أكثر المواقف تطرفاً وإسرافاً في نقد الميتافيزيقا هي الوضعية المنطقية، ولذلك نُريد أن نقف معها وقفة إن شاء الله، لكن الوضعيون الأوائل مثل أوجست كونت Auguste Comte وهربرت سبنسر Herbert Spencer وإلى آخره قالوا الميتافيزيقا قضايا وعندها معنى لكنها ليست مُفيدة في الحياة، ماذا عن الوجوديين؟ ماذا عن الفلاسفة الوجوديين؟ باستثناء هايدجر Heidegger الذي كان عنده بعض المباحث والأشياء بلغته الصعبة غير المفهومة أنكر مُعظَم الوجوديين الميتافيزيقا ولم يولوها أي اهتمام، لماذا؟ لأنهم أصلاً لم يُؤمِنوا بقدرة العقل الإنساني على مُعالَجة التجربة الإنسانية، قالوا العقل حتى يعجز، فهل نُريد العقل يُناقِش أيضاً قضايا الوجود أصلاً؟ قالوا لا، ليس عندنا هذه الثقة فيه أصلاً، البراجماتيون ومنهم ويليام جيمس William James بشكل عام قالوا طبعاً نحن ضد الميتافيزيقا، لماذا؟ لأن العقل أداة مثل كل الأعضاء، والأدوات مخلوقة لتُؤدي وظيفة عملية، العقل يُسمونه أداة تكيفية، قالوا أنه مثل العين، العقل مثل العين ومثل اليد ومثل الإبهام وهكذا، هذا هو فقط، وقضايا الميتافيزيقا ليس لها علاقة لا واضحة ولا حتى غامضة بحياتنا ووجودنا وامتدادنا، ولذلك نحن لا نُؤمِن بها ولا نهتم به أصلاً، هكذا قال البراجماتيون، فتقريباً مُعظَم هؤلاء كانوا كذلك، مَن طبعاً الفيلسوف هائل القيمة الذي وقف موقفاً مُعادياً أيضاً ومُخاصِماً للميتافيزيقا؟ كانط Kant، ولذلك سوف نقف معه أيضاً اليوم لكن في الإبستمولوجيا Epistemology وهي لها علاقة بهذا الموضوع، فسوف نقف مع كانط Kant – إن شاء الله – وقفة مُسهَبة ونختم بها – إن شاء الله – إذا أسعفنا الوقت، سوف نُلخِّص فلسفة كانط Kant النقدية، ما هي؟ وما معنى العقل المحض؟ وما معنى التعالي Transcendence؟ ما معنى هذا؟ سوف نقول هذا – إن شاء الله – ونرجع له – بإذن الله – وسوف يكون وصلاً لهذا الكلام، الآن نأتي إلى الوضعية المنطقية وموقفها من الميتافيزيقا.

الوضعية المنطقية قالت القضايا إما أن تكون قضايا تحليلية وإما أن تكون قضايا تركيبية، القسم الثالث فارغ من المعنى، أي شيئ ليس تحليلياً وليس تركيبياً هو كلام لا معنى له، وسوف ترى أنت كلاماً مُرتَّباً ترتيباً وفق القواعد النحوية لكن من جهة المنطق والمعنى لا معنى له، أي أنه كلام فارغ Nonsense، ما هي القضايا التحليلية؟ القضايا التحليلية هي القضايا التي لا يزيد محمولها على موضوعها، يعتدل المحمول مع الموضوع، أي Tautology، تحصيل حاصل، لذلك الثقة موجودة وقائمة بهذه القضايا، بل تبلغ درجة القطع واليقين ولا يُمكِن الشك فيها، لماذا؟ لأن فيها اتساق داخلي، هو هذا تماماً، لكنه تعبير آخر، هذا تعبير آخر عن هذا، فكيف أُنكِر؟ لا أقدر على أن أُنكِر، مثل واحد زائد واحد يُساويان اثنين، واثنان ضرب اثنين يُساويان أربعة، وما معنى هذا؟ هذا يعني أن واحداً زائد واحد زائد واحد زائد واحد يُساوون أربعة أو يُساوون واحداً زائد واحد زائد واحد زائد واحد، طبعاً هذه القضية ليس فيها أي زيادة، فالقضايا التحليلية لا تُضيف علماً جديداً، مثل قضايا الرياضة، أي الرياضيات Mathematics، هذه القضايا أُؤمِن بها ولها قيمة، طبعاً مَن جدهم الأكبر في هذه المسألة وقد ذكرناه أمس؟ ديفيد هيوم David Hume قال إذا أعطاك أي أحد كتاب في اللاهوت أو الميتافيزيقا فأول سؤال اسأله هذا الكتاب يُعالِج مسائل بالأسلوب الرياضي المُجرَّد أم لا؟ أليس كذلك؟ هو هذا، فهذه قضايا تحليلة، هنا لا تُوجَد أصالة للوضعيين المناطقة، ليس عندهم أصالة، الأصالة لهيوم Hume، من غير أن يذكروا – هم لم يذكروا هذا – لكن هو أستاذهم في هذه المسألة، بعد ذلك عندنا القضايا الثانية وهي القضايا التركيبية Synthetic، القضايا التركيبية تُفيد علماً جديداً، تُضيف إضافة جديدة، المحمول يزيد على الموضوع، مثل قضايا العلوم الطبيعية والكونية، عبارة الحديد يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة ليست قضية تكرارية وليست تحصيلية وإنما قضية تركيبية فيها زيادة وفيها إضافة وفيها علم جديد، حين أقول الحديد فهذا لا يُفيد بصراحة ولم يكن يفيد قديماً أنه يتمدد وينكمش بكذا، هذا لم يكن يُفيد بهذا، لكن بعد التجربة والاستقراء والاختبار ثبت لدينا هذا، أليس كذلك؟ كل الحقائق العلمية – ليس مُعظَم وإنما كل – هكذا، أي منافع – مثلاً – لمادة مُعيَّنة لبنات مُعيَّن، نبات الزنجبيل يُفيد في كذا وكذا وكذا لكنه يضر إذا أُخِذَ مع كذا وكذا وكذا، هذه كلها قضايا تركيبية، لا يُمكِن أن تُفهَم من مُجرَّد كلمة زنجبيل، أليس كذلك؟ وهذه فائدة العلم التجريبي والاستقراء والاختبار، أليس كذلك؟ كل قضايا العلوم على هذا النحو، طبعاً هنا اليقين ليس يقيناً قطعياً، أليس كذلك؟ هنا الاعتقاد بها لا يكون قطعياً لكنه يكون ترجيحياً، أي أنه يكون مُرجَّحاً، نعتقد فيه بنسبة تسعين في المائة أو تسع وتسعين في المائة لكن ليس بنسبة مائة في المائة، الآن سوف نأتي بمثال أكثر ربما إلهاماً، وهذا المثال من كانط Kant، أنا سأستلفه من كانط Kant من نقد العقل المحض، كانط Kant قال في كتابه هذا، هل تتصوَّرون أن يأتي يوم من الأيام أو في مكان من الأمكنة – هنا أو في الآخرة أو عند الله أو في الجنة أو في النار أو في أي مكان تُريد – ألا يُساوي واحد زائد واحد اثنين؟ كانط Kant قال لا، أنا أجزم بأن واحد زائد واحد يُساويان اثنين دائماً، هذا يقين قطعي، قال على الأقل بالنسبة لي كبشر، انتبهوا فكانط Kant ذكي، انا ليس علاقة هذا بالنسبة لله ماذا، الله أعلم بهذا، لكن بالنسبة لي أنا كبشر في أي زمان وفي أي مكان يكون الأمر على هذا النحو، لماذا؟ وهنا فعلاً كان كانط Kant ذكياً، قال لأن طبيعة عقلي والتركيبة الذاتية لعقلي – هو يُسميها التركيبة الفطرية للعقل – تقتضي ذلك، هو هكذا، وهذا صحيح، فواحد زائد واحد يُساويان اثنين دائماً في كل زمان وفي كل مكان وفي كل الظروف، لكن هل يُمكِن ألا تطلع الشمس من الشرق وتطلع من الغرب؟ قال مُمكِن، هذا قد يحدث، ولو حدث هذا لن يحدث أي تناقض مع العقل، يُمكِن أن يحدث هذا الكلام، هذه المسألة قابلة للانفكاك، أرأيتم؟ واحد زائد واحد يقين رياضي، الشمس تُشرِق من الشرق وتغرب في الغرب قضية خارجية وتركيبية، وفعلاً يُمكِن للرب القدير أن يجعلها تُشرِق من مغربها، فعلاً قبل يوم القيامة من العلامات الكُبرى سوف تُشرِق من مغربها، هذا صحيح، فهو ضرب مثالاً صحيحاً مائة في المائة، ولذلك قضايا العلوم الطبيعية والكونية والتجريبية بعامة قضايا لا تبلغ درجة القطع واليقين، وإنما اليقين فيها ترجيحي، ليس قطعياً وإنما ترجيحي، هذا الصحيح وهو كلام جميل، ولذلك قيل طبعاً أن نقد كانط Kant في نهاية المطاف احتفظ للعلوم التحصيلية – المنطق والرياضيات – بمجدها، وفي نفس الوقت تعاطف جداً مع العلوم التجريبية والطبيعية والكونية، لكن ضرب الدين، ضرب الميتافيزيقا كانط Kant حقيقةً، وسوف نرى هذا بعد ذلك فهو موضوع ثانٍ.

نرجع إلى الوضعيين المناطقة، قالوا إذن القضايا نوعان، قضايا تحليلية وهذا شأنها وقضايا تركيبية وهذا شأنها، وتُختبَر بالحس هذه القضايا التركيبية، الآن أي شيئ يُسمى قضية وليس هو تحليلياً كما أنه ليس تركيبياً قالوا نحن لا نعترف به وهو خُرافة وكلام بلا معنى، تركيبيات لغوية ونحوية لكن لا معنى لها، مثل ماذا؟ هناك أمثلة كثيرة، مثل أن تأتي وتقول الجوهر، للأشياء جوهر يقبع فيما وراء الأعراض كلها وليس هو مجموع الأعراض – ولك أن تتخيَّل هذا – بل لو زالت الأعراض كلها من عند آخرها يبقى جوهر الشيئ، قالوا هذا كلام فارغ، هذا كلام ميتافيزيقي غير موجود، الذي نراه بالحس وبالتجربة مجموعة ما يُسمى في الميتافيزيقا، لكن غير هذا لا يُوجَد، الآن خُذ التفاحة لكي أُعرِّفك كيف يُفكِّر الميتافيزيقي والوضعي والوضعي المنطقي، التفاحة في نظر الفيلسوف التقليدي الميتافيزيقي لها جوهر ولها أعراض، حجمها من أعراضها، ملمسها من أعراضها، طعمها من أعراضها، لونها من أعراضها، رائحتها من أعراضها، كذا وكذا من أعراضها، ما الجوهر؟ قال لك الجوهر وراء ذلك كله، وهو معنى تجتمع عليه هذه الأعراض كلها لكي تأخذ القوام المعروف بالتفاحة، ومن غير الجوهر لا يُمكِن لهذه الأعراض أن تجتمع ويتحصَّل لدينا في الخارج تفاحة، هكذا يُفكِّر الفيلسوف التقليدي لأنه يُؤمِن بفكرة الجوهر وفكرة العرض، الفيلسوف الوضعي قال هذا كلام فارغ، وطبعاً المادية الديالكتية والماركسية اللينينية ليس فيها شيئ اسمه جوهر، تقول لك هذا كلام فارغ، تُوجَد أعراض فقط، أعراض يُمكِن من خلالها أن أمسك وأن أضغط وأن أزن وأن أرى الحجم وأن أشم وأن أتذوَّق، فهذا الموجود لكن عدا ذلك شيئ لا يُمكِن اختباره حسياً، أي الجوهر، فإذن هو كلام فارغ وأسطورة من أساطير الميتافيزيقا، المرحوم المسكين زكي نجيب محمود طبعاً للأسف عاش ومات وهو مُتعبِّد ومُتحنِّث في محراب الوضعية المنطقية، لم أر إنساناً مسكيناً وفياً لهذه الفلسفة مثله، وكل ما كان عنده ما يقرب من مائتين معلومة وظل يُكرِّرها طول حياته، والله العظيم طول حياته، وهذا شيئ غريب جداً جداً جداً، مع أن الكتب التي كُتِبَت في نقد الوضعية قوية وأقوى مما كتب هو بكثير، وظل إلى أن مات – رحمة الله عليه – المسكين يتحدَّث عن الوضعية المنطقية باستمرار، وكأنها النجاة في الدنيا والآخرة، فعنده كتاب اسمه خُرافة الميتافيزيقا ألَّفه قديماً وهو كهل، قبل أن يُصبِح شيخاً كبيراً في السن ألَّف خُرافة الميتافيزيقا، طبعاً وقامت عليه مصر والأزهر والدنيا وقعدت، ذهب وطبعه طبعة ثانية ولم يُغيِّر فيه أي شيئ وأسماه قصة الميتافيزيقا، وطبعاً هو يثبت لك أنها قصة خُرافة في الدنيا، هي حديث خُرافة، في الأول أسماه خُرافة الميتافيزيقا، وطبعاً مشائخ الأزهر وحتى كل رجال الدين عموماً يظنون أن المقصود بالميتافيزيقا الله والجنة والنار ولا يعلمون موضوع العلة والوجود والعدم والماهية وما إلى ذلك، يظنون أن الميتافيزيقا تعني الله والماوراء، لكن ليس هذا معناها طبعاً وقد فهمنا معنى الميتافيزيقا، فهو أسماه قصة الميتافيزيقا بعد أن أسماه خُرافة الميتافيزيقا في البداية، قال هذه خُرافة، هذا حديث خُرافة، قال الروح لا تفنى، الروح خالدة لأن عنصرها غير قابل للفساد، بلغة أرسطو Aristotle الانحلال Decay، قال هذا كلام فارغ، جُملة مفهومة لغوياً، الروح لا تفنى، هذا مبتدأ وهذا خبر، فلا تفنى خبر، وماذا بعد؟ الروح لا تفنى لأن كذا وكذا، هذه جُملة جيدة لغوياً ونحوياً لها كذا وكذا لكنه قال في المنطق وفي المعنى ليس لها معنى، هذا كله كلام فارغ، كأنك تقول الإسكف جالس على المكف وذاهب إلى اللحف، فلم نفهم شيئاً، قال هو مثل هذا، قال لهم هذه كلمات ليس لها أي دلالة ولا يُمكِن التحقق منها بالرجوع إلى الخارج والحس، وهكذا كل قضايا الميتافيزيقا.

نُريد أن نُحاوِل مُناقَشة هؤلاء الحساب الآن، أول ضربة تلقاها المنطقيون الوضعيون أو الوضعيون المناطقة من فيلسوفين كبيرين جداً، من برتراند راسل Bertrand Russell الفيلسوف التحليلي ومن كارل بوبر Karl Popper صاحب طبيعة المنهج العلمي، وكارل بوبر Karl Popper النمساوي هو صاحب مبدأ القابلية للتزييف، بوبر Popper وبرتراند راسل Bertrand Russell وجها النقد ذاته إلى الوضعية المنطقية، انظر إلى هذا النقد الذكي وهو بسيط جداً في سطر ولا يُوجَد جواب عنه، قالا لهم أنتم يا وضعيون ويا مناطقة لديكم تعميم يقول كل قضية لا يُمكِن التحقق من صدقيتها بالرجوع إلى الخارج وإلى الحس فهي قضية فارغة – لا يُسمونها فارغة – لا معنى لها – هي ليست كاذبة فانتبه، القضية الكاذبة تُقابِل الصادقة، أما القضية الفارغة لا معنى لها أصلاً، أي أنها صف كلام، فهي ليس لها أي معنى، كلام فارغ، مثلما قلنا لكم الإسكف جالس على المكف وذاهب إلى اللحف، كلام ليس له معنى – وهذا التعميم نفسه ليس قضية تحليلية، إذن فماذا قالا راسل Russell وبوبر Popper؟ قالا هذا التعميم نفسه ليس قضية تحليلية، انتبهوا إلى هذا الذكاء، هذا ليس تحليلاً طبعاً، لأن قبل أن يتبناه الوضعيون المناطقة لم يكن معروفاً للناس بالضرورة مثل واحد زائد واحد يُساويان اثنين، أليس كذلك؟ ولم يكن مُقرَّراً، وهذه ليست قضية تركيبية، كيف؟ لماذا ليست قضية تركيبية؟ لأنكم قلتم القضية التركيبية هي التي يُمكِن التحقق منها تجريبياً وبالخارج وتُضيف علماً جديداً، ويختلف العالم في حال صدقها عنه في حال كذبها، احفظوا هذه التمييزات، هذه القضية التركيبية من كل جهاتها، كيف؟ الآن حين نقول – مثلاً – الأرض تتندى بالمطر فهذه القضية تركيبية، أليس كذلك؟ لو جاء أحد من كوكب آخر ولم ير المطر يوماً وقلنا له هذا مطر سوف يسمع كلمة مطر وقلنا له الأرض والمطر يسقط على الأرض لن يستنبط ولن يعرف بالضرورة أن الأرض تتندى إذا نزل عليها المطر إلا إذا رأى، قال لماذا حدث فيها هذا؟ نقول له هذا التراب يتفاعل مع المطر بهذه الطريقة ويتندى ويُمكِن أن يتحوَّل بعد ذلك إلى طين، هنا تُصبِح هذه المسألة عنده من الأشياء المعروفة المُجرَّبة، إذن حين نقول الأرض تتندى بالمطر هذه قضية، لو كذبت هل العالم الخارجي يختلف أم لا يختلف؟ يختلف، لو قلنا الأرض لا تتندى بالمطر وجئنا رأينا المطر وهو ينزل ماذا سوف نرى؟ سوف نرى أنه يتندى، وبالتالي سوف نقول هذا كذب يا جماعة، أليس كذلك؟ والعكس صحيح، هذه القضايا وهذا منطق الوضعيين المناطقة، هم قالوا هذا، مثلاً في الصيف الدنيا تزداد حرارةً – مثل الوضع الآن في الكويت، أعاننا الله وأعانكم، نحن لم نعتد على هذا – وفي الشتاء تزداد برودة، هذه قضايا تركيبية، ليست بطبيعة الأمور، كان يُمكِن أن يحدث العكس، كان يُمكِن أن يعكس الله الوضع في الصيف وحين تقترب الأرض من الشمس قليلاً تُصبِح الدنيا باردة وما إلى ذلك، يقدر الله على هذا، لكن الله فعل العكس، لا تقولوا فعل المنطقي، لا يُوجَد منطق، هذه القضايا على هذا النحو دون أي تفسير كما قال نيوتن Newton، هي هكذا، الله شاء هذا، فلو افترضنا أن الدنيا في الصيف تزداد برودة فهذه تكون كاذبة أم صادقة؟ كاذبة، لأنها تخالف العالم، العالم يختلف عنها، أليس كذلك؟ فيختلف العالم في حال صدقها عنه في حال كذبها، وطبعاً هذا الكلام مثل قالوا أين ذقنك يا جحا، ماذا أرادوا منه؟ أرادوا منه أن يقولوا المرجع دائماً والمعيار في التقويم هو الحس والخارج والعيان، هو هذا بكل بساطة، أي أن هؤلاء الجماعة كانوا حسيين بشكل صارخ، ونحن ليس عندنا مُشكِلة إلى الآن، وهذا اسمه مبدأ التحقيق Verification principle، مبدأ التحقيق ماذا يعني؟ كل عبارة أو كل قضية أو كل ما يُزعَم له أن قضية ما لم يُمكِن التحقق منه بالخارج وبالحس فهي قضية فارغة لا معنى لها وهي خُرافة، هذه الجُملة – مثلما قلنا – ليست تحليلية، أليس كذلك؟ وليست تركيبية، لو كذبت هذه سوف نُكذِّبها والعالم لن يختلف، هل يختلف العالم مثل موضوع الندى وما إلى ذلك؟ لا يختلف لأنها ليست تركيبية، هي بطبيعتها ليست تركيبية، أليس كذلك؟ فالسؤال الآن من أي أنواع القضايا هي؟ تفضَّلوا هذا، أنتم قلتم الذي ليس تحليلياً وليس تركيبياً سوف نُلقيه في الزُبالة، أليس كذلك؟ إذن أنتم كل مذهبكم قائم على شيئ غير مُبرَّر وفق مبدأ مذهبكم، انظروا إلى هذه الورطة التي تورَّطوا فيها هؤلاء الجماعة، وهنا قد يتعجَّب أحدكم ويقول لي يا سلام، لكن هذا ليس كلامي، هذا كلام برتراند راسل Bertrand Russell وكارل بوبر Karl Popper وهما من أكبر الفلاسفة على الإطلاق في القرن العشرين، وهل هذا الغلبان المسكين الدرويش – رحمه الله – زكي نجيب محمود طول حياته كان من خلال دوكة المنطق الوضعي درويشاً فعلاً فيها في حين أن هذا المذهب يُنقَد بجُملة واحدة هكذا؟ طبعاً، هل تعرفون لماذا؟ هناك حقائق بسيطة – لعلي قلت هذا من قبل – في أمور مُعقَّدة، هناك الكثير من الأمور المُعقَّدة لكنها محكومة بحقائق بسيطة، مهما غفلت عن هذه الحقائق البسيطة أو جفوتها أو أعطيتها ظهرك أنت تبقى في عماية وفي تيه، تتهوَّك لا تهتدي السبيل، فالمسألة نفسية هنا مثلما قال والتر ستيس Walter Stace، قال هذه المسألة ليست عقلية وإنما مسألة نفسية، كأن تقول هل أنا سأحكم على هذا المذهب العظيم وما إلى ذلك من خلال جُملة؟ لا أُريد هذا، أُريد أن أقرأ كتابات أعظم، لكن أنت تركت الحق البسيط الواضح في جُملة وذهبت قرأت للوضعيين ألف صفحة فسوف تزداد ضلالاً ولن تفهم، أليس كذلك؟ هناك – كما قلنا – حقائق بسيطة في أمور مُعقَّدة فاعتصم بها، ولعلي ضربت لكم أو لإخوة آخرين – لا أعرف – مثالاً عن موضوع عيسى – مثلاً – في الديانة المسيحية، هل هو رب أو ليس رباً أو ابن الرب أو عبد أو ليس عبداً وإلى آخره؟ المسألة تُقرِّر بشريته واضح أن الرجل عاش ومات بشراً، عاش كبشر في كل حياته، واضح أنه بشر، كون هذا البشر مُكرَماً من الله – تبارك وتعالى – بكرمات أكرم الله بها إخوانه النبيين الآخرين أيضاً فهذا عادي ونحن نُؤمِن بهذا، لكن هو عاش كبشر، يأكل ويشرب ويتخلى، أليس كذلك؟ ويتألم ويتعب ويصفر وجهه وينزف دمه ويصرخ، هو من البشر، هذه حياة بشر، هذا هو البشر يا أخي، ذات مرة قرأت للمرحوم أحمد ديدات عبارة لطيفة جداً، قال هناك جماعة من المسيحيين ذهبوا إلى أقزام أستراليا – هؤلاء أُناس بدائيون بالكامل، لا تُوجَد ثقافة لها علاقة بعصرنا – وحدَّثوهم عن التبشير بالمسيح وأنه رب وابن الرب وما إلى ذلك، فقالوا لهم هل هو يذهب إلى الخلاء؟ سألوهم مُباشَرةً هذا، هل هو يتخلى ويذهب إلى بيت الخلاء Toilet؟ قالوا نعم، فقالوا ليس رباً، البدائيون ببساطة قالوا هذا، هؤلاء اعتصموا بالحقائق البسيطة في الأمور المُعقَّدة، كيف تقول أنه رب ويذهب إلى الخلاء؟ هذا كلام فارغ، قالوا لهم هذا لا يدخل الدماغ، وهذا صحيح، فهذا المنطق الوضعي بكلمة واحدة انتهى كل شيئ فيه، هذا حدث بكلمة واحدة، هو نقد نفسه بنفسه، لكننا سوف نذهب خُطوات أعمق قليلاً لكي نفهم وإلا سوف تكون كارثة في النهاية أن يُقال هذا.

سوف نأخذ استراحة – Break أو Pause – إن شاء الله سريعة، ثم نُكمِل إن شاء الله.

نعود إلى الوضعيين المناطقة ونتساءل، أنتم تقولون لابد من التحقق بالرجوع إلى الحس، اختبار صدقية أي قضية بالرجوع إلى الحس، فإن وجدنا لها مصداقاً ومردوداً في الحس سلَّمنا بأنها صادقة وإلا لم تكن كذلك، طبعاً إن لم – أي كانت كذباً – يكن هناك إمكانية لاختبارها أصلاً في الحس فهي قضايا فارغة، ليست صادقة وليست كاذبة، يا ليت تكون كاذبة، قالوا لك هذه ليست قضية أصلاً، وهذا هو المُهِم، هي غير قابلة أصلاً أن تُختبَر حسياً، قالوا هذا كلام فارغ، مثل قضية الروح خالدة، هي غير قابلة لهذا، لا يُمكِن أن نأتي بالروح ثم نرى هل ستتفكك أم ستبقى كائناً بسيطاً أو عنصراً بسيطاً غير قابل للفساد، هذا غير مُمكِن، لأنها غير داخلة تحت سُلطة التجريب، فقالوا هذه قضية فارغة، بما أنها من الأصل غير قابلة فهذا يعني أنها قضية فارغة، أنت فقط مخدوع فيها وتظنها قضية منطقية لها معنى، لكن هي بلا معنى من الأصل، فلا هي صادقة ولا كاذبة، هي قضية فارغة، ونحن الآن نسألهم ونقول لهم هل اشتراطكم هذا يتوقَّف ويتحدَّد بالمُعطيات الحسية المُباشِرة أم يُمكِن أن تقبلوا أن تكون هناك مُعطيات حسية غير مُباشِرة للقضية أو أفراد القضية؟ سوف نرى، لأن – مثلاً – قضية كقضية قانون الجاذبية قضية علمية، هذا قانون علمي ومُعترَف به في علم الطبيعة، أليس كذلك؟ ومبنية عليه تطبيقات كثيرة جداً جداً جداً، لكن ليس لها مُعطيات حسية مُباشِرة، لماذا؟ حين نعود إلى الخارج أو الحس ما الذي نراه؟ نرى جسماً – مثلاً – لو تُرِك في الهواء سوف يقع على الأرض، نرى الأرض ونرى الجسم ونرى الجسم يهوي إلى الأرض، لكن لا نرى شيئاً اسمه الجاذبية، لا نرى شيئاً اسمه قانون الجاذبية، التربيع العكسي لا نراه، لا نرى هذا كله، هذا غير موجود، وهذا الشيئ العقل هو الذي استنبطه، أليس كذلك؟ وذلك استناداً إلى مُعطيات حسية مُباشِرة، لكن هو نفسه ليس مُعطىً حسياً طبعاً، هذا ليس مُعطىً حسياً مُباشِراً، هم قالوا نحن نقبل بهذا، نقبل أن تكون مُعطيات مُباشِرة وغير مُباشِرة، ومن ثم سوف نقول لهم هذا جميل جداً، قضية وجود الله من هذا القبيل، ليس أكثر من هذا، هذا هو فقط وليس أكثر من هذا، نحن نرى كائنات دقيقة مُنظَّمة تنظيماً مُذهِلاً ومُحيِّراً وجئنا بالدراسات العلمية المُتخصِّصة واكتشفنا بل تيقنا أن احتمال انوجاد هذه الكائنات وهذه التنظيمات وهذه البُنى بالصُدفة مُستحيل، واحد على كذا كذا كذا كذا تريليون، فهو صفر، وبما أنه يُوجَد مبدأ اسمه مبدأ السببية ومبدأ العلية وأنتم تُسلِّمون به من حيث الأصل – هم يُناقِشون في التفاصيل وسوف نرى كيف هذا بعد ذلك – فهذا يعني لابد أن يكون لهذه الظواهر مُسبِّب وهو الله تبارك وتعالى، مثل الجاذبية التي لم نرها، ومع ذلك هذه الجاذبية أسمينها الجاذبية، نحن لم نرها ولم نلمسها ومع ذلك آمنا بها وقنناها، أليس كذلك؟ وكذلك الله لم نره ولم نلمسه – لا إله إلا هو – لكن أدركنا أنه موجود وهو المسؤول عن هذه المسائل كما أن الجاذبية مسؤولة عن هذه الظواهر، أليس كذلك؟ وذلك استناداً إلى مُعطيات حسية مُباشِرة، نأتي ونسأل العلماء الإخصائيين ونقول لهم الجسم الإنساني مُكوَّن من مائة تريليون خلية، وهذا في المُتوسِّط فهناك أُناس قالوا أكثر من هذا حقيقةً، لكن هذا رقم مُتوسِّط يدور في مُعظَم الكتب العلمية، أنه مُكوَّن من مائة تريليون، والتريليون يُساوي عشرة أس اثني عشر، أي ألف مليار، ألف مليار خلية تُساوي تريليون، والجسم فيه مائة تريليون خلية، وهذا غير معقول، عدد هائل جداً، وطبعاً كل خلية هي عالم بل معمار مُعقَّد جداً جداً جداً – ولك أن تتصوَّر هذا – من التكوين أساسها الجُزئيات البروتينية كما تعلمون، والجُزيء البروتيني الواحد يتكوَّن من أربعين ألف ذرة من سلاسل من الأحماض الأمينية المُتشابِكة، هذه الأحماض الأمينية المُتشابِكة طرق تشابكها أو انشباكها وتعالقها كثيرة جداً جداً جداً، تبلغ عشرة أس ثماني وأربعين طريقة، أي تريليون تريليون تريليون تريليون طريقة، ولك أن تتخيَّل هذا، طبعاً لأن كل واحد من اثني عشر، وحين نضرب اثني عشر في أربعة يكون الناتج هو ثمانية وأربعون، عشرة أس ثماني وأربعين طريقة، سنتخيَّل أن ربنا – تبارك وتعالى – تحدى البشر وقال لهم أنا لا أطلب منكم لا أن تصنعوا ذبابة ولا أن تصنعوا خلية ولا أي شيئ ولا أن تصنعوا حتى سلسلة حامض أميني، فهذا صعب، وهو أصعب مما تستطيعون بكثير، لكن أنا أعطيكم أحماض أمينية تتسلسل وتتعالق لكي تُكوِّن جُزيئاً برويتيناً وأقول لكم – وأنتم اكتشتفتم هذا، أي العلماء اكتشفوا هذا – هناك عشرة أس ثماني وأربعين طريقة لتشابك هذه السلاسل الأمينية، افرزوا لي الطريقة الوحيدة الواحدة الصحيحة التي حين تُشبَك بها هذه السلاسل يُمكِن أن تخرج لنا مادة حيوية مُفيدة، وإلا الطرق الباقية كلها سوف تكون عبارة عن سموم وأشياء مُدمِّرة، عيِّنوا لي هذه الطريقة، هذا تحدي إلهي مثلاً، مَن يقدر على هذا؟ كل الدنيا لا تستطيع عبر العصور، هذا شيئ مُخيف يا جماعة، لكن الناس يتكلَّمون هكذا، وبعد ذلك يأتينا الكونت دي نوي Le Comte Du Nouy، وهو عالم فرنسي مشهور جداً جداً، عنده كتاب اسمه قدر الأنسان Human destiny، في قدرالإنسان ماذا يقول؟ لكي نحسب بالرياضيات – وهو رياضي – إمكانية تخلّق هذا الجُزيء بطريقة الصُدفة – وحده يا أخي تخلَّق، ما المُشكِلة؟ داروين Darwin ودوكينز Dawkins وما إلى ذلك كانوا يعتقدون بأنه فعل هذا وحده، في الكون اختلطت الأمور ثم خرج، لكن هل خرجت خلية؟ هل خرج عضو؟ هل خرج إنسان؟ سوف نرى – فسوف نحتاج إلى مادة لا نضعها في وعاء كبير لا بحجم هذه الصالة – مثلاً – ولا بحجم الأرض ولابحجم الكون، قال الكون صغير، أي أن الكون سوف يكون وعاء صغيراً، وقد رأينا أمس أن الكون بقطر تقريباً ثمانية وعشرين مليار سنة، هذا القطر، أما نصف القطر ثلاثة عشر مليار وسبعة ملايين سنة، قطر الكون الضوء يمشي فيه ثمانية وعشرين مليار سنة، قال دي نوي Du Nouy نُريد كوناً الضوء يسير فيه عشرة أس أربعة وثمانين سنة، انظر إلى هذا، إذن كم تريليون سنة سوف نحتاج لكي يسير فيه؟ هذا عجيب، وبعد ذلك يكون مملوءاً بالعناصر المُكوَّنة بالأحماض الأمينية، أي بالعناصر الأولية، فينبغي أن يكون مملوءاً عن آخره، وبعد ذلك بقوة هائلة فوق كونية يتم هزه ورجه بحيث يتحرَّك خمسمائة تريليون حركة في الثانية، احفظوا هذا، فهذا كلام عالم، هذا لو قاله أي أحد سابقاً لقيل أنه إنسان مجنون، والحمد لله أنه لم يقله أي رجل دين، ولا يقدر رجل الدين على أن يقوله، قاله علماء مُتخصِّصون، يا جماعة هذا تخصصهم، قال لك خمسمائة تريليون حركة في الثانية، وما مقدار زمن الاهتزاز؟ كم سوف يستغرق من الزمن ونحن نخضه؟ بليون سنة، هل سنهزه بنفس مقدار عمر كوننا وهو ثلاثة عشر مليار وسبعة مليون سنة؟ قال لا، سوف نخضه لمده عشرة أس مائتين ثلاث وأربعين سنة، أي تريليونات السنين، طبعاً عشرة أس مائة جوجل Google، وهذا أكثر من جوجل Google بكثير، عشرة أس مائتين ثلاث وأربعين سنة، وفي النهاية قال لك بالرياضيات – هذه كلها حسابات، وهي حسابات مُعقَّدة – احتمال أن يتكون جُزيء بروتيني واحد صفر، سوف يبقى صفراً، الله أكبر، ومع ذلك تقول لي لا يُوجَد إله وعندي شك، هل أنت تفهم شيئاً؟ هؤلاء لا يفهمون شيئاً بصراحة، هؤلاء الوضعيون المناطقة يُنكِرون الله عز وجل، ينُكِرونه – للأسف – ولا يُؤمِنون به، والذي يُؤمِن منهم مثل زكي نجيب محمود يكون هذا بالتقليد وليس أن فلسفته تقول هذا، فمذهبه يقول لك هذا غير موجود، لا تقل لي الله موجود، هذا لا يُمكِن التحقق منه حسياً، لكن يُمكِن التحقق، وأنتم قبلتم أن المُعطيات الحسية يُمكِن أن تكون غير مُباشِرة، لماذا تُصِرون إلى الآن على عدم الاعتراف بالله وبالروح؟ لماذا؟ لا أعرف، نوع من إرادة الإلحاد مثلما قال بليز باسكال Blaise Pascal، أرادوا أن يكونوا ملاحدة، وهذا كان أولاً وهو مُهِم جداً.

نأتي الآن أيضاً إلى نقد من جانب آخر للوضعية المنطقية، حين فرَّقوا بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية قالوا التركيبية ترجيحية والتحليلية يقينية قطعية، أليس كذلك؟ ونحن وافقنا، طبعاً واضح أنها يقينة قطعية، واحد زائد واحد يُساويان اثنين وإلى آخره، ما هو أساس تسليمهم بهذه النتيجة؟ لماذا؟ لماذا هم اعتقدوا أن القضايا التحليلية قضايا قطعية؟ لماذا القضايا التحصيلية والتكرارية قطعية؟ نُريد مُبرِّراً فلسفياً، اعترفوا وقالوا المُبرِّر واضح وهو الاتساق، معيار الصدق في القضايا التحليلية الاتساق، اتساق الفكر مع نفسه البادي في القضية، إذن قالوا الاتساق، ما معيار الصدق في القضية التركيبية؟ الحديد يتمدد وينكمش وإلى آخر قضايا العلوم كلها ما معيار الصدق فيها؟ المُطابَقة Correspondence، فـ Correspondence المُطاَبقة أما Consistency الاتساق، إذن معيار الاتساق ومعيار الانطباق، هكذا تقول الفلسفة، وهم يعترفون بهذا وهذه هي طريقتهم، معيار الانطباق قلنا ما هو، نرجع إلى الواقع بالاستقراء وبالتجربة ونختبر – مثلاً – قطعة حديد ونجدها تمددت مقدار واحد على عشرة من الملي، فهذا يعني أن هذا صحيح، وتنكمش بالتبريد واحد على عشرة من الملي، إذن هذا صحيح، ومن ثم هذا انطباق، انطبق القول على الحس، هذه قضايا التركيبية، والقضايا التحليلية فيها الاتساق، ما معنى الاتساق؟ نحن إلى الآن لم نفهم ما معنى الاتساق، ما معناه؟ لماذا واحد زائد واحد يُساويان اثنين؟ هذه قضية يقينة لأن فيها اتساق، لأن فعلاً واحد زائد واحد هي اثنان لكن التعبير مُختلِف والشكل مُختلِف، فلو قلنا بدال واحد زائد اثنين وأنها تُساوي اثنين فسوف يكون نفس الشيئ، لأن طبعاً يا أخي الشيئ يُساوي نفسه، إذن الاتساق ما هو؟ قانون عدم التناقض، الاتساق هو هكذا، تعريفه في الفلسفة على هذا النحو، فالاتساق هو قانون عدم التناقض، هم ظنوا أنهم تخلَّصوا من المُشكِلة، لكن الآن تبدأ المُشكِلة، هذه هي الفلسفة، الفلسفة شيئ عميق وجميل، سوف نقول لهم هذا مُمتاز لكن لماذا أنتم سلَّمتم بقانون عدم التناقض الآن وعندكم يقين عنه؟ أنتم عندكم يقين وبالعكس أنتم تُبرِّرون اليقين في التحليليات – القضايا التحليلية – بقانون عدم التناقض، الآن كيف تُبرِّرون إيمانكم وتسليمكم بقانون عدم التناقض الذي ينص على أن النقيضين لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً؟ وأضافت الفلسفة الإسلامية والمنطق الإسلامي والثالث مرفوع؟ يُسمونه الوسط المرفوع أو الثالث المرفوع، هذا الوسط المرفوع أو الثالث المرفوع، لكن ما معنى الثالث المرفوع؟ لا يُوجَد احتمال ثالث، النقيضان إما أن يجتمعا وإما أن يرتفعا، أليس كذلك؟ ولا تُوجَد حالة ثالثة، مثل ألا يجتمعا النقيضان وألا يرتفعا، هذا غير صحيح، فلابد أن يكون الأمر على هذا النحو، وإذا اجتمعا سوف يكون مُستحيلاً، لا يُوجَد اجتماع للنقيضين، يُوجَد أحد النقيضين، كيف؟ أنت يا أخي الفاضل الآن حيٌ أو ميت، أليس كذلك؟ وحتى لا نخربط – انتبهوا إلى هذا – بين الملكة وعدم الملكة وبين الأضداد وبين النقائض – أنواع من التقابل – سوف يكون أحسن شيئ لكي نعرف ما هو النقيض أن نعرف النقيض بأنه المنفي، حيٌ ليس حياً أو حيٌ غير حي، واقف غير واقف وهكذا، انفها بلا أو ليس أو غير، أي Not، وهذا سوف يكون النقيض، فأنت الآن حي أو غير حي، إذا قلت أنا حي وغير حي فهذا سوف يكون مُستحيلاً، النقيضان لا يجتمعان، لا يُمكِن أن تقول أنا حي وغير حي، قد يقول لي أحدكم بصراحة لا أنا حي ولا أنا غير حي، لكن هذا غير صحيح، لابد أن تكون واحدة من الاثنين، إما أن تكون حياً وإما أن تكون غير حي، لا تقل لي غير هذا لأن الثالث مرفوع، مُستحيل أن تكون حياً ميتاً، أليس كذلك؟ مُستحيل أن تكون حياً ميتاً، ومُستحيل أن تكون لا حياً ولا ميتاً، ارتفعا النقيضان وتكون هناك حالة ثالثة، ما هي الحالة الثالثة؟ غير موجودة، فهذا معنى قانون التناقض، علماً بأنه أساس الفكر، طبعاً اختلف الفلاسفة والمناطقة وقالوا مَن أساس الفكر؟ أول لبنة في الفكر الإنساني ما هي؟ هل هو قانون الهوية – Law of Identity – أم قانون عدم التناقض؟ هناك مَن قالوا الهوية وهذا غلط، قانون الهوية لا معنى له من غير الاستناد إلى قانون التناقض، هل تعرفون لماذا؟ لأن قانون الهوية الكوب هو ذاته وأنا ذاتي وألف هي ألف وباء هي باء، فالشيئ هو نفسه أو الشيئ هو عينه، هذا القانون لو لا قانون عدم اجتماع النقيضين لن يصح، أي لن يصح قانون الهوية، يُمكِن أن تكون ألف هي ألف وهي غير ألف في نفس الوقت، أليس كذلك؟ لأن قانون عدم التناقض لا يشتغل، وهذا يعني أن أساس الفكر ليس قانون الهوية، الصح أن أساس الفكر وأرضية الفكر الإنساني هو قانون عدم التناقض، وهو يُسمونه بقانون التناقض أو قانون النقيضين، فقانون عدم التناقض أساس الفكر، وكما قلنا من هنا تبدأ المُشكِلة، ما أساس يقينكم بقانون عدم التناقض وقانون عدم التناقض – انتبهوا إلى هذا – ليس قضية تركيبية وليس قضية تحليلية من جنس ما تُمثِّلون له؟ هم قالوا هذه تحليلة وفكَّروا على هذا النحو، لكنهم أخطأوا فلا يُوجَد تدقيق هنا، قالوا هذا قانون عدم التناقض وهذه قضية تحليلية فقلنا لهم هذه ليست تحليلية بدليل أننا نستطيع أن نُفرِّق بسهولة بين قولنا النقيضان هما النقيضان وبين قولنا لا يجتمع النقيضان، أليس كذلك؟ فرق كبير جداً جداً، نحن لا نتحدَّث عن قانون الهوية، وإنما نتحدَّث عن قانون عدم اجتماع النقيضين، أليس كذلك؟ أو نقول لا يجتمع النقيضان لا يجتمع النقيضان وهذا غير أن نقول يستحيل أن يجتمع النقيضان، فيستحيل أن يجتمع النقيضان تُفيد غير ما تُفيد جُملة النقيضان هما النقيضان، أليس كذلك؟ إذن ما هو أساس الإيمان بهذا القانون وهو ليس تحليلياً ولا تركيبياً؟ هذا من مباديء العقل الأولى، من المباديء الفطرية، هذه هي الفلسفة العقلية، ولك أن تتخيَّل هذا، وهنا طبعاً قُطِعَ بهم ولم يعرفوا، لا يُوجَد أي جواب، لابد أن يرجعوا على الرغم منهم إلى التسليم بأُسس الفلسفة العقلية وأن العقل فيه أشياء على نحو مُختلِف، ولذلك الفيلسوف الألماني الكبير كانط Kant فعلاً اعتراف – كان أذكى من هؤلاء واعترف – وقال لا يُوجَد مناص فالعقل يحتوي على أشياء فطرية سابقة على التجربة وعلى كل تجربة ولا علاقة بالحس بها – ولك أن تتخيَّل هذا – وحين تعمل في التجربة الحسية تعمل منها على أن سابقة سبقاً منطقياً وإن لم يكن سبقاً زمانياً لكنها سابقة وهي مُتعالية، ما معنى مُتعالية؟ فوق التجربة وقبل التجربة، في مُنفصِلة عن التجربة، إذن كانط Kant اعترف بهذا لأنه لم يكن بالغباء الذي يجعله يقول هذا غير موجود مثل هيوم Hume، ألم يكن مُتأثِّراً بهيوم Hume الذي أيقظه من سُباته الدوجماطيقي؟ لكن أول مَن كسر رأسه هو هيوم Hume، انتقد كانط Kant جون لوك John Locke بشكل واضح طبعاً واختلف معه واختلف مع هيوم Hume أيضاً، لكن هيوم Hume هو الذي جعله يُغيِّر فلسفته القديمة، فأيضاً هذا النقد يُوجَّه إلى هذه الفلسفة.

آخر شيئ حتى لا نُطوِّل سوف نُوجِّه نقداً أخيراً للوضعية المنطقية وهو كالتالي، أنتم تحدَّثتم عن أن المعيار هو الرجوع إلى الحس لاختبار القضية، أليس كذلك؟ هل هذا الرجوع وهذا الاختبار لابد أن يكون واقعاً بالفعل أو مُمكِناً بالفعل؟ وإذا لم يكن مُمكِناً بالفعل فهل هذا يعني أن القضية فارغة؟ هل هذا الأمر لازم؟ حدث عندهم لبس هنا فانتبهوا، مثلاً إلى وقت قريب جداً كان العلماء يعتقدون أن على المريخ أنهاراً وودياناً من الماء، أليس كذلك؟ كانوا من خلال الرصد البعيد يقولون تُوجَد أنهار ومياه وقد يكون معموراً بالحياة وقد يكون كذا وكذا، أليس كذلك؟ هذه عبارة، وهذه العبارة يُطلِقها العلماء، المريخ عليه وديان من ماء وأنهار وغُدران وأشياء مثل هذه مثلاً، العلماء كانوا يقولون الوجه الآخر للقمر هو كذا وكذا، نحن لا يُمكِن أن نراه، وأنتم تعرفون أن القمر دائماً ما يُواجِهنا بوجه واحد، قالوا حركته مع الأرض مثل حركة المُصارِعين، المُصارِع لا يُعطي للآخر ظهره، دائماً يُواجِهه، المصارع الأول يلف والآخر يلف معه، والقمر دائماً يلف مع الأرض على هذا النحو باستمرار، فنحن لا نرى من القمر إلا وجهاً واحداً، ومن هنا يُقال بالعامية وجهك ولا وجه القمر، فكان العلماء يعتقدون أن الوجه الآخر للقمر هو كذا وكذا وقالوا هناك صحاري وما إلى ذلك، فهذه عبارة وهي عبارة علمية، هل هذه عبارة علمية أم عبارة فارغة؟ هم لابد أن يقولوا، هي ليست تحليلية طبعاً، هل سوف تكون تركيبية؟ متى تكون تركيبية عندهم؟ إذا أمكن التحقق منها بالرجوع إلى القمر، لكن هذا لا يمكن لأننا في ذات الوقت لم نكن قد صعدنا إلى القمر، نحن صعدنا في سبتمبر سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين، لم نصعد إلى القمر حينها، ولم نصل إلى المريخ إلا من وقت قريب، ولم يصل حتى إنسان، وضعوا أدوات وأشياء وما إلى ذلك، لكننا سوف نصل في يوم من الأيام، هل هذه العبارة تُعتبَر عبارة فارغة لا معنى لها؟ هم أُحرِجوا جداً لأن العلم هكذا يتحرَّك، العلم كله هكذا، قالوا لا، ألفريد آير Alfred Ayer نفسه الإنجليزي قال سوف نُعدِّل من مبدأ التحقيق Verification، قال سوف نُعدِّله، قالوا نحن لا نشترط الإمكان الفعلي وحده، هذا مُمتاز ولكننا نقبل أيضاً بالإمكان المنطقي للتحقق، إذا كان منطقياً يُمكِن أن نتحقَّق فأهلاً وسهلاً، يُوجَد احتمال أننا في يوم من سوف نقدر على هذا، لا يُوجَد مانع بالمنطق أن نصل إلى القمر وإلى المريخ وأن نختبر وسوف تكون للعبارة معنى، أليس كذلك؟ تُوجَد مسألة أبسط من هذا، لماذا نتحدَّث عن القمر والمريخ وعن وجه وما إلى ذلك؟ هناك مسألة أبسط من هذا، عبارة هناك مساحات من الأراضي سقطت عليها أمطار لم يرها أحد هل هي عبارة منطقية أم غير منطقية؟ طبعاً هي ليست تحليلية، هذه عبارة تركيبية، أليس كذلك؟ سقطت ولم يتحقق أحد ولن يتحقق أحد، انتهى الأمر، أليس كذلك؟ قبل ألف سنة هناك مساحات من الأرض لم تكن مُكتشَفة، وسقطت عليها أمطار ولم يرها أحد، هل أنتم تشعرون الآن بأن هذه العبارة صحيحة أم غير صحيحة؟ من المُؤكَّد أنها صحيحة، وفعلاً لم يتحقَّق هذا ولا تُوجَد إمكانية حتى للتحقق منها، لكنها عبارة صحيحة، قالوا هذا صحيح وهذه ورطة كبيرة ومن ثم سوف نُعدِّل – لا فائدة – ونقول نحن نرضى بالإمكان المنطقي، المنطق يقول لو كان قبل ألف سنة هناك إمكانات ووصلنا إلى تلكم الأرض ورصدناها سوف نرى أن المطر نزل لعدم وجود ما يمنع، لكن ليست هنا المُشكِلة، هم خرجوا من مُشكِلة ووقعوا في مُشكِلة أكبر ورجعوا لنا في أحضاننا وفي أحضان العقليين، ما هي؟ سوف نقول لهم نحن – والله – نسألكم الآن عن مُحصَّل عبارة الإمكان المنطقي، حين تقولون نحن نقبل بالإمكان المنطقي فهذا معناه بجُملة واضحة أن الإمكان المنطقي له صدقية ومقبولية، أليس كذلك؟ هذا المفهوم استندتم في تقريره على ماذا؟ وهو ليس قضية أيضاً تحليلية، انتبهوا إلى هذا، هو قضية تركيبية، فالإمكان المنطقي سائغ، الإمكان المنطقي مشروع، الإمكان المنطقي له مقبولية، أليس كذلك؟ لكن كيف يُمكِن اختبار مقبولية الإمكان المنطقي بالرجوع إلى الحس؟ لا يُمكِن، هذا مُستحيل، هذا غير موجود ولا يُمكِن أن يحدث حتى يُنقَر في الناقور ويلد البغل العاقور كما تقول العرب، لأنكم تعرفون أن البغل – أكرمكم الله – لا يلد، فقالوا حتى يُنقَر في الناقور ويلد البغل العاقور، وهذا ذكَّرنا بأن ذات مرة كان يُناقِش رجل مُعتزِلي رجلاً سُنياً في قضية الجُزء الذي لا يتجزأ، السُني يُؤمِن بأن كل جزء يتجزأ بقدرة الله، هذا أمر عادي ويحدث إلى ما لانهاية، المُعتزِلي قال له لا، على طريقة اليونانيين لابد أن نصل إلى الجزء الذي لا يتجزأ، فهذا نقاش ديني، قال له السُني قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۩ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ۩، فإن عمل مثقال أقل من ذرة ماذا سيحدث؟ هذه ليست ذرة وإنما نصف ذرة، هل سيُجازى أم لا؟ إذا قال سيُجازى فهذا سوف يعني أنه آمن بانقسام الذرة، وماذا عن ربع ذرة بعد ذلك؟ وماذا عن نصف النصف ونصف الربع؟ وهكذا سوف يقول له، ففهم المُعتزِلي أن هذا الرجل أفحمه، فقال له أمهِلني، قال له أمهلتك الدهر كله، قال له أبلعني ريقي، قال له أبلعتك دجلة، هذا لن ينفع، اذهب وابلع دجلة وسأمهلك الدهر ولن تجد جواباً، طبعاً هناك مسائل يضح فيها الحق، فهنا تورَّطوا ورطة عُظمى، وإلى اليوم لم يقدروا على أن يخرجوا منها، حين آمنوا بأن الإمكان المنطقي سائغ كمعيار انتهوا، انتهى الأمر وانتهت الوضعية المنطقية، ورجعت العقلية مُتصدِّرة من أول وجديد، أعني الفلسفة العقلية، فالفلسفة العقلية فلسفة قوية، سبحان فعلاً مَن خلق الإنسان وزوَّده بهذا العقل وهذه الإمكانات، هذا العقل البشري، ولذلك أنا حقيقةً أدعوا فعلاً مَن أراد أن يدرس أن يدرس الفلسفة الإسلامية العقلية ويتمهَّر فيها، فهي فلسفة قوية جداً ومُمتازة حقيقةً ومن الصعب نقدها، مبادئها وما إلى ذلك قوية.

يُمكِن الآن أن أضرب لكم مثلاً أخيراً لكي ندخل قليلاً في نظرية المعرفة، على الأقل في نصف ساعة سنتحدَّث عنها.

ملحوظة: أراد أحد الحضور أن يسأل سؤالاً فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم تفضَّل يا سيدي، فسأله عن وجود تشابه بين الوضعية المنطقية والتجريبية من عدمه، وأجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم بدوره قائلاً طبعاً يُوجَد تشابه حتى في الأُسس النفسية، لكن التجريبية – وهذا سيأتي إن شاء الله في نظرية المعرفة – اتجاه أوسع، وتُوَجد عنده تشكيلات مُتعدِّدة، فهم الآن – كما قلنا قبل قليل مثلاً – معيارهم في سبر صدقية القضايا التركيبية معيار تجريبي، واضح أنه تجريبي، لكن بعد مُلاحَقات وبعد نقود وُجِّهَت إليهم بدأوا في أن يتراجعوا قليلاً، وقالوا بأشياء لا يُسلِّم بها كل تجريبي، فطبعاً هم في نهاية المطاف تجريبيون، لذلك من أسمائهم تصديقاً لقولك التجريبية العلمية، يُسمون أنفسهم بهذا، اسمهم المنطقية الوضعية أو التجريبية العلمية، فهم لهم هذا الاسم، أعني التجريبية العلمية.
سأُعطيكم مثالاً – كما قلت – على مسألة من مسائل الميتافيزيقا أو الأنطولوجيا Ontology مشهورة جداً على الأقل لكي تأخذوا عنها فكرة، وهي مسألة أصالة الوجود أو الماهية، وسأبدأ بعبارة حسّاسة وخطيرة وجريئة لابن سينا، أي لأبي عليّ بن سينا الشيخ الرئيس، ابن سينا كان له عبارة تقول الله لم يُمشمِش المشمشة بل أوجدها، انظروا إلى هذه العبارة، لخَّص موقفه من مسألة أصالة الوجود أو الماهية بهذه العبارة الذكية جداً، قال الله لم يُمشمِش المشمشة وإنما أوجدها، ما الفارق؟ ما الفارق بين مشمشها وأوجدها؟ نحن لم نفهم شيئاً، ونحن لن نفهمها حتى تُصوِّر مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، أعتقد أننا أخذنا أمس فكرة عن مفهوم الوجود، وقلنا كل شيئ في العيان وفي الخارج ينعكس في الذهن إنما ينعكس بصورة هلية بسيطة، أي قضية من الهليات البسائط، كذا موجود فقط، والهليات البسيطة أو البسائط دائماً تنحل إلى ركنين بمفهومين، الموضوع والمحمول، الموضوع دائماً مفهوم ماهوي، والمحمول مفهوم موجود، هو مفهوم فلسفي، أليس كذلك؟ نحن اليوم أخذنا هذه المسألة، وهذا يعني أن الموضوع مفهوم أولي والمحمول مفهوم ثانوي فلسفي لأنه موجود، أليس كذلك؟ موجود، المريخ – مثلاً – عليه حياة، نفترض أننا قلنا – مثلاً – المريخ عليه حياة، ما الذي حصل؟ المريخ مفهوم ماهوي، هو هذا الكوكب الذي مثل كذا والمعروف بكذا وكذا، عليه يعني يُوجَد أو يمتلك، تُوجَد عليه حياة، أليس كذلك؟ هذا مفهوم يُوجَد، حياة موجودة على المريخ، مفهوم فلسفي، يُوجَد أو موجود من وجود، هذه الهليات البسيطة، إذن تُوجَد عندنا الماهية ويُوجَد عندنا مفهوم الوجود، فحين نقول زيدٌ من الناس الآن – زيٌد جالس يقرأ في كتاب مثلاً، المُهِم أنه زيد ونحن نُشير إليه – نحن نُشير إلى ماذا؟ نُشير إلى ماهية موجودة، في الخارج بصراحة الذي نراه هو زيد، هذا بشر وهو من لحم ودم، أليس كذلك؟ وهو أحد أفراد الإنسان، أحد مصاديق المفهوم الكُلي المُسمى بمفهوم الإنسان، فهذا مصداق له بعنوان زيد، وعرفنا أن هناك ماهية إذن وأن هناك وجوداً، الآن السؤال يأتي لكي نفهم ما هو موضوع الأصالة، هذا الموجود في الخارج وهو زيد – مثلاً – هو مصداق للماهية أو مصداق للوجود؟ بمعنى ماذا؟ بمعنى أن من المُستحيل أن يكون مصداقاً للاثنين، لو كان مصداقاً للاثنين سيكون لدينا في الخارج اثنان وليس واحداً، والواقع أن الذي لدينا في الخارج واحد، أليس كذلك؟ طبعاً في الخارج ذاته لا يُوجَد فرق بين الوجود والماهية، أليس كذلك؟ لكن الذهن حين يتعاطى مع هذه المسألة وينظر إليها لابد أن يُفرِّق، فيحتاج أن يعرف الأصالة لمَن، مَن الأصيل؟ ومَن الاعتباري؟ لابد من وجود أصيل أما الآخر سوف يكون بالاعتبار، هذا تصوير مسألة أصالة الوجود أو الماهية، الفلاسفة المشاؤون عموماً وفي رأسهم ابن سينا عندنا قالوا بأصالة الوجود، مُلا صدر الدين الشيرازي المشهور بمُلا صدرا طبعاً دعم هذا الرأي وأتى عليه بأدلة جديدة قوية وذكية جداً، قال الأصالة للوجود، لذلك فلسفته فلسفة أصالة الوجود، السهروردي المقتول – الفيلسوف الإشراقي الشهير – قال بأصالة الماهية واعتبارية الوجود، طبعاً الأدلة كثيرة جداً لدى الفريقين وهي مُعقَّدة، لعل في الدروس الفلسفية الأولى التي كانت موجودة على الموقع الخاص بي ذكرت خمس أو ست أدلة، والأدلة كثيرة ومُعقَّدة فلا نُحِب أن نخوض فيها، لكن نُريد أن نُصوِّر لكم ببساطة كيف استطاع المشاؤون أن يُقرِّروا موقفهم بأصالة الوجود واعتبارية الماهية بمثال ذكي وبسيط جداً نضربه لكم، نأتي الآن بصفحة بيضاء – صحيفة أو ورقاء بيضاء – ونبدأ بالقلم الأحمر نخط عليها بشكل مُنظَّم ودقيق ومُتتابِع حتى تشكَّل لدينا شكل مُستطيل – مثلاً – أو دائرة بالأحمر، الآن أسألكم الموجود في الخارج – في ساحة الخارج – ما هو؟ اللون، هذا اللون الأحمر بصراحة، هذا هو الموجود، لكن هذا اللون ينتهي عند حدود مُعيَّنة، حيث ينتهي يظهر ما يُسمى الحد، أينما نقف نقول هذا الحد، وحيث ينتهي من هنا نقول هذا الحد وإلى آخره، هذه النهايات في النهاية شكَّلت شكلاً اسمه المُستطيل، المُستطيل ماهية، أليس كذلك؟ مفهوم ماهوي، المُستطيل أو المُربَّع أو الكوب أو الإنسان من المفاهيم الماهوية، أليس كذلك؟ لكن الآن الموجود في الخارج فعلاً بهذا المثال هل هو الماهية وركب عليها الوجود أو الموجود هو الوجود والماهية تبع له؟ في الحقيقة الخيار الثاني هو الصحيح، الموجود أمامنا هو اللون، أي اللون الأحمر، كونه تناهى من الجهات الأربع – ولك أن تتخيَّل هذا – باختيار الراسم وظهر شكل في النهاية اسمه الشكل المُربَّع أو المُستطيل فهذه قضية اعتبارية، لا يُوجَد شيئ في الخارج حقيقةً اسمه مُربَّع أو مُستطيل، يُوجَد لون يتحرَّك، وحيث انتهى في النهاية برز لدينا هذا المفهوم الاعتباري المُسمى بالمُربَّع، لكن اللون هو الموجود حقيقةً طبعاً وهو الذي يُحدِّد هذا، ولو تحرَّك بطريقة ثانية حول مركز وعلى مُحيط لصار دائرة، أليس كذلك؟ وهكذا إلى آخره، إذن الأصالة للوجود وليس للماهية، فالماهية اعتبارية، هذا مثال كيف يُناقِش هؤلاء الفلاسفة هذه المسائل الأنطولوجية، ندخل اليوم – إن شاء الله – في أقل من نصف الساعة – فقط لكي ندخل في موضوعنا – في نظرية المعرفة.

ربما سمعتم أكثر من مرة – حتى في هذه الحلقات – باسم الفيلسوف الإنجليزي الكبير برتراند راسل Bertrand Russell، هذا الرجل كان فيلسوفاً ومُثقَّفاً موسوعياً وعالماً رياضياً ومُفكِّراً تربوياً واجتماعياً وناشطاً سياسياً، فهو أمة في رجل، عجيب هذا الرجل وهو حقيقةً من أذكياء البشر، أنا شخصياً أُحِب أن أقرأ له، طيلة حياتي أقرأ لهذا الرجل، فهو رجل مُمتِع وعنده أسلوب ساخر خاصة في كتاباته المُتأخِّرة وهو عقل كبير بلا شك، لكن للأسف عاش ومات مُلحِداً، وأنا اكتشفت أن هذا الرجل كانت عنده إرادة الإلحاد، كان يُريد أن يكون مُلحِداً، اعترف ببراهين علماء الكلام، فاليهود والنصارى عندهم نفس البراهين، وخاصة برهان النظم Design Argument، قال برهان النظم أقوى البراهين على الإطلاق، المُهِم لا نُريد أن نُطيل الحديث هنا لكنه نقده بشكل سخيف ليس فيه أي صدقية في النقد، قال التطور لداروين Darwin ينقد هذا البرهان، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، ينقد برهاناً عقلياً بفرضية علمية حتى غير ثابتة، ما هذه السخافة؟ هذا ليس تفكيراً علمياً، فهذا الرجل عنده إرادة أن يبقى مُلحِداً، للأسف هذا هو وإلا اهتدى، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ ۩، في عيد ميلاده تقريباً التسعين أقاموا له حفلاً وجاءت سيدة كبيرة في السن وكانت امرأة عامية وقالت له يا سيد راسل Russell أنت الآن في التسعين وعلى شفير القبر فعليك أن تُراجِع نفسك، ألا تخاف؟ قال لها في الحقيقة أنا غير خائف، قالت له لماذا؟ علماً بأن هذا كان أمام الناس، وكان ذكياً وعنده سرعة بديهة، قال لها لا أخاف، حتى لو افترضنا أنه موجود – عن الله سبحانه وتعالى – أنا سوف أُجادِله كما يُجادِلني، حين يقول لي لماذا لم تُؤمِن بي؟ سوف أقول له لماذا لم تترك لي من الأدلة ما يُقنِعني ويُقنِع أمثالي؟ أنا لم أقتنع، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، قال أنا عندي حُجتي، أنا أظن أنه كان كاذباً، بكل بساطة أظن أنه كان كاذباً، لأنه حين يعترف بأن برهان النظم أقوى البراهين على الإطلاق في الدلالة على وجود الله لولا أن نظرية داروين Darwin في التطور العضوي تنقده لآمن به سوف أقول له أنت تكذب علينا وعلى نفسك، كلام داروين Darwin فرضيات وحتى بالمنطق العلمي يُمكِن ألا تعتبر نظريته نظرية علمية، عند كارل بوبر Karl Popper هذه ليست نظرية علمية، فرضية التطور بحسب كارل بوبر Karl Popper لأنها غير قابلة للدحض ليست نظرية علمية، وكل شيئ غير قابل للدحض لا يُعتبَر علمياً عند كارل بوبر Karl Popper على الأقل، أليس كذلك؟ وهو يعرف بوبر Popper ويعرف فلسفته، هذا الرجل ماذا قال؟ قال أنا همي الأكبر في الفلسفة كان أن أُجيب عن أسئلة مُحدَّدة، هل يُمكِن لنا أن نعرف إمكانية المعرفة؟ علماً بأن هذه الأسئلة هي الإبستمولوجيا Epistemology أو نظرية المعرفة، فهو قال أنا بصراحة جوهر ومحور فلسفتي نظرية المعرفة، قال هذا كان همي وقرأت علوماً بما فيها الفيزياء والفسيولوجيا Physiology والفلك لكي أُجيب عن هذه الأسئلة، هذا الرجل قرأ الكثير جداً، هل يُمكِن أن نعرف؟ وما هو القدر الذي يُمكِن أن نذهب إليه في معرفتنا؟ أي ما هي حدود المعرفة؟ هل يُمكِن أن نعرف بلا حدود؟ أنتم تعرفون موقف الاعتقاديين الدوجمائيين، قالوا الإنسان عنده لياقة وقدرة أن يعرف بلا حدود، يعتبرون أنه لا تُوجَد أي حدود للعقل، أنت تقدر على أن تعرف أي شيئ حتى ولو في يوم من الأيام، وبعد ذلك ما طبيعة هذه المعرفة؟ هل هي مثالية؟ هل هي واقعية؟ وبعد ذلك ما هي وسائلنا التي ينبغي علينا اصطناعها في تحصيل هذه المعرفة؟ هل نكتفي بالحس أو نتزوَّد بالحدس مع الحس أو نُهرَع في النهاية إلى العقل على طريقة الفلاسفة العقليين؟ وهذه الأسئلة الثلاثة هي التي تُشكِّل جوهر وإطار وصُلب نظرية المعرفة، هذه هي الإبستمولوجيا Epistemology، هي تُجاوِب عن هذه الأسئلة، فإذا أجبنا عنها أو رأينا كيف يُجيب عنها الفلاسفة سوف نكون أخذنا – إن شاء الله – فكرة عامة مقبولة عن نظرية المعرفة.

نأخذ أول شيئ وهو إمكان المعرفة، هل خُلِقنا أو هل نحن مخلوقون لكي نعرف؟ بالعكس هذه كلها قضية سفسطة كلامية ونحن لا نعرف ولن نعرف وهذا كله غير موجود، فهذا مُمكِن ويُوجَد مَن قالوا بهذا طبعاً، السفسطائيون الحكماء أنكروا الحقائق، قالوا هذا لا يُمكِن، هذا كله كلام فارغ ولن نعرف، لا تُوجَد إمكانية للمعرفة، فهم أنكروا إذن، وهذا يعني أنهم شكّاك مُطلَقون لأنهم أنكروا هذا، ومنهم أيضاً الشكّاك أصحاب مذهب الشك أو الشكية، وسوف نتكلَّم بعد قليل بالتفصيل نوعاً ما عن الشكّاك وأقسامهم والشك المُطلَق والشك الابستمولوجي والشك المنهجي والشك المذهبي وسوف نرى أنواعهم وتاريخهم وأشهر الشكّاك في العالم مثل بيرون Pyrrhon وتلميذه تيمون Timon ومونتين Montaigne وإلى آخره، فضلاً عن شك ديكارت Descartes وأبي حامد الغزالي، كل هذه القصة لابد منها، فالشكّاك أيضاً من المُنكِرين لإمكانية قيام معرفة، قالوا هذا ليس شرطاً ولن نعرف، والأحسن لك ألا تشتغل بهذه القضية كلها، عكس الشكّاك السفسطائيين الدوجماطيقيون أو الدجمائيون، قالوا نحن نعرف ونقدر على أن نعرف الحقائق في ذاتها والأشياء في جواهرها ولا تُوجَد حدود للمعرفة البشرية، وهذا عجيب، أي أنها مفتوحة، قالوا أنها مفتوحة بالكامل، جاء الفيلسوف التجريبي الإنجليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon وقال – على ما أذكر لكم – مثل الفلاسفة التأمليين – وهم الفلاسفة العقليون الذين يظنون أنه يُمكِنهم فهم الكون والوجود كله من خلال الذهن كما قلنا لكم – كمثل العنكبوت، تروعنا وتُدهِشنا بإحكام الصنعة، فهي تصنع لك بناءً عجيباً وعندها طريقة خاصة في النسج، لكن هذا البناء كله بناء مُتهافِت وضعيف وأضعف البيوت، وقال هذا كله من بطنها، فهو قال هذا هو الفيلسوف العقلي، من رأسه يأتي بأشياء وأبنية، وخاصة الفلسفة القديمة النسقية مثل أفلاطون Plato، ثم يأتي بالمُثل ومُثل هذه الصورة وما إلى ذلك، وهذا كله كلام من رأسه، قال مثل العنكبوت، تبنى بناءً وتراه جميلاً، مثل بناء أفلاطون Plato جميل ومُتقَن وجيد لكنه بالكامل بناء مُتهافِت وضعيف، وهو ذاتي لا يستمد من الخارج ولا نستعين به وليس له أي علاقة بي، وهذا تشبيه ذكي، وقال بعد ذلك يُوجَد منهم أناس مثلهم كمثل النملة، التي تظل تجمع الأكل باستمرار لكي تأكل الرزق بعد ذلك، قال هذا الفيلسوف التجريبي الذي يظل يجمع باستمرار، فهو ليس عنده استعداد خاص أو استناد أيضاً على مباديء مُعيَّنة ومن ثم سوف يظل يجمع باستمرار ولن يفعل شيئاً، قال هذا مثل النملة، ثم قال بيكون Bacon أحسنهم الذي مثله مثل النحلة، النحلة تعمل كالنملة – فهي تجمع باستمرار – ولكن بخاصة غريبة فيها تُحيل هذه الأشياء التي تستمدها من رحيق الأوراق والأزهار إلى مادة مُختلِفة تماماً، إلى عسل وإلى شمع، قال هذا الكامل، هذا الفيلسوف الكامل، وهو سوف يكون فيلسوفاً تجريبياً وفي نفس الوقت يعتمد على مباديء عقلية وقدرات في الإنسان، وهذا كان أولاً، ثانياً الذي طبَّق هذه الخُطة في نظر بعض الناس كانط Kant، كانط Kant فعلاً اعتبر العقل لكنه وضع له حدوداً، قال تُوجَد حدود مُعيَّنة ولا نستطيع أن نتعداها، واعتبر التجربة، فكانط Kant جمع الاثنين في سمطٍ واحدٍ، لم يتخل عن العقل لكن وفق فلسفته التي سنعرض لها غداً، ولم يتخل أيضاً عن التجربة ودور التجربة، فكانط Kant أخذ بالاثنين، فهذا مثله مثل النحلة في تمثيل فرانسيس بيكون Francis Bacon.

نأتي الآن إلى الشك، طبعاً هناك إذا ذُكِر الشك شيئ قريب من الشك لكن ليس به، فهو يختلف عنه، وهو الإنكار Disbelief، الإنكار – Disbelief – ليس هو الشك، هناك أناس يقولون هذا كله شيئ واحد، وهذا غير صحيح فهو يختلف، الإنكار ومن ضمنه حتى الإلحاد الديني – Atheism – فهو داخل حتى في الإنكار هو موقف، ودائماً له صورة إيجابية أو مظهر إيجابي وصورة سلبية، لماذا؟ حيث يُنكِر شيئاً من معقائد الناس وموروثاتهم ومُعتاداتهم سواء الأخلاقية أو مُعتقَداتهم الدينية ويتبنى موقفاً مُعاكِساً، ولذلك هو موقف نفسي كما يقول علماء النفس التربوي، قالوا دائماً كل إنكار – Disbelief – هو موقف نفسي، فهو ليس موقفاً عقلياً فقط وإنما هو موقف نفسي أيضاً، يُعارِض شيئاً ويتبنى شيئاً بإزائه، فهو هكذا طبعاً، في حين أن الشاك – كما قلنا – يُعلِّق الحكم ويقول أنا لا أعرف، الشاك الحقيقي هكذا، مثل بيرون Pyrrhon الذي قال أنا لا أعرف، وقال أنا لا أعرف حتى أنني لا أعرف، لا أدري ولا أدري أنني لا أدري، مثل إيليا أبو ماضي، قال لا أعرف ولا أعرف حتى أنني لا أعرف، فهذا هو الشك، أليس كذلك؟ هذا جوهر الشك البيروني في العهد الهلنستي في القرن الثالث قبل الميلاد، هذا شك بيرون Pyrrhon وتيمون Timon وبعد ذلك ذهب إلى الإسكندرية، لكن الإنكار – Disbelief – بما فيه الإنكار الديني أو الإلحاد هو موقف مُزدوَج، سلبي وإيجابي، يُنكِر شيئاً ويتبني شيئاً آخر، مثلاً نأخذ أي قضية علمية، مثل كُرية الأرض، هل الأرض كُرة أو ليست كُرة مثلاً؟ سوف نرى مواقف، لو جاء واحد وقال أنا لا أعرف هل هي كُرة أو ليست كُرة سوف يُسمى بالشاك، فهذا شاك، لكن قد يقول أحدهم الأرض ليست كُرية يا أخي، هذا مُستحيل لأن الأرض مُنبسِطة ومُمهَّدة وتنتهي عند أطراف، فهذا إذن مُنكِر، أليس كذلك؟ أنكر شيئاً وتبنى شيئاً بالمُقابِل، هذا لا يُقال أنه شاك، ولذلك هناك عبارة أعجبتني جداً أذكرها لويليام جيمس William James – الفيلسوف البراجماتي – وهي مُمتازة جداً، قال الذي يُقابِل الاعتقاد – الدوجما Dogma – ليس الإنكار، الذي يُقابِل الاعتقاد البحث والشك، يُقال لك هذا دوجمائي أو دوجماطيقي مثلاً، عنده آراء وعقائد ولا يقبل فيها النقاش وما إلى ذلك، كيف تنظر إلى هذا الموضوع؟ قال أنا أنُكِر، أنا أكفر بكل ما يُؤمِن به، يا رجل قد يكون هذا الرجل على حق، أليس كذلك؟ علماً بأن بعض الناس على هذا النحو، قد يأخذ أحدهم – مثلاً – موقفاً من المُسلِمين أو الإسلاميين فيبدأ يُنكِر كل شيئ، في النهاية ينتهي إلى إنكار الشريعة وإنكار حتى وجود الله، أستغفر الله العظيم، قد يكون من أبناء المُسلِمين لكنه يفعل هذا ويقول أنه لا يُعجِبه المشائخ وعقليتهم الجامدة والتقليدية وأنهم لا يفهمون ولا يُناقِشون، ولذا هذا كله كلام فارغ ودينهم خاطيء، يا أخي بالعكس، يُمكِن أن يكون دينهم صحيحاً يا أخي، وهو صحيح بلا شك، فويليام جيمس William James نبَّهنا وقال لا، نحن نفترض أن هناك مشائخ ودجمائيين، هذا عادي فهناك فلاسفة دوجمائيون حتى كذلك، هؤلاء في كل العلوم والفنون، فالأمر لا يقتصر على رجال الدين فقط، هذا موجود في كل مكان، فويليام جيمس William James قال انتبهوا إلى أن الذي يُقابِل الدوجما Dogma ليس الإنكار – وهذا صحيح – بل البحث والشك، الشك هنا ماذا يُسمونه؟ الشك المنهجي، أفترض أن هؤلاء قد يكونون على صواب وقد يكونون على خطأ، ثم أبدأ أبحث وأختبر دينهم ومُعتقَدهم ثم أنظر بعد ذلك فلعلي أكون منهم لكن ليس عن دوجما Dogma وإنما عن بحث وعن عقل، فأهلاً وسهلاً بهذا، هذا كلام جميل، الذي يُقابِل الاعتقاد ليس الإنكار، كأن تقول أنت مُؤمِن وأنا كافر أو أنت تُؤمِن بكذا وأنا كافر به، قال هذا غير صحيح، هذا الموقف غير فلسفي وغير علمي، الذي يُقابِل الاعتقاد هو البحث والشك.

إذن فهمنا ما الفرق بين الشك وبين الإنكار بأقسامه المُختلِفة، كما قلنا أول نشأة للشك كمذهب وكاسم كانت في العصر الهلنستي، وقلنا أنه امتد من وفاة الإسكندر Alexander، وذلك في ثلاثمائة وثلاث وعشرين قبل الميلاد إلى عشرين قبل الميلاد، أي ثلاثمائة سنة – ثلاثة قرون – تقريباً، هذا اسمه العهد الهلنستي، وقلنا ما هي مواصفاته وتحدَّثنا عن التقاء الروح الصوفية الشرقية بالعقلية الإغريقية الفلسفية العقلانية، فهذا التقى بذاك وخرج عندنا ما خرج وزوت – كما قلنا – الفلسفة وجف عودها وذهب رواؤها وأصبح الاهتمام بالإنسان وبالأخلاق وبالسعادة والفضيلة، وضعف الاهتمام جداً واختفى بقضايا الوجود والميتافيزيقا، هذا ما حدث، في العصر الهلنستي اجتاحت الناس موجة من الشك وتصدَّر لرئاستها وتقدّمها رجل شكّاك، هذا لا نُسميه بالفيلسوف لأنه ضد إمكان المعرفة، فإذن هو ليس فيلسوفاً، هذا الرجل شكّاك وهو شيخ الشكّاك في عصره، اسمه بيرون Pyrrhon، حوالي مائتين وسبعين وقيل مائتين وخمس وسبعين قبل الميلاد، فهو فعلاً في العصر الهلنستي، وكان له تلميذ – أنبغ تلاميذه – اسمه تيمون Timon، تيمون Timon تلميذ بيرون Pyrrhon، فهذا هو الشكّام الثاني، تُوفيَ تيمون Timon وبوفاة تيمون Timon انتهى الشك، هذه الموجة انتهت لتُبعَث بعد ذلك – بعد قرن كامل – في الإسكندرية، حدثت نهضة – كما رأينا – في مصر، فهي بُعِثَت في مصر وبقيت بعد ذلك إلى القرن الثالث الميلادي، فيُصبِح عمر الشك كله تقريباً موتاً وبعثاً وإعادة ازدهار في زُهاء ستمائة سنة، هذا اسمه الشك القديم، وهذا من المنظور التاريخي، بعد ذلك في العصر الحديث ازدهر مرةً أُخرى على يد مونتين Montaigne، وهو كان مُعاصِراً لإتين دي لابويسيه Étienne de La Boétie صاحب العبودية المُختارة، فهو كان صديقه، سُئل لابويسيه La Boétie لماذا أنت تُحِب مونتين Montaigne هذا الحُب كله؟ قال لأنه هو هو، قال هو يختلف عني، انظروا إلى هذه الناس الواعية، وفعلاً أنا أعتقد أن العقل الحُر والعقل غير العبد أو الذي لا يُحِب العبودية لا لنفسه ولا للآخرين هو الذي يميل إلى مُجانَسة وإلى مُقارَبة المُختلِفين، الذي يُحِب التطابق المُستمِر شخص جبان، وصدِّقوني هذه عقلية جبانة أيضاً، فهو لا يُحِب أن يجلس مع المُختلِف معه، يقول – مثلاً – أنا علماني ولا أجلس مع المشائخ لأنهم سوف يبهدلوني ويُكفِّروني، لكن الموضوع ليس له علاقة بالتكفير فناقشهم، وكذلك قد يقول شيخ أنا لا أجلس مع العلمانيين الحقراء، فهو يخاف من البهدلة أيضاً، لا يا أخي، أجمل شيئ أن تذهب مع المُختلِفين، أليس كذلك؟ وانظر ماذا عندهم، سبحان مَن خلق الرجل والمرأة، لأنهما فعلاً مُختلِفان في أشياء كثيرة فيحدث هذا التجانس، هذا بسبب الاختلاف، لكن لو حدث التطابق لكان قبيحاً جداً، فانظروا إلى هذا الرجل الذكي، سُئل لماذا أنت تُحِب مونتين Montaigne هذا الحُب كله؟ قال لأنه هو هو، قال هو يختلف عني، هذه الشخصية تماماً تختلف عني، ولذلك أنا أُحِبه، وأجد عنده الجديد، أليس كذلك؟ يا ليت نفهم هذا، نحن نُحِب المُطابَقة دائماً، لكن المُطابَقة لا تُولِّد شيئاً جديداً، أليس كذلك؟ المُطابَقة لا تُولِّد شيئاً جديداً، التخصيب لابد أن يكون بين أشياء مُتقابِلة، أي أضداد.

على كل حال مونتين Montaigne كان شيخ الشكّاك في عصره، كان شاكاً كبيراً، بدأ المسكين شاكاً ومات شاكاً، لم ينته إلى يقين، جاء بعده بحوالي ستين سنة رينيه ديكارت René Descartes، رينيه ديكارت René Descartes بدأ شاكاً لكن شكه كان شكاً منهجياً، وانتهى في مقال في المنهج إلى اليقين، وكتب أحد الأدباء عبارة جميلة جداً، يُقال إن رينيه ديكارت René Descartes بكتابه ذائع الصيت مقال في المنهج قابل قصة انتصار بقصة هزيمة، هزيمة مَن؟ هزيمة المسكين مونتين Montaigne الذي وصل إلى العدم في النهاية، شك ولم يستوثق من العقائد الدينية، قال لا إله ولاآخرة ومات مُحطَّماً طبعاً، إياكم إخواني وأخواتي أن تظنوا أن هؤلاء الذين يفتقدون الإيمان يعيشون حياة طبيعية أوسعيدة أو عادية، لا والله، لا يحدث هذا أبداً، ذات مرة شاهدت فيلماً وثائقياً وهو موجود على اليوتيوب YouTube مع فيلسوف بريطاني مُعاصِر كان في الستين من عمره وقد أبكاني، فجأة بكيت، أجروا معه لقاءً وهو مُلحِد طبعاً – كانت السلسلة عن الإلحاد والملاحدة – وقال له الذي يُقابِله طبعاً أنت الآن لك هذه الفترة الطويلة في الإلحاد وكذا وأنت مُكتفٍ ومُرتاح، فسكت ونكس برأسه وقال له أبداً، أنا صُدِمت من الجواب، قال له كيف؟ هذا المُذيع لم يُعجِبه هذا لأنه يُشجِّع الإلحاد، قال له أنا سأقول لك الحق والصدق، قال له من يوم فقدت إيماني لم أستقر ولم أجد نفسي بعد، هذا الذي أبكاني، وقلت هذا الرجل عنده الحق، لا تزال بقية إنسانية فيه، لا يُمكِن يا إخواني هذا، حتى جان بول سارتر Jean-Paul Sartre عاش مُلحِداً ومات مُؤمِناً، لم يمت مُلحِداً، طبعاً معروف عن سارتر Sartre وثابت عنه أنه حين كان في الاحتضار – في السياقة كما يُقال – قال ائتوني بالقسيس، فأتوا به بالقسيس لكي يُعمِّده، وفعلاً مات مُعمَّداً صاحب الوجود والعدم، قضى حياته كلها في الإلحاد، وسبحان الله في آخر لحظة قال ائتوني بالقسيس، وطبعاً الذي يقرأ آثار سارتر Sartre بدقة سوف يجد له عبارة تشي ربما بهذه النهاية، في النهاية سوف يعود هذا المسكين إلى الإيمان ركضاً ركضاً في آخر خمس دقائق، لم يقدر على الاستمرار، فهو عنده عبارة جميلة جداً، ماذا قال؟ قال يبدو أن هناك ثقباً في دماغ كل واحد منا – يُوجَد خرم – وهذا الثقب لا يسده إلا الله، علماً بأنه كان ذكياً جداً حين قال هذه العبارة، لكن اكتشفت قبل فترة بسيطة أن هذه العبارة قالها مونتسكيو Montesquieu صاحب روح القوانين أو روح الشرائع، فأخذها سارتر Sartre منه، ولماذا كان ذكياً فعلاً حين أخذها؟ هذه العبارة الآن لها دلالة علمية والله، ويُسمونها في الـ Frontal lobe ببُقعة الله، قالوا هذه بُقعة – Spot – الله، يُوجَد في الدماغ عندنا مراكز تتحرَّك لكي تجعلنا نُؤمِن رغماً عنا، هذا الشيئ موجود، وهذا والحمد لله من فضل الله تبارك وتعالى، وحين تُستثار هذه المراكز يجد الإنسان فعلاً دافعية كُبرى للإيمان والاعتقاد بالغيبيات وبالله وإلى آخره، يُوجَد شخص خبيث فظيع من نوعه والعياذ بالله، وأنا فهمت منه عبر تجربة أُجريَت عليه في كندا آيات قرآنية لأول مرة بهذه الدقة والرهف، ما هي؟ هو مصداق للآية، وهو دوكينز Dawkins – ريتشارد دوكينز Richard Dawkins – المُهتَم بالتطور وهو صانع الساعات الأعمى، وهو بيولوجي مُلحِد، فهذا الرجل أجروا عليه هذه التجربة وأتوا بالجهاز الذي يُثير هذا الجُزء من الدماغ ولم يُستثَر عنده الشيئ، من المُفترَض أن يُستثار رغماً عنه لكن لم يحدث أي شيئ، قال لهم لم أشعر بشيئ، قالوا هذا غريب، أول مرة يمر علينا شخص على هذا النحو، هناك ملاحدة قد يُفكِّرون إلا هذا، فقلت هؤلاء لا يفهمون معنى قول الله خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ۩، يُوجَد شيئ اسمه الختم، إذا ختم الله على قلب أحد أو فؤاد أحد انتهى الأمر، الختم ما هو باللغة العربية؟ أن يُختَم شيئ يعني أن يُستوثَق منه بحيث لا يخرج منه داخلٌ فيه ولا يدخل إليه خارجٌ عنه، مثل زجاجة المياه الغازية التي فيها ختم، الصودا التي فيها لا تخرج والذي في خارج لا يدخل إليها إلا حين تفتحها، والفتح بيد ربك لا إله إلا هو، المفتاح بيد الفتّاح، دوكينز Dawkins مختوم على قلبه، هم حاولوا أن يُحرِّكوا هذا المكان في الدماغ ولم يُحرَّك عنده أي شيئ، لأنه مختوم لن يدخل شيئ، قال أنا لم أشعر بأي شيئ، وطبعاً جاء ملاحدة – نُكمِل بهذه العبارة اللطيفة – وفرحوا، قالوا نحن قلنا لكم الإيمان كله قضية فارغة وقضية عندها أساس عُضوي، لكن هذا الدليل في صالحنا، لكنهم قالوا الإيمان عنده أساس عضوي وهذا الجُزء أو الفص – Lobe – بالذات يتحرَّك عند الناس المصروعين، الذين عندهم صرع – Epilepsy – ينشط عندهم هذا أكثر وتجدون عندهم تهويمات إيمانية وما إلى ذلك، هذا يعني أن هذه الحكاية كلها نوع من الجنون ولا يُوجَد إيمان وما إلى ذلك، فجاء رجل عالم وهو من أكبر العلماء في الدماغ والأعصاب اسمه راماشاندران Ramachandran في أمريكا وهو بروفيسور Professor كبير أصله هندي – رجل نابغة وعنده إبداعات في هذا العلم – وقال لهم لا، هذه التفسيرات مُبتسَرة وليست صادقة، لماذا لا تقولون أن وجود هذه الأشياء – وهو رجل علمي أصلاً ليس له علاقة بالأديان لكنه يُريد أن يُفكِّر تفكيراً علمياً – وكونها مزروعة في أدمغتنا يُشبِه أن تكون كالهوائي – Antenna – الموضوع فوق السقف لكي يستقبل إشارات خارجية؟ الرب فعل هذا لكي يُقيم الحُجة عليك يا أخي، أليس كذلك؟ أنت تستقبل أي حاجة بأشياء مُعَدة باستقبالها، أنت تستقبل الصور والمرائي بالعين، والمسموعات بكذا والمذوقات بخلايا كذا، وتستقبل أيضاً دفق الإيمان ووحي الإيمان وإلهام الإيمان والتحديث – وإن لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ ألا فتعرَّضوا لها – وإلى آخره بهذا، قال لك وجِّه القمر الصناعي – Satellite – الخاص بك إلى هذا، وجِّه الهوائي – Antenna – الخاص بك إلى هذا، وجِّه هذا القرن بالصلاة والذكر، فانظر إلى هذا الحديث، قال النبي إن لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ ألا فتعرَّضوا لها وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويُؤمِن روعاتكم، اللهم آمين، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا واكفِنا ما أهمنا من أمر دُنيانا وأمر أُخرانا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وإلى أن نلقاكم غداً فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وشكر الله لكم على حُسن استماعكم.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: