المسألة التي وعدتكم أن نُناقِشها في وقت – إن شاء الله – ليس طويلاً مسألة نسبية الأخلاق وإطلاقيتها، هل المباديء الأخلاقية مباديء مُطلَقة قابلة للتطبيق على كل الشعوب والبشر في كل زمان ومكان وبغض النظر عن اختلاف الثقافات والمدنيات والحضارات والنظم والتقاليد أم هي على العكس من ذلك نسبية مُتغيِّرة مُتحرِّكة ورهن بالظروف والشروط التي تختلف بدورها من أمة إلى أمة وفي الأمة الواحدة من عصر إلى عصر؟ موقفان مشهوران تحت عنواني النسبية والإطلاق في الأخلاق، إذن النسبي هو ذلكم الشخص سواء أكان فيلسوفاً أو مُفكِّراً أو إنساناً عادياً الذي يعتقد بعدم ثبات المعايير الأخلاقية، أي أحد يعتقد بأن المعايير الأخلاقية مُتحرِّكة رجراجة مِرنة وقابلة للتغيير والتناسخ في زمن طويل أو زمن قصير سريع يُعتبَر ويُعَد شخصاً نسبياً، وعلى الضد منه الإطلاقي، هو الذي يعتقد بالآية معكوسة، أن المباديء ثابتة كُلية شاملة وصالحة للانطباق – كما قلت لكم – على البشر جميعاً، أي اليوم وبعد مائة مليون سنة ومن يوم نزل آدم نفس المباديء لا تتغيَّر، هذا معنى الإطلاق.

أود أن أُشير أيضاً في البداية إلى أن الفيلسوف الإطلاقي أو الأخلاقي القائل بالإطلاقية الأخلاقية يعرف – لا يُوجَد أحد ساذج إلى هذه الدرجة – أنهم يختلفون في عاداتهم وتقاليدهم ونُظمهم وما إلى ذلك، كل الفلاسفة يعرفون هذا، وهو يلحظ ويرصده، هذا ثابت لديه، ولكنه مع ذلك لا يعتقد بالنسبية، هذا لا يُشكِّل دليلاً مُضاداً كما يظن النسبيون وينخرطون في هذا الخطأ المكرور دائماً في مُحاجاتهم، لذلك كلمة معيار يُمكِن أن أبدأ معيار، كلمة معيار – Standard – أو مقياس يستخدمها النسبي بمعنى واحد، ويستخدمها الفيلسوف الإطلاقي بمعنيين، وهذه بداية مُهِمة في النقاش، كيف؟ الفيلسوف النسبي أو الأخلاقي النسبي يستخدم كلمة معيار بمعنى واحد كما شرحت لكم، أن لكل شعب أو لكل جماعة – يُمكِن أن نُسميها الجماعة الأخلاقية في سياقنا هذا – معيارها أو معاييرها، وهي – كما قلنا – تختلف عن المعايير الأُخرى، وقابلة أيضاً للاختلاف في أزمان أُخرى، هذا المعيار عنده فقط، الفيلسوف الإطلاقي يستخدم المعيار بمعنيين، بهذا المعنى يستخدمه لكنه لا يعتبره معياراً حقيقياً، يُقال هذه معايير بصفة جماعية، يقول هذه معايير وأنا أعرفها، أما كلمة معيار كما أُؤمِن بها فتدل على شيئ ثابت مُطلَق، وهو حاكم وراء كل هذه المعايير المُتحرِّكة، طبعاً واضح أن النسبي لا يُؤمِن بهذا، يقول هذا كلام غير صحيح، هذا حديث خُرافة، لا يُوجَد معيار أو معايير مُطلَقة تُوجِّه كل ما هو مُتحرِّك، قال هذا غير صحيح، هناك فقط غابة مسحورة من المعايير المُتحرِّكة التي تُغيِّر أماكنها باستمرار كما تُغيِّر أشجار الغابة المسحورة أماكنها باستمرار، هذا هو الفرق بينهما.

ما هي أشهر حُجج النسبيين؟ يحتجون بماذا؟ أشهر حُجج النسبيين على الإطلاق هي حُجج أنثروبولوجية، أي حُجج أناسية، طبعاً علم الأنثروبولوجيا Anthropology في القرن التاسع عشر واستبحر إلى حدٍ ما في القرن العشرين إلى الآن وأمدهم بزادٍ جديدٍ، لكن لم يُمِدهم بقيمة منطقية لحُجتهم، أمدهم بتأثير سيكولوجي، أي بتأثير نفساني وسأشرح لكم كيف هذا، وهذا يصير كثيراً في النقاشات الفكرية ولا يتنبَّه له الناس، الفيلسوف المفروض أنه لا يُخدَع بالتأثير السيكولوجي للأشياء، هذا تأثير سيكولوجي، كيف؟ طبعاً علم الأنثروبولوجيا Anthropology – كما قلت – ذهب روّاده وعمداؤه الكبار والصغار فيما بعد إلى أقصى أقاصي المعمورة وإلى الشعوب البدائية وإلى الجُزر المهجورة ومكسوا هناك بالأسابيع وبالأشهر وبعضهم بالسنوات وعادوا بزاد وفير عن عادات مُختلِفة وتصوّرات غريبة ومسلكيات شاذة بالنسبة إلينا أو بالنسبة لآخرين، وأودعوا هذا في كتب بدأ يستند إليها النسبيون، يقولون أرأيتم؟ هذا الشيئ لدينا جميل وعندهم قبيح، لدينا هذا الشيئ يدل على الوفاء وعندهم يدل على الغباء، يدل هذا على البر وعندهم يدل على الجحود، هذا يعني لا تُوجَد أخلاق ثابتة يا أخي، وإنما تُوجَد أخلاق مُتغيِّرة، طبعاً لا نُريد أن نأتي ببعض هذه الأمثلة الحديثة وهي كثيرة جداً جداً جداً، فحتى أكل لحوم البشر هو مثال مشهور طبعاً وهو ثابت من قديم، من العصور القديمة ثابت للمُؤرِّخين، المُؤرِّخ الروماني الشهير هيرودوت Herodotus لو قرأنا في الأجزاء الواصلة لنا من كتابه سوف نجد أن هذا الرجل أتى بكم لا بأس له من عادات الشعوب وتقاليدها المُختلِفة، هذا كان موجوداً، فليس شيئاً جديداً أن نتحدَّث عن الأنثروبولوجيا Anthropology، من أيام هذا المُؤرِّخ كان هذا موجوداً، وكذلك الحال مع المُورِّخين الإسلاميين، نفس الشيئ في كتبنا، أشياء عجيبة، مثل رحلة ابن فضلان، تقرأ أشياء غريبة في بلاد البلُغار في عاداتهم وتقاليدهم، ابن بطوطة تحدَّث عن مُستقبَح ومُستملَح أيضاً العادات في شعواب إسلامية أيضاً، أشياء ابن بطوطة نفسه عبَّر عن انبهاره وعن صدمته وعن مصدوميته بها، تحدَّث عن أحد العلماء الأفاضل وأظن أنه كان قاضياً، كان قاضياً وشيخاً يلبس لباس المشائخ، قال دعاني إلى بيته فدخلت ووجدت سيدة وضّاءة حسناء تجلس إلى رجل، فظننت أنه أخوها وما إلى ذلك، قال له هذه زوجتي، فقال له وهل هذا أخو حرمكم؟ أي هل هذا أخوها؟ قال لا، هذا صاحبها، قال قلت له ماذا؟ قال صاحبها، قال قلت له كيف صاحبها؟ قال عندنا هذا شيئ عادي، وهذا شعب مُسلِم وهذا قاضٍ، فهذا عجيب جداً، قال ابن بطوطة فاستعذت بالله وسقط من عيني، أي أنه احتقره، فهذا موجود، أنا حين حججت أول مرة في عام أربعة وتسعين ما راعني في الفندق الذي نزلت فيه – النزل – إلا وإخوة وإخوات لنا طبعاً مُسلِمات من إفريقيا في منظر مُخيف، منظر صدمني فلا أنساه ولن أنساه، نساء بصدورهن عاريات وهن حواج، يحججن بيت الله تبارك وتعالى، مُتأكِّد أن في الحرم نفسه شُرطة، وتدخل وتطوف هكذا بصدرها، وهن مُسلِمات، والإخوة رأوا هذا، قالوا ما هذا؟ عادي، ورأيت رجال زنوج – ما شاء الله – يُسلِّمون، فقلت سلام ماذا والنساء بهذه الحالة؟ عندهم هذا عادي، يبدو أن الصدر عندهم ليس عورة، وطبعاً عندهم هذا لا يُثير أي شيئ، هذا عادي، وهذه شعوب مُسلِمة، ماذا تقول له هذا؟ ولذلك أنا ذات مرة قلت في بلجيكا ضمن مُحاضَرة الآن لو أردنا أن نُطوِّر فكراً إسلامياً عالمياً لابد أن نُراعي هذه المُتغيِّرات وإلا لن ينفع، قالوا كيف؟ قلت لهم – مثلاً – نحن العرب نهتم كثيراً بالشعر، كالشعر المجنون والشعر الغجري وما إلى ذلك، فالشعر عندنا له أهمية، لكن في أوروبا الآن لم يعد له قيمة، الشعر يُعَد شيئاً عادياً، والمرأة تقص شعرها كأنها رجل، فالشعر لم يعد فتنة، عند العرب فتنة، لكن في أوروبا شيئ عادي، عند الصينيين أقل من عادي، الصينيون من خمسة آلاف سنة لا يهتمون به، المراة الصينية لا ينبغي عليها ولا يُلتفَت إلى موضوع شعرها ولا تستره إلا فقط عشر دقائق أو ربع ساعة ليلة البناء بها، وتضع شالاً أحمر اللون، لكن ما المُهِم جداً جداً عند الصينيين؟ القدم، هذا القدم أكبر مركز للإثارة، عندهم القدم شيئ خطير، فلو قلت لهم عندنا آراء في الفقه الإسلامي تتساهل في القدم ويُمكِن حتى في الصلاة عند بعض المشائخ الأحناف أن تُبدي المرأة عن قدمها في حين يجب أن تستر شعرها سوف يقول لا حاجة لنا بهذا الفقه، هذا فقه مُنحَل أخلاقياً، لأنه يتساهل مع القدم، كيف يقول هذا عن القدم؟ فهذا يعني أن حتى أذواق الناس وما إلى ذلك تختلف من شعب إلى شعب ومن مكان إلى مكان.

قتل الأولاد في جاهلية العرب كان معروفاً لدى بعض القبائل طبعاً، ليس عند كل العرب، هذا غير صحيح، كان معروفاً عند بعض القبائل علماً بأنها محدودة ومعدودة، أكثر العرب لم يكونوا يقتلون بناتهم، هناك قبائل فعلت هذا وهي مذكورة بالاسم، أربع أو خمس قبائل فقط كانت تفعل هذا للأسف الشديد، لكن كان بالنسبة لهذه القبائل ولهذه الجماعات الأخلاقية شيئاً مأنوساً غير منكور، هذا شيئ عادي عندهم، بالعكس كان يدل على الشرف والحمية وما إلى ذلك، ظاهرة الاعتفات ظاهرة غريبة ولعل المُجتمَع العربي هو الوحيد الذي عرفها قبل الإسلام في الجاهلية، وهي تدل فعلاً على مدى أنفة العربي ومدى عزته وعفة نفسه، والاعتفات ظاهرة غريبة وكما قلت لعلها غير معروفة إلا عند العرب، تعني هذه الكلمة إذا قُحِطَ العرب وصاروا في مسغبة وفي جوع وفي شدة وجهدٍ جاهد وليس عنده ما يقوت وما يمون به أهله وولده تعز عليه نفسه أن يمد يده فيأتي بأولاده وأهله ويبدأ يُطيِّن عليهم في بيت، يُطيِّن باستمرار وآخر لبنة يجعلها من الداخل، يسد عليهم ثم يلقون حتفهم بعد ساعات أو أيام، يموت الأب العائل والعائلة كلها، “تَجُوعُ الحُرَّةُ وَلاَ تَأكُلُ بِثَدْيَيْهَا” وهذا الحُر يموت ولا يمد يده، هكذا كان العربي، انظروا إلى الأنفة التي كان عندهم، هذه اسمها ظاهرة الاعتفات، ويرونها أخلاقية ويمتدحون بها، يتمدَّحون بها ويقولون هذا اعتفت، ما شاء الله على هذا الرجل، أمات نفسه وأمات أهله وأولاده ولم يمد يده، هذا مُمنوع في الإسلام والوضع مُختلِف، تُوجَد مرونة أخلاقية أكبر من هذا بكثير، في الإسلام لكي لا تموت يُمكِن أن تأكل المُحرَّم، حتى الميتة والدم والخنزير، أليس كذلك؟ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ۩، أي بقدر الضرورة، نحن عندنا مرونة، لكن العرب لم يكونوا كذلك، كانوا يرون أن هذا شيئاً طبيعياً.

العادة المشهورة لدى الهنادكة – أي الهندوس – كانت عادة الساتي Sati، والساتي Sati حرق أرملة الرجل بعد أن يموت، هذه لم يصدر قانون بتحريمها إلا في أكتوبر في ألف وتسعمائة وسبع وثمانين على ما أذكر، الحكومة الهندية أصدرت لأول مرة قانوناً يُحرِّم الساتي Sati، قالوا هذا ممنوع، المرأة كانت تحرق نفسها، والمُجتمَع كان يُشجِّعها على أن تحرق نفسها، هذه الوفية الصادقة التي تفي لعهد زوجها، في أكتوبر في ألف وتسعمائة وسبع وثمانين حُرِّمَت هذه العادة رغم أن الإنجليز طبعاً خفَّفوا منها ومنعوها وعاقبوا عليها لكن بقيَ مَن يفعلها، وإلى قبل صدور هذا التحريم أيضاً كانت تُفعَل لكن في حدود صغيرة جداً جداً جداً، لكن هذه عادة مُتميِّزة، وأيضاً ينطبق عليها نفس الشيئ، فهي تلقى القبول الحسن في المُجتمَع الهندوسي، وكذلك الحال مع الرقيق، الآن أوروبا تتكلَّم عن الرقيق وكأنها هي التي حرَّرت الرقيق وهي من أواخر الشعوب التي اقتنعت بتحرير الرقيق، ليست من أوائل الشعوب، الإسلام من أول يوم كان ضد هذه العادة، لكن عمل على مُعالَجتها بطريقة فعلاً ذكية ومضبوطة تُضيِّق المدخل وتُوسِّع المخرج، وكما لاحظ العلماء ليس في القرآن آية واحدة تأمر بالاسترقاق، وهناك عشرات الآي تندب إلى الاعتاق، أليس كذلك؟ هذا الإسلام العظيم، الإسلام كان يُحرِّر، وأول شخصية سياسية عالمية دعت إلى تحرير الرقيق محمد الفاتح، نعم دعا إلى هذا وأوربا رفضت، بعضهم وافقه لكن مُعظَمهم رفضوا ذلك، أوروبا الآن تتحدَّث عن الرقيق وتقول الإسلام فيه أحكام تتعلَّق بالرقيق وهو دين كذا وكذا، دين ماذا؟ هو الذي مهَّد الطريق إلى هذا الشيئ، وهي لم تقتنع إلا بعد الثورة الصناعية، وهذا بسبب دخول الآلة فانتبهوا، لأن الرقيق أصبح مُكلِفاً، أي أنهم لم يقتنعوا بهذا إنسانياً، ولكنه اقتصادياً أصبح مُكلِفاً، الآلة أفضل من الرقيق، فلا نحتاج الرقيق، لكن الآن فعلاً نظام الرق أو مُؤسَّسة الرق مُؤسَّسة مُستقبَحة جداً لدى الأوربيين، لكن قبل قرن ونصف كان شيئاً عادياً، قبل قرنين وثلاثة قرون كان أكثر من عادي، فاختلفت الأوضاع.

النسبيون يحتجون بأمثال هذه الأشياء، يأتون بأمثلة كثيرة ويقولون هذا هو، أولاً – كما قلنا – منطقياً هم لم يُضيفوا شيئاً جديداً بهذه الأمثلة الكثيرة، سواء الأمثلة قليلة أو كثيرة الأمثلة موجودة ومأنوسة من قديم، البشر يعرفون هذا، أنهم يتفاوتون، كما قلت لكم في المُجتمَع العربي بعضهم يئد البنات وبعضهم لا يئد، والذي يئد يستحسن والذي لا يئد يستقبح هذه العادة، أليس كذلك؟ فهذا موجود والناس تعرف أنها تختلف، والفيلسوف الإطلاقي يعلم أن الناس يتفاوتون وهو عالم بتفاوت الناس في مسالكهم وأخلاقياتهم ومعاييرهم، هو يعلم هذا، لكن الفيلسوف الإطلاقي يُفسِّر هذه الظاهرة على فروضه والفيلسوف النسبي الأخلاقي يُفسِّرها على فروضه، فالظاهرة بحد ذاتها لا تُضيف شيئاً، فضلاً عن أن تكون حُجة للنسبيين، كيف؟ الفيلسوف النسبي كما لا يخفاكم يُفسِّرها بمعنى أن المعايير دائماً هي معايير مُتباينة لا يُمكِن ردها إلى معيار واحد أو معايير قليلة مُتحِدة، قال هذا هو وهذا الذي نُريد إثباته، لكن هذه ليست حُجة وسوف نرى لماذا، الإطلاقي يقول أنا أُؤمِن أيضاً بهذا التباين وبهذا التغير وبهذا التطور وهذا كله ليس إلا خروجاً وشذوذاً في التطبيق الذي يرتد إلى معايير ثابتة أو معيار مُطلَق واحد، بمعنى أن الفيلسوف الإطلاقي – وقد شرحت هذا قبل ليليتين – يُفرِّق بين أمرين، بين المبدأ أو المعيار المُطلَق وبين ما يُعرَف بقواعد السلوك، انتبهوا إلى هذا، وهذه التفرقة دقيقة لكن النسبي لم يتنبَّه لها بين المعيار أو المبدأ المُطلَق وبين ما يُعرَف بقواعد السلوك، ما الفرق؟ كما شرحت لكم قُبيل قليل لدينا نحن المُجتمَعات العربية والإسلامية أن ستر المرأة لشعرها – ولكم أن تتصوَّروا هذا – من مُستلزَمات ومُقتضيات الاستعفاف، وهو في نفس الوقت علامة على العفة، العفة تأمر به وإذا رأينا مَن تفعله كان ذلك علامة على أنها تلتزم عفتها، عندنا هذه قضية مُهِمة مثلاً، المبدأ المخدوم هنا بالحجاب أو النقاب ما هو؟ العفة، في الصين هذا المبدأ فاعل ومُحترَم لدى المرأة الصينية – الشعوب الشرقية عموماً عندها هذه المباديء والغربية في القرون الوسطى – لكن قواعد السلوك تختلف، هم لا يرون أن إبراز المرأة شعرها – ولكم أن تتصوّروا هذا – يتناقض مع العفة أبداً ولا يُثير أي لغط، لكن إبداء المرأة عن كعبها أو ظاهر قدمها يتناقض، فتستر قدمها وتُبرِز شعرها وهي عفيفة، إذن ما الذي اختلف؟ المبدأ لم يختلف، المبدأ واحد ولكن اختلفت قواعد السلوك، القواعد هي التي تختلف، كما قلت لكم وضحكتم من هذا المُسلِم – مثلاً – يرى أن بر الوالديه يكون بالإحسان إليهما وإطعامهما في كبرهما وإلى آخره، رجال الإسكيمو Eskimo يرون أن بر الوالد إذا علت سنه وتهدَّم يكون بقتله، وذلك بدفنه في الثلج، فإذا لم يفعل عُدَّ عاقاً ولعنه المُجتمَع، وهذا شيئ غريب، نحن لو رأينا هذا نرى أن ما يفعله هو اللعنة، أليس كذلك؟ وهو في نظر المُجتمَع بار، صحيح قواعد السلوك اختلفت والمبدأ واحد، ما هو المبدأ؟ بر الوالدين، فنحن نبرهما بما تعلمون وتعلمن وهم يبرون الوالدين بما سمعتم بعضه، أي بالدس في الثلج، ولا يُمسِكه على هون رغم الكبر وإنما يدسه في الثلج وهو ذميم، فإذن قواعد السلوك اختلفت والمبدأ واحد لا يزال، وهكذا إلى آخره.

يُمكِن أن يُشوِّش النسبة علينا بأشياء أصعب من هذه، مثل ماذا؟ مثل استباحة بعض الناس أو أكثر الشعوب حقيقةً أو كل الشعوب لشعوب أُخرى، أي للحياة وللدماء وللأعراض وللأموال وللأملاك، يقولون لك تفضَّل هذا، رغم أنهم لا يُجيزون ذلك لأنفسهم، في الجماعة الأخلاقية الواحدة يحترمون حق الحياة وحق الحرية وحق المال وحق الشرف وحق الملكية، لكنهم يتجاوزون هذه الأمور في حق غيرهم، أيضاً هذا لا يُشوِّش علينا، فالمبدأ واحد، ما هو؟ تقرير جُملة حقوق مُعيَّنة على أنها حقوق مُكرَّمة – هم يقولون مُقدَّسة – ومصونة هو مبدأ، لكن مدى التساهل والتوسع في تطبيق هذا المبدأ هو الذي يختلف عوداً على أو تأسيساً على مباديء أُخرى، من ضمنها – مثلاً – حين يتعارض مبدأن، وحتى هذا في كل الشرائع موجود، الآن يتعارض مبدأ حياتي كجماعة أخلاقية مع حياة جماعة أُخرى فأقول حياتي أولى، حتى في الإسلام هذا يجد أصلاً له، الآن لو جاءت لجنة طبية وأجمعت على أن بقاء هذا الحمل – يُوجَد جنين ونُفِخَت فيه الروح لكن بقاؤه يتناقض مع بقاء أمه، سوف يقول الفقهاء لا مُشكِلة في أن يُنزَل، أي يُمات ويُقتَل، لأن حياة أمه أولى، هي حياة الأصل وهذه حياة فرع، وحياتها ثابتة وحياته غير ثابتة، وحياتها مُتيقَّنة وحياته غير مُتيقَّنة، وإلى آخر هذه التبريرات الفقهية، أليس كذلك؟ كذلك نحن – مثلاً – نُضحي بحياتنا من أجل حياة المجموع في الجهاد في سبيل الله، لكي نذب عن أمتنا وعن حياضنا وعن ديارنا وعن ديننا يموت بعضنا من أجل استبقاء الآخرين، فما المنكور إذن وما المُثرَّب المُدمدَم عليه في أن أمة تغزو أمة من أجل استبقاء حياتها؟ سوف أقول لك هناك مسألة أصعب من هذا، فهم لا يفعلون هذا من أجل استبقاء الحياة وإنما من أجل التوسع، هم يُحِبون أن يتوسَّعوا، أليس كذلك؟ لكي يعيشوا مُترَفين – مثلاً – رافهين على حساب دماء الآخرين، هنا تدخل مسائل أُخرى، مثل ماذا؟ كما قلت مثل شيطنة الآخر، كأن هذا الآخر خرج عن حد الإنسانية، أو – مثلاً – الهجس بأخطار موهومة، كأن هذا الآخر يُشكِّل خطراً كامنة وخطراً بالقوة علىّ وإذا لم أتغد به فإنه سيتعشى علىّ، مثلاً هناك أشياء كهذه، وهذه كلها مُبرَّرة أيضاً على الأقل لدى الرأي العام، التبريرات نفسها لها دلالة أخلاقية، حين يأتي – نفترض مثلاً – الآن رجل استعماري كبير يُحِب أن يستعمر بلداً آخر ويبدأ يُشيطن هذا البلد فإن التبرير نفسه له دلالة أخلاقية حتى وإن كان كذباً، يكذب ويقول عندهم كذا وكذا وهم فعلوا كذا وكذا، هذه كلها أكاذيب ويُكتشَف أنها أكاذيب حقيقية كما يُقال وليس True lies لكن حقيقتها الكذب، هذا الكذب له تبرير أخلاقي، له معنى أخلاقي، ما هو؟ أنني لا أستطيع أن أجور على غيري بغير مُبرِّر، لماذا؟ لأن المبدأ فاعل، المبدأ يقول لك هذا ممنوع، فهذا إنسان مصون محوط مُكرَّم، ممنوع العدوان عليه، فلكي أستجيز العدوان عليه وأُهدِر حقوقه علىّ أن آتي بتبرير لا يتناقض مع المبدأ، هذا التبرير يُساوي ماذا؟ أن إنسانيته أصبحت منقوصة وأنه خطر على إنسانينتي أنا وربما على إنسانية البشرية والكوكب والعالم كله وإلى آخره، فأنا أقول لك مُجرَّد التبرير ولو بالكذب اتضح أنه عمل أخلاقي، عنده نوع من الأخلاقية، أليس كذلك؟ ما يطلبه المُستمِعون، ما يطلبه الجمهور طبعاً، لأن الجمهور طبعاً خاضع للقانون الأخلاقي، فهذه الحُجج لا تُساعِد النسبيين، كلها ضد النسبيين ولا تزال – كما رأيتم – من طرفٍ خفي تتلمَّح وتنظر إلى المباديء الثابتة الفاعلة من وراء كل هذا اللغط ومن وراء كل هذا التلاعب.

ماذا أردت بقولي أن هذه الأمثلة لم تأت بإضافة منطقية – وقد وضَّحت هذا – لكنها أتت بإضافة سيكولوجية؟ طبعاً الإنسان حين تأتيه بمثال يحدث له نوع من الاقتناع، وحين ترشقه أو ترميه بمائة مثال يستسلم أحياناً، يقول لك الأمثلة كثيرة فيستسلم، لكن المائة المثال في القوة المنطقية كالمثال الواحد، أليس كذلك؟ نحن الآن أجبنا بطريقة، وجوابنا عن المثال كجوابنا عن المائة المثال، كل الأمثلة التي يستند إليها النسبيون نستطيع أن نُجيب عليها بنفس الطريقة الآن، وهي الطريقة التي تعود إلى التفرقة بين المبدأ الأخلاقي وبين قواعد السلوك، لكن الناس ليسوا هكذا، الناس ليسوا فلاسفة، الناس يتأثَّرون ويقولون لك يا أخي هذه أمثلة كثيرة، مائة مثال وهذا حلال وهذا حرام وهذا يعني أن لا وجود للأخلاق الثابتة، فالعامي يتأثَّر إذن، هذا اسمه تأثير سيكولوجي، أي تأثير نفسي، لكنه ليس تأثيراً منطقياً، لأن قوة المائة مثل قوة الواحد، هذا نفس الشيئ، الآن نفترض أن هناك مبدأً أخلاقياً مُطلَقاً وثابتاً يقول – مثلاً – على البشر ألا يكونوا أنانيين، الأنانية ليست جيدة، وطبعاً هذا مُسلَّم به، لا يُوجَد مَن يقول الأنانية أفضل شيئ إلا على طريقة نيتشه Nietzsche لكنه يُبرِّرها أيضاً، سنفترض هذا وهذا المبدأ على الأقل سنفترضه الآن في هذه المرحلة من النقاش على أنه مبدأ ثابت ومُطلَق ودائم، يتساءل النسبيون ما هو الأساس الذي يستند إليه هذا المبدأ؟ لأن هذا المبدأ إذا أردت أن تُفكِّكه وأن تُعيد صياغته يُمكِن أن يُصاغ في صيغة أمر مثل كُن غيرياً، كُن إيثاريا، ولا تكن أنانياً، أليس كذلك؟ أنتم تعرفون هذا، هذه قضية المُستنَد الأخلاقي كما يُسمونه، مُستنَد الإلزام الأخلاقي من أصعب المسائل في الفلسفة الأخلاقية، وهذا هو جوهر مسألة النسبية والإطلاقية، يقولون لك ما المُستنَد هنا؟ ما مُستنَد الإلزام؟ هناك سُلطة تأسَّس عليها هذا الأمر وانبنى عليها هذا الأمر، ما هي هذه السُلطة؟ لكي يكون هذا مبدأً مُطلَقاً وفاعلاً ودائماً وثابتاً لابد أن يستند إلى سُلطة ما وإلى أساس ما، ما هي هذه السُلطة؟ ما هو هذا الأساس؟ بيِّنوا لنا أيها الإطلاقيون وإلا سوف تخسرون المعركة طبعاً، هذه الحُجة الثانية للنسبيين، فطبعاً الجواب المشهور وهو الجواب التقليدي عبر التاريخ للإطلاقيين هو الدين، يقولون الدين، الله – تبارك وتعالى – فعل هذا عبر العصور وبشكل مُستمِر، دائماً كان يبعث أنبياء ومُرسَلين إلى الشعوب ليأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ودائماً كانوا يأمرون بالتراحم وبخدمة الهيئة الاجتماعية وخدمة الآخرين وإلى آخره، فقالوا عنده أساس ديني، وطبعاً هذا جواب ضعيف فلسفياً طبعاً، سوف ترون في النهاية طريقتي التي أقتنع بها طبعاً وسوف أُبرِّرها بالأساس الديني، سبحان الله من غير إله ومن غير دين لا مجال للأخلاق، هو هذا، هذا جواب عن سؤال لا أخلاق بلا دين، سوف نرجع إليه اليوم وُنوِّره أكثر بإذن الله تعالى، لكن هذا ضعيف الآن فلسفياً لدى مُعظَم الناس، لماذا؟ للأسف الشديد لشيوع موجات الشك في الأديان والنبوات وشيوع الربوبية، اليوم تجد حتى مُعظَم المُؤمِنين في الغرب وما إلى ذلك هم ربوبيون، يقولون الله موجود لكن لا نعترف بالشرائع والحلال والحرام وما إلى ذلك، للأسف هذه النزعة الآن تتسلل إلى بلاد المُسلِمين، أليس كذلك؟ من المُؤكَّد أن المُثقَّفين فينا يعرفون أن هناك نزعة ربوبية للأسف الشديد، هناك أُناس يقولون نحن نُؤمِن بالله ونُؤمِن بكذا وكذا لكن لا نعترف بحكاية الشريعة والصلاة والصوم والحجاب والنقاب والقرآن وما إلى ذلك، هذا غير موجود، طبعاً الخُطوة الآتية معروف ما هي، وهي الإلحاد التام، فهذا شيئ خطير لابد أن نتنبَّه إليه والله، ولذلك الخوض حتى في هذه القضايا ومُحاوَلة إثبات الأُسس الدينية الوحيانية حتى للأخلاق – وهي عصمة المُجتمَع – مُهِم جداً في كسب قضية الدين أمام جحافل العلمنة والإلحاد – مثلاً – على المُستوى العقدي، مُهِم جداً أن نفهم هذه الأشياء وأن نعرف كيف نُدافِع ضدها.

فهذا لا يُقنِع أكثر هؤلاء الناس، يقولون لا، هذا الكلام لا نقتنع به، ولا يُمكِن إثباته، كيف تقول لي هذا؟ كيف تثبت لي أن الله بعث لكل الناس رسلاً وما إلى ذلك؟ هذا الكلام غير ثابت، هذا كلام المُتدينيين، ائتوا لنا بأساس غيره، هل عندكم أساس ثانٍ؟ إذا لم يُوجَد أساس ديني سيُرشَّح الأساس الدنيوي، هل عندكم أساس دنيوي مُتفَق عليه وثابت – ثابت أنه اتُفِق عليه – لكي يُبرِّر هذا الإلزام في هذا المبدأ وأمثاله؟ طبعاً لا يُوجَد، لا يُمكِن لأحد أن يقول أنا عندي أساس دنيوي وسأقوله، هذا غير موجود، وأي أساس تدعو إليه سوف ينُقَد ويُهَدم عليك، قالوا هذه حُجتنا، ادّعى النسبيون أن هذه ليست من أقوى حُججهم وإنما أقوى حُججهم على الإطلاق، قالوا هذه أقوى حُجة لدينا، لأننا نُطالِبكم بأساس الإلزام في المبدأ الأخلاقي، أليس كذلك؟ ولا تستطيعون الإعراب عنه، إذن أنتم خسرتم القضية من أساسها، بالعكس رغم أن هذه حُجة قوية لكن هي في المنطق – إذا وزناها منطقياً – غير تامة الإحكام، هذه الحُجة فيها وهاء داخلي، هل تعرفون لماذا؟ هذه الحُجة تقوم في أصلها لدى تفكيكها على طلب البرهنة على النفي، هكذا يُسمونها في المنطق، يُوجَد شيئ اسمه طلب البرهنة على النفي، وطلب البرهنة على النفي أمر ليس من المُتعذِّر فقط بل شبه مُستحيل، أنا الآن سوف آتي إلى أكبر عالم وأقول له عليك أن تُبرهِن لي أنه لا يُوجَد بجع أخضر، أليس كذلك؟ برهِن لي يا أخي أنه لا يُوجَد بجع أخضر، هل يستطيع؟ مُستحيل، لا يستطيع، نُريد أن نُفلسِّف هذه المسألة أكثر، لماذا إذن؟ لماذا البرهنة على النفي عملية صعبة جداً جداً جداً والبرهنة على الإثبات أسهل بكثير؟ علماً بأن هذا البرهان دائماً لصالح التوحيد والإيمان بالله تبارك وتعالى.
ملحوظة: عطس أحد الحضور في القاعة فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم يرحمكم الله يا أخي، وقد تكرر هذا الموقف في القاعة أكثر من مرة، فقال أمس حكيت قصة جميلة، إن شاء الله ينفعنا الله بها، ثم وجَّه حديثه إلى شخص قائلاً هذا المُهندِس أليس كذلك؟ أهلاً وسهلاً، كيف الحال؟ أبو داود – الإمام أبو داود السجستاني صاحب السُنن – يروي عنه ابن عبد البر أنه مرة ركب في سفينة وبعد أن مشت في البحر قليلاً سمع رجلاً عطس على الشاطيء، فاستأذن واستأجر قرقرواً أو قارباً صغيراً بدرهم ورجع إلى الشاطيء وقال له يرحمكم الله، فقالوا له ما هذا يا إمام؟ أتدفع درهماً وتنزل وما إلى ذلك لكي تقول له يرحمكم الله؟ قال ما يُدريني لعله يكون مُجاب الدعوة، لعل هذا الرجل يقول لي يرحمكم الله فيرحمني الله، انظروا إلى هؤلاء الناس يا أخي، فهو لا يثق لا بعلمه ولا بصلاته ولا بقيامه وإنما يُعوِّل على شيئ مثل هذا، لعل هذا يرحمنا الله به، فهذا تدين حق، يقول ابن عبد البر – هذا بالسند القوي ما شاء الله، يروي هذا ابن عبد البر، فهذه حكاية واقعية – ناموا فسمعوا – سبحان الله – صوتاً يقول يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم، ولذلك إن الله ستر أموراً في أمور وستر رضاه في طاعته فلا تحقرن شيئاً من طاعة الله، يُمكِن أي شيئ بسيط يُدخِلك الجنة، اللهم اجعلنا من أهل الجنة وأهل الرضوان.

نرجع إلى موضوعنا، إذن لماذا طلب النفي أو طلب البرهنة على النفي عملية صعبة جداً جداً جداً ومُستحيلة بخلاف طلب البرهنة على الإثبات التي تكون سهلة؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الإثبات تآزري بخلاف النفي، اسم على مُسمى، يُقال مُتنافٍ، كيف؟ سأعطيكم مثالاً بسيطاً ولن تنسوه بإذن الله، الآن نفترض أن أحدهم جاء وقال أنا أدّعي – عنده دعوى Claim – أن ليس أحدٌ من الجلوس الكرام في هذه الصالة يحمل – مثلاً – ورقة نقدية من فئة خمسمائة يورو، أنا أدّعي هذا، هل ينفع يا إخواني أن يأتي أحدهم ويقول سوف نُفتِّش هذا ثم لا يجد الورقة فيقول له أصبت؟ هل هذا ينفع؟ لا، هل ينفع أن يقول سوف نُفتِّش الثاني لكي تكون دعواه النافية – أنه لا أحد يحمل ورقة من فئة خمسمائة يورو، فإذن هو يدّعي النفي – صحيحة ومن ثم لابد أن نلف على الكل، أنتم خمسون – مثلاً – فلو فتَّشنا تسع وأربعين لن ينفع، لابد من أن نُفتِّش الخمسين، وبعد أن ننتهي من تفتيش الخمسين نقول فعلاً مضبوط، لا أحد يحمل ورقة من فئة خمسمائة يورو، أليس كذلك؟ لكن إذا ادّعى أحدهم الإثبات وقال أنا أدّعي أن أحدهم يحمل ورقة خمسمائة يورو وجئنا فتَّشنا الأول ثم الثاني ووجدناها معه سوف ينتهي الأمر، هذا مضبوط والدعوى صحيحة، أليس كذلك؟ هل فهمنا؟ هذه المسألة سهلة، رجل يقول أنا أدّعي أنه لا يُوجَد إله خلق الكون، ماذا ينبغي أن يفعل؟ هذا يدّعي النفي، أليس كذلك؟ لابد أن يختبر – لا أن يسأل وإنما أن يختبر – كل الوجود، ولك أن تتخيَّل هذا، كل شيئ يُمكِن أن يُشكِّل برهاناً على الله لابد أن يُختبَر، هنا وفي المريخ وفي المُشتري وفي آخر المجرة وفي آخر الكون، لابد من اختبار الكل، واليوم وغداً وفي الماضي، لابد من اختبار الكل، أليس كذلك؟ مَن يستطيع ذلك؟ لا أحد، لذلك يقولون برهِن على الإلحاد، مَن يُبرهِن الإلحاد؟ لا أحد يُبرهِن الإلحاد، لكن يُمكِن لأحدهم أن يدّعي وجود الله ويأتي ببرهان، هذا يكفي، أو يأتي ببرهانين، هذا مُمتاز، نور على نور ومن ثم يُصبِحا نورين وهكذا، هذه هي، فهذه العملية – سبحان الله – سهلة وتلك عملية مُستحيلة، فهذه الحُجة – أنه لا يُوجَد مُستنَد لهذا المبدأ الأخلاقي المُدعى فيه الإطلاقية والضرورة وإلى آخره – غير صحيحة، لا يُمكِن أن يُقال كسبنا القضية، هذا غير صحيح، فهي تقوم على طلب البرهنة على النفي وهي عملية مُتعذِّرة، كوننا إلى الآن لم ننجح في أن ندل على هذا الأساس لا يعني أنه غير موجود، أليس كذلك؟ قد يكون موجوداً، قد يهتدي إليه فيلسوف أنتم لم تقرأوا له، أليس كذلك؟ وهذا موجود، وقد يكون فلاسفة كثر كتبوا وحاولوا البرهنة على هذا الأساس وأنتم لم تقرأوا لهم، وعدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، أنا شخصياً – عبد الله الفقير – سأُحاوِل في آخر هذه المُداخَلة أن أقول لكم طريقتي في البرهنة على هذا الأساس، وهي طريقته بسيطة جداً وقد استوحيتها من ديني، لكن هي تنبني بطريقة فلسفية، سوف نرى، يُمكِن أن تكون صحيحة ويُمكِن أن تكون غير صحيحة، سوف نرى، فإذن هذه الحٌجة ليست مُحكَمة.

الآن نأتي ونُعمِل النقد، سوف نُحاوِل أن نهدم على النسبيين، نحن نرى هذه الطريقة النسبية في التفكير الأخلاقي يا إخواني لو سيَّرناها إلى آخر الشوط – إلى نهاية الشوط – تُؤدي إلى ماذا؟ تُؤدي إلى عدمية أخلاقية وفوضى أخلاقية مُطلَقة، وتقضي على البحث الفلسفي من أساسه، بمعنى أنها ستتورَّط في خطيئة ما يُعرَف بالتدمير الذاتي Self destruction، سوف تُدمِّر نفسها، لن يكون هناك أي مجال لأن يبحث النسبي في الأخلاق، ممنوع أن يبحث الفيلسوف النسبي في موضوع الأخلاق من أصله، هذا ممنوع ولا كلام له، لماذا؟ سأقول لكم لماذا، أولاً الفيلسوف النسبي الأخلاقي ماذا يفعل؟ يستند إلى المُقارَنة بين المعايير، أليس كذلك؟ يقول هذا معيار أخلاقي عند هذا الشعب وذاك معيار أخلاقي عند الشعب الثاني وكذلك الحال مع الشعب الثالث وهكذا، أرأيتم؟ هذه معايير مُختلِفة وكذا وكذا، وإلى آخره، أليس كذلك؟ المُقارَنة دائماً تقتضي ماذا؟ تقتضي المُفاضَلة، تقتضي التفضيل، فهذا معيار أفضل وهذا كذا وكذا، وبلحاظ التفضيل يُمكِن الحديث عن فكرة الترقي وفكرة التقدم، لأن فكرة التقدم ليست فقط في الأخلاق وإنما في كل شيئ، حتى في التمدين وفي الحضارة المادية، فكرة التقدم تعني التدرج من الأدنى إلى الأعلى ومن السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن، لكن على طريقة النسبيين هذا غير مُتاح وغير صحيح، أليس كذلك؟ لماذا إذن؟ لأن هذه المعايير – كما قلنا – نسبية، لا يُمكِن أن يقوم مُجتمَع حتى إنساني، تهارش غريب جداً جداً بشكل ألعن من عالم الغاب والحيوانات والبحار والإسماك، رغم أن الواقع ليس كذلك بفضل الله، الواقع مُختلِف، البشرية مُؤهَّلة فتقبل دعوات عامة وتقبل كذا وكذا، وتُحاوِل أن تُوحِّد مسيرتها على الأقل في حدود دنيا، لماذا؟ هذا التوحيد لا يُمكِن تبريره على الطريقة النسبية؟ أليس كذلك؟ الأصعب من هذا أيضاً أن في إطار الشعب الواحد نفس المُشكِلة مطروحة، أليس كذلك؟ لأن لا يُوجَد شعب واحد أو أمة واحدة وهي لفقٌ – خامة القماش يُسمونها لفق – واحد أخلاقياً، بالعكس ونحن تحدَّثنا عن الولايات المُتحِدة مثلاً، ما هي؟ قالوا هذه بوتقة، أليس كذلك؟ هذه البوتقة فيها مذاهب وفيها أديان وفيها أعراف وتقاليد ومنازع في الأكل والشرب وآداب العلاقات بين الجنسين وهكذا في كل شيئ، مُختلِفة إلى حدود مُحيِّرة، أليس كذلك؟ يُوجَد سؤال هنا، كما جاز لك أن تُقسِّم البشرية – نفترض – إلى أمم والأمم إلى شعوب والشعوب إلى عشائر والعشائر إلى كذا وكذا، نفترض مثلاً أي تقسيم تُريدون، يُوجَد سؤال فلسفي يطرح نفسه، وفي الحقيقة ليس أنا مَن طرحه، طرحه الفيلسوف الأخلاقي الكبير والتر ستيس Walter Stace في كتابه The Concept Of Morals، أي مفهوم الأخلاق، وهو كتاب مُمتاز وأنا أدعو إلى أن يُقرأ لأنه مُمتاز جداً، قال في هذه الحالة التقسيمية أين وكيف يُمكِن ترسيم حدود المعايير الأخلاقية؟ الآن أنت تقول لي الشعب الواحد عنده معايير، وهذه المعايير معايير لهذا الشعب وليس للشعب الآخر الجار، أليس كذلك؟ هي لهذا الشعب، هذا الشعب ليس لفقاً واحداً، هو ليس شخصاً واحداً، هو من خمسين مليون شخص، وكما قلنا هناك نزعات وقبائل وعشائر وأشياء مُختلِفة كثيرة، أليس كذلك؟ كيف سوف نُرسِّم؟ نحن قلنا هذا هو المعيار لهذا الشعب، لكن لا يُوجَد معيار واحد وسوف يختلفون، قد تقول لي سنأخذ معيار الأغلبية والأقلية، فنرى أكثرية هذا الشعب التي قد تكون بنسبة سبعين في المائة أو ثمانين في المائة مثلاً، لكننا سنقول لك هذا لا يُمكِن أن يكون معياراً أخلاقياً، هل تعرف لماذا؟ لأن كل الأنبياء وكل الفلاسفة وكل المُصلحين والأذكياء من أمثالكم دائماً كانوا يبدأون ضد الأكثرية، أليس كذلك؟ ولو كان معيار الأكثرية هو معيار الصحة والصواب وهو روح المعيارية لكان ينبغي علينا أن نكون ضد كل نشاط إصلاحي وما إلى ذلك، إذن هذا ليس المعيار، يستحيل أن يكون هذا هو المعيار، أليس كذلك؟ لا يُمكِن أبداً، إذن ما المعيار؟ لا يُوجَد جواب عند النسبيين، لا يُوجَد أي جواب، قالوا هو هذا، يقول ستيس Stace يُمكِن أن تأتي رابطة عصابات شيكاغو – مثلاً – وتقول لك نحن هنا جماعة أخلاقية، نحن جماعة المافيوزوات، نحن طاعون المافيا، نحن جماعة أخلاقية لنا معاييرنا فاتركونا نحتكم إليها ونُحاكِم مَن نشاء – طبعاً مَن يقع في قبضتنا – إليها، هل هذا مُمكِن؟ هذا غير مُمكِن، فالنسبيون يتورَّطون في أشياء لا حل لها على مُستوى الكوكب وعلى مُستوى حتى الأمة والشعب الواحد، وليس عندهم أي حل، نوع من التنظير الفارغ يتحدَّثون عنه وله تبعات خطيرة جداً جداً جداً وهي تدميرية، أكثر من هذا أن بعض الفلاسفة الأخلاقيين لاحظ أن هؤلاء الناس طبعاً ماهرون وحذقة في سحب ثقة الأفراد وربما ثقة الجماعات أيضاً بالمُطلَقات الأخلاقية، بحيث يرى الفرد والجماعة أيضاً نفسه أو نفسها بعد ذلك وقد فقد يقينه وثقته بما كان يعتده معياراً أخلاقياً صالحاً على الأقل للجماعة أو له داخل الجماعة، قالوا الآن الأمور لا يُمكِن المُفاضَلة بينها، أليس كذلك؟ إذا كان لا يُمكِن المُفاضَلة ما الذي يمنعني كفرد أن أتخلى عن هذا المعيار الذي يعمل في هذه الجماعة وقد يعمل بطريقة حسنة على الأقل لهذه الجماعة؟ ما الذي يمنعني من أن أتخلى عنه بما أنه ليس عنده ميزة ذاتية – ليس عنده أي ميزة ذاتية أبداً، مسائل اتفاقية عرضية فقط – وأنحاز أو أتحيَّز إلى معيار أشرس أو أعنف أو أدنى أو أسوأ؟ أليس كذلك؟ رغم أن السؤال طبعاً قد يعترض عليه النسبي ويقول كلمة أعنف وأشرس وما إلى ذلك أيضاً تُشير إلى ثبات في المعايير، وهنا سأقول له هذا ثبات نسبي يا سيدي، ليس عندي مُشكِلة، أنت تعترف بالثبات النسبي في حدود الجماعة، أليس كذلك؟ لكن في حدود الجماعة الواحدة ليس هناك مِن عاصم يمنع انزلاق الأفراد إلى استبدال معايير بمعايير، معايير تكون أسهل، أسهل في الإثراء -مثلاً – أو أسهل في تحصيل القوة Power، ومع ذلك سيُعاني الآخرون، ما الذي يمنعني أن أفعل هذا؟ أيضاً ليس عندهم أي جواب.

في النهاية أُريد أن أُقدِّم بعض المُلاحَظات المُهِمة واللاذعة للطريقة النسبية في التفكير الأخلاقي:

أولاً ألا ترون أن النسبيين الأخلاقيين على الرغم منهم وفي غفلة فكرية تورَّطوا في الإشارة إلى معيار عام مُطلَق وهم يتحدَّثون عن مقبولية كل معيار؟ أليس كذلك؟ تُوجَد هذه الورطة، لو فكَّرت قليلاً سوف تجد هذه الورطة موجودة، فهم تورَّطوا فيها، ماذا أُريد أن أقول بهذه الجُملة؟ أُريد قول التالي، هم قالوا في النهاية لا يُوجَد معيار مُطلَق تُحاكَم إليه المعايير وإنما كل جماعة لها معيارها حتى لو قالوا كل فرد – لا مُشكِلة – له معياره، لكن هم لم يقولوا كل فرد حتى لا نكذب عليهم وإنما قالوا كل جماعة، ونحن سألنا أين ترسيم حدود الجماعة؟ أليس كذلك؟ هذه ورطة أيضاً ليس عندهم أي جواب عنها، أين ترسيم حدود الجماعة؟ ليس عندهم أي جواب، فكل جماعة لها معيارها الذي يصلح لها على الأقل في هذا الوقت وفي ظل هذه الظروف وقد يتغيَّر بعد أجيال وأحقاب فلا بأس، ألا ترون أنهم الآن أشاروا إلى معيار وهو معيار المُوافَقة، أليس كذلك؟ بمعنى أن يُوافِق الفرد الجماعة، الجماعة باللغة الاجتماعية ماذا تُساوي في النهاية؟ سُلطة، أليس كذلك؟ إذن إذا كان هناك سُلطة أكبر من سُلطة الفرد وأكثر عموميةً فمُوافَقة هذه السُلطة هو المعيار، أليس كذلك؟ هذا الآن يدلنا على طريق جديدة، ماذا إذا ثبت بطريقٍ ما أن هناك سُلطة أعلى من سُلطة البشر جميعاً؟ وهذا يثبت بطريقة تلقائية للمُؤمِنين، أليس كذلك؟ هناك أُناس تُؤمِن بوجود القوى الإلهية التي أبدعت وصممت وخلقت، وهذه المسألة ليست لعباً، هذه ليست مسألة لاهوتية تتعلَّق بالمشائخ ورجال الدين والقسس فحسب وإنما هذه مسألة فلسفية ووجودية حقيقية، وكما رأينا عبر الأعصار كلها مطروحة باستمرار، كتب فرويد Freud ذات مرة يقول ليس الله هو الذي خلق الإنسان لكن الإنسان هو الذي خلق الله بخلق فكرة اسمها الله، رُدَّ عليه بالقول لماذا ظل الإنسان يفعل هذا إلى اليوم؟ إذا آمن بهذه الخُرافة قديماً لأنه كان جاهلاً فلماذا اليوم وقد أصبح عالماً كبيراً وصعد إلى القمر لا زال يُؤمِن بالله ويطلب الإيمان به؟ هذه مسألة أصعب من أن تُتجاوز، فهذه ليست مسألة تخص فقط اللاهوتيين ورجال الدين وإنما تخص الإنسان بما هو إنسان، أليس كذلك؟ فإذ ثبت وجود أو في حق مَن يثبت هذه السُلطة – ولك أن تتصوَّر هذا – لديه إلا يكون المعيار هو مُوافَقة السُلطة؟ أليس كذلك؟ لابد من مُوافَقة هذه السُلطة، وهذا على طريقة مَن؟ على طريقة النسبيين الأخلاقيين، هم قالوا المُوافَقة هي المعيار، لم يُصرِّحوا بهذا لكن كلامهم يتضمن هذا بشكل واضح ولا أوضح، أن كل جماعة عندها معيار، أليس كذلك؟ هذا المعيار يصلح لها ولا يصلح لغيرها، فإذن المعيار ما هو؟ المُوافَقة، أي مُوافَقة الجماعة، بلغة الاجتماع ماذا تُساوي الجماعة في النهاية؟ السُلطة، سُلطة الجماعة، أمة إزاء فرد أو فرد من أمة، وهذا يعني مُوافَقة السُلطة، لابد من المُوافَقة والتكيف مع هذه السُلطة.

سنذهب مع الحُجة إلى آخرها، إذا كانت هناك سُلطة أعلى ليس من الجماعة وإنما من مجموع الجماعات البشرية – سُلطة على الكون كله، سُلطة موجودة فعلاً ولها تسلط على الكون – مُوافَقتها سيُعتبَر إذن ماذا؟ سيُعتبَر هو المعيار، فرجعنا إلى كلام الإطلاقيين، أن أساس الإلزام الأخلاقي في كلمة كُن غيرياً ولا تكن أنانياً – هذا المبدأ المُطلَق – هو مُوافَقة سُلطة موجودة وهي السُلطة العُليا: الله تبارك وتعالى، وإليه الإشارة بقوله – عز من قائل – وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، قال الله هذا المعيار المُطلَق فعلاً كما استخلص كانط Kant، قال هذا موجود في قعر نفسه، قال السماء بنجومها من فوقي والقانون الأخلاقي في نفسي أو في باطني، الله قال فَأَلْهَمَهَا ۩، وكانط Kant له عبارة أيضاً في نقد ملكة الحكم يقول فيها قد يستطيع المُجرِم أن يُفلِت من العقاب ومن محكمة البشر لكنه دائماً سيرزح تحت حكم محكمة أكثر وطأة وبهاظة، إنها محكمة الضمير، يُوجَد شيئ داخلي، قال الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، أليس كذلك؟ يُوجَد شيئ داخلي في الإنسان، وهذا يعود إلى السُلطة التي أودعته، والعجيب يا إخواني أن قال الله وَنَفْسٍ ۩، لو قرأتم سورة الشمس سوف تجدون أن الله يقول وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۩ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۩ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۩ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ۩ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ۩، كله مُعرَّف، أليس كذلك؟ وبعد ذلك ماذا قال الله؟ قال وَنَفْسٍ ۩، طبعاً هذه يفرح بها فيلسوف وجودي، سوف يقول أرأيتم؟ نحن قلنا لكم الوجود قبل الماهية، الله طبعاً لم يقل والنفس وما سواها وإنما قال وَنَفْسٍ ۩، فهذا ملحظ وجودي، هذا مُستنَد للفلسفة الوجودية، لكن الغريب الذي لم يتلمَّحه الوجودي أن هذه النفس فعلاً التي هي عارية من التعريف مُلهَمة الفجور والتقوى، كأنه يقول قبل أن تتحدَّد اجتماعياً وقبل أن تتحدَّد ثقافياً وقبل أن تتحدَّد بخياراتها المبنية طبعاً على التلقين الاجتماعي وما إلى ذلك كانت مُلهَمة، لا إله إلا الله، هي مُلهَمة وموجودة، وهذا يعني أن المعايير ستختلف – هذا صحيح – من مُجتمَع إلى مُجتمَع وإلى آخره لكن كلها سترتد إلى معيار مُطلَق موجود في قعر النفس بإلهام الله تبارك وتعالى.

سآتي بحُجة أخيرة وبسيطة أيضاً، ما هي؟ وحدة النوع الإنساني ألا يُعَد مفتاحاً إلى الإطلاقية؟ وحدة النوع ألا يُعَد مفتاحاً لتقرير إطلاقية المبدأ الأخلاقي؟ هنا قد تقول لي لماذا؟ سأقول لك لماذا، أنت قلت أن وحدة الجماعة والاتفاق مع هذه الجماعة معيار، لماذا؟ لماذا هو معيار؟ لوجود وحدة، تُوجَد عوامل توحيد، لكن هناك وحدة أوسع من هذه اسمها وحدة النوع، أليس كذلك؟ في نهاية المطاف نحن لسنا بشراً وفهوداً وقروداً – أكرمكم الله – وإنما نحن بشر جميعاً، كلنا بشر، أسود أو أحمر أو أبيض أو أسترالي أو أمريكي أو آسيوي أو قوقازي وإلى آخره، كلنا بشر، هذه وحدة النوع، وليس هذا فحسب، هذا مُؤكَّد في الأديان والآن أصبح تقريباً مُؤكَّداً علمياً، سبحان الله البحوث الجينية الآن بدأت فعلاً تدل على وحدة النوع الإنساني وهذا معروف، الآن تجد شخصاً – مثلاً – في فرنسا أشقر الشعر وأزرق العينين أصله إفريقي، جينياً – بالجينوم Genome البشري – أصله إفريقي، وتجد شخصاً إفريقياً أصله من أستراليا وهكذا، في النهاية يُوجَد مهد واحد ويُوجَد حوض جيني واحد قبل ألوف أو ملايين السنين، الله أعلم بهذا، النص الديني يُؤكِّد أن الأصل من أب واحد وأم واحدة، والنص الديني – سبحان الله هذا له علاقة بالفلسفة الأخلاقية وليس فقط بالجينات Genes وبعلوم الوراثة – يُؤكِّد أن من هذا الأب استُلَت كل ذُريته مُؤمِنهم وكافرهم، وذلك في لحظة ميثاقية ذرية في عالم الذر، أليس كذلك؟ آية الذر تُؤشِّر إلى ماذا أيضاً؟ تُؤشِّر إلى وحدة النوع على مُستوى النزوع والبواعث أيضاً طبعاً، فلا يتم خلق أفراد النوع خلقاً دائماً مُستقِلاً، الأمر ليس كذلك، خُلِق كله بضربة واحدة ومرة واحدة بنفس الطريقة، يقول أحد العلماء فعلاً أنا أستطيع أن أتحسس هذه المشابه وهذه الوحدة مع أبي – ولك أن تتصوَّر هذا – من خلال مثل قوله تعالى – مثلاً – يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ۩، لماذا؟ لأن نفس التركيبة النفسية عندي هي تركيبة أبي، نفس السعي إلى الخلود، العلماء طوال حياتهم يسعون إلى إيجاد إكسير الحياة Elixir of life، العلماء دائماً ما يبحثون عن إكسير الحياة Elixir of life، أليس كذلك؟ آدم أول مَن بحث عن الإكسير Elixir، كان يُريد الإكسير Elixir، هو أول مَن بحث عنه وضحك عليه الملعون إبليس، قال الله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ۩، قال له هذا الإكسير Elixir، هذا إكسير الحياة Elixir of life، الله منع عنك الإكسير Elixir، قال له سوف آخذ الإكسير Elixir، فذهب وأكل وحدث له ما حدث، نحن اليوم عندنا نفس النزوع، سبحان الله الحرص على الخلود موجود فينا، لماذا؟ لأننا أبناء آدم، آدم هو آبانا، أكثر شيئ يُغرينا به الشيطان ويُدمِّرنا بسببه ما هو؟ أكبر وسيلة لإفساد البشر ما هي؟ الشهوات، والتعري، أليس كذلك؟ انظر إلى حال الغرب، هو هذا، هذا أكثر شيئ افتنوا فيه، سارتر Sartre عنده كتاب عن هذا، وطبعاً هذا الرجل كان يهودياً وقال فيه – في المسألة اليهودية – نحن اليهود الذين عرَّينا العالم، هم الذين فعلوا هذه الأمور، هم – سبحان الله – عرَّوا الله، تلامذة إبليس تماماً، قال نحن اليهود الذين عرَّينا العالم، فالله يقول يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ۩، وفعلاً أقصر طريق لغواية الإنسان وتهشيش شخصيته أن تنزع عنه لباسه، مثلما فعل الملعون مع أبوينا، هذه نفس الخُطة التي تشتغل، لماذا؟ لأننا نوع واحد، نحن نوع واحد وعندنا نفس النزوع ونفس البواعث، رغم أننا اليوم ندرس الذرة والفيزياء والكيمياء والفلسفة، وأبونا لم يكن عنده هذه المسائل، لكن نفس الشيئ موجود، فالفارق غير بعيد يا أخي، هذه نفس المشابه، فوحدة النوع وتوريث كل هذه المنازع والبواعث وما إلى ذلك تُؤكِّد أن مذهب الإطلاقية هو الصحيح.

نكتفي بهذا القدر لأن جاءني تنبيه يُفيد بأن لدينا الآن عشر دقائق لكي نُكمِل، لا أدري هل ستظل عندي قدرة الآن لكي أُكمِل أم لا، بقيت عندنا فلسفة الجمال وما إلى ذلك، لكنني شعرت بأنني عييت الآن وتعبت، يُمكِن أن نفتح المجال للأسئلة الآن والأجوبة، وإن شاء الله سوف نرى بعد ذلك ما سيحدث بإذن الله تعالى.

– سأل أحد الحضور سؤالاً عن موضوع مُطلَق الحرية وذكر قول الله – تبارك وتعالى – وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۩ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ ۩، وقال أن البعض يقول الآية تتحدَّث عن سائر الخلق، فإذا كانت عن سائر الخلق لماذا يُحاسِبنا الله على الاختلاف؟

قال الأستاذ الدكتورعدنان إبراهيم سنُجيب سريعاً عن الأسئلة سؤالٍ سؤالٍ، هذه الآية الجليلة من سورة هود، هي في آخر سورة هود، يقول الله وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ ۩، الإشارة إلى ماذا بذا؟ اسم الإشارة ذا، قال الله ولــ ذا، فاللام للبُعد والكاف للخطاب طبعاً، وهي لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ ۩، جمهور المُفسِّرين قالوا للاختلاف خلقهم، أي خلقهم للاختلاف، انتبهوا إلى هذا، الآن يُمكِن أن نُفسِّر نحن هذه الآية على نحو ما قلت بالأمس لإحدى إخواتي، يُمكِن أن نُفسِّرها بالطريقة التقديرية التكوينية – انتبهوا – وليس بالطريقة التشريعية، لا يُوجَد في شرائع الله نصٌ يقول للبشر اختلفوا، أليس كذلك؟ لا يُوجَد نص يقول اختلفوا في أذواقكم ومذاهبكم واحتربوا وما إلى ذلك، بالعكس الله يقول لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، ويدعونا إلى كل سُبل التعارف، ولذلك هنا هذا الهدف أو هذا القصد أو هذه الغاية تكوينية وليست تشريعية، هذا ليس هدفاً أو غايةً تشريعية وإنما تكوينية، بمعنى ماذا؟ أن البشر مخلوقين بطريقة مُعيَّنة ومُهيَّئين بحيث أنهم يختلفون، هذا هو طبعاً، لماذا إذن؟ سأقول لك لماذا، لأنهم مُختَارون، اختاروا أن يحملوا عبء أمانة الحرية، فالإنسان مُختَار أمام ربه، الإنسان له اختيار وله حُرية إزاء رب العالمين، ربنا – تبارك وتعالى – هو الوحيد الأوحد الذي يستطيع أن يحول بين الإنسان وبين نفسه، قال الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ۩، وذلك حين يشاء لا إله إلا هو، لكنه في مُعظَم الأحوال بإطلاق لا يفعل، مَن أراد أن يكفر يتركه الله، ومَن أرد أن يُؤمِن يتركه الله، ومَن أراد أن يفعل كذا وكذا يتركه الله، لأنه سيُسأل بعد ذلك، هناك مُساءلة بعد ذلك، فالآن سؤال الأخ أو الأخت بما أنه خلقهم للاختلاف فلم يُحاسِبهم؟ هو سؤال القضاء والقدر العام وليس ً سؤالاحتى في الاختلاف فقط، هذا السؤال الذي يدخل في خمسين ألف مليون مسألة، باختصار هو يُحاسِبهم لأنه يُحاسِبهم على ما اختاروا لا على ما أُجبِروا عليه، ولا تقل لي يُوجَد شيئ أُجبِرت عليه من الله لأن هذا غير داخل في الاختيار، الجواب التقليدي المأنوس في مسألة القضاء والقدر الذي يقول أنا مخيَّر في عملي وأنا مُسيَّر في شكلي وفي كوني ابن فلان وفلانة وكوني من الكويت وما إلى ذلك يُعَد كلاماً فارغاً، رغم أن الكثير من العلماء الكبار قالوا به هو كلام فارغ، كيف تكون مُسيَّراً؟ كلمة مُسيَّر ومُخيَّر علاقتها بعملك وليس بعمل الله، أليس كذلك؟ ومَن الذي خلقك؟ الله، ومَن الذي خلقك ابن فلان وفلانة؟ الله، ومَن خلقك في الكويت وليس – مثلاً – في إيران؟ الله تبارك وتعالى، هذا ليس عملي، هذا عمل الله، فكيف تقول لي أنا مجبور فيه؟ نحن لم نسألك عن عمل الله، نحن سألناك عن عملك، فهذا جواب غير علمي وغير دقيق، مُعظَم العلماء يُردِّدونه للأسف الشديد مثل الشيخ الشعراوي ومُصطفى محمود وغيرهم، ونحن لا نُريد أن نذكر أسماء لكن هذا الكلام ليس له معنى، أنا أتحدَّث عن عملي، عن العمل الذي يُمكِن أن أكون فيه مُختَاراً، أين حدود الاختيار؟ أين حدود الجبر إن وُجِد؟ أُوتيَ مرة برجل جبري لا يعترف بالاختيار، قال كله جبر ونحن ليس لنا أي اختيار، فالخليفة العباسي أتى به وقد أرتكب جُرماً، فقال على هذا الجُرم اجلدوه عشرين جلدة ثم اجلدوه على شكله عشر جلدات أيضاً، قال شكله لم يُعجِبني، فقال له يا أمير المُؤمِنين هذا ظلم، قال له لماذا هو ظلم يا ظالم نفسه؟ قال له هذا ليس ذنبي، فقال له أنت تقول أيضاً عملك ليس ذنبك، أنت تقول أنك مجبور في عملك مثلما أنت مجبور في شكلك، فلو كنت صادقاً لما قلت هذا، فتفطن الرجل، هذا سؤال سهل ليس فيه أي شيئ.

– سأل أحد الحضور سؤالاً قائلاً كيف نُفسِّر ختم الرسالة المُحمَّدية وهي لم تُحرِّم العتق والاستعباد وإنما رغبت فقط في العتق والصدقة مع اعتبار أن قيمة الحرية أولى من القيم الاقتصادية والاجتماعية؟

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً أختلف مع أخي الفاضل وأشكره على السؤال، لكن نحن لا نقول بهذا بالعكس هي اتخذت الخُطة المُثلى بل الأمثل والأحكم لإلغاء مُؤسَّسة الرق، هذه شجرة خبيثة، علماً بأن الإسلام أول شريعة تعاملت معها – أي مع هذه المُؤسَّسة – بهذه الطريقة، ماذا تُريد أكثر مِن قول النبي مَن أعتق عبده دخل به الجنة؟ هذا حديث صحيح، إذا اعتقت عبداً ذكراً بكل عضو منه يُعتَق عضو منك فتدخل الجنة، وكذلك الحال إذا أعتقت أمتين، ولا ينبغي أن يعترض هنا النساء، هذا لمصلحتهن، الشريعة تتعاطف مع النساء أكثر لكي يُعتقن أكثر، ولك أن تتخيَّل هذا، لا تدخل الجنة بواحدة وإنما بثنتين، فهذا أحسن طبعاً، اعتق ثنتين وسوف تدخل الجنة، فبالعكس هذه القضية في صالح النساء، ومن ثم سوف تدخل الجنة بسبب هذا العتق، حكيم بن حزام أعتق ألف وخمسمائة عبد، ابن عمر أعتق – لا أعرف تحديداً – زُهاء سبعمائة عبد، علماً بأن هذه أموال كثيرة جداً جداً جداً، قديماً لكي تشتري أمة تكون مليحة إلى حدٍ ما سوف تتكلَّف أكثر مما تتكلَّفه في حالة الزواج، يُمكِن أن تتزوَّج بخمسمائة دينار أو ألف دينار، هذا شيئ عادي، لكن الأمة بأربعة آلاف أو بخمسة آلاف وبعضهن بعشرين أو بثلاثين ألف ديناراً، فهذه مسألة كبيرة، وهو كان يشتري ويعتق، فهذه المسألة لم تكن سهلة لكنه كان يشتري ويعتق، هذا هو الإسلام، لا يُوجَد في القرآن الكريم – كما قلت – آية واحدة تأمر بالاسترقاق، لا تُوجَد آية واحدة تأمر بهذا، وهناك عشرات الآيات الكريمات تحث على الاعتاق وتبني أشياء كثيرة، وليس هذا فحسب، فأنت مُكلَّفاً أن تُطعِم ابنك مما تطعم بالضبط وأنت تُلبِسه كما تلبس وما إلى ذلك، لكن أنت مُكلَّف بهذا مع العبد وهذا شيئ غريب، وألا تُكلِّفه ما لا يُطيق – هذا في حديث أبي ذر – فإن كلَّفته عليك أن تُعينه، ممنوع أن تقول يا عبدي أو يا عبد، هذا الكلام ممنوع، بل تقل له يا فتى أو يا فتاي، والفتى هو الإنسان الكامل، قال طرفة بن العبد “إذا القومُ قالوا مَن فَتًى؟ خِلتُ أنّني”، كأنك تقول له يا سيد، أي يا سيد الرجال، حتى في الكلام ممنوع أن تقول له يا عبد، النبي قال مَن لطم عبده ليس له كفّارة إلا عتقه، وإلا سوف تذهب إلى جهنم، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا هو مُباشَرةً، وقد رأينا حديث مُعاوية بن حكم السلمي في صحيح مُسلِم حين لطم الجارية الحبشية التي كانت عنده، حدثت قصة طويلة، لابد من العتق وإلا جهنم، هناك أشياء كثيرة جداً جداً جداً، وهذا أين؟ هذا لم يأت قبل الإسلام، لم يأت إلا في الإسلام، لكن طبعاً الذين أجهضوا هذه الخُطة النبوية والقرآنية الحميدة هم خُلفاء المُسلِمين للأسف الشديد وخاصة العباسيين فأرجعوها جذعة، يقولون المُتوكِّل في قصره كان عنده أربعة وعشرون ألف جارية، وفقاً لتاريخه كان عنده أربعة وعشرون ألف وهذه كارثة، هذا عكس الخُطة القرآنية تماماً، لو مشت الخُطة القرآنية بطبيعة الأمور كنا سنرى بعد مائة سنة أو مائتين سنة أن الرق انتهى من العالم الذي يحكمه الإسلام، لماذا؟ لإن الإسلام – كما قلت لكم – بخُطة بسيطة جداً ضيَّق المدخل ووسَّع المخرج، ومعروفة تفاصيل ذلك، فلا يُقال أن الإسلام لم يتعاطف مع الرق، بالعكس هذا لم يحدث.

– سأل أحد الحضور سؤالاً عن عدم تجريم حروب الفتوحات الإسلامية بعد العهد النبوي في حين أننا نُجرِّم حركة الاستعمار.

قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أنا في الحقيقة – وأعوذ بالله من كلمة أنا – عندي موقف من هذه الفتوحات، أنا أقول لك بصراحة أنني غير مُتعاطِف معها، أنا قناعتي أن الحروب التي كانت دفاعاً عن حياض المُسلِمين وبلادهم ودينهم مُبرَّرة طبعاً ديناً وخُلقاً، والحروب التي كانت حروب عدوان باسم الفتح – أننا نفتح كذا وكذا – وخاصة في عهد الأمويين حتى والعباسيين ما كانت تعكس رحمة الإسلام ولا أهداف الإسلام، كانت حروب إمبراطورية، يُريدون أن يتوسَّعوا، بدليل أن الأمة نفسها لم تر منها الخير الكثير، كانوا يفتحون بلاد كبيرة والأمة تموت من الجوع، ولك أن تتخيَّل هذا، وتحدث ثورات مثل ثورات الزنج بسبب الجوع والعطش، هذا شيئ فظيع، والخلفاء عندهم – كما قلت لكم – عشرات آلاف الجواري، والقادة يُقتَلون، أي قادة الفتوح، ويُمكِن أن تقرأ هذا، اقرأ ماذا حدث مع محمد بن القاسم وماذا حدث مع قُتيبة وماذا حدث مع موسى بن النصير وماذا حدث مع أولاده الاثنين، وقع الذبح، مَن الذي يذبحهم؟ الخليفة، لأنه يغار منهم وقد أحبوهم الناس، والجيش يُمكِن أن يُحدِث ثورة ومن ثم يُنهي حياتهم، ولك أن تتخيَّل هذا، هل هذا كان يفتح لوجه الله؟ هل هذا يفتح من أجل الإسلام؟ لا والله، لابد أن نكون واقعيين وصادقين، وإنما كان إمبراطوراً يُريد أن يتوسَّع مثل أي إمبراطور، والقوة عموماً عبر التاريخ لا تعرف الزهد، القوة لا تعرف الزهد، وبالمُصطلَح الاستعماري القوة تُحاوِل أن تخلق دائماً مجالها الحيوي، العلّامة المُؤرِّخ الكبير حسين مُؤنِس مِن أجمل مَن تقرأ لهم من المُؤرِّخين ومن أكثرهم مرونة وتفتحاً، وهو المسؤول عن أطلس تاريخ الإسلام وموسوعة تاريخ الأندلس، حسين مُؤنِس – رحمة الله عليه وطيَّب الله ثراه – عنده كتاب اسمه الإسلام الفاتح، وهذا الكتاب ليس كبيراً، في حدود مائتين صفحة، ويُلاحِظ فيه مُلاحَظة ذكية، قال أنا لاحظت تقريباً كل البلاد الإسلامية التي فُتِحَت بالسيف عاد والإسلام وانحصر عنها، والتي فُتِحَت بالدعوة والقناعة لا زال الإسلام – بفضل الله – مُنيراً بشمسه فيها، انظر إلى ماليزيا وإندونيسيا، هذه فُتِحَت بدُعاة بُسطاء، توماس أرنولد Tom Arnold عنده كتاب اسمه The preaching of Islam، أي الدعوة إلى الإسلام وقد تُرجِم بحمد الله، تُرجِم في الستينيات على يد حسن إبراهيم حسن، كتاب رائع جداً جداً جداً، فعلاً يقول لك أن مُعظَم الأمة الإسلامية تدين إلى الدُعاة وإلى العلماء وليس إلى السيف، فيليب حتي في كتابه تاريخ العرب المُطوَّل يقول يوم انكسر سيف الإسلام حقَّق الإسلام أعظم إنجازاته، يوم انكسر سيفنا وثَّل وفُلَّ حده انتصر الإسلام، كيف؟ أيام المغول، وهذا عكس مبدأ ابن خلدون الذي يقول أن المغلوب دائماً مُولَع بتقليد الغالب، لأول مرة في التاريخ نرى الغالب هو الذي أُولِعَ بتقليد المغلوب ودخل في دينه، وهذا حدث في مرتين، الغُز الأتراك البرابرة – قبائل الغُز – دخلوا في الإسلام ما شاء الله – وجاء من بعدهم السلاجقة، وبعد ذلك مَن؟ المغول الذين أقاموا مملكة حين تقرأ عنها لا تكاد تُصدِّق، وتنفرد وحدها بزُهاء خُمس التاريخ الإسلامي، المملكة المغولية في الهند يا أخي، وانظر إلى الفن الخاص بهم واجمع هذا إلى ذلك وانظر إلى الكتب والرسائل والشعر، الشعر المغولي رائع، في مُنتهى الرقة واللُطف والتواضع والإسلام والدين، ابن بطوطة يحكي قصة فعلاً تستنزف الدموع والمآقي، يحكي ابن بطوطة – رحمة الله عليه – كيف أنه ذهب إلى الديار الهندية وجاء يُصلي مرة صلاة الجماعة في أعظم مسجد في الحاضرة في دلهي، وبعد ذلك ما الذي حصل؟ قال تأخَّر سُلطانهم، فالإمام انتظر قليلاً وبعد ذلك قال لقد تأخَّر ومن ثم سنُصلي، قال أقِم الصلاة ودخل في الصلاة، وجاء بعد ذلك السُلطان المغولي وصلى عند الأحذية لدى باب المسجد، صلى هناك وانتهى الأمر، وبعد أن أنهى الصلاة ذهب ابن بطوطة إليه فقال له يا أيها الشيخ – لابن بطوطة – إذا عُدت إلى بلادك فأخبِرهم أن سُلطان المُسلِمين في بلاد الهند يُصلي مع العامة وعند الأحذية ويُقبِّل يد الشيخ، وقد قبَّل يد الإمام فيما بعد، انظر إلى الرقة التي كانت عند هؤلاء، وهؤلاء مَن؟ هؤلاء المغول، وقد خرج منهم التتار، الإسلام أحالهم إلى شيئ مُختلِف تماماً، وأقاموا حضارة وما إلى ذلك، فيا ليتنا نتخفَّف من فكرة السيف قليلاً ومن قولنا نُريد أن نفتح العالم، هذا كلام فارغ، سوف نفتح العالم بالقرآن بإذن الله.

– سمح الإستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور أن يُلقي سؤالاً قائلاً تفضَّل يا سيدي، فسأل عن فتح القسطنطينية وأنه مغفور لمَن يفتحها وهذا يُعَد تحفيزاً.

قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أنا سأقول لك الجواب وهو يتعلَّق بروما أيضاً، في الحقيقة الإمبراطورية البيزنطية لم تكف شرها عن المُسلِمين، حين تقرأ تفاصيل التاريخ سوف تجد هذا، هم لم يتركونا، مثل الرسول عليه السلام، مثل الرسول الذي أُنزِل عليه وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩، الله يمتن علينا ويقول القتال شيئ كريه، قال الله عنها ذَاتِ الشَّوْكَةِ ۩ وهي كريهة جداً جداً، علماً بأن الإسلام لم يُحِبها ولا العرب، يُوجَد مبحث تاريخي وأدبي وفكري مُهِم جداً، يعتقد المُؤرِّخون والناس العاديون عموماً أن العرب يُحِبون القتال، وهذا غير صحيح، العرب يكرهون القتال ولكنهم يُحِبون الشرف والأنفة أكثر من الحياة، وهذا موضوع ثانٍ، ويُسمون فعلاً الحرب الكريهة، العرب يكرهونها جداً جداً جداً، بالعكس هم مُسالِمون بطبيعتهم، والقرآن جاء يسير في نفس هذا المسار، ولكن الرسول حين رأى أن الروم لا يتركونه ويُؤلِّبون عليه وقتلوا عمّاله في نواحي الأردن وما إلى ذلك – أليس كذلك؟ قتلوا ثلاثة – أراد أن يُرهِبهم، وذهب في العُسرة وحدث ما حدث، والحمد لله لم يقع أيضاً قتال، وربنا يمتن دائماً بأن لا هناك قتال، وقال الله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۩، وطبيعي طبعاً أن أي قوة كبيرة في حدود إمبراطورية تفعل هذا، وطبعاً الإسلام في النهاية أصبح إمبراطورية، لكن كلمة خلافة أفضل من كلمة إمبراطورية، لأن كلمة إمبراطورية تاريخياً ما معناها؟ معناها وسط وأطراف أو مركز وأطراف – Peripheries – ودائماً يُؤخَذ خير الطرف ويُوضَع في المركز، هذا لم يحدث حتى في عهد الأمويين والعباسيين بهذه الطريقة البشعة، بل على العكس، أنا قرأت إتش. جي. ويلز H. G. Wells في The Outline of History، أي معالم التاريخ الإنسانية شيئاً مُهِماً، وهو مُؤرِّخ إنجليزي كبير، ويلز Wells يقول كان الإسلام إذا دخل بلداً لا تسير فيها النهضة وإنما كانت تقفز قفزاً، والله العظيم قال هذا، شاكر – المُؤرِّخ السوري الكبير وعنده كتاب عن الأندلس أيضاً – ماذا يقول؟ يقول عمر وحده ويُسمى أبا المُدن في الإسلام اختط وحده – انظر إلى هذه العبقرية العُمرية – زُهاء سبع مدن، وأما المُدن الحواضر التي أنجزها وأنشأها المُسلِمين وهي دُرر وسُرَّة في الدنيا فزُهاء سبعين حاضرة، وهذا شيئ لا يُصدَّق يا إخواني، هذا الإسلام وهذا مجد الإسلام، فطبيعي في فترات مُعيَّنة حين نشعر ونتوجَّس – لا نتوجَّس فقط فهناك دلائل حسية ومادية مُتوالية – ونعلم أن الآخرين لا يتركونا وشأننا ويتربَّصون بنا ويتألَّبون علينا باستمرار أن نُؤمِّن حدودنا، هذا يحدث بشكل عادي.

– قال أحد الحضور العقل الفلسفي يُثبِت القيم العُليا كالخير والعدل والكرامة الإنسانية دون الحاجة إلى المرجعية الدينية، إذن ما حاجة القانون المدني إلى الدين؟

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً هذا غير صحيح، طبعاً نحن لا نُسلِّم مُقَّدمة السؤال، أن العقل – أي العقل الفلسفي كما يقول الأخ أو الأخت الفاضلة بارك الله فيه أو فيها – يستطيع أثبات هذه القيم، بالعكس نحن اليوم لا نقول بهذا، وهذه المُداخَلة الأخيرة كانت عن ماذا؟ عن الإطلاقية والنسبية، هل يستقل العقل بهذا الشيئ؟ إذا قلت أنه يستقل فعليك أن تُوقِفنا على الإلزام وأساس الإلزام، أليس كذلك؟ النسبي يقول هذا الإلزام غير موجود، ولذلك لا تُوجَد مباديء ثابتة، إذن لابد أن يتورَّط في نهاية المطاف – كما قلنا – في عدمية أخلاقية، لن يكون هناك حتى أي مُبرِّر للمُفاضَلة بين ما تراه أنت خيراً وشراً، لن يكون هناك أي شيئ فاضل، فقط هو هذا، مُجرَّد أمور مُتحرِّكة، أما الإطلاقي – كما رأينا في النهاية – لابد أن ينتهي بطريقة أو بأُخرى إلى تعيين الدين والوحي، أي تعيين السماء كأساس للإلزام، من غير السماء من الصعب أن نفعل هذا، أنا حين حكيت موضوعاً وهناك أخت أيضاً سألتني عن هذا الموضوع وقد أجبنا، وهو موضوع أن هناك أخلاقاً بلا دين وأن هناك ملاحدة أخلاقيين مثل ماركس Marx وما إلى ذلك، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة، يُوجَد فرق بين إلحاد أخلاقي وبين مُلحِد أخلاقي، لا يُوجَد إلحاد أخلاقي، الإلحاد بشكل صرف – Pure – ليس أخلاقياً، مُستحيل أن يكون الإلحاد أخلاقياً، لكن يُمكِن أن يُوجَد مُلحَد أخلاقي، فماركس Marx كان مُلحِداً وكان أخلاقياً، وتشي جيفارا Che Guevara كان مُلحِداً وكان أخلاقياً، فلا تُوجَد مُشكِلة، لماذا؟ لأنه في النهاية بشر وهو يعيش في مُجتمَع، هذا المُجتمَع لا يستطيع أن يُفلِت من تأثيرات الدين بطريقة أو بأُخرى، أليس كذلك؟ الدين يتظاهر ليس فقط في النص الديني وإنما في الأدب وفي الفن وفي المتاحف وفي العمران، أليس كذلك؟ وفي الشعر وفي الأساطير وفي أشياء كثيرة جداً جداً جداً، لا تستطيع أن تُفلِت منه، ولذلك حتى مُعجَم الملاحدة تجد فيه خطابات وكلمات وتعبيرات دينية، فأنا لا أُريد الدين بمعنى النص الديني الجاهز، الديني أوسع من هذا، هل تعرف ما هو الدين بالمعنى الأعم في النهاية؟ الإيمان بالله، الإيمان بالمُفارِق، الإيمان بقوة فوق هذا الكون وهي مُسيطرة عليه، بمعنى ألا نكتفي بالكون كمنظومة مُغلَقة كالماديين، إذا لم نكتف سوف نكون مُتدينين بمعنى أو بآخر، أي بالمعنى الأوسع للدين، هذا هو، والأخلاق دائماً لابد أن تعود إليه على مذهب الإطلاقيين، إذا لم تُؤمِن بالمُفارِق لن يكون من الصعب بل تقريباً سيكون من المُستحيل أن تُعيِّن لي أساس الإلزام الأخلاقي، لن تستطيع هذا أبداً، وفي النهاية سوف تُصبِح نسبياً وفي النهاية الأخلاق كلها سوف تعدم قيمتها، أليس كذلك؟ سوف يستوي الخير والشر لأن المعايير مُتغيِّرة باستمرار دون أي مُشكِلة وهذا الذي يحدث، علماً بأن الغرب حين علمن نفسه بهذه الطريقة شبه الشاملة كما يُسميها المسيري رأينا إلى ماذا انتهى، إلى الفاشية والنازية والستالينية، شيئ مُخيف ومُرعِب، هذا شيئ مُرعِب وغير طبيعي، وإلى الآن هو كذلك، هذا الغرب المُتحضِّر رغم أن فيه طبعاً مزايا إنسانية عظيمة جداً وتُلهِم وتُوحي فيه أيضاً منازع غريبة جداً جداً جداً، حين نسمع – مثلاً – وزير دفاع كبير في دولة مشهورة عالمياً يقول هذا لا يهم، هذا الثمن – Cost – مُحتمَل، ما هو مثلاً؟ هلاك مليون شخص، قال مُحتمَل، هلاك مليون شخص يُعَد أمراً عادياً، وهلاك مائتين وخمسين ألف نذبحهم لكي نُحقِّق أهدافنا مُمكِن، هو هذا، هذا نوع من العدمية الأخلاقية، ولذلك أنا أسميت هذا النجاح كما يُسمونه بأنه النجاح في الفشل الكبير، هذا أكبر فشل في النهاية، وهو الفشل الأخلاقي.

– سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور أن يُلقي سؤالاً قائلاً تفضَّل، فسأله عن الروائيين العرب الذين يلفتون انتباهه لأنه تحدَّث عن دوستيوفسكي Dostoyevsky والوجودية.

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً لأكون صادقاً أنا في الحقيقة لا تُعجِبني القراءة للروائيين العرب كثيراً، قرأت لنجيب محفوظ، ولم أقرأ كل أعماله في الحقيقة وإنما بعضها، وهو روائي كبير بلا شك، فيما عدا نجيب محفوظ لم أقرأ لروائيين كبار إلا طبعاً الحكيم فقد قرأت له أشياء، وقرأت الروايات التي أثارت اللغط، فيما عدا ذلك أنا أقرأ للروائيين الأجانب، أرى شيئاً مُختلِفاً حقيقاً، وهم أعمق بكثير، أراهم أعمق من الروائيين العرب.

رغب السائل نفسه في معرفة أسماء أبرز الروائيين الذين يقرأ لهم الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم فقال بدوره أبرزهم دوستيوفسكي Dostoyevsky فضلاً عن الكبار التقليديين طبعاً مثل هوجو Hugo وديكنز Dickens ومن الأمريكان المُعاصِرين شتاينبك Steinbeck فقد قرأت له الكثير، وكذلك الحال مع الفرنسيين فقد قرأت لهم، قرأت لإسكندر دوماس Alexandre Dumas وابنه – الأب والابن – أيضاً، فهناك الكثير لكن أكثر مَن يُعجِبني هو دوستيوفسكي Dostoyevsky، فهو يُعجِبني كثيراً.

– قال أحد الحضور عنده سؤال شخصي، وطلب أن يُحدِّثنا الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عن نشاطه اليومي من الصباح إلى المساء.

قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم والله أنا لا أُحِب الأسئلة الشخصية فهي تُحرِجني، ثم أنني كلما تحدَّثت عن شخصي أندم والله العظيم، ذات مرة ندمت كثيراً، ما أهمية الحديث عن شخصي وما إلى ذلك؟ ابحثوا عن شيئ غير شخصي، سأقول لك بصراحة أنا في النهاية غير مُنظَّم في حياتي، عندي أولوية وهي القراءة، محور حياتي كلها في الليل وفي النهار القراءة، وكل شيئ غير القراءة عَرضي في حياتي، النوم والأكل والشرب والزيارات والمواعيد كلها أمور عَرضية لا تهمني، ولذلك يُمكِن أن تراني نائماً في الساعة التاسعة صباحاً، يُمكِن أن أسهر طوال الليل وأنام في الساعة التاسعة صباحاً، وعموماً أنا سهّير من أجل القراءة، القراءة عندي هي الأولوية المُطلَقة، سبحان الله وكل شيئ ينتظم حول القراءة، هو هذا.

– قال أحد الحضور هل الاكتشافات العلمية هي المُقدِّمات لأي نظرة فلسفية جديدة للإنسان والكون؟ واستشهد جاليليو جاليلي Galileo Galilei وديكارت Descartes.

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً هذا في زعم برتراند راسل Bertrand Russell، برتراند راسل Bertrand Russell تحدَّث عن الفلسفة التحليلية في إنجلترا، وقال انتهى عهد الفلسفة العقلية والتأملية، الفلسفة انحصرت الآن – وتقريباً كل التحليليين عندهم نفس النزعة – في أن تكون تعليقاً على العلم، ماذا يقول العلم أولاً ثم نأتي نحن بعد ذلك كفلاسفة ونتكلَّم، هذا ما قاله برتراند راسل Bertrand Russell، فقط هذا هو، لكن في رأي الآخرين هذا غير صحيح، وطبعاً نحن لا نُوافِق على هذا، لا نُوافِق على هذا مُطلَقاً ولك أن تتخيَّل هذا، فالفلسفة الميتافيزيقية ستبقى فلسفة بحيالها، يُمكِن أن تستعين ببعض الطروحات والنتائج – أهلاً وسهلاً – لكن بالعلم وبغير العلم هي مُستمِرة وباقية، وهي أعمق من الطروحات العلمية حقيقةً، لكن في نظر التحليليين الفلسفة انتهت وبقيَ الآن التعقيب على العلم.

– قال أحد الحضور أن عنده سؤالين تقريباً في محور واحد، السؤال الأول كيف نصنع العقلية الفلسفية مع ذكر أهم مراجع الفلسفة؟ والسؤال الثاني ما هو أثر حركة الترجمة في الأمة اليوم؟

– أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً الترجمة شبه مُنعدِمة للأسف، طبعاً تُوجَد ترجمات، في الكويت – ما شاء الله – مشاريع مشهورة، وفي مصر بالذات مشاريع، والعراق أيضاً كان فيها مشروع ترجمة، لكن كل هذه المشاريع حين تأتي تُقوِّمها علمياً وتراها تجد أنها للأسف تقريباً تكاد تكون صفراً في المائة، في تقرير التنمية العربية لعام ألفين وثلاثة – على ما أذكر – ما تُنجِزه إسبانيا من الترجمات في سنتين – وإسبانيا ليست دولة مُتقدِّمة وكانت الإحصائية عن سنتين – أكثر مما أنجزه العرب من ترجمات من عهد المأمون إلى تلك السنة، أي إلى سنة ألفين واثنين تقريباً أو ثلاثة، هذا يحدث في سنتين، اليونان – اليونان اليوم دولة مُتقدِّمة – تُترجِم أكثر من العرب، تركيا تستهلك الكتاب والورق أكثر من مجموع العرب كلهم، هذا مُهِم لكي أكون واضحاً معك، للأسف ما زلنا أمة لا تقرأ، نحن لا نقرأ، العرب لا يقرأون، استهلاك الكتاب عندنا ضعيف جداً جداً جداً، أنا أرى – بفضل الله – أن من أكثر الناس الذين يقرأون وما إلى ذلك الشباب المُسلِم اليوم، كل شاب مُسلِم عنده مكتبة في البيت، وهذا شيئ مُمتاز ويُحسَب حقيقةً للعالم الإسلامي، كل شاب مُسلِم عنده مكتبة فيها مائتان أو ثلاثمائة كتاب على الأقل، لكن أحياناً تجد أحدهم يكون غير مُلتزِم وغير مُسلِم ويكون دارساً للفلسفة لكن مكتبته كلها مُكوَّنة من عشرين أو ثلاثين كتاباً، فهو لا يهتم بهذا، وهناك أناس مُثقَّفون طبعاً غير إسلاميين موجودون لكن على قلة أيضاً، والمُسلِم لا يقرأ بالقدر الكافي، أنا أقول لك علماؤنا حتى لا يقرأون بالقدر الكافي، نحن لا نعشق القراءة، في القديم كان الوضع مُختلِفاً تماماً، فإن شاء الله يُصبِح الوضع أحسن، يُوجَد تقدم إلى حدٍ ما وسيُحدِث تأثيراً شيئاً فشيئ إن شاء الله.

– رغب السائل في معرفة أهم المراجع الفلسفية فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم والله من الصعب أن نقول أهم المراجع، والفلسفة عالم كبير جداً، لكن يُمكِن أن ننصح الشباب والأخوات المُبتدئين والمبتدئات – مثلاً – بقصة الفلسفة لويل ديورانت Will Durant، فهذا الكتاب جيد، لو شُفِعَ بقصة الفلسفة الحديثة لأحمد أمين وزكي نجيب محمود سوف يكون هذا أحسن، لماذا؟ هذا الكتاب عالة على قصة الفلسفة لديورانت Durant، لكن في بعض المباحث أحسن من ديورانت Durant خاصه أنه وسَّعها، فمثلاً كانط Kant حين تحدَّث عنه تحدَّث عنه بطريقة أحسن من Durant وأوضح وأكثر علميةً، فهذا جيد أيضاً، قصة الفلسفة اليونانية أيضاً للاثنين – أي لمحمود وأمين – جيدة وسهلة، الأفضل منها الفلسفة اليونانية لوالتر ستيس Walter Stace، وقد تُرجِم هذا الكتاب، وعرضه فيه مُمتاز.

– ذكر أحد الحضور كتاب قصة الحضارة وقال أنه قد يكون مُغنياً، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أن هذا الكتاب لا يُغني عن الكتب التي ذكرها، لأنه كتاب تاريخي، ثم استأنف حديثه قائلاً من الكتب الجميلة جداً بعد ذلك كتاب مباهج الفلسفة، هذا من أجمل ما تقرأ على الإطلاق، مباهج الفلسفة Pleasures of philosophy، وفي الأصل كان يُوجَد The Mansions of Philosophy، فويل ديورانت Will Durant هو صاحب كتاب مباهج الفلسفة وهو مُترجَم ترجمة مصرية في الستينيات في جُزئين، هذا الكتاب مُمتاز جداً وروعة، أسس الفلسفة لتوفيق الطويل – رحمة الله عليه – كتاب أكاديمي جامعي وقد طُبِع تسع عشرة طبعة، هذا الكتاب – أسس الفلسفة – مُمتاز وجيد، إذا أخذنا بعض المباحث سأنصح بكتاب العقل والوجود ليوسف كرم، هذا الكتب – العقل والوجود – مُمتاز، ويُوجَد كتاب آخر له اسمه ما بعد الطبيعة، هذا الكتاب ليوسف كرم في الميتافيزيقا.

– قاطع أحد الحضور الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً هل يوسف كرم فيلسوف وضعي؟ فأجاب بدوره لا لأنه كان يُعارِضها، هو كان فيلسوفاً عقلانياً، ثم استانف حديثه قائلاً عندنا بعد ذلك كتاب مباديء الفلسفة لهنتر ميد Hunter Mead ترجمة فؤاد زكريا، وهو كتاب مُمتاز يُقرأ مع مباهج الفلسفة بنفس الطريقة، يطرح الفلسفة في شكل موضوعات، يذكر موضوعاً ويتكلَّم عن كل ما قيل فيه طبعاً بطريقة مُركَّزة لكنها جيدة، فهذا الكتاب لهنتر ميد Hunter Mead وهو ترجمة فؤاد زكريا.

– طلب أحد الحضور مراجع عن الفلسفة الإسلامية، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم سنتحدَّث عن الفلسفة الإسلامية لكننا سنبدأ بشيئ مُبسَّط، يُوجَد عندنا كتاب تاریخ الفلسفة في الإسلام لدي بور De Boer الفرنسي وترجمة عبد الهادي أبو ريدة رحمة الله عليه، بعد تاريخ الفلسفة الإسلامية لدي بور De Boer   وترجمة أبو ريدة، مُهِم جداً في الفلسفة الإسلامية تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية لمُصطفى عبد الرازق، وهو أخو عليّ الذي كان شيخ الأزهر، هذا كتاب جيد وله قيمة، بعد ذلك كتاب من جُزئين اسمه في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه لإبراهيم بيومي مدكور، علماً بأن هذه رسالته للدكتوراة وهي مُمتازة، وقد كان رئيساً للمجمع اللغوي في القاهرة رحمة الله عليه، فإبراهيم بيومي مدكور عنده كتاب اسمه في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه في جُزئين وهذه كانت رسالته العُليا وهي مُمتازة، بعد ذلك لكي نتوسَّع – هذه الكتب السابقة لا تُغني لكن هي مُقدِّمات جيدة لكي تفهم الفلسفة الإسلامية – خُذ أربعة عشر – الفلسفة الإسلامية – بهذا الاسم – أو مباديء الفلسفة الإسلامية وكل منهما في مُجلَّدين، وهما شبه مُتطابِقان، هما نفس الشيئ، إذا لم تجد هذا خُذ هذا، عنده كاتبان عبد الجبّار الرفاعي، كتاب في مُجلَّدين اسمه الفلسفة الإسلامية وكتاب اسمه مباديء الفلسفة الإسلامية وهو الكتاب الثاني، هذا مُتطابِق مع ذلك، وعبد الجبّار الرفاعي شيعي وهو رجل مُتفتِّح جداً وغير مُتعصِّب، فهو رجل مُمتاز، يا ليت كل الشيعة يُفكِّرون بهذه الطريقة، رجل مُتفتِّح لا يُؤمِن بالعصبيات، الآن يُوجَد عندنا رقم خمسة عشر، إذا وجدتم هذا سوف يكون جيداً وهو كتاب سهل اسمه أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للطباطبائي ومُطهري، هذا الكتاب يعرض للفلسفة من منظور فيلسوف إسلامي.

عرض أحدهم على الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم ورقة كُتِب فيها عبارة كيف لم تُكفَّر؟ ثم قال له أن المقصود كيف لم تكفر؟ فقال له فضيلته لا، المقصود كيف لم تُكفَّر وليس كيف لم تكفر، مُستحيل أن يكون المُراد كيف لم تكفر، المُراد كيف لم تُكفَّر طبعاً، لأنه لو قال كيف لم تكفر فهذا يعني أن كل كلامي كلام كفر، لكنه لم يقل هذا، فمن المُؤكَّد أن المقصود كيف لم تُكفَّر؟ وقد كُفِّرت طبعاً، كُفِّرت وألَّفوا كتباً عني، يُوجَد كتاب أسموه الكتاب الأسود، لأنه – سبحان الله – أسود وقد طبعوه بالأسود ووزَّعوه في النمسا وما إلى ذلك، كلام فارغ، أُناس بُسطاء، نقول لهم ناقشوا لكنهم لا يُناقِشون، يُكفِّرون فقط في الخارج، أقول لهم تعالوا ناقشوني، أنا جالس وحي أُرزَق، أنا جالس في المسجد تعالوا، وهذا طبيعي، مَن لم يُكفَّر؟ البُخاري – رحمة الله عليه – كُفِّر، أليس كذلك؟ مُسلِم كُفِّر، فالمُراد كيف لم تُكفَّر وليس كيف لم تكفر، لأن كيف لم تكفر سؤال غير معقول، ما معنى كيف لم تكفر؟ أنا حكيت أشياء – مثلاً – في هذه الدورة أعتقد أنها دعم قوي جداً جداً جداً للإيمان بالله – تبارك وتعالى – من خلال العلم وحقائقه، بالعكس هذه أشياء جيدة، وأنا – بفضل الله – من صغري حين كنت في الأعدادية عدد لا يعلمه إلا الله من أُناس كانوا في الأربعين وفي الخمسين وكانوا مُثقَّفين كباراً دخلوا إلى الإسلام على يدي، كانوا ماركسيين وأنا كنت في الإعدادية بفضل الله، كنت ولداً صغيراً، فهذا معروف عني، أنا حين كان عمري أحد عشر سنة أراد الشيوعيون في غزة قتلي، أرادوا قتلي وهدَّدوا به حين كان عمري إحد عشر سنة، كنت أكتب مجلات وأبحاث ودراسات عن ماركوز Marcuse وعن فرويد Freud وعن ماركس Marx وأنشرها وكنت معروفاً، فقالوا سنقتله، وكيف اكتشتفت هذا؟ أتيت ذات مرة إلى المسجد الذي كنا نختلف إليه – المسجد إليه – فدخلت وإذا برجل – رحمة الله عليه – كان اسمه أبو مازن ويحمل ابنه – ابنه الكبر – مازن وكان يُقسِم، وكان – ما شاء الله – رجلاً جلداً وقوياً وشجاعاً، قال أنا أُقسِم بالله سأفدي عدنان بابني هذا – وأشار إلى ابنه – وأفديه بنفسي، فقلت عدنان! عدنان مَن؟ لم يخطر على بالي أن المقصود هو أنا، قلت ما القصة؟ وهو اسمه عدنان، أعني أبا مازن، هو اسمه عدنان أيضاً فقلت قصده مَن؟ بعد ذلك كان يُوجَد رجل اسمه حجازي وكان من تلاميذ عبد الله عزام رحمة الله عليه، كان صديقي وكان كبيراً، فقلت له يا حجازي عن مَن يتحدَّث؟ فقال لي عنك، قلت له عني! لقد قال أنه سيفديني، لماذا سيفديني؟ ما هذه القصة؟ قال لي هذه مُشكِلة، فقلت له لا، قل لي، قلت له أنا لا أخاف، وفعلاً كنت شجاعاً قوي القلب، قلت له أنا لا أخاف من شيئ، ما الذي حدث؟ قال لي جاءنا تهديد بقتلك، قلت له قتلي! مِمَن؟ قال لي الشيوعيون، قالوا سنقتل هذا الولد، سنقتله لأنه خطر كبير علينا، وفي هذه الأيام كنت جالساً مع رجل شيوعي كبير في المُعسكَر، بلغ الخامسة والأربعين من عمره وكان يُدرِّس البيولوجيا – Biology – في الثانوية، ابن عمه جاء يُصلي وسمع لي لأن كان عندي دروس وكانت هناك أسطوانة وكنت أُدرِّس وعندي جماعتي فتـأثَّر كثيراً وقال لي يا شيخ أنا أُريد أن آخذك لابن عمي، قلت له لماذا؟ قال لي هذا شيوعي، هل تُحِب أن تُناقِشه؟ قلت له على الرحب والسعة، وذهبنا إليه في المنزل وحين رآني جالساً احتقرني طبعاً لأنني كنت ولداً صغيراً وكنت ضعيفاً، كأنه يقول مَن هذا الذي أتى لكي يُناقِشني؟ وكان ينظر إليه بغضب كأنه يقول له كيف أتيت لي بهذا؟ هل أنت تحتقرني؟ وبدأت مع هذا المسكين قائلاً سنبدأ بالمقولات الديالكتيكية، فقال مقولات! حين بدأت أُناقِش هذا المسكين ذُهِل، ذُهِل الرجل وبعد ذلك دخل معي في التطور الخاص بداروين Darwin وتحدَّثت معه لأنني كنت قرأت أصل الأنواع ولخَّصته، وتلخيصه عندي إلى اليوم، لم يُصدِّق الرجل وقال له هل أنت تعرف هذا الولد؟ قال له عمره العقلي لا يقل عن خمسين سنة، قال له مُستحيل، فقال له هذا كذا وكذا، سبحان الله من تلك الجلسة – بفضل الله عز وجل – أصبح يُصلي والتحق بالمسجد وترك كل هذا الكلام، وهو رجل مُثقَّف وأستاذ في الثانوية وما إلى ذلك، فقالوا هذا الولد خطير وسوف يُفسِد كل شيئ هنا، وهذا تكرَّر أكثر من مرة بفضل الله، مَن أجلس معه يقتنع، جلسة واحدة وينتهي الأمر، ومَن لا يقتنع يُفحَم والناس تضحك عليه ويُلعَب به، فهم هددوا بقتلي، والحمد لله إخواننا المُسلِمين قالوا لهم إذا قُتِل هذا الولد لن نترك شيوعياً في هذا المُعسكَر إلا نقتله، فقالوا لن يحدث هذا، فأنا الآن أُسأل لماذا لم تُكفَّر؟ بالعكس، وطبعاً حتى السؤال يُمكِن أن نجعله لماذا لم تكفر؟ والجواب هو أنني لم أجد شيئاً واحداً يحملني على أن أكفر، هذا هو، لم أجد – والله – أبداً، لم يحدث هذا – والله – أبداً، وأنا الباحث عن الله من صغري، الأدلة كلها تتظاهر عليه – لا إله إلا هو – والله العظيم، يُمكِن أن أشك في نفسي لكن لا أشك في الله، عادي أن أشك في نفسي لكن مُستحيل أن أشك في الله، وهذا اليوم شرحته للشيخ عبد الله، هذا اسمه برهان الصديقين، وقد قرَّره ابن سينا وبعد ذلك قرَّره المُلا صدرا فضلاً عن أن فيلسوفاً فرنسياً قرَّره في خمسمائة صفحة، برهان الصديقين عكس كل البراهين، يقول الله لا يُستدَل عليه – وهذه الطريقة ليست قوية – وإنما يُستدَل به على كل شيئ، علماً بأن ديكارت Descartes كان يُؤمِن بهذا، ديكارت Descartes كان يرى أن الله والإيمان بالله ونور الله هو معيار الإيمان بكل شيئ آخر، وقد أثبتها بطريقة فلسفية، لكن ابن سينا أفضل، فبرهان الصديقين هو نفسه لكنه أقوى بكثير، فالقرآن الكريم أشار إليه، قال الله سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ ۩، هذه الطريقة العادية، فتستدل على الله، بعد ذلك قال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، فصار هو – تبارك وتعالى – برهان كل شيئ، فلا يُستدَل بشيئٍ عليه لأنه أكبر من كل شيئ، ولذلك أبو بكر الشبلي – دلف بن جحدر – الصوفي الكبير والشاعر – عنده ديوان شعر – ماذا يقول؟ يقول كل إشارة من الخلق إلى الحق مردودة عليهم حتى يُشيروا بالحق إلى الحق، كيف تستدل عليه وهو دليل كل شيئ لا إله إلا هو؟ فطبعاً لم أكفر لأنني لم أجد سبباً واحداً يجعلني أكفر، نسأل الله العصمة والثبات، أهم شيئ أن نموت على الإيمان، والله العظيم هذا أهم شيئ يا إخواني، علماً بأن هذه مسألة صعبة وليست سهلة، أعني أن تموت على الإسلام، قال الله وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ۩، نسأل الله التثبيت، قال الله وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩، سُفيان الثوري دخل عليه مرة يوسف بن أسباط، قال فنمت عنده ليلة وكان يبكي طوال الليل، انفجر الفجر وهو يبكي، أي سُفيان الثوري، فيقول يوسف فقلت له يا أبا سعيد أتبكي لذنوبك؟ فأخذ تبناً من الأرض وقال الذنوب على الله أهون من هذه – الله يغفر الذنوب، الله غفّار لا إله إلا هو، لا مُشكِلة مع الذنوب – إنما أبكي خشية أن يسلبني الإسلام، منصور بن عمّار كان رجلاً من الأولياء الكبار وهو مشهور، وله مقام عظيم في الورع والعرفان والزهد، يقول كان لي أخٌ في الله يزورني في شدتي ورخائي، لا يقطعني، وذكر من اجتهاده في العبادة صلاةً وصياماً وقياماً وذكراً وتألهاً، كان – ما شاء الله – شيئاً عجيباً، قال ثم انقطع عني مُدة فسألت عنه فقيل هو يشتكي، عليٌّ يشتكي، قال فدخلت عليه فإذا هو مضطجِعٌ على فراشه وقد ازرق لونه وغلظت شفتاه واحمرت عيناه، الموضوع صعب، فهو كان يُنزَع لكن وجهه غير مُطمئن، لماذا كان كذلك؟ هناك شدة شديدة، قال فقلت له يا أخي أكثر من قول “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” يُخفَّف عنك، فنظر إلىّ شذراً، أي باحتقار، فقلت له ما بك؟ يا أخي قل “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، فلم يُلبِّه، لم يقلها، والرجل كان يموت، قال فقلت له لا والله، إذا لم تقلها لا غسلتك ولا كفنتك ولا صليت عليك، فقال يا أخي يا منصور هذه كلمة حيل بيني وبينها، فقلت ماذا؟ وأين الصلاة؟ وأين القيام؟ وأين الذكر؟ وأين الصوم؟ قال كلها أعمال كنت أعملها للناس، لكي أُرى ويُقال، وقد حيل الآن بيني وبينها، قال ومات ولم يقلها، فالعملية ليست سهلة، فنسأل الله الثبات وحسن الختام.

– سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور أن يطرح سؤاله قائلاً تفضَّل، فسأل عن سبب البدء دائماً بالفلسفة اليونانية وتجاهل الشرقية، فأجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم بدوره قائلاً هذا خطأ، هذا خطأ طبعاً مشهور لكن له ما يُبرِّره طبعاً حتى عند مَن يعرف أنه خطأ، لماذا؟ طبعاً في الحقيقة الفلسفة لم تبدأ بالإغريق، ما يُعرَف بالمُعجِزة الأثينية أو المُعجِزة الإغريقية The Greek Miracle، لا يُوجَد شيئ اسمه مُعجِزة يونانية، هذا غير صحيح، إذا كانت هناك مُعجِزة فهي المُعجِزة الشرقية، برنال Bernal – ابن المُؤرِّخ الكبير – ألَّف كتاباً ضخماً في حوالي سبع مُجلَّدت – عمل جبَّار – اسمه Black Athena، أي أثينا السوداء، ويعني بأثينا السوداء أن كل هذا النبوغ في العلم والفلسفة له أصوله الشرقية في بلاد الشرق، ولذا أسماه بهذا الاسم وطبعاً ترجم منه أحمد عُتمان – بالتاء المُزدوَجة وليس بالتاء المُثلَّثة – حوالي خمس مُجلَّدات ما شاء الله، وهي ترجمة عظيمة ومُمتازة جداً، فهذه أثينا السوداء، وويل ديورانت Will Durant – ويل ديورانت Will Durant ذكرناه اليوم – في قصة الفلسفة كان يرى أن الفلسفة إغريقية والإبداع إغريقي ولم يُشِر بكلمة إلى جهود الشرقيين، لكن في قصة الحضارة أشار، فقد تطوَّر الرجل فكرياً ودرس، ألَّف قصة الفلسفة وهو شاب، قصة الحضارة ظل يُؤلِّف فيه خمس وعشرين سنة، وهو كتاب ضخم، فذكر أن الشرقيين هم الأصل، جورج سارتون George Sarton مُؤرِّخ العلم الأكبر صاحب أكبر موسوعة في تاريخ العلم وهو مُؤرِّخ أمريكي من أصل شرقي أيضاً – وأعني بشرقي أنه أوروبي طبعاً – ذكر أن المُعجِزة الإغريقية لها أب ولها أم، أما أبوها فهي الحضارة المصرية وأما أمها فهي بلاد ما بين النهرين Mesopotamia، قال هذا الأب وهذه الأم، كثير – الحمد لله – تحدَّثوا عن هذه الفكرة، والآن هذه الفكرة بدأت تتنشر، ففعلاً الشرقيون هم الأصل، أفلاطون Plato في طِيمَاوُس Timaeus – مُحاوَرة طِيمَاوُس Timaeus – ذكر أن اليونان كانوا ينظرون إلى كبارهم وعلمائهم على أنهم أطفال إذا ما قيسوا بحكماء مصر وكهنة مصر، فالفكر شرقي والعلم شرقي حقيقةً، لكن لماذا إلى الآن لا نفعل؟ مهدي فضل الله عنده كتاب اسمه الفلسفة نشأت في الشرق أولاً وأتى فيه بدراسات وأشياء، وهذا أمر مُمتاز، فهذا الموضوع أصبح الآن مُنوَّراً، لكن لماذا لا نفعل؟ أنا أقول لك بصراحة كل ما بين أيدينا من حكمة الشرق لا يُشكِّل مباحث فلسفية مُتكامِلة وحقيقية، هُتامات وشذرات بسيطة، ولذلك الذي يبدأ يبدأ فقط بهذه الإشارات ويقول تُوجَد هذه الأصول الشرقية، لكن لا يُمكِن الحديث عن فلسفة حقيقية، ليس لأنها لم تكن موجودة ولكن لأنها لم تصلنا، هذا هو السبب.

– قال أحد الحضور ما المقصود بسلبية الأفكار عند بيركلي Berkeley؟

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً نحن شرحنا طريقة بيركلي Berkeley أو مثالية بيركلي Berkeley الذاتية وذكرنا أن بعض المثاليين يُحوِّلون الأشياء إلى معانٍ، بيركلي Berkeley كان يُصِر على تحويل المعنى إلى شيئ، فهو لا يعترف للشيئ بأي واقعية حقيقية، وبعد ذلك نحن طرحنا التساؤل الذي طُرِحَ عليه، قيل لبيركلي Berkeley أنت تقول بهذا المعنى ولكن نحن لا إرادة لنا – هذه هي السلبية – في تخليق هذه المعاني، أليس كذلك؟ تنهل علينا على الرغم منا، كيف تأتي مُتناسِقة؟ وكيف تأتي مُتوافِقة بين أفراد مُختلِفين؟ أليس كذلك؟ المفروض أن تختلف إراداتهم ولكن مع ذلك لا إرادة لأحد في أن يستقبل هذه الأفكار وهذه الأشياء، فعاد يقول الله هو الذي يتكفَّل بخلقها، أنت ليس لك أي دور، فأنت حتى سلبي في أفكارك هذه، ولك أن تتخيَّل هذا، فأنت لا تُولِّدها بإرادتك، وهذا معنى سلبية الأفكار عند جورج بيركلي George Berkeley.

– أرادت إحداهن أن تشكر الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم على الدورة وتفضَّلت بالدعاء له ثم أشارت إلى الآية التي تقول اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، وسألت ما الحكمة في أن يصف الله نوره بهذا الشكل؟ ولماذا قال الله كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ۩ في حين أن نور الشمس أقوى من نور الكوكب مثلاً؟ واستأنفت حديثها قائلة أن هذا السؤال خطر ببالها وتوصلت إلى أن هذا العلم منحة من الله تبارك وتعالى، فهل المقصود أن يعلم الإنسان هذا العلم فقط أم أن يُترجِمه إلى عمل ويكون إنساناً يتقي الله ويُصلي ويصوم ويحج ويأتي فروض الله سبحانه وتعالى؟

أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً أحسنتِ وبارك الله فيكِ، هذه الآية الجليلة أفردها بعضهم بالتصنيف كالإمام أبي حامد في مشكاة الأنوار، أفرد هذه الآية بالتفسير على طريقة العارفين أو العُرفاء، ونُنبِّه فقط في تفسير هذه الآية من سورة النور – اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ – إلى أنها ليست على ظاهرها، بل هي مُؤوَّلة بنص الآية، فالله ليس نوراً، وإنما هي مجاز Metaphor، تُوجَد هنا استعارة واضحة، استعار الله النور تبارك وتعالى، هذه استعارة، لماذا؟ للإضافة، لأنه قال الله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ ولم يقل مثله وإلا قلنا هو نور، وإنما قال مَثَلُ نُورِهِ ۩ فأضافه إليه، إذن هذا نور الله، أليس كذلك؟ إذن الله ليس نوراً، لضرورة اختلاف المُتضايفين، أليس كذلك؟ المُضاف والمُضاف إليه شيئان مُختلِفان، الشيئ لا يُضاف إلى نفسه، قال الله مَثَلُ نُورِهِ ۩، وقال الله – كما تفضَّلتي حضرتك – يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ۩، أليس كذلك؟ وهذا يعني أن الله شيئ والنور شيئ آخر، لكن لماذا قال اللَّهُ نُورُ ۩؟ هنا الحكمة في الآية، انظروا إلى هذا القرآن الكريم الذي فيه دقة عجيبة، لماذا قال هذا؟ إشارة منه – تبارك وتعالى – إلى أن النور أكثر شيئ في عالم المخلوقات أو في عالم الوجود والمُمكِنات يُمكِن أن نُقارِب به لا نقول طبيعة الله – فالله ليس له طبيعة – وإنما أن نُقارِب به هذا المجد اللامُتناهي، أن نُقارِب به رب العالمين لا إله هو، التفكّر في طبيعة النور مُهِم جداً جداً، يُمكِن أن تكون أقرب مجازاً – Metaphor – إلى الاقتراب من الحقيقة المُطلَقة النهائية، في صحيح مُسلِم من حديث أبي موسى الأشعري – رضيَ الله تعالى عنهما – قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – بخمس كلمات فقال إن الله – تبارك وتعالى – لا ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، والخامسة؟ حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، فإذن هنا قال النبي حجابه النور، هو ليس نوراً، النور مخلوق، النور خلق من الخلق في النهاية، وله قوانين مادية تُدرَس في علم الفيزياء، أعني النور بكل أنواعه، طبعاً الأئمة الكبار كالإمام النووي في المنهج وهو شرحه على مُسلِم تحدَّث عن حجابه، وانتبهوا إلى أن الإضافة تُمثِّل دائماً مُشكِلة، والعربية مُتوسِّعة ومرنة جداً في الإضافات، والإضافة لأدنى مُلابَسة، وقد تكون على الفاعلية وقد تكون على المفعولية وقد تكون للبيان وقد تكون للبعضية، فهي تُمثِّل مُشكِلة، والله يقول حجابه النور، الحجاب الذي يحجبه أم يحجب عن خلقه عنه؟ يحجب خلقه، لأن الله لا يحجبه شيئ، لو كان النور له حاجباً لكان له ساتراً، ولو كان له ساتراً لكان له حاصراً، ولو كان له حاصراً لكان له قاهراً، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ ۩، هذا تعبير النووي – قدَّس الله سره – وهو شيخ مشائخ المُسلِمين، فإذن هذا الحجاب على معنى أنه يحجب خلقه، ولذلك في حديث أبي ذر وهو في صحيح مُسلِم يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال نورٌ أنى أراه؟ أنا محجوب بالنور، أي دوني دونه نور، فأنا حٌجِبت عنه – تبارك وتعالى – بالنور، هذا معنى قوله نورٌ أنى أراه؟ بعضهم حاول أن يضبطها نورانياً أراه، وهذا غير صحيح، هي نورٌ أنى أراه؟ لأنني محجوب، وهذا يُؤكِّد حديث أبي موسى الذي قال فيه حجابه النور.

نأتي لنتأمَّل في طبيعة النور حتى استعاره الله – لا إله إلا هو – بمجده، لماذا؟ اللَّهُ نُورُ ۩، طبعاً الصحابة كان واضحاً لديهم أن هذا المُركَّب ليس على ظاهره – ولكم أن تتصوَّروا هذا – وإنما بمعنى الإضافة، ابن عباس ماذا قال؟ قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ بمعنى الله هادي أهل السماوات والأرض، ويُروى عنه الله نوَّر السماوات والأرض، فهو فسَّرها بأنه نوَّر، ليس هو نفسه النور، حاشاه لا إله إلا هو، مات وهو يقول أنا لا أملك تفسيراً لكيف نرى، الرؤية مسألة مُعجِزة، كيف نُدرِك ونفهم؟ لا يفهم أحد هذا الشيئ، هذا كله بنور إلهي وبعطاء إلهي، وهذا كان أولاً، ثانياً النور يتخلَّل كل شيئ، تخيَّلوا الآن – مثلاً – أننا وُلِدنا في عالم ضحيان بالشمس والشمس مُسامِتة دائماً لنا، لنا نتخيَّل العالم بلا شمس، أليس كذلك؟ سينعدم مفهوم الظلام والظُلمة، وفي الحقيقة مفهوم الظلام ليس مفهوماً وجودياً وإنما مفهوم سلبي عدمي، لأنه ما هو؟ هو عدم النور، مثل الظل، ما هو الظل؟ الظل هو هذا الظلام، أضع حاجزاً دون سير الشعاع فيحدث الظل، أي أنه هو هذا الظلام، أليس كذلك؟ هو هذا، فهو ليس مفهوماً وجودياً، هو مفهوم سلبي أو مفهوم عدمي، فمن الشرور – كما يُسمونها – السلبية، فلو افترضنا أننا عشنا في هذا العالم الضحيان بالشمس المُسامِتة لنا على الدوام ماذا سوف يحدث؟ لن نشعر بالنور، أليس كذلك؟ لن نُدرِك أن هناك شيئاً اسمه النور وعنده صفات وما إلى ذلك، لن نُدرِك هذا، الله – تبارك وتعالى – حاضرٌ لا يغيب – لا إله إلا هو – بمدده وبفعله وبتأثيره وبتجليات أسمائه وصفاته، أليس كذلك؟ من شدة الظهور الخفاء، مثل النور، أليس كذلك؟ النور فقط أدركناه حين يغيب وينقطع، نحن أدركناه في هذه الحالة وإلا ما أمكن إدراكه، وأنا عندي تشبيه قديم، لنفترض – ليس النور الآن – أن هناك شيئاً مسموعاً، يُولَد الإنسان ومن لحظة ميلاده يُوجَد صوت يعمر الكون كله لكن على تواتر وتجانس أياً كان هذا الصوت، مثل مممممممم، يكون بنفس التجانس، لن يفطن له الإنسان ولن يسمعه، وسيموت دون أن يسمع هذا الصوت، لو هذا الصوت انقطع للحظة سوف يُدرِك الإنسان، سوف يقول ما الذي حدث؟ سوف يُدرِك وجود هذا الشيئ، دوام الله – لا إله إلا هو – وتخلل نوره لكل شيئ في الوجود يجعل الناس غير الصاحين وغير اليقظانين وغير المُلتفِتين إلى هذه الجوانب لا يشعرون به لا إله إلا هو، أليس كذلك؟ ولذلك الله – عز وجل – حين يُعطي بعض أوليائه وبعض الصادقين يكون ذلك بالتفات القلب منهم، القلوب مُلتفِتة إليه، هي تُريد لذلك، فانتبهوا إلى هذا، قال الله كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ ۩، والله لو أراد الإنسان لأُعطيَ، هذا مفهوم الإرادة، قال الله وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ ۩ وقال أيضاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۩، هل تُريد؟ مُشكِلتنا نحن – وهذا حتى عند المُتدينين والمُتدينات – في أننا لا نُريد، نحن نظن أننا نُريد لكننا في الحقيقة – صدِّقوني – لا نُريد، نحن نُريد المجد والشهرة والكلام وأن نُسلي بعضنا البعض وأن نذهب وأن نأتي وأن نرى بعضنا البعضَ، لو أردنا وجه الله حقيقةً وأرَّقنا هذا كما أرَّق الناس الصالحين والعُرفاء لكانت لنا أحوال مُختلِفة ولكان تديننا على نحو مُختلِف ولأدركتنا العناية الإلهية ولبدأنا نشعر بالحضور الإلهي بطريقة غير عادية بحيث لا يغيب عنا لا إله إلا هو، أرأيتم؟ كما قلت لكم يُمكِن أن تشكوا في كل شيئ ولا تشكون فيه لا إله إلا هو، فهذا كله مأخوذ من أمثولة النور، فيزيائياً إلى الآن النور حيَّر العلماء، سبحان الله هذا النور بالذات كسَّر رؤوس الفيزيائيين إلى الآن، لم يقدروا على فهمه، إلى اليوم طبيعة الضوء أو النور ليس مقطوعاً بها، فهم في النهاية عملوا حالة توافقية وقالوا عنده طبيعة مُزدوَجة، عنده طبيعة جُسيمية وعنده طبيعة تموجية أو موجية، كيف يا أخي؟ لأن سلوكه غريب عجيب ولا يُصدَّق، وهذا صحيح فعلاً، لن نشرح لكم هذا فهو موضوع طويل طبعاً ودارس الفيزياء يعرفه، وفعلاً هو يسلك المسلكين، يسلك سلوك جُسيمات في مرة وفي مرة أُخرى يسلك سلوك موجات ومن ثم لم نعرفه، كل شيئ عداه إما أن يكون موجة وإما أن يكون جُسيماً من الجُسيمات أو الدقائق، كل شيئ كذلك إلا الضوء، وهذا يعني أنه مُلغَز، ألبرت أينشتاين Albert Einstein في النسبية فعلاً تحدَّث عن هذا، علماً بأن كل النسبية هذه جاءت من خلال تفكير أينتشاين Einstein وهو صبي صغير في الضوء، ماذا لو امتطيت شعاع ضوء وحدث كذا وكذا؟ ظل يطرح هذه الأسئلة وفي النهاية إلى أن هذا الضوء أيضاً عنده حالات استثنائية وأنه يختلف عن كل شيئ في الكون، واعتبره أينتشاين Einstein السرعة المُطلَقة في الكون، من صفاته الغريبة جداً أن الضوء يسير بالسرعة المعروفة، مائة وستة وثمانون ألف ميل Mile في الثانية أو ثلاثمائة ألف كيلو متر تقريباً في الثانية، لكن لو دخل في وسط مُعيَّن – نفترض في ماء مثلاً – تختلف سرعته، أول ما يخرج منه يعود إلى نفس السرعة، لا يتسارع وإنما يعود إلى نفس السرعة من أول سنتيمتر، كيف يمتلك هذه الخاصية؟ هذا غير مفهوم، وعنده طبائع كثيرة غير مفهومة، فالفيزياء الحديثة مُهتَمة كثيراً بالضوء، فأُريد أن أقول هذا النور فعلاً هو أكبر شيئ يُمكِن أن يُستعار لكي يُقرِّبنا من رب العزة تبارك وتعالى، ولذلك هذا المُركَّب العجيب: اللَّهُ نُورُ – جعلها خبر – السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، وبعد ذلك قال مَثَلُ نُورِهِ ۩ لكي لا تقول أنه نور، هو ليس كذلك أبداً، كل شيئ من نوره لا إله إلا هو.

لكي لا نُطوِّل يُوجَد سؤال آخر للأخت أم محمد عن تحصيل العلم الرباني وما إلى ذلك، وأنا أظن أن حضرتها جاوبت، طبعاً بلا شك الإنسان حين يتنوَّر بالعلم بإذن الله – تبارك وتعالى – يُصبِح أخشع وأقرب إلى الله حقيقةً وعبادته تأخذ طابعاً مُختلِفاً، كل شيئ منه يختلف، مثلما قال أبو الدرداء يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، لماذا؟ لأن كل شيئ له معنى مُختلِف عندهم، هم ليسوا كالناس العاديين، وهذا كله يكون ببركة العلم وببركة النور وبلا شك العلم الرباني يُنوِّر صاحبه ويجعله أحد ذكاءً – هذا مُؤكَّد – وأكثر حضوراً وأكثر تلمحاً وأكثر التفاتاً – بإذن الله تبارك وتعالى – وأكثر بخوعاً وخشوعاً لأوامر الله عز وجل، فهذا موجود وقصة الإمام الشافعي مشهورة، رآه الإمام مالك وكان عمره عشر سنوات وطبعاً أعطاه المُوطأ وحفظه في أسبوع، فقال له يا محمد أرى في وجهك نوراً من الله – تبارك وتعالى – فلا تُطفئه بالمعصية، يُحافِظ الله عليه – بعون الله – بالطاعة، الطاعة تزيد تنوير الإنسان، قال:

إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى                   وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا.

هذا هو بلا شك، وحتى أنا أقول إذا كان سؤال أُختنا أم محمد عن وجود علم لغير المُسلِمين فأنا أقول لكِ العلم بطبيعته يُقرِّب من الله تبارك وتعالى، هذا مُؤكَّد لكن أحياناً لا يُوجَد التفات، يكون الإنسان مأخوذاً بتحصيل العلم وتحصيل الجوائز وما إلى ذلك، لكن لو التفت قليلاً سوف يدله على الله، سأحكي لكم حكاية سريعة في دقيقتين أو ثلاث دقائق، هذه الحكاية يرويها العالم المُسلِم الهندي عناية الله المشرقي رحمة الله تعالى عليه، هذا كان من كبار علماء الرياضيات والطبيعة، من رُتبة أينشتاين Einstein وإدينجتون Eddington والسير جيمس جينس Sir James Jeans وهؤلاء الجماعة، رجل خطير وعنده كتاب اسمه المجموع ورشَّحته بريطانيا – كانت تستعمر الهند في تلك الأيام – لجائزة نوبل Nobel، فرفض وقال لا، قال لا يُشرِّفني أن أتلقى الجائزة من بلد يحتل بلدي، فهو عالم كبير مثل أينشتاين Einstein وما إلى ذلك، المُهِم يحكي لنا قصة عن صديقه عالم الفلك والفيزيائي والرياضي الكبير السير جيمس جينس Sir James Jeans وهي قصة مُؤثِّرة جداً دائماً ما أحكيها، يقول كنت أمشي ذات مرة في شوارع لندن فرأيت السير جيمس جينس Sir James Jeans والمطر ينهمر ومعه المظلة – Umbrella – المطرية تحت إبطه وقد فتح كتاباً يقرأ فيه ورأيته مُتوجِّهاً إلى الكنيسة فرجَّحت أنه يقصد الكنيسة، قال فأتيته من الخلف فربت على كتفه فلم ينتبه لأنه كان مُستغرِقاً، ولاحظت أنه يقرأ في الكتاب المُقدَّس Bible، قال فعلتها مرة أُخرى – أي ربت على كتفه ثانيةً – فتنبَّه، قال مَن؟ عناية الله! أهلاً، فقلت له يا سيدي أمران، الأمر الأول المطر ينهمر والمظلة تحت إبطك، فقال نعم، لقد استُغرِقت في القراءة، شكراً، وهذه شذوذات العلماء الكبار، فهم كان مُستغرِقاً وفتحها، والأمر الثاني يبدو أنك تقصد الكنيسة، فقال له نعم، قال له سؤالي ما الذي يحدو بعالم مثلك طبَّقت شهرتك الآفاق أن يُشارِك العامة والعجزة والشيوخ مسألة الذهاب إلى الكنيسة، ما مسألة الكنيسة؟ أنت عالم كبير، عالم على مُستوى العالم، قال له أما هذا السؤال سأُجيبك عنه مساءً إذا شرَّفتني في بيتي، قال له متى الوقت؟ قال له متى الوقت؟ قال الساعة الخامسة مساءً، قال في تمام الخامسة كنت أمام البيت وقرعت الجرس فخرجت لي الليدي جيمس Lady James وقالت لي البروفيسور Professor في انتظارك، قال فلما دخلت عليه في الغرفة وجدت أمراً عجباً لم أره من قبل قط، لم يره حتى مع أي مُسلِم، وجدت شعر رأس السير جيمس جينس Sir James Jeans وقف كالمسامير – وقف حقيقةً من شدة الخوف والخشوع – وتنهل دموعه وتنهمر بغزارة، والرجل مأخوذ في إلقاء مُحاضَرة يُلقيها على نفسه ويكتب بعض الأشياء والرسومات على السبورة – Board – عن الكون وسعة الكون ومجراته ونجومه وما إلى ذلك، وكان الرجل يبكي وشعره رأسه كان واقفاً، قال فجلست وقد تملَّكني العجب من هذه الحالة، فكأنه أذِن بي بعد قليل فقال أنت هنا! أهلاً وسهلاً بك، قال تنفَّس الصعداء وقال يا عناية الله أنا سلخت من عمري خمسين سنة والناس يظنون أني أطلب العلم كالرياضيات والفيزياء – والرجل كتب حتى في العلم والموسيقى، وهذا اسم كتاب قرأته له، فهو عالم كبير وموسوعي – وأنا في الحقيقة أطلب العلم من أجل إثبات حقيقة أُخرى أهم وأشرف، فقلت له ما هي يا سيدي؟ قال لكي أُبرهِن للناس أن الذين يخافون الله حقاً ليسوا الجُهلاء بل العلماء، كلما عرفت وتعلَّمت أكثر تقترب من الله أكثر، قال – تبارك وتعالى – يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ – انظر إلى هذه الآية العجيبة في المُجادلة – وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ – بالإطلاق – دَرَجَاتٍ ۩، لو قال يرفع الله الذين آمنوا وأُتوا العلم منكم سوف يكون الشرط مُزدوَجاً، فيكون مُؤمِناً وعالماً، لكن الله لم يقل هذا، أي مُؤمِن – إن شاء الله – رفيع الدرجة بالإيمان، وأي عالم رفيع الدرجة حتى لو كان غير مُؤمِن، انظر إلى هذا، القرآن عجيب، وفعلاً أنت الآن حين ترى عالماً تحترمه حتى لو كان مُلحِداً، تقول هذا أخذ نوبل Nobel في الفيزياء – مثلاً – وتحترمه، تشعر بأنك أمام إنسان ليس سهلاً، هو هذا، قال فتبسمت، ضحك لأنه من خمسين سنة يعمل على هذا، قال فغضب وقال يا عناية الله لماذا تتبسم؟ أتحسب أن هذا الهدف هدفٌ يسير أو صغير؟ قلت له كلا يا سيدي، بل على العكس مما تظن، هذا شريف جداً جداً، لكن أنا أتبسم لأنك سلخت من عمرك الثمين المديد خمسين سنة لتُبرهِن للناس حقيقة قرآننا الكريم أوجزها في شطر آية، قال ماذا؟ قرآنكم فيه هذا؟ هل فيه أن العلماء هم الذين يخافون من الله؟ هم ليسوا عندهم شيئ مثل هذا، عندهم العكس، عندهم في المسيحية يا إخواني أن العقل يقود إلى جهنم، فسِر مُظلِم العينين ومُغلَق العقل إلى الجنة أحسن لك، هم عندهم هذا وقد طوَّروا هذه المفاهيم، قال له أين هذا في كتابكم؟ قال له في سورة اسمها سورة فاطر، قال الله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۩ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ ۩، وترجمها له بالإنجليزية، قال فلما سمع الترجمة قام وانتفض وضرب المنضدة بكلتا قبضتي يديه وقال يا عناية الله إن كان حقاً ما سمعت منك وما تلوت علىّ فاكتب شهادةً مني أنا السير جيمس جينس Sir James Jeans أن كتابكم من عند الله وأن محمداً رسول من عند الله، وهذا يعني أن الرجل أسلم، فهذا يُؤكِّد كلامك يا أختي أم محمد، ففعلاً العلم في النهاية نور والعلم طريق إلى الله ومن أقصر الطرق إلى الله تبارك وتعالى، وفعلاً هلاك عالم أشد أيها الإخوة في الميزان من هلاك ألف عابد.

هناك قصة يحكيها الصوفية نُريد أن نُضحِككم بها وهي قصة جميلة، أحدهم سأل شيخه وقال له يا شيخ لماذا النبي يقول هلاك ألف عابد أهون عند الله من هلاك عالم؟ قال له يا بُني لأجل ما سأقصك عليك، جاء الشيطان – في شكل إنسان طبعاً – مرة إلى عابد وسأله قائلاً هل يستطيع ربك أيها العابد أن يُدخِل الأرض هي كما هي في البيضة هي كما هي؟ لا يُصغِّر الأرض ولا يُكبِّر البيضة، البيضة تبقى كما هي والأرض تبقى كما هي، ويُدخِل الأرض هي كما هي في البيضة هي كما هي، فقال له طبعاً لا، العابد قال لا، لا يستطيع، فهنا الرجل أصبح على شفير الكفر، أليس كذلك؟ حكم بالاستحالة، ثم ذهب إلى عالم فسأله وهو في حلقة درسه هل يستطيع ربك كذا وكذا فقال له ويجعلها تُقشقِش، وسيظل فيها فراغ أيضاً إذا أردت دون أي مُشكِلة، لا إله إلا الله، فالعالم عنده من رسوخ اليقين بالله – تبارك وتعالى – ونفوذ أمره وطلاقة قدرته الشيئ الذي لا يستوعبه الجاهل إن كان عابداً أو العابد إن كان جاهلاً، العلم فعلاً يُوسِّع الآفاق، بالأمس أخت فاضلة – واليوم حتى لعلنا نُجيب عن هذا الموضوع بسرعة الآن – قالت لي أنا بذاتي لا يتسع عقلي لبعض ما ذكرت، كرامات وأولياء ويجلس في الهواء وما إلى ذلك، أنا لا أُصدِّق هذا وعقلي لم يُصدِّق، وقد أجبتها بسرعة، واليوم أخت جاءت أو أخ جاء – لا أعرف – وقال كيف نُثبِت أن هذا الخوارق والمُعجِزات والكرامات مُمكِنة؟ ألا تتناقض مع العلم؟ ألا تتناقض مع العقل؟ طبعاً لا تتناقض لا مع العقل ولا مع غير العقل، لا تتناقض، لكن كيف؟ كيف يُمكِن إثباتها؟ في ظل الأشياء التي تعرَّفنا عليها بسرعة في هذه الأيام يا إخواني نقول الإمكان أقسام، يُوجَد عندنا إمكان عملي ويُوجَد عندنا إمكان فني، علمي فني – ويُوجَد عندنا إمكان منطقي أو فلسفي، أي عقلي، يُسمونه الإمكان العقلي، أوسع الإمكانات هو الإمكان العقلي، أليس كذلك؟ هناك أشياء مُمكِنة عقلياً وغير مُمكِنة عملياً، وهناك أشياء مُمكِنة علمياً نظرياً لكنها غير مُمكِن عملياً، العلم يقول لك هي مُمكِنة، مُمكِن أن يحدث هذا، مثلاً – كما قلنا – الخلود تقريباً مُمكِن علمياً، أن الإنسان يستطيع أن يعيش – وهذا ليس خلوداً كاملاً – ملايين السنين، نفترض هذا وهو علمياً مُمكِن، هذا مُمكِن، لو ركب سفينة فضائية وسارت به بسرعة تسعين في المائة أو تسع وتسعين من سرعة الضوء – لأن يستحيل السير سرعة الضوء، ستُوجَد كتلة لانهائية بحسب أينشتاين Einstein – وظل جالساً في السفينة يُمكِن أن يرجع إلى الأرض ويكون مر على الأرض خمسمائة مليون سنة، هو ظل حياً وزاد عمره خمس أو ست سنوات، هذه يُسمونها تناقض التواؤم، فهذا مُمكِن علمياً لكن على المُستوى النظري، فنياً الآن غير مُمكِن، أي عملياً غير مُمكِن، فالإمكان له أقسام، مَن يأتي ويقول لي هذا غير مُمكِن أو هذا مُستحيل سوف أقول له ماذا تقصد؟ هل تقصد الإمكان العلمي الفني؟ سوف يقول لأ، الإمكان العلمي الفني موضوع طويل ويخضع، هناك أشياء الآن أصبحت مُمكِنة لكنها أمس كانت غير مُمكِنة، فهل لابد أن نربط الأشياء والحقائق الدينية بالإمكان العلمي والفني؟ سوف أقول له ماذا تقصد؟ هل تقصد الإمكان العقلي؟ سوف يقول لي نعم، وهنا سأقول له لا، هذا غير صحيح، الإمكان العقلي مُحدَّد ومشروط بقوانين العقل الرئيسة، قانون الهوية وقانون السببية وقانون عدم التناقض، أليس كذلك؟ إذا لم يتناقض معها يبقى في دائرة المُمكِن، أليس كذلك؟ لا تقل هذا غير مُمكِن، فكيف تقول لي هذا غير مُمكِن؟ هناك أشياء الآن العلم يُوثِّقها لكن لا يُوجَد لها أي تفسير، الآن كتاب الأرقام القياسية جينيس Guinness فيه أشياء ليس لها تفسير، وهي حقائق وليست لعباً، والله كل سنة يتحدَّثون عن أشياء ليس لها أي تفسير علمياً، ليس لها أي تفسير، مثلاً شخص – هذا قبل حوالي أربع سنوات – عاش طيلة حياته يأكل التراب، كانت سيدة وتفعل هذا، وهي امرأة كبيرة في السن الآن، في العقد السابع من عمرها، طيلة حياتها كانت تأكل التراب، وأتوا بها وصوَّروها ووجدوا أنها أكلت كميات كبيرة من التراب، لا تأكل إلا التراب، الأعجب منها شخص لا يأكل إلا الحديد، كل طعامه حديد، لم يأكل إلا الحديد، لم يستطع أي عالم في الطب على مُستوى العالم أن يُفسِّر هذه الحالة، كيف هذا يا أخي؟ حديد ماذا؟ كيف يُهضَم؟ وكيف كذا وكذا؟ شيئ لا يُصدَّق، والرجل طيلة حياته لا يأكل إلا الحديد، وهم أتوا به وتحقَّقوا، هذا الشيئ مُوثَّق، ففسِّر لي هذا، هناك أشياء الآن العلم بدأ يضع يده عليها ويُوثِّقها لأنها موجودة لكن لا يُوجَد لها أي تفسير، هي غير مفهومة بالمرة، الباراسيكولوجي Parapsychology كلها تتحدَّث عن أشياء مثل هذه، وكلها بحسب هذا العلم المادي الذي لدينا غير معقولة وغير مفهومة، كيف تحدث هذه الأشياء؟ لكنها موجودة، فيبدو أحياناً أن الناس فقط بمُجرَّد الاعتياد يخلقون حدوداً للإمكان فيقولون هذا مُمكِن وهذا غير مُمكِن وهي حدود اعتيادية، من جهة عقلية ومن جهة فلسفية ليست كذلك، للأسف بعض الناس طرحوا وقالوا المعاجز – حتى معاجز الأنبياء – هي ضد العقل وتُصبِح في النهاية ضد قضية الإيمان نفسه، قلنا لهم لماذا؟ قالوا لأنها ضد السببية، المُعجِزات تخرق قانون السببية، وقانون السببية به عرفنا الله واستدللنا على الله به، وطبعاً نحن نرى أن هذه طريقة في التفكير الفلسفي جداً، كيف تخرق قانون السببية؟ مَن قال هذا؟ قالوا موسى ألقى العصا وتحوَّلت إلى حية وكانت حية حقيقية، أليس كذلك؟ وابتلعت الحيات، قالوا هذا كلام فارغ، هذا ضد قانون السببية، لكننا نقول له هذا غير صحيح، هذا ليس ضد قانون السببية، أبو حامد الغزالي – انظروا إلى هذا العقل المُرتَب الذي عنده، كان رهيباً – في التهافت وفي المُستصفى قال هذا ليس ضد السببية وليس ضد قانون العقل، بالعكس هو ضد العادة، في العادة لا يحدث هذا، لكن قال أبو حامد الآن الحيات تتغذى على ماذا؟ على الرمال وعلى الخشب وعلى أشياء كثيرة، أليس كذلك؟ فنفترض الآن أن حية جاءت وتغذت على عصا أو على جُزء منها، يقول أبو حامد تنعقد هذه المادة – ولك أن تتصوَّر فيها – فيها إلى ذلكم الشيئ الذي يأتي منه النسل، أليس كذلك؟ ثم بعد المسألة المعروفة تتحوَّل إلى حية، وأصلها ماذا؟ ترابٌ وخشبٌ، لكن في الزمان الطويل تستحيل إلى كائن حي بقدرة الله تبارك وتعالى، طبعاً لا يُوجَد أحد عنده تفسير لكيف تستحيل المادة الميتة إلى مادة حية، للأسف في القرن التاسع عشر وفي أول القرن العشرين ألكسندر أوبارين Alexander Oparin في الاتحاد السوفيتي قال هذه عملية سهلة جداً، أعطوني بضع سنين وأنا سأصنع لكم الحياة في المعمل، هل تعرفون كم سنة جلس في المعمل؟ عشرين سنة، وبعد ذلك رفع الراية البيضاء وقال هذا غير مُمكِن، لا تُوجَد إمكانية، هيكل Haeckel – هيكل Haeckel وليس هيجل Hegel – في ألمانيا في القرن التاسع عشر قال أعطوني الماء والهواء وبعض المُركَّبات الكربونية وأنا سأصنع لكم الإنسان، قالوا له تفضَّل خُذها واذهب، لم يصنع حتى ذبابة، لم يصنع شيئاً، مُجرَّد كلام فارغ، وإلى اليوم غير مفهوم كيف تخرج الحياة من الموات، قال الله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ۩، هذا سر إلهي، أليس كذلك؟ ما دام هذا السر ليس في طوق العلم وإلى الآن يُعزى إلى الله وسوف يبقى يُعزى إليه دائماً – لا إله إلا هو – فهذا يعني لا فرق بين خروج الكائن الحي من الميت وبين خروج الحية من العصا، أليس كذلك؟ وهذه نفس الحالة إذا تدخلت القدرة الإلهية، هي هي، فهذا ليس ضد قانون السببية وما إلى ذلك وإنما ضد المُعتادات البسيطة الخاصة بنا فقط، هي ضد مُعتادات الإنسان لكن الدائرة أوسع من هذه.

أستودعكم الله إلى أن يجمعنا جميعاً وجمعاوات في مستقر رحمته وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • السلام عليكم لدي سؤالان من فضلكم هل سلسلة التعريف بمباحث الفلسفة متوفرة بصيغة PDF ثانيا هل لي للدكتور خطبة فيما يخص الخلود في النار من عدمه

%d مدونون معجبون بهذه: