڤن Kelvin الفيزيائية ولكنني أشك في حساباته، فعمر الأرض لا يكون مائة مليون ثم يكون بعد ذلك ثلاثين ثم عشرة فأنا أشك في هذا وأعتقد وأحسب أن في المُستقبَل –   دائماً كان يُحيل داروين Darwin على المُستقبَل وهذا من نقاط ضعفه المسكين لكنه أيضاً من نقاط إصراره وعناده – سيثبت خطأ كلڤن Kelvin، فمن الصعب أن يكون عمر الأرض كذلك” فهو عنده اعتقاد باطني أنه – أي عمر الأرض – أكثر من هذا بكثير، وفعلاً داروين Darwin كان إلى جانب الحق، فعمر الأرض خمسة آلاف مليون سنة، أي خمسة ملايير – الأمريكان يقولون Billion، أي بليون – أو خمسة بلايين سنة، فهذا هو الصحيح، وطبعاً هى فترة أكثر من كافية لكي تتطور الأنواع بالطريقة التي ذكرها تشارلز داروين Charles Darwin، هذه – خمسة آلاف مليون – فترة كافية تماماً وهى أكثر بكثير من المطلوب، علماً بأن عمر الحياة أربعة مليارات وستمائة مليون سنة، والبعض يقول أربعة مليارات وثمانمائة مليون سنة، أي أن أول خلية بدائية ظهرت من أربعة وستة من عشرة مليار – أي بليون – سنة أو من ثمانية وأربعة من عشرة مليار سنة،وهذه فترة طويلة جداً، لكن داروين Darwin تأثر طبعاً تحت ضربات كلڤن Kelvin وتحت المصداقية لهذا الفيزيائي العظيم تأثر، فداروين Darwin في الطبعات اللاحقة من أصل الأنواع غيَّر من عبارة في الطبعات السابقة كانت تقول “هذه الفترة الزمانية الضخمة جداً جداً” فحذف “جداً جداً Very Very” وترك “الفترة الزمانية الضخمة”، وذلك في مُناوَرة للوصول إلى حل وسط – Compromise – طبعاً، كأنه يقول :أنا كنت أقول فترة طويلة وكبيرة بالملايين تقريباً أو بمئات الملايين، وأنت تقول ثلاثين مليون أو مائة مليون ومن ثم سوف أقول فترة ضخمة وأكتفي بهذا”، فطبعاً واضح أن داروين Darwin المسكين تأثَّر بهذا، وأيضاً أدخل في الطبعات اللاحقة – في الطبعة الخامسة بالتحديد – تعديلات، علماً بأن أصل الأنواع طُبِع ست طبعات في حياة داروين Darwin، والطبعة الأخيرة هى الطبعة السادسة، وطبعاً في رأي التطوريين هى أسوأ الطبعات، ولذا هم لا ينصحون بها ولا يحبونها، لأن فيها علامات وإشارات كثيرة لتردد داروين Darwin بل بالعكس إلى تراجع داروين Darwin الذي أثبت التقدم العلمي خطأه، علماً بأنه تراجع عن أهم شيئ في النظرية وهو شيئ يتعلَّق بالانتخاب الطبيعي وعمل حركة ارتدادية – هذه ردة حقيقية، لكن طبعاً ليست ردة عن الدين وإنما ردة عن التطور – أو رِدية إلى اللاماركية Lamarckism، وهذه ضربة قاسمة لنظريته، لكنها أتت تحت تأثير الضربات النقدية الهائلة لكبار العلماء، والآن سيأتينا عالم مُهندِس كبير وأستاذ

فليمنج جنكين Fleming janken
فليمنج جنكين Fleming janken

في الهندسية الكهربائية ورجل مشهور على مُستوى القارة وهو فليمنج جنكين Fleming janken – فليمنج جنكين Fleming janken عالم مشهور جداً وهو مُهندِس عظيم له الفضل في وجود التيليفريك Teleferic – الذي له رأي مُعارِض، وعلى كل حال في الطبعة الخامسة قبل الأخيرة أيضاً أدخل عبارات تتعلَّق بصعوبة تحديد وقياس عمر الأرض، كأنه يقول نحن لا نستطيع أن نعرف هذا، وأيضاً واضح أن ليس شرطاً أن يدَعي العالم الكبير كلڤن Kelvin أنه يعرف هذا تماماً، فمن الصعب أن نُحدِّد عمر الأرض، كما أنه أيضاً من الصعب أن نُحدِّد الفترة التي يتقاضاها تطور نوع من الأنواع، أي الفترة الزمنية اللازمة والتي يستغرقها النوع لكي يتطور، فقد يستغرق عشرة أو عشرين أو ثلاثين مليون سنة على الأقل”، فالسلاحف – Turtles – مثلاً عاشت مائة وخمسة وسبعين مليون سنة تقريباً ولم تتغير، فهذه السلحفاة الموجودة الآن هذا هو عمرها، وهى بهالشكل هذا من مائة وخمسة وسبعين مليون سنة، نعم يُوجَد منها الكبير والصغير ولكنها هى كما هى، لكن الإنسان والأنواع الإنسانية حدث معه هذا في نصف مليون سنة فقط، أي في خمسمائة ألف سنة ظهرت أنواع وبرزت أنواع، وهذا سوف نأتي إليه بالتفصيل، أي أن في نصف مليون حدثت أشياء دراماتيكية، لكن هناك عاشت السلاحف مائة وخمسة وسبعين مليون سنة، وهكذا.

سمكة السيلاكانت Coelacanth – مثلاً – هى سمكة أعجوبة، وطبعاً سأتحدث عنها في الحلقات المُقبِلة بإسهاب أكثر، فهذه حفرية أو أُحفورة – Living Fossil – إلى الآن، حتى أن بعض الناس لم يكد يُصدِّق أنها حية، وهذه السمكة تعيش بنفس الهيكل زبنفس التركيبة أوالشكل الذي كانت عليه أسلافها قبل مئات ملايين السنين كما هى، وقد يقول لي أحدكم “هذا ضد التطور” ولكن التطور لا يعمل بوتيرة واحدة، فالسلاحف – كما قلت لكم – من مائة وخمسة وسبعين مليون سنة كما هى، والإنسان في نصف مليون سنة ظهرت له أنواع وبرزت أنواع وهكذا، وهذا شيئ عجيب، فليس هناك وتيرة واحدة لتطور الأنواع، ولذا سمكة السليكانت Coelacanth سمكة أحفورة حية، فهى تُوصَف هكذا بأنها أحفورة حية أو مُستحاثة حية لأنها تعيش من مئات ملايين السنين كما هى، ويُمكِن أن تدخل طبعاً على اليوتيوب YouTube وأن تكتب سيلاكانت Coelacanth، فهناك فيلم وثائقي جميل جداً عنها إسمه “السمكة التي نسيها الزمن”، خمسون دقيقة عن هذه السمكة وعن دلالتها التطورية من أعجب ما يكون، فهذه السمكة كانت فتحاً كبيراً في عالم العلم وفي عالم نظرية التطور خاصة عندما صُوِّرَت.

 

سمكة السيلاكانت Coelacanth – مثلاً – هى سمكة أعجوبة، وطبعاً سأتحدث عنها في الحلقات المُقبِلة بإسهاب أكثر، فهذه حفرية أو أُحفورة – Living Fossil – إلى الآن، حتى أن بعض الناس لم يكد يُصدِ٘ في المائة، وطبعاً هناك تعديلات كثيرة عليها لكنها نظرية صحيحة، وثبت أن ا%6ت عليه أسلافها قبل مئات ملايين السنين كما هى، وقد يقول لي أحدكم “هذا ضد التطور” ولكن التطور لا يعمل بوتيرة واحدة، فالسلاحف – كما قلت لكم – من مائة وخمسة وسبعين مليون سنة كما هى، والإنسان في نصف مليون سنة ظهرت له أنواع وبرزت أنوا4ف وثمانمائة واثنين وثمانين، في حين أن الألماني ألفريد فيغنر Alfred WegeneD8ا سمكة السليكانت Coelacanth سمكة أحفورة حية، فهى تُوصَف هكذا بأنها أحفورة حية أو مُستحاثة حية لأنها تعيش من مئات ملايين السنين كما هى، ويُمكِن أن تدخل طبعاً على اليوتيوب YouTube وأن تكتب سيلاكانت Coelacanth، فهناك فيلم وثائقي جميل جدانتبه إلى أنه لا يُؤمِن بفكرة الخلق وأن الله خلقها هنا وخلقها هنا، فهو لا ي%ها التطورية من أعجب ما يكون، فهذه السمكة كانت فتحاً كبيراً في عالم العلم وفي عالم نظرية التطور خاصة عندما صُوِّرَت.

Fleming janken
فليمنج جنكين Fleming janken

على كل حال نأتي الآن إلى الاعتراض الرابع الذي ذكرته قُبيل قليل إلماعاً، وهو اعتراض مُهندِس الإلكترونيات – Electronics – الأستاذ البرروفيسور – Professor – في جامعة إيدن برا Edinburgh بإسكتلندا طبعاً – مركز التنوير الشمالي كما سبق أن وصفناه وكما كان يُوصَف طبعاً – وهو فليمنج جنكين Fleming janken، ففليمنج جنكين Fleming janken عالم ذكي أيضاً ومُهندِس كبير وله اعتبار في العلم، وقد سدد ضربة في مقتل لنظرية داروين Darwin من أقوى الضربات، فهى أقوى حتى من ضربة اللورد كلڤن Lord Kelvin، لكن كيف؟ ولجهة ماذا؟ لجهة النظرية المزجية في الوراثة، وسأشرح هذا باختصار، فداروين Darwin في هذه الحقبة من تاريخه العلمي وتاريخ نظريته كان يتبنى نظرية في الوراثة تُعرَف بنظرية المزج، والمزج يعني الاختلاط والتمازج، لكن ما معنى هذا؟ معناه أن خطوط الدم – هكذا كان يُقال – الآتية من كل من الوالدين حين تلتقي تتمازج وتنتهي دائماً إلى نهايات وسطية، فمثلاً نفترض أننا هجَّننا وعملنا عملية تزاوج أو تهجين – Breeding – بين زهرة لنبات مُعين حمراء ونبات آخر يُزهِر بزهور بيضاء فإن النتيجة سوف تكون ورداً باللون الوردي – Rose – كما يقول، وإذا عملنا تهجين – Breeding – بين وز طويل الرقبة وبين وز آخر قصير الرقبة فإن الناتج سوف يكون وزاً مُتوسِطاً الطول في الرقاب – أي رقاب مُتوسِطة الطول – طبعاً، فهذه هى نظرية المزج، علماً بأن الظاهرة الخُلاسية في التكاثر للجنس بين البشر تقريباً تُوحي بصحة هذه النظرية التي ستثبت أنها عبيطة جداً طبعاً، فحينيتزوج أبيض من سوداء أو أسود من بيضاء يأتي النسل خُلاسياً، تقريباً قهوائي كما نقول بالعامية، أي قهوائي اللون، فلا هو أسود ولا هو أبيض، وإنما وسط، وعلى كل حال هذه هى النظرية المزجية، لكن ما علاقة النظرية المزجية في الوراثة بالتطور؟ طبعاً لها علاقة مُهِمة جداً وأساسية وخطيرة وفي العمق، فالآن نظرية التطور لداروين Darwin وكل نظرية تطور عليها أن تُجيب عن سؤالين، وفي الحقيقة هما تحديان وليسا مُجرَّد سؤالين، إنما هما تحديان هائلان، فالتحدي الأول هو كيف تظهر التغيرات الجديدة؟ فأنت تقول لي أن الانتخاب الطبيعي يشتغل على أي تغير جديد، فإذا نشأ تباين أو تغير جديد وكان مُمتازاً أو امتيازياً ويخدم في صالح البقاء سوف يستبقيه الانتخاب الطبيعي، لكن ليس هذا هو السؤال، فالسؤال هو كيف ينتج هذا التغير

جان باتيست لامارك
جان باتيست لامارك

ومن أين يأتي؟ لامارك Lamarck كان عنده جواب بسيط، وواضح أنه جواب فشل في أن يصمد أمام النقد العلمي، حيث قال أن هذا يحدث بالاستعمال والإهمال، فإذا استعمل الكائن عضواً من أعضائه لأنه يحتاج إلى أن يستعمله كثيراً فإن هذا العضو سوف يتقوى ويتضخم ويستطيل وإلى آخره، وهكذا ينتج التغير، وطبعاً إلى حد الآن هذا صحيح فعلاً، فأنت حين تُدرِّب اليد : يُصبِح لها عضل قوي، فأكيد هى تتقوى وبالتالي هذا مُمكِن وصحيح، والآن أنت تتعلم إذا كنت قصيراً نسبياً وتُريد أن تُطوِل جسمك قليلاً أنه يُمكِنك أن تفعل هذا فعلاً، وبعد ستة أشهر قد تكسب تقريباً واحد سنتيمتر أو اثنين سنتيمتر من الطول من خلال تمارين مُعينة وخاصة تمارين المط التي تمسك من خلالها بأشياء وتمط جسمك، من أجل التأثير على العمود الفقري وفعلاً تكسب اثنين سنتيمتر في ستة أشهر، فهذا مُمكِن ثم تتوقف عند هذا الحد المُكتسَب من خلال بعض التدريبات، أي أن بعض الأشياء تفعل هذا فعلاً، لكن نُقطة الإحراج هى كيف يتم توريث هذا؟ هل هذا يتم توريثه أم أنه يفنى مع الذي اكتسبه؟ الكاسب والمكسوب يفنى وينتهى كل شيئ ثم نبدأ من جديد، أي من نقطة الصفر، لكن لامارك Lamarck – جان بابتيست لاماركJean-Baptiste Lamarck – افترض أن هذا يُورَّث لأن الواقع يقول هذا، وهذا طبعاً لم يثبت على الإطلاق وهو غير صحيح، وسوف يثبت بعد قليل بالأدلة أنه كلام خالٍ من الصحة أو عارٍ من الصحة تماماً.

إذن التحدي الأول هو كيف تنشأ التباينات أو التغايرات؟ أما التحدي الثاني فلا يقل عنه قوة، وهو في الحقيقة أقوى منه وأصعب منه، وهو كيف يتم توريث هذا؟ فداروين Darwin الآن يقول بالنظرية المزجية ولم يلتفت إلى أن تبنيه للنظرية المزجية يُصيب نظريته في التطور في مقتل، أي أنه يقتلها، لكن فليمنج جنكين Fleming janken فهم هذا وقال “أنا سددت ضربة قاتلة لنظرية الرجل”، وطبعاً سيفهم داروين Darwin هذا وسيفهم المُجتمَع العلمي هذا، لكن كيف؟ ببساطة قال جنكين janken – فليمنج جنكين Fleming janken – في هذا الصدد “لنفترض أن تغيراً ما ظهر في فرد من الأفراد – طبعاً التغير لا يظهر في العشيرة كلها، هذا مُستحيل، بل بالعكس طبعاً، وأنتم فهمتم كيف يعمل التطور و فهمتم كيف تكون هناك جماعة أو عشيرة Population معزولة Isolated في مكان مُعين وفهتم أن لدينا حوضاً جينياً أو مُستودَعاً جينياً مُحدَداً يحدث فيه تغير عندما يحدث تغير ما، وهذا هو التطور طبعاً، علماً بأننا سوف نفهم يحدث هذا التغير وفي أي نمط يحدث، فهل يحدث في النمط الظاهري أم في النمط الجيني؟ وطبعاً هو يحدث في النمط الجيني، لأننا إذا قلنا أن هذا يحدث في النمط الظاهر فإنه سوف يُعَد كلاماً فارغاً، فهذا لا يعمل شيئاً ولن يُورَّث، والتطور لا يشتغل على هذا، فلابد أن يحدث في النمط الجيني، وسأشرح هذا في وقته طبعاً في حلقات جائية بُعيد قليل – داخل هذه العشيرة، فإن هذا الفرد سوف نُسميه الفرد المُؤسِّس – هو فرد مُؤسِّس للنوع الافتراضي الجديد الذي سيظهر للوجود بعد مثلاً مئات ألوف أو ملايين السنين بالطريقة التي درسناها – للتسهيل، وهذا الفرد المُؤسِس ظهرت فيه هذه التفصيلة أو هذا التغاير أو التباين، وهذا مُفيد ولذا سيتسبقيه الانتخاب الطبيعي، وطبعاً هذا الفرد يتكاثر الآن جنسياً، لأنه حيوان من الحيوانات، كأن يكون كائناً ثديياً أو زاحفاً أو طائراً أو أي شيئ، فهو على كل حال يتكاثر جنسياً – Sexual Reproduction – من خلال وجود ذكر وأنثى – عامل التكاثر أو عامل التوارث بالأحرى لم يكن معروفاً إلى الآن، ولا داروين Darwin يعرفه ولا يعرف كيف يتم التوريث، فهو لم يكن عنده كلمة جين Gene ولا كلمة كروموسوم Chromosome ولا يعرف هذه الأشياء ولم تخطر على باله، ولكن يعرف فقط أن هذا يحدث عن طريق حيمن الذكر مثلاً وبوييضة Egg cell الأنثى، هو هذا لأنه تكاثر جنسي، لكن التفصيل غير واضح لا عند داروين Darwin ولا عند كل علماء العصر، ولكنهم يقولون بالمزج – طبعاً، فلو عندنا أنثى ليس فيها هذه الصفة وعندنا فرد مُؤسِس فيه الصفة الجديدة فبحسب نظرية المزج مُباشَرةً حين يتزاوجان سوف تضعف هذه الصفة المُؤسِسة إلى النصف طبعاً، لأن هنا عندنا واحد وهنا ليس عندنا أي شيئ، ولذلك سوف تضعف إلى النصف لأن الاثنين سوف يتقاسمانها، وفي الجيل الثاني سوف تضعف إلى الربع وهكذا دائماً” فإذن النظرية المزجية في الوراثية تقتضي الانقسام المُتوالي لعامل التوريث الذي هو مجهول لحد الآن، ومن هنا يقول جنكين janken ” لقد انتهى كل شيئ، فبعد حين بدل أن نصل إلى جنس جديد مُؤسَس على مُراكَمة التغيرات سوف نصل إلى جنس تتلاشى فيه هذه التغيرات أو هذا التغير الأساسي، فسوف يزوي إلى لا شيئ – أي إلى صفر Zero – وينتهي كل شيئ”، وهذا نقد في الصميم لتشارلز داروين Charles Darwin، وهذا أزعج داروين Darwin حين قرأه، علماً بأنه مكتوب طبعاً، فالجميل في العلم أنه عمل علني، والآن أصبح عملاً أصلاً مُؤسَساتياً، فلا يُوجَد علم في السر ولا يُمكِن أن يقول أحدهم “سوف أكتم أبحاثي وأجمع جماعتي أو الطائفة – Sect – أو الفرقة لكي نتدارسه ومن ثم أعلم هل هم مُوافِقون على هذا أم لا، فإذا وافقوا سوف يبصمون عليه”، هذا الكلام غير موجود، فالعلم عمل علني، وأي فكرة لابد أن تنشرها في ورقة بحثية وفي مجلات مُحكَمة حول العالم، ولك أن تتخيَّل أن ورقة تُنشَر ويتعاور هذه الورقة درساً ونقداً وفحصاً وتنقيباً وتفنيداً مئات ألوف العلماء حول العالم، ولا يُمكِن منع أحد من هذا إذا كان مُعترَفاً به وعضواً في جمعية علمية مُعينة – مثلاً – وعنده اللياقات العلمية التي تسمح له، فلا يُمكِن أن يُقال له “أنت – والله – عربي وبالتالي لا نقبلك” هذا لا يحدث ولكن يتم قبولك بشكل عادي سواء كنت أسوداً أو أحمراً أو أبيضاً أو إسرائيلياً أو فلسطينياً أو غير ذلك، فالكل يقبل بهذا ومن هنا قوة العلم، ومن هنا أيضاً عبط بعضنا ممن يُحاوِل أن يتنطع لنقد العلوم ويقول أن التطور غير صحيح وهو كذب، فمثل هذا لا يفهم شيئاً، وإلا مَن أنت لكي تقول هذا؟ هناك مئات ألوف العلماء حول العالم قالوا به, فمَن أنت إذن؟ فإذا قال هذا المُنكِر أنه حافظ لكتاب الله أو طبيب أو مُهندِس مثلاً – فإننا سوف نقول صباح الخير، فنحن نُحدِّثكم عن مئات ألوف العلماء وألوف منهم حاملين نوبل Nobel في التشريح والهستولوجي Histology والأناتومي Anatomy والتطور والبيوجزيئية والوراثة الجزيئية، وهذا شيئ عجيب مُخيف، وهذه الأشياء درسها ملايين من العلماء ووافقوا عليها، فمَن أنت إذن؟ يجب أن نحترم أنفسنا ويجب أن نكون مُتواضِعين وأن نتحرك بمعقولية، فيجب أن نفهم هذا جيداً وأن ننتبه إليه – أي والله – حتى لا نُصبِح مسخرة عند أنفسنا وعند العالم.

جوزيف دالتون هوكر
جوزيف دالتون هوكر

المُهِم هو أن هذه الورقة نُشِرَت طبعاً وقرأها داروين Darwin وأسر إلى أستاذه عالم النبات العظيم جوزيف هوكر Joseph Hooker الذي انقلب تطورياً واقتنع – كان الأول خلقوياً تكوينياً وبعد أن قرأ أصل الأنواع أيَّده وقال أنا مع داروين Darwin – قائلاً “لقد سبب لي جنكين janken إزعاجاً كبيراً” أي أن هذا أزعجه، فإذن إثنان أزعجوا داروين Darwin ، الأول هو اللورد كلڤن Lord Kelvin، والآن الثاني هو المُهندِس الإلكتروني فليمنج جنكين Fleming janken، فما الحل يا داروين Darwin إذن مع هذا الإزعاج؟ هذا ضرب النظرية في مقتل، فنظريتك غير صحيحة الآن ولابد أن تُقدِم حلاً، لكن الحل للأسف الشديد تجلى في فقدان داروين Darwin شيئاً فشيئاً إيمانه بنجاعة آلية الانتخاب الطبيعي، وهذا حل مأساوي، يُشبِه أن يكون تخلياً عن نظريته، فهو أمام النقود العلمية القوية بدأ يتخلى شيئاً فشيئاً عن ما اقتنع به، وفي الطبعة السادسة والأخيرة من أصل الأنواع سوف يكتب داروين Darwin بشكل واضح كالمُعتذِر عن عدم مُلاحَظته سابقاً لتأثير البيئة القوي في إحداث تغير يتم توريثه، فهو قال “أنا آسف لأنني لم أُلاحِظ أن البيئة فعلاً لها تأثيرٌ قوى على الكائن في إحداث التغيير فيه – أي التغيير التكيفي فيه – وأن هذا التغيير يتم توريثه”، فإذن هذه نزعة لاماركية نسبةً إلى لامارك Lamarck طبعاً، فالرجل أصبح لاماركياً وبالتالي هو لم يأت بشيئ تقريباً أصيل إلى الآن وعاد إلى لامارك Lamarck، وهذه نهاية مُحزِنة ومأساوية، فهو لم يكن عنده أي بديل ولكن داروين Darwin لا يستسلم، لأن في ألف وثمانمائة وثمانية وستين وبعد هذه النقود بسنوات يسيرة سوف يطبع داروين Darwin كتاباً في الوراثة من جزئين وسوف يعرض فيه لما أدخله من تعديل على نظرية قديمة في الحقيقة وهى نظرية أبو الطب

أبقراط
أبقراط

الأغريقي اليوناني أبقراط أو هيبُقراطس Hippocrates – العرب يسمونه أبُقراط – التي تُسمى بنظرية التكوين أو التكوينية الشاملة   Pangenesis، فكلمة Genesis تعني تكوين، وكلمة Genetic وGenetics – أي وراثيات – مأخوذة من كلمة Genesis، أي من التكوين ومن الخلق، وطبعاً واضح أن كلمة تكوين هى ترجمة أدق بكثير من الخلق، خاصة في ضوء الخُطبة التي تحدثت فيها عن أن الخلق ليس هو التكوين وهى خُطبة في البدء كانت المعلومة، بل بالعكس قرآنياً يقول الله خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩، فأن يُوجَد الكائن هذا ليس خلقاً وإنما هو تكوين، لكن أن تُوضَع الخُطة – Blueprint – له فهذا هو الخلق، فالخلق هو الخُطة، يعني الخلق هو المعلومات والخُطة الأولى، فهذا هو الخلق إذن، والتكوين هو الإظهار إلى حيز الوجود بأمر كُنْ ۩، فكلمة Genesis لا تعني الخلق وإنما تعني التكوين، ولذا حتى يُترجَم أول سفر في العهد القديم بإسم سفر التكوين، فهذه ترجمة دقيقة لكلمة Genesis، ومن هنا أيضاً أتت كلمة Genetics، أي الوراثيات، والوراثة لها علاقة بالتكوين، فهذا هو إذن، وعلى كل حال أنزل داروين Darwin في السوق كتابه المُكوَّن من جزئين عن نظرية التكوينية الشاملة Pangenesis التي سأُلخِصها لكم الآن، فماذا تقول هذه النظرية؟تقول هذه النظرية بأن كلاً من الأبوين – الأب والأم – عندهما خلايا بدنية – Somatic – أو خلايا بنائية أو جسدية – طبعاً داروين Darwin كان واعياً مثل علماء عصره بهذا وهذا شيئ جيد، فهذا كان في مُنتصَف القرن التاسع عشر وبالتالي كان واضحاً للعلماء -، وهناك خلايا تكاثر تتعلَّق بالحيوانات المنوية والبوييضات، فداروين Darwin افترض أو أضاف على نظرية Pangenesis أن كل خلية من الخلايا البدنية في الأب أو الأم تُرسِل براعم – يُشبِهها بعضهم بالمُفوَضين – صغيرة كأنها نُسخ مُصغَرة دقيقة جداً منها – للتبسيط سنقول إذا كانت هذه الخلية خلية عضلية مثلاً كبيرة وتتميز بصفات مُعينة، b61d8a3302_spermatozoide-ovule_DR_04فإن المُفوَضين سوف يكونون مُعبِّرين عن هذا، وسوف يكون عددهم أكثر مثلاً، لكي يعبِّروا عن هذا، لأن هذه خلية مُهِمة وكبيرة وسمينة وقوية مثلاً، فهكذا يجب أن تُرسَل هذه الوفود وهؤلاء المُفوَضون – إلى هذا المجمع الانتخابي وهو الخصيتان عند الرجل والمبيضان عند المرأة، وهناك يتم تخليق الجاميتا Gamete أو الأمشاج Gametes بين الحيوان المنوي والبوييضة، وعند التلاقح تأتي اللاقحة أو الزيجوت Zygote بعد ذلك، و هذا الزيجوت Zygote يحتوى على صورة من الأب وصورة من الأم، فإذا كان الأب في الحياة كبير العضلات – مثلاً – وقوي الجسم وقد درَّب صوته فأصبح صوتاً قوياً جميلاً صافياً وإلى آخر هذه الأشياء المُكتسَبة سوف يُنقَل هذا إلى الأبناء كما قال داروين Darwin، وكذلك الحال من الأم.

فالـ Pangenesis   بما أدخله عليها تشارلز داروين Charles Darwin بمثابة خطوة لتبرير النزعة اللاماركية Lamarckism، فهى ليست ضد اللاماركية Lamarckism لكن لتبريرها علمياً، فيُقال هكذا يتم توريث المُكتسَب وهكذا يتم توريث الصفات المُكتسَبة، فبدا هذا مُقنِعاً لبعض العلماء أو لفريق منهم إلى حد ما ومعقولاً، لكن هل هذه نظرية تجريبية أم نظرية تأملية؟

هذه نظرية تأملية افتراضية، فهذه كلها تأملات وافتراضات فقط، فهى لم تثبت بتجربة ولم تثبت تحت الميكروسكوب Microscope، لكن هكذا كان يظن وإن كانت هذه نظرية قديمة لأبُقراط هذا وأضاف إليها هذه الإضافات.

إذن تشارلز داروين Charles Darwin الآن تحت ضربات النقد الذي وُجِه إليه تخلى عن النظرية المزجية في الوراثة واستبدل النظرية التكوينية الشاملة بالمزجية – علماً بأن الباء تدخل على المُبدَل منه دائماً، ولذا نقول استبدل التكويني الشامل بالنظرية المزجية – لكنه – كما قلت لكم – للأسف الشديد انتهى إلى اللاماركية Lamarckism تقريباً ولم يستطع أن يُنعِش نظريته بالشكل الأصيل لها، فأصبحت مُضعضَعة وأصبحت ضعيفة.

هناك اعتراض آخر وُجِه لنظرية داروين Darwin وهو اعتراض يتعلَّق بالتوزيع الجغرافي للكائنات، وهو اعتراض جميل وذكي جداً، وهو من الاعتراضات القوية، علماً بأنني سأختم به، فقد قلت لكم أربعة اعتراضات، وهذا هو الاعتراض الخامس، فما هو إذن؟

بحسب نظرية التطور كل الكائنات على وجه البسيطة في كل القارات مُتطوِّرة من كائن واحد بدائي ثم بعد ذلك انتشرت، لكن هذا لا يُفسِّر لنا خلو بعض القارات من بعض المخلوقات ووجود مخلوقات مُعينة في قارات ينبغي ألا تُوجَد فيها، فالأنتاركتيكا Antarctica – مثلاً – تخلو تقريباً من المخلوقات، فقد فيها أنواع على أصابع اليدين بل حتى على أصابع اليد الواحدة، ولا يُوجَد عنده تفسير دقيق لهذا، لكن الأصعب من هذا الآن هو الشيئ المُقابِل وهو لماذا تُوجَد على الطرف الشرقي للأطلسي – نفترض مثلاً أوروبا وأفريقيا – الضفادع ولكنها توجد أيضاً في أمريكا اللاتينية في الطرف الغربي للأطلسي؟ وقد يقول لي أحدكم الآن وما المُشكِلة في هذا؟ لكن أنا بدوري أقول أن هذا النقد يُعَد نقداً قوياً جداً للتطور ودحضاً قوياً له، لكن كيف هذا؟ لأن الضفادع جلدها نفّاذ للماء، ونحن عندنا فاصل جغرافي، هذا الفاصل الجغرافي هو المُحيط بمائه شديد الملوحة، ويستحيل على الضفادع أن تعبر المُحيط لأنها ستموت بعد قليل، فجلدها نفّاذ للماء، وبالتالي كيف وُجِدَت الضفادع في أمريكا اللاتينية مثلاً؟ هذا هو الاعتراض إذن، فأنت تقول لي أن هذا كله نشأ من خلية واحدة وتوزَّع، لكن مُستحيل أن تعبر هذه الضفادع لما تطورت، فنحن سوف نفترض أنها ظهرت في أفريقيا – مثلاً -وتطورت، وبالتالي سوف يستحيل أن تنتقل عبر المُحيط لأنها ستموت، فكيف وُجِدَت نفس الضفادع من بداية واحدة في أمريكا اللاتينية مثلاً؟ هذا نقد قوي، لكن داروين Darwin قدَّم جوابين يدلان أيضاً على ذكاء شديد، خاصة الثاني منهما، فالجواب الأول كان شيئاً عجيباً يُؤكِّد على أن هذا الرجل لديه عقل ضخم، وعلى كل حال الجواب الأول يمثل في أنه يُحتمَل أن تكون هذه الضفادع انتقلت عبر أو على متن أجسام عائمة عبر المُحيط، مثل جذوع أشجار أو كميات كبيرة من الأعشاب الطافية، فقفزت عليها الضفادع وسحبتها معها أياماً وأشهراً طويلة ثم وصلت بعد ذلك إلى البر الآخر، فداروين Darwin قال هذا احتمال ومن المُمكِن أن يحصل، ثم ذكر الجواب الثاني الذي فيه ذكاء شديد حيث قال “يُحتمَل أن في الماضي السحيق كان هناك جسور برية ما بين القارات”، فانظر إذن إلى هذا الذكاء الشديد، لأنه يُؤمِن بالنظرية الانتظامية وبنظرية هوتن Hutton وتشارلز لايل Charles Lyell، فهناك تغيرات في الأرض دائماً، وهو افترض هذا بخياله الواسع جداً قبل الألماني ألفريد فيجنر Alfred Wegener، ففي سنة ألف وتسعمائة واثني عشر سوف يأتي العالم الألماني الكبير الذي سيُتهَم بأنه مجنون وأنه مُخرِّف وأن نظريته في الانجراف القاري -Continental Drift – نظرية خرافية وكلام فارغ، فقالوا له ما هذا؟ عن ماذا تتحدَّث أنت؟ هل أنت تتحدث عن كتلة رمل؟ أنت تتحدث عن قارات، فما الذي يُحرِّك هذه القارات إذن؟ لكنه قال أن هذه القارات تتحرَّك فعلاً، وفي يوم من الأيام كانت كل هذه القارات مُلتحِمة في قارة عُظمى واحدة، وهذا يدل على ذكاء هؤلاء العلماء، فهؤلاء الناس يُثيرون العجب،

ألفريد فيغنر Alfred Wegener
ألفريد فيغنر Alfred Wegener

سبحان الله كأن هذا العلم يأتيهم حدساً أو إلهاماً إلهياً علوياً، ولفرط ما يُؤمِنون به يُغامِرون بسمعتهم ويُعلِنون به، وهذا ما فعله ألفريد فيغنر Wegener، حيث أنهم اتهموا هذا المسكين باتهامات فظيعة جداً بسبب ما قاله، وإلى أوائل الستنيات وهذا الرجل يُسخَر منه إلى أن ثبتت نظريته بالملموس، فهى الآن نظرية صحيحة بنسبة مائة في المائة، وطبعاً هناك تعديلات كثيرة عليها لكنها نظرية صحيحة، وثبت أن القارات لم تكن فقط كانت قارة واحدة وانجرفت وتباعدت بل هى تتباعد الآن وتتحرك الآن أيضاً، فالآن هذا ثابت علمياً وأصبح من مبادئ الجيولوجيا Geology، وهذا شيئ عجيب، فداروين Darwin لم يكن له علاقة بالكلام هذا، فضلاً عن أن داروين Darwin سيموت في ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، في حين أن الألماني ألفريد فيغنر Alfred Wegener الألماني سيُعلِن بالنظرية في ألف وتسعمائة واثني عشر، أي أن المسافة كانت ثلاثين سنة، بالضبط يُوجَد ثلاثون سنة بين وفاة داروين Darwin وبين إعلان فيجنر Wegener عن النظرية، ومن المُمكِن أن يكون فيجنر Wegener قد استلهم داروين Darwin بعد أن تأثر طبعاً بكتاب داروين Darwin وتأثر بهذا الجواب، ومن ثم قال هذا مُمكِن، فهذا هو العلم الذي فيه تلاقح وإلهام، فمن المُمكِن لواحد أن يُلهِم الآخر أو الآخرين، ومن هنا قال داروين Darwin بذكائه وخياله الخصب جداً “الجواب الثاني عندي أنا، وسوف أقول كيف عبرت الضفادع من هذا المكان إلى مكان آخر”، ويجب أن ننتبه إلى أنه لا يُؤمِن بفكرة الخلق وأن الله خلقها هنا وخلقها هنا، فهو لا يُؤمِن بالخلق لأنه ليس خلقوياً ولكن هو تطوري، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهو يقول أن كل المخلوقات على الأرض جاءت من بذرة واحدة أو من خلية واحدة ثم حصل لها بعد ذلك هذا الانتشار، لكن كيف انتشرت وهنا تُوجَد مياه، والضفادع لا تعيش في الماية المالحة؟ كيف حدث هذا؟ هذا تحدٍ كبير، ولكنه قال “الجواب الثاني هو أن من المُمكِن أن تكون هناك في الماضي السحيق جسور برية بين القارات”، كأنه يُحِب أن يقول أن القارات كانت مُتقارِبة قليلاً ومُتصِلة قليلاً، أي أن هناك نوع اتصال بين هذه القارات، فهذا هو ما قاله تقريباً عندما قال “هناك جسور برية بين القارات” أي عبر المُحيط كله، ولكن ما معنى هذا؟ معنى هذا أنها كانت مُتقارِبة أكثر وكانت هناك الجسور التي تصل بينها، وفي الحقيقة هذا الجواب الصحيح، وسيثبت علمياً بعد ذلك، فداروين Darwin كان رجلاً عجيباً، ولذا لم يستسلم مع أن هذا النقد كان نقداً قوياً جداً، ومن ثم قد يقول أحدكم الآن “هذا رجل عنيد وغير علمي” وهذا غير صحيح، بل بالعكس طبعاً، لكن كل ما في الأمر أن هذا الرجل كان عنده إيمان عميق بنظريته، والأشياء اللي لاحظها والأشياء اللي سجلها وألوف الظواهر التي راكمها أكَّدت له وجود التطور، فهو كان يُؤمِن بهذا، وكان يُعطي دائماً أمام أي انتقاد مثل هذه التبصرات والتي سيثبت العلم أنها في مكانها، وهذا شيئ غريب، فبصدد السجل الأحفوري قال سوف تُسَد الكثير من الفجوات مُستقبَلاً، وهذا ما حصل، فقد سدوا كثير فجوات كما توقع الرجل، وهذا شيئ غريب، وكذلك الحال بصدد عمر الأرض، حيث قال “أنا عندي حدس بأن حسابات اللورد كلڤن Lord Kelvin خاطئة”، وهذا الخطأ تجاوز الرقم الحقيقي فعلاً بخمسمائة مرة وليس بمرة واحدة، وهنا قال “من المُمكِن وجود جُسر برية في الماضي”وهذا صحيح بنسبة مائة في المائة، والأرض فعلاً كانت قارة واحدة عُظمى، فهذا الرجل كان عظيماً وكان عنده إيمان بنظريته وكان يُعطي هذه التبصرات دائماً.

للأسف أدركني الوقت في هذه الحلقة، أكتفي بما قدمت على أن نُتابِع الكلام في الحلقة المُقبِلة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: