فربما سار إلى ما يُعارِضه أو إلى ما ينقده من أساسه، فثبت أيضاً ارتفاع الثقة بالعقل، وإذ قد ارتفعت الثقة بالحس وبالعقل معاً إذن لا ثقة بأي مصدر للمعرفة، إذن لا إمكان لقيام المعرفة، هكذا يُحاج السفسطائيون أدعياء الحكمة والعلم.

يُمكِن الجواب – كما قلت – بالطريقة الحلية الآن بالقول ما الذي دل على خطأ الحواس؟ لو كانت الحواس هي المرجع المُطلَق والنهائي لما استطعنا أن نعرف خطأها من صوابها، الذي دل هو العقل، إذن العقل هنا يُتقدَّم خُطوة على الحواس، وهذا صحيح، والذي صحَّح أخطاء الحواس بمنهجه العقل أيضاً وأرشد إلى ذلك، فأما وقوع الخطأ في أحكام العقل فهذا الخطأ لا يتطرَّق إلى المعلومات البدهية الضرورية، إنما يتطرَّق إلى النظري، النظري يُمكِن أن يقع فيه الخطأ، أما البدهي الأولي الضروري لا يُمكِن أن يقع فيه الخطأ، ولنأت بنمثيل واحد حتى تضح هذه المسألة.

العلم عموماً يُقسَّم إلى قسمين، علم حصولي وعلم حضوري، ما هو العلم الحضوري؟ وهو أقوى النوعين بلا شك، العلم الحضوري عبارة عن حضور المعلوم برأسه – أي بذاته وبنفسه – لدى العالم من غير توسيط طرف ثالث أو صورة، كيف؟ كعلم النفس بنفسها، قال الله يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ۩، القرآن يقول هذا، كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ۩، النفس أيضاً تعلم نفسها، العقل يعقل العقل نفسه فعلاً، علماً بأن جوهر النشاط الفلسفي هو تحليل مفهومي – Conceptual analysis – كما يقول أقطاب المدرسة الإنجليزية، ما معنى تحليل مفهومي؟ أن العقل يُحاوِل أن يعقل نفسه، أن الفكر يُحاوِل أن يفتكر أو يتفكَّر في ذاته، النفس حين تُحاوِل أن تعقل والعقل حين يُحاوِل أن يعقل ذاته فهذا بماذا يكون أو وماذا يُشكِّل؟ يُشكِّل علماً حضورياً، فالعالم هو المعلوم، مَن العالم؟ النفس، ومَن المعلوم؟ النفس، وهنا قد يقول لي أحدكم لم أستوعب هذا، كيف هذا؟ كيف تكون النفس عالمة وتكون معلومة وهي شيئٌ واحد؟ سهلة، في المنطق يُقال أنهما شيئٌ واحدٌ بالحقيقة وبالذات وشيئان مُختلِفان باللحاظ والاعتبار، طبعاً النفس هي النفس، أي شيئ واحد، لأن الموجود في حاق – أي في ساحة وفي ميدان – الخارج شيئٌ واحد هو النفس، في الواقع العياني هو النفس، لكن كيف أصبحت عالمة؟ باعتبار، كيف أصبحت معلومة؟ باعتبار آخر، هذا مُمكِن في أشياء كثيرة، هذه مسألة اللحاظ والاعتبار، وإلا بالذات شيئ واحد، فالعالم هو المعلوم من غير توسيط صورة، هذه أقوى أنواع العلوم، الآن – مثلاً – حالة من حالات الوجدانيات، حين يشعر الإنسان بالجوع أو بالخوف أو بالقلق أو بالضيق فهذا الشعور لم يتحصَّل عليه الإنسان عن طريق حصولية وإنما عن طريق حضورية، هذا الشيئ حاضر في النفس ولدى النفس، النفس تجد من نفسها أنها قلقة أو أنها خائفة أو أنها حرجة أو مُتضايقة أو مُبتئسة وإلى آخره، أو يجد نفسه الإنسان جائعاً أو عطشاً، هذا لا يُمكِن أن يُناقَش فيه، حتى في علم النفس وفي علم التربية هذه الحالات ينبغي على المُربين – على الآباء والأمهات والمُدرِّسين والمُدرِّسات وإلى آخره – أن يتقبَّلوها كما هي، لا تُناقِش الشخص وتقول له لا، أنا أظن أنك غير جائع أو أنا أظن أنك غير خائف، غير صحيح أن تخاف، لكن يا أخي هو خائف، انتهى الأمر فعليك أن تتقبَّل هذا، بعد ذلك تبدأ بعد مرحلة التقبل في مُساعَدة هذه الإنسان، لكن لا يصح أبداً تربوياً أن تُناقِشه، لأن هذا ضروري لا يُمكِن تشكيكه فيه، الآن يأتي سؤال، هل يُمكِن أن يتطرَّق الخطأ إلى العلوم الحضورية؟ نعم، لكن لا إلى العلم الحضوري بذاته إنما لشيئ آخر يعتلق به وهو التفسير أو التعليل، بمعنى أن الإنسان قد يجد نفسه بالوجدان الحضوري مُتضايقاً أو خائفاً، بعد ذلك ينزع إلى تفسير هذه الحالة بأنها بسبب كذا وكذا ثم يضح الخطأ في هذا التفسير، لم يكن سبب خوفه كذا وكذا، بل كان كذا وكذا، هذا لا علاقة له بالشيئ المُدرَك حضورياً، إنما بموضوع آخر أخطأت فيه النفس وهو التعليل، أما العلم الحضوري في ذاته لا يُمكِن أن يتطرَّق إليه الخطأ، وأُريد الآن مثالاً أبسط من هذا، هذا يحدث معنا وكان يحدث معنا بالذات ونحن صغار، يشعر أحياناً الطفل أنه جائع، لكن لا يشتهي طعاماً مُعيَّناً، فتبدأ أمه تسأله ماذا تُريد؟ يقول أنا جائع، لا يعرف ماذا يُريد، ثم نكتشف بعد ذلك أو ربما حتى هو يشعر بهذا أنه لم يكن جائعاً وإنما كان قلقاً لأن لديه في صباح غد امتحاناً مُهِماً مثلاً، هو قلقه أدركه بلا شك وأثَّر عليه لكنه أخطأ في التسمية فسماه جوعاً، يُمكِن أن يُخطيء في التعليل، أن يكون جائعاً ولكن لا بسبب – مثلاً – الافتقار إلى الطعام وإنما بسبب آخر، فالتعليل أيضاً يقع فيه الخطأ، يقول العلماء كلما كانت النفس غير ناضجة – كنفوس الأطفال الصغار – يقع لها الخطأ في التفسير، كلما اجتهدت النفس ونضجت واشتد عودها تبتعد عن الخطأ في التفسير، وبالذات في حق المُثقَّف والمُتعلِّم والمُتعمِّق في الأشياء والواعي بها، هذا هامش الوقوع في الخطأ يكون لديه أضيق، لكن الإنسان العامي غير المُتعلِّم وغير الحاذق لا يزال يقع في أخطاء، أيضاً من أسباب وقوع النفس في الأخطاء الالتفات، الإنسان إذا طرقه خوف كبير أو فرح كبير فإنه يلتفت عن أشياء مُعيَّنة، ولا يشعر بها مع أنها حاصلة أو حاضرة بسبب الالتفات، أنه التفت عنها إلى غيرها، لكن لو أنه أعطاها وكده وتنبّه إليها لما أخطأ في مُلاحَظتها بسبب الالتفات، وهذا يحصل كثيراً، كحديث سيدنا عثمان – رضيَ الله عنه وأرضاه – حين مر عليه سعد وألقى عليه السلام أكثر من مرة ولم يرد عليه، لأنه كان مُلتفِتاً، مُلتفِتاً إلى حديث سمعه عن رسول الله ذات يوم ولم يُكمِله، فلم يسمع هذا السلام الذي يُطرَح عليه بسبب الالتفات، الإنسان قد يكون مجروحاً بجرحٍ بليغ ثم يطرقه فرح عظيم مثلاً، كرجل يأتيه نبأ عودة ابنه – مثلاً – أو خروجه من السجن بعد سجن دام عشرين سنة ويكون مجروحاً جرحاً بليغاً فيفنى مُباشَرة عن مُلاحَظة ألمه وجرحه ويبدأ يعدو ويخرج من السرير وإلى آخره، هذا يحصل للإنسان.

على كل حال نعود إلى مسألة السفسطائيين، السفسطائيون إذن يُمكِن أن نُجيب عنهم بجوابات نقدية وبجوابات حلية، والمُحصَّل أن العلوم الحضورية لا يُمكِن الخطأ فيها، يبقى بعد ذلك الخطأ نعم مُمكِناً تطرقه إلى العلوم الحصولية وفق مراتبها المُختلِفة، ما هو العلم الحصولي؟ العلم الحصولي من اسمه هو عبارة عن حصول صورة من الشيئ لدى الذات العارفة أو المُدرِكة، مثلاً هذه الزجاجة أنا الآن أراها كما ترونها وأرى لونها وأُقدِّر حجمها وأُدرِك الماء – مثلاً – الذي مُلئت به وإلى آخره، في الحقيقة هذه الزجاجة لم تحصل في ذهني، هي موجودة في الخارج، ودماغي لا يتسع لأن تدخل فيه، وإلا كيف نرى أشياء كبيرة جداً قد تكون أكبر من حجم الإنسان كله، ما الذي يحصل؟ يحصل أن صورةً منها تحضر في الذهن، بدليل أنني حين أُغمِض عيني لا تزال صورتها في ذهني، حين أُغادِر المكان قد أتذكرها بحسب قوة التذكر لدي وأصفها وصفاً دقيقاً، ولو كنت رسّاماً مُتقِناً لرسمتها كما هي وإلى آخره، كيف حصل هذا؟ بحصول صورة منها، تبقى هي في الخارج وتحصل صورة منها في الذهن، يُقال هذا علم حصولي، الآن السؤال: هذه الصورة التي حصلت في الذهن كيف أدركها الذهن؟ أدركها إدراكاً حضورياً، انتبهوا إلى هذا، لذلك لا علم حصولياً يحصل لدى الإنسان إلا بعلم حضوري، العلم الحضوري بعد ذلك يكون للصورة الحاصلة من الشيئ الخارجي في الذهن، هذه الصورة حاصلة في الذهن، أصبحت جُزءاً من الذهن، وهي من عمل الذهن، من غير تمايز أصبحت ضمن مشمولات الذهن، أي جُزء من أجزاء الذهن، هي الآن موجودة حضورياً في الذهن، لكن باعتبار أنها انعكاس أو عكس لشيئ خارجي يُقال أنها صورة حاصلة في الذهن، حاصلة على جهة الحضور، لذلك كل علم حصولي يحتاج إلى علم حضوري ولا عكس، العلم الحضوري ليس يُشرَط فيه حصول علم حصولي، وإنما هو بحد ذاته كافٍ، نعم نحن نُسلِّم أن العلوم الحصولية قد يعرض لها الخطأ – قد يقع فيها خطأ ولا بأس – أما العلوم الحضورية كلا، البدهيات عموماً لا يقع فيها الخطأ إذا رُوعيَت.

نعود إلى قضية السفسطائيين وأول مَن تصدى لهم، ظلوا هكذا تنمو نشطاتهم وتعرم ويعب عبابهم إلى أن قيَّض الله – سبحانه وتعالى – لهم الفيلسوف الكبير والمُجادِل الشديد سقراط Socrates المُتوفى سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين قبل الميلاد، أي في القرن الرابع قبل الميلاد، هم نشطوا في القرن الخامس وأيضاً في عصر سقراط Socrates، وهو عاش في الخامس والرابع طبعاً – قليل جداً – قبل الميلاد، مُعظَم حياته في القرن الخامس قبل الميلاد،هو عاش سبعين سنة، تسع وستون منها عاشها في القرن الخامس قبل الميلاد، وسنة واحدة في القرن الرابع قبل الميلاد، وتُوفيَ في ثلاثمائة وتسع وتسعين قبل الميلاد، على كل حال سقراط Socrates تصدى لهؤلاء، نُعطي لمحة عامة في البداية عن سقراط Socrates، مَن هو سقراط Socrates؟ ما قضيته؟ ما فلسفته؟ هل ترك مُؤلَّفات؟ هل كذا وكذا؟ ما هو اتجاهه العام؟ ماذا أضاف إلى الفلسفة؟ كما قلنا هو له الفضل في إعطاء الفلسفة عنوانها، فقال أنا لست حكيماً كما يدّعي هؤلاء الحكماء، أنا مُحِب للحكمة، أنا مُجرَّد شخص يُحِب الحكمة بكل تواضع، لذلك عُرِف عنه التواضع، بعد ذلك بدأ بعض الناس يُشكِّك في هذا التواضع، قالوا هذا التواضع يُخفي تحته نوعاً من الثقة العارمة بالنفس، وأنا أُسلِّم بهذا في الجُملة، لماذا؟ كاهنة دلفي Delphi حين سُئلت عن أحكم الناس قالت هو هذا الذي قرَّر وقضى بأنه لا يعرف شيئاً، هذا أحكم الناس، سقراط Socrates له عبارة شهيرة جداً يقول فيها أنا لا أعرف شيئاً عدا شيئ واحد، أي باستثناء شيئ واحد، ما هو؟ قال وهو أنني لا أعرف شيئاً، هذا أعرفه وأنا مُوقِن به، لأنه ليس سفسطائياً، لم يقل أنا لا أعرف شيئاً ووقف، لأنه لو قال هذا لكان سفسطائياً، لكنه قال أنا لا أعرف شيئاً باستثناء شيئ واحد، ما هو؟ أنني لا أعرف شيئاً، فقالت هذا أكثر الناس تواضعاً، بعضهم حاول أن يُشكِّك، قالوا بالعكس هذا أكثر الناس عجرفةً، لأنه لكي يتسنى لك أن تقول أنا مُوقِن من شيئٍ واحد وهو أنني لا أعرف شيئاً فإن معنى ذلك أنك جرَّبت أن تعرف كل شيئ وأنك طرحت كل الأسئلة ولم تجد جواباً ولم تنته إلى قرار، إذن يُمكِن أن يكون هذا القول باعتبار ما فيه نوع من الثقة الزائدة بالنفس، أنه قلَّب الأحجار كلها وفتح الأبواب كلها وفتح الصناديق كلها وطرح الأسئلة، تماماً كما قيل مرة في تذييل قصة تُنسَب إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة رضوان الله عليه، قيل أن أبا حنيفة بلغ من علمه أنه أجاب في مجالس مُتتابِعة عن أسئلة رجل واحد طرح عليه في أيام وليالي مُتواليات مائتي ألف مسألة، قيل هذا كلام فارغ، ولا يُمكِن أن تصح قصة كهذه، وهذا صحيح، لماذا؟ ليس لأن أبا حنيفة يعجز عن أن يُجيب عن مائتي ألف سؤال – ربما أكثر من هذا يستطيع – ولكن مَن هو ذاك أو ذلكم العلّامة الكبير الذي لم يُسجِّله التاريخ والذي كان مُقتدِراً أن يطرح مائتي ألف سؤال؟ لأن الذي عنده قدرة أن يطرح مائتي ألف سؤال هو رجل علّامة كبير جداً جداً، لأن السؤال نصف العلم، كوناً تطرح إشكالات وشُبهات وتشغيبات مُعيَّنة معناه أنك باحث كبير جداً جداً وتُدرِك في كل مسألة من الشعوب والذيول والأشياء ما لا يُدرِكه حتى المُختَصون، هذا هو، هذا معنى أن سقراط Socrates قد يكون كما قال بعضهم بالعكس رجلاً واثقاً جداً من نفسه ولا يخلو حتى من نوع من الغطرسة أو العجرفة، لأنه يقول أنا لا أعرف شيئاً وحتماً كان يعرف أشياء كثيرة الرجل.

أفلاطون Plato يُعبِّر عن القيمة الهائلة لهذا الفيلسوف الشهير بقوله الحمد لله أنني وُلِدت يونانياً ولم أُولَد بربرياً، طبعاً هذه هي النزعة العنصرية عند الإغريق، عندهم العالم كله برابرة ويونان، البرابرة لا قيمة لهم، مثل الرومان، العالم كله رومان وجينتايلز Gentiles، مثل اليهود، يهود وجوييم Gueyem، وهكذا، العرب كانوا عرباً وأعاجم، أي عجم، كلهم ليسوا لهم قيمة، هو أعجم كالحيوان، لكن هو أعجم عندك وأنت أعجم عنده، هذه النزعة العنصرية والمركزية عند الأعراق كلها تقريباً، لم يشف منها إلا الإسلام، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩، أوسع الكلمات على الأطلاق كلمة الناس، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩، أي على الإطلاق، على كل حال قال أفلاطون Plato الحمد لله أنني وُلِدت يونانياً ولم أُولَد بربرياً، ووُلِدت رجلاً ولم أُولَد امرأة، هذا تمييز ضد المرأة، لكن هذا أفلاطون Plato، مع أنه كان مُتعاطِفاً مع المرأة وسمح لها بالحكومة كما سيأتي بُعيد قليل – إن شاء الله – في الجمهورية، قال وُولِدت رجلاً ولم أُولَد امرأة، ثم قال وُولِدت حراً ولم أُولَد عبداً، طبعاً في عهد أفلاطون Plato وأرسطو Aristotle كان في أثينا Athens أربعمائة ألف مواطن، مائتان وخمسون ألفاً منهم عبيد، ومائة وخمسون ألفاً أحرار، ومن هؤلاء ربما العُشر الذي له الحق في التسيير وإدارة شأن دولة المدنية هذه، هذا نوع من الحكم الانتخابي الصارم، وأخيراً قال والحمد لله أنني وُلِدت في عصر سقراط Socrates، قال هذه نعمة كُبرى – وأنني تتلمذت له، تتلمذ عليه وهو في الثامنة عشرة من عمره، أي أن أفلاطون Plato كان في الثامنة عشرة من عمره، التحق بسقراط Socrates وجماعته وبدأ يتتلمذ على الفيلسوف الكبير سقراط Socrates.

سقراط Socrates كان رجلاً شائه الخِلقة، وجهه كان قبيحاً دميماً، لم يكن جميلاً، مُفلفَل الشعر كان، وأشبه بالعبيد، شكله أشبه بالعبيد، أي الأقنان أو العبيد الذين يُباعون ويُشتَرون وليس الأحرار، أفطس الأنف، جاحظ العينين، تمثاله النصفي الآن موجود وهو يعكس هذا الشكل أو هذه الشكلة، كان لا يعبأ كثيراً أو غير مُهتَم كثيراً بشأن أسرته، أي أنه كان مُقصِّراً في شأن الزوجة والأولاد، لا يعمل بيديه ولا يكتسب، إذا دعاه تلاميذه إلى طعام أصاب منه وإلا بقيَ طاوياً غير مُهتَم، يلبس من اللباس ما حضر وما تيسَّر على طريقة النُساك والزاهدين، وكان مُتأثِّراً في منهجه الفكري بمهنة أمه، أمه كانت قابلة تُولِّد النساء، فتأثَّر بها كثيراً، كان يعتقد – وهذه الفكرة سنجد صداها أيضاً يتردد عند أفلاطون Plato في نظرية الاستذكار الأفلاطونية – أن الإنسان فينا يُولَد وهو مُزوَّد بالمعلومات وبالمعارف المُختلِفة لكنها في حالة كمون، أي Potential، في حالة كامنة، بعد ذلك عن طريق الحوار والجدال والسؤال وقرع الحُجة بالحُجة وحتى عن طريق التهكم – Irony – يُمكِن أن نستولد من جديد، لأن القابلة لا تخلق الطفل وإنما تستخرجه، هي تستولد هذا الطفل وتُخرِجه، كذلك النقاش الفلسفي أو التربوي أو العلمي يستخرج المعلومات، فالمعلومات لدينا بطريقة مُعيَّنة، قد يقول بعضكم – ومعه الحق أيضاً – هذه النظرية تقريباً تجد دعمها وأُنسها في قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩، وهذا صحيح، قال الله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩، قد يقول لي أحدكم هذا غير صحيح، لأن في آيات أُخرى قال الله وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ۩، كيف هذا؟ قال الله لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ۩، وفي الحديث كل مولود يُولَد على الفطرة، إذن تُوجَد فطرة، إذن تُوجَد أيضاً معارف فطرية يُولَد الإنسان مُزوَّداً به، الآن فك هذا الإشكال البسيط – التعارض بين الآيات – سهل جداً، قال الله وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ۩، أي في الواقع وليس في الكمون، في الواقع فعلاً الطفل لا يعلم شيئاً، لا يعلم حتى اسمه ولا أبيه ولا أمه، لا يعلم شيئاً، لكن لديه في شكل كامن هذه المعلومات، هي موجودة ويُمكِن أن يُقال هذا تفسير آية الفطرة مثلاً.

على كل حال سقراط Socrates كان يعتمد هذه الطريقة، ولذلك كان دائماً يطرح الأسئلة أكثر مما يُعطي الجوابات أو الأجوبة، يطرح أسئلة باستمرار، لم يترك كتباً للأسف الشديد ولكن أكثر أفكاره دوَّنها أفلاطون Plato بطريقة يغلب على الظن أنه كان سيفشل بتدوينها بمثل هذا الجمال والإبداع والشاعرية، دوَّنها تلميذه أفلاطون Plato في كثير من مُحاوَرته، فمُحاوارة فيدون Fedon – فايدو Phædo – هي المُحاوَرة التي أرَّخ فيها بالطريقة الفلسفية الشاعرية الأدبية أفلاطون Plato لموت أستاذه، تحدَّث عن الإيام والساعات الأخيرة من حياته، من أروع مُحاوَرات أفلاطون Plato على الإطلاق، نجد فيها سقراط Socrates، في الجمهورية وهي أعظم كتب أفلاطون طراً – الجمهورية تُرجِمَت أكثر من ترجمة، وطبعاً هي مُترجَمة إلى كل لغات العالم الحقيقة – الشخصية الرئيسة التي تُحاور سقراط Socrates، سقراط Socrates حاضر باستمرار، وهكذا استطعنا أن نتعرَّف على مُجمَل وتفاصيل سقراط Socrates عبر تلميذه النجيب أفلاطون Plato، أما هو لم يترك كتاباً، لم يصلنا أي كتاب لسقراط Socrates.

ما سبب محنته؟ أي ما سبب محنة سقراط Socrates؟ سقراط Socrates كان رجلاً فاضلاً، وهو الذي أعاد للقيم الأخلاقية والمُجتمَعية مكانة المركز، أعادها إلى المركز وبؤرة الاهتمام بعد أن زعزع الثقة بها السفسطائيون وخاصة السفساطئيون العنديون الذين قالوا بنسبية كل شيئ، كل شيئ يُمكِن أن يكون حقيقة ويُمكِن أن يكون باطلاً ويُمكِن أن يكون خيراً وأن يكون شراً ويُمكِن أن يكون جميلاً وأن يكون قبيحاً، كل شيئ كذلك باختلاف المنظور وباختلاف الشخص المُقيِّم، جاء سقراط Socrates وقال لا، هذا غير صحيح، وانتصر لإطلاقية القيم، إطلاقية القيم هي الأخلاقية، وجعلها في مركز الاهتمام، وطبعاً هذا يظهر – كما قلنا – في المُحاوَرات عبر نقاشات كثيرة، مثلاً هناك مُحاوَرة مُمتازة خلَّدها أفلاطون Plato وهي حديث ونقاش عن العدالة، ما هي العدالة؟ يبدأ أحد السفسطائيين يقول العدالة هي حكم القوي، وهذا تعريف نيتشه Nietzsche نفسه أيضاً، نيتشه Nietzsche عرَّف العدالة بأنها حكم القوي، وقال هذا السفسطائي إن درهم قوة خير من كيس من الحقوق، القوة هي التي تفرض أحكامها وتخلق واقعها وشروطها وظروفها، هذه هي القوة، فالعدالة هي حكم القوي، ويبدأ النقاش هكذا وينتهي في النهاية إلى أن العدالة من الصعب – من وجهة سقراط Socrates وتلميذه أفلاطون Plato – أن تُعرَّف بعيداً عن التنظيم المُجتمَعي، مُحاوَرة من ألطف ما يكون، وطبعاً الإنسان حين يقرأ هذه الأشياء يُصيبه الذهول حقيقةً لروعة العقل الإنساني، هل هذا الكلام في القرن الرابع قبل الميلاد والإنسان كان يطرح هذه الطروحات بهذا العمق وبهذا الجمال وبهذه القدرة الجدِلة المُخاصِمة وبكل هذا التشعيب وبكل هذا التعمق؟ نعم، هذا هو الإنسان حقيقةً، لكن يُمكِن للإنسان للأسف أن يُزري بنفسه ويُزري بعقله إذا قرَّر أن كل شيئ واضح وبسيط ومفهوم وقال لا يُوجَد أي داعٍ للتعقيد واختزال كل شيئ في أحكام رياضية، فللأسف ينتهي إلى نوع من الرقاعة الفكرية، ويُمكِن بعد ذلك أن يجد نفسه وعقائده ومواقفه وسلوكاته في مهب ريح شُبهة واحدة تعصف بكل ما هنالك، وهذا حدث للأسف ويحدث لبعض الناس، لذلك – بالعكس – على الإنسان كما قال كانط Kant – الفيلسوف الألماني النقدي الشهير إيمانويل كانط Immanuel Kant – أن يتجرَّأ على استخدام عقله، استخدم عقلك، لابد أن نُعمِل هذا العقل، لابد أن نرى أن كل شيئ في الحقيقة – بالعكس – عكس ما يُعتقَد – ليس واضحاً بدرجة كافية.

أنا لي تعريف شخصي للفيلسوف وللفلسفة، أقول الفيلسوف شخصٌ فشل أن يرى العالم والأشياء والوجود من منظور الاعتياد، لم يستطع أن يتعوَّد على أي شيئ، وطبعاً أنا استفدت هذا التعريف – لكي أكون أميناً – من تعريف أرسطو Aristotle للفلسفة، و في بعض تعريفات أرسطو Aristotle للفلسفة – له أكثر من تعريف للفلسفة – اعتبر أن الفلسفة هي الدهشة، وطبعاً هذا تعريف بالباعث، تعريف بالسبب الأصيل، سبب التفلسف أننا نندهش، ترتسم أمامنا علامات استفهام كبيرة ولا نفهم، لا نجد الجواب حاضراً وناجزاً وجاهزاً، لذا تُوجَد الدهشة، هذه الدهشة التي تُميِّز الطفل الصغير، أجمل ما في الأطفال – الأطفال عموماً هم فلاسفة بالفطرة وبالخِلقة – أنهم كائنات مُتسائلة، دائماً يتساءل الطفل، يقول كيف ولم ومَن ومتى، دائماً يطرح أسئلة حتى يُضجِر مَن حوله، هو فيلسوف بالفطرة.

الناقد الإنجليزي جستسترن في القرن التاسع عشر له عبارة رائعة جداً، يقول إلهي لم هذا العالم المليء بالأطفال العباقرة والكبار الحمقى؟ العالم كله أطفال والأطفال كلهم عباقرة حقيقةً، كل طفل عبقري، عنده بذور عبقرية، وبعد ذلك حين يكبرون – أي الأطفال – يُصبِحون حمقى، بسبب نظام التربية والتعليم والثقافة والتقليد والمُجتمَع والعادات وكذا، فيُصبِح الطفل مُنمَّطاً ويُكرِّر مثل جهاز التسجيل – Recorder – للأسف الشديد، ولذا قال العالم مليء بالأطفال العباقرة وبالكبار الحمقى، هم نفسهم الأطفال هؤلاء، سيُصبِحون حمقى إذا كبروا، إذا كبروا سيُصبِحون حمقى، فالفيلسوف هو إنسان أو كائن فشل أن يرى العالم من منظورالاعتياد، لم يستطع أن يعتاد على أي شيئ، ولا يزال ينظر إلى كل شيئ بدهشة الطفل، ويتساءل قائلاً كيف ولماذا، دائماً يستغرب، هذا هو الفيلسوف.

محنة سقراط Socrates سببها أنه – وهذا شيئ يروق لنا – أولاً لم يعترف بتعدد الآلهة، قال هذه وثنية فارغة، الإله واحد، هذا ما قاله طبعاً، لذلك بعض الإسلاميين عبر العصور اعتبروا أن سقراط Socrates من الأنبياء، بعضهم قال نعم، الشيخ الإمام أحمد فاروق السرهندي قال هذا في المكتوبات، وهو مُجدِّد الألف الثاني على الأقل في الديار الهندية وأنقذ الإسلام من بلاء عظيم وهو هذا الإمبراطور الأكبر الذي أتى بديانة جديدة وأراد القضاء على الإسلام بالكامل في الديار الهندية، لكنه أنقذ الإسلام بهدايته لابن أكبر، وهذا من سجنه، شخص كان من كبار أولياء الله وعالم كبير، وهو رجل روحاني وعارف بالله، له كتاب المكتوبات، ذكر فيه أن الذي يغلب على ظنه أو يترجَّح لديه أن سقراط Socrates كان من النبيين، طبعاً الرجل في هذه البيئة الوثنية – بيئة أثينا Athens – يقول بوحدة الله – تبارك وتعالى – وبالتوحيد ويدفع عنقه وحياته ثمناً لذلك، سبب السخط كان أمرين، الأمر الأول هو قوله بتوحيد الله تبارك وتعالى، أنكر تعدد الآلهة، وكفر بكل هذه الآلهة الزائفة، أعني آلهة الأولمب، والأمر الثاني أنه لم يُقِم اعتباراً لحكومة الغوغاء التي تُسمى الديمقراطية، قال هذه حكومة غوغاء، لأن المسألة فقط بعد الأصوات، مَن يُرشِّح هذا يأخذ أكثر، قال هذا كلام غير صحيح ولا يجوز، هذه حكومة الغوغاء، سقراط Socrates هنا كان عنده نزعة أرستقراطية، لم يكن مُتعاطِفاً، فغضبوا طبعاً، وطبعاً ثورة الأوليغاركية Oligarchy على الديمقراطيين فشلت، مَن يقرأ التاريخ السياسي لأثينا Athens في تلكم الحقبة يجد أن ثورة حكومة الأقلية فشلت على حكومة الأكثرية، فطبعاً دفع سقراط Socrates ثمن ذلك حياته، مُباشَرةً الغضبة كانت بسبب الجماهير، الجماهير هي التي غضبت عليه، لأنه سفَّهها، سفَّه أحلامها وخياراتها، مجلس الحكماء أو القضاة أرادوا أن يعفوا عنه، واتفق أكثرهم على ذلك، أنه لابد من إطلاق سراحه، مَن الذي أحرجهم؟ الجمهور، الغوغاء قالوا لأ، لابد من إعدامه، لابد أن يُعدَم لأنه سفَّه أحلامنا وسبَّ آلهتنا ولم يعترف بها، إذن هذا يُؤلِّب الشباب على المُجتمَع وعلى الناس فلابد من إعدامه، وفعلاً سُجِن، وكما قلت في مُحاوَرة فيدون Fedon – فايدو Phædo – أفلاطون Plato يُؤرِّخ لهذه الأيام الأخيرة بطريقة شاعرية، مع أن أفلاطون Plato ضد الشعر وقال أنا أقترح أن الشاعر في جمهوريتي نُخرِجه إلى طرف المدينة ونضع على رأسه تاجاً من الإكليل – إكليل الغار – ونقول له شكر الله سعيكم لكن اخرج من الدينة، أنت تُفسِد الشباب، لكنه حين كتب مُحاوَراته كان شاعراً، حتى كتب الشاعر بيرسي شيلي Percy Shelley الشهير هذا الرجل استطاع أن يجمع بين ما لا يجتمع في العادة، بين رقة ولطافة ورهافة العبارة وبين المنطق، أي بين الفكر والفلسفة وبين العبارة الجميلة، هذا هو أفلاطون Plato، أفلاطون Plato أجمل فيلسوف كتب للفلسفة، لا يُوجَد فيلسوف عنده قلم أفلاطون Plato، هذا مُستحيل، لديه قلم مُتفرِّد تماماً، فكان شاعراً وهو يُحارِب الشعراء، وكان إلى حدٍ ما كاهناً وهو يُحارِب الكهانة، وسوف نرى هذا في الجمهورية بعد قليل.

على كل حال يعرض لنا أفلاطون Plato في هذه المُحاوَرة – مُحاوَرة فيدون Fedon، فايدو Phædo – كيف أن بعض تلاميذ سقراط Socrates رتَّبوا له مع الحارس – الحارس كان مُتعاطِفاً معه وأُعجِب به جداً لسلوك هذا الرجل الزاهد الكريم – الخروج الآمن، أي الهروب الآمن من السجن لكنه فرض، قال مُستحيل، لن أفعل هذا، لماذا؟ قال لأنني علَّمتكم احترام القوانين، نعم أنا ضد هذه الحكومة وضد طائفة عظيمة من قوانينها لكن ما دامت حكومة وقائمة لابد أن تُحترَم، لو سوَّغت لنفسي أن أخرج عليها وسوَّغ كل أحد لنفسه أن يخرج عليها لأصبح العالم فوضى Chaos، وأنا لا يُمكِن أن أتورَّط في هذا، أنا سأمضي إلى مصيري، لا تحزنوا علىّ، يقول أفلاطون Plato كان من أواخر عباراته لا تحزنوا ولا تذرفوا الدموع إنما تدفنون فقط هذا الإهاب، أي تدفنون هذا الجلد أو هذا القميص لكن أنا باقٍ، وكان أيضاً من ضمن – وهذا يُؤكِّد إيمانه بالله وبالآخرة – ما قال سقراط Socrates – فإن كان كذلك فطيَّب الله ذكره – أنه قال إن كان الموت فناءً فلا داعي للخوف منه، هو فناء وانتهى الأمر، مَن الذي سيخاف بعد ذلك؟ هل الفاني أو المعدوم سيخاف؟ انتهى إذن، إذا كان فناءً حقيقياً مُطلَقاً فإذن لا داعي للخوف منه، وإن كان الموت نُقلةً ورحلةً إلى عالم باقٍ مُزهِر جميل فحيهلاً به، فلماذا نخاف منه؟ في كلتا الحالتين ينبغي ألا نخاف، وطبعاً هنا يُوجَد نقص وقع فيه سقراط Socrates، هو يتحدَّث عن شخص مثله، شخص مُستقيم ويُوشِك أن يكون كامل السيرة ونظيف وطهور السريرة، لكن الشخص الذي عاش حياته كما يُقال بالطول والعرض واحتقب واحتطب في حبل الجرائم ما كان حاطباً بالعكس هناك إمكانية ثالثة أن الموت معبر إلى حياة سوف تكون هي الجحيم بعينه، لكن سقراط Socrates يتحدَّث عن نفسه، وهذا يبدو أنه من حُسن ظنه بالخلائق وبالناس بشكل عام، يرى أن الناس طيّبون على نحوه، وهكذا فعلاً الرجل أبى أن يهرب، ويوم المُحاكَمة قُدِّم له كأس من سم الشوكران فأخذه بكل هدوء، وكان آخر ما أوصى به أن يقضي عنه تلاميذه ديناً لأحد الناس عليه، لأنه كان مديناً، قال أوصى بأن يُقضى عني ديني، وهذا عجيب، هذا أيضاً يشي بأن الرجل يُؤمِن بالحساب وبالمُحاقَقة يوم الجزاء، فغير بعيد أن يكون فعلاً شخصاً مُتألِّهاً، فقُدَّم إليه كأس من سم الشوكران فأخذه بسماحة وعن رضا وبنفس طيبة، ثم تجرَّعه بهدوء، أوصاه الجلّاد أن يمشي خطوات، فإذا ما شعر بالثقل والخدر بأن يتمدَّد، وهكذا فعل وما هي إلا دقائق حتى فارق هذا العالم سقراط Socrates، فسقراط Socrates إذن هو الذي أعطى الفلسفة – كما قلنا – اسمها، هو الذي أعاد المكانة للقيم الأخلاقية بالذات والاهتمام والحظوة، هو الذي أثبت إطلاقية القيم ومهَّد الطريق لتلميذه أفلاطون Plato لكي يُؤكِّد هذا المذهب بعد ذلك للفيلسوف الأكبر أرسطو Aristotle لكي يُدلي بدلوه، هو أستاذ الاثنين، بمعنى أفلاطون Plato تلميذ مُباشِر وأرسطو Aristotle تلميذ أفلاطون Plato، فلولا سقراط Socrates ما كان أرسطو Aristotle أصلاً.

قبل أن نأتي الآن إلى أفلاطون Plato بسرعة أُحِب أن أُعرِّج على شيئ كان فاتني أن أُنبِّه عليه، في الحقيقة في المرحلة التي نشط فيها السفسطائيون وقبلها بقرن أيضاً من الزمان كان هناك نوع لا نقول من الفلسفة لكن أردنا أن نقول من الفلسفة الطبيعية، هي ليست فلسفة بالمعنى الذي اصطُلِح عليه بعد ذلك، لكنها دراسة للعالم الطبيعي، أكثر مُؤرِّخي الفلسفة يُسمون هؤلاء فلاسفة ويُسمونهم الفلاسفة قبل سقراط Socrates، أي Pre-Socratic philosophers، مثل الفيلسوف الملطي الشهير طاليس Thales of Miletus، طاليس Thales of Miletus فيلسوف قال بالأصل الواحد للخلق، الماء مثلاً، مثل الفيلسوف أناكسيماندر Anaximander، مثل الفيلسوف أنكساغوراس Anaxagoras, وهذا فيلسوف هائل، حين تقرأ عنه تستغرب، هذا الرجل في القرن السادس قبل الميلاد وقال بكل هذه النظريات، علماً بأنه أول رجل تكلَّم عن التطور العضوي الذي تكلَّم فيه إخوان الصفا وابن خلدون وبعد ذلك لامارك Lamarck و بعد ذلك داروين Darwin، تكلَّم عن التطور وخروج الكائنات بعضها من بعض، شيئ غريب وطريقة مُحيِّرة، تكلَّم عن تعدد العوالم.

وصلني هنا اقتراح من أختي أم محمد، في الحقيقة هل تُحِبون أن نأخذ راحة لمدة خمس عشرة دقيقة أو نُواصِل؟ هذا يعود إليكم إن شاء الله، إذن لديكم الرغبة أن أُواصِل – إن شاء الله – حتى لا يضيع الوقت، الكرة في ملعبكم.

أنكساغوراس Anaxagoras قال بتعدد العوالم، وأيضاً قال بإمكان وجود حيوات عاقلة على بعض الأجرام السماوية البعيدة، وهذا شيئ غريب، قدَّم تفسيراً علمياً مقبولاً إلى حد بعيد ومُدهِش للكسوف والخسوف وللبراكين والزلازل، فيلسوف طبيعي يدرس الظواهر الفلكية والطبيعية ويُقدِّم مُقترَحاته، هذا أنكساغوراس Anaxagoras.

هناك – مثلاً – الفيلسوف المادي ديموقريطس Democritus، ديموقريطس Democritus هو صاحب الذرات، مذهب الـ Atoms، وهو أول مَن وضع هذا المُصطلَح في الجواهر الفردة أو الجواهر المُفرَدة، ومعنى Atom – هذه كلمة باليوناني – الجوهر الذي لا ينقسم ولا يتجزأ، أي أبسط بسيط، وطبعاً هو لم يكن يتحدَّث عن الـ Atom بالطريقة التي يتحدَّث عنها رذرفورد Rutherford – مثلاً – أو نيلز بور Niels Bohr أو هؤلاء، بطريقة أقرب قليلاً إلى ما تحدَّث عنه جون دالتون John Dalton في القرن التاسع عشر، هكذا تصوَّر ديموقريطس Democritus، وللإنصاف هذا باستثناء النفس، قال النفس لم تتركَّب من هذه الذرات المادية، لكن فيما عدا النفس كل شيئ في الوجود مُركَّب من ذرات مادية، هذه الذرات – Atoms – المادية لها أشكال مُختلِفة ولها ضروس وأسنان، بعضها أقرب إلى الشكل المُثلَّث أو إلى الشكل الدائري أو إلى الشكل المُربَّع أو إلى الشكل المُستطيل بضروسها وأسنانها، يحصل بعد ذلك التراكب بين هذه الذرات، كل تركيب مُعيَّن يُعطي كيانية مُعيَّنة، شكل مُعيَّن لموجود مُعيَّن، هذا التفكير أيضاً فيه إبداع عجيب جداً، أن يُدرِك هذا الرجل في تلكم الحقبة المُتقدِّمة جداً من تاريخ الفكر والعلم الإنسانيين أن الأشياء لابد أن تتركَّب من بسائط لا تنحل فهذا شيئ سابق لأوانه ويُعتبَر فتحاً في باب العلم الإنساني، لأن إلى اليوم الفكرة هي ذاتها، الفكرة بقيت ذاتها، ما هي الفكرة؟ لابد في النهاية أن نصل إلى دقائق مُعيَّنة – Particles – لا تنحل، وإن كان صحيحاً أنها أصبحت أدقت بكثير مما كنا نتخيَّل وأصغر بكثير مما كنا نحسب، فلدينا – مثلاً – البروتون Proton في الذرة الآن وهو من رُتبة عشرة مرفوعة للأس السالب ثلاثة عشر، أي عشرة ناقص ثلاثة عشر سنتيمتر، فالبروتون Proton يشغل حيزاً بمقدار واحد – أي جُزء – من عشرة تريليون من السنتيمتر، وهذا شيئ مُحيِّر، وطبعاً البروتون Proton ليس نهاية المطاف ولا النيوترون Neutron، هناك الكوارك Quark، وهو أصغر، إلى الآن تقريباً الكوارك Quarkهو الأصغر، فيُمكِن أن يُقال الكوارك Quark بلغة الفيزياء أو المُعاصِرة هو الـ Atom عند ديموقريطس Democritus، أصغر شيئ يُمكِن أن يثبت وجوده هو الـ Atom، هكذا أراده.

لدينا الفيلسوف هرقليطس Heraclitus، العرب يسمونه هرقليط، هذا الفيلسوف الديالكتيكي الجدلي الذي رأى العالم كله من منظور التغير، قال كل شيئ يتغيَّر، لا شيئ يثبت على ما هو عليه، وله العبارة الشهيرة جداً التي تقول أنت لا تستطيع أن تعبر النهر مرتين، مُستحيل وذلك لسببين، لأن في المرة الثانية يكون النهر قد تغيَّر وعبر فيه ماءٌ جديد وأنت نفسك أيضاً ستكون غيرك، تتغيَّر فيك أشياء كثيرة، والآن نعلم في ظرف ثلاث سنوات تقريباً كل بنيتنا ما عدا الخلايا النبيلة تكون قد تُنوسِخَت وتغيَّرات، وهكذا باستمرار، فالإنسان مرات ومرات يتغيَّر في حياته ما عدا الجهاز العصبي المركزي بخلاياه النبيلة التي لا تتغيَّر، وما تغيَّر منها يُتناسَخ كما هو، الـ Replication المعروف على كل حال، فهذا ديموقريطس Democritus وهذا هرقليطس Heraclitus، هناك بارمنيدس Parmenides، بارمنيدس Parmenides على عكس هرقليطس Heraclitus كان يقول كل شيئ ثابت، لا شيئ يتغيَّر، لا جديد تحت الشمس، لا مياه جديدة في النهر، ماذا عن هذا التغير والليل والنهار والدوران والنقد والإبرام في الطبيعة والمحو والإثبات؟ ما الذي يحصل؟ قال أوهام، هناك حقيقة ثابتة لكل شيئ، هذه أوهام فقط، تأثَّر به تلميذه الشهير زينون Zeno المعروف بإنكاره للحركة، قال حتى الحركة وهمٌ مُستحيل، لا يُوجَد شيئ اسمه حركة، كيف يا زينون Zeno؟ هل أنا الحين لا أستطيع أن أتحرَّك؟ قال أنت لا تتحرَّك، لا يُوجَد شيئ يتحرَّك، والسهم حتى لا يمضي، لا يُوجَد سهم يمضي في الهواء ولا يُوجَد إنسان يتحرَّك، وهذا شيئ غريب يعني أنه يُكابِر على الضرورات، الإسلاميون يقولون المُكابَرة على الضرورة مرور، أي جنون، فالمرور هو الجنون، غياب العقل، لكن عنده طبعاً مُناقَضات، زينون Zeno المشهور عنده أربع مُناقَضات شهيرة وذكية جداً، سأذكر أشهرها على سبيل المثال، قال أنت لكي تقطع مسافة متر لابد في البداية أن تقطع نصف المتر، ولكي تقطع نصف المتر لابد أن تقطع ربع المتر، ولكي تقطع ربع المتر لابد أن تقطع ثمن المتر، وهكذا في النهاية أنت لم تتحرَّك، أنت مكانك، لا تُوجَد حركة.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: