إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ۩ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ۩ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۩ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ۩ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

كتابٌ يرى أن جزاء مَن عطَّل عقله وأهدر ملكاته فلم ينتفع بها ولم يهتد بها، يرى أن جزاءه هو جهنم وساءت مصيراً، دينٌ لا يقول لأصحابه وأتباعه ومَن يدعوهم أطفئوا نور عقولكم، فالإيمان لا يسنده عقل، ولا يتضوّأ أصحابه بنور فكر، إنما هو موقف مُظلِم أو إرادة عمياء، نُريد أن نُؤمِن وأن نتخلَّص وانتهى كل شيئ، أبداً! القرآن بريء من هذا تماماً.

في شعرنا العربي في القديم والحديث وفي أمثالنا العامية أيضاً في القديم والحديث موروث عريض كبير مُتكاتِف، يُزهِّد في العقل ويُرغِّب عنه ويدعو إلى راحة الدماغ، هكذا العوام في العالم العربي يُخوِّفون ويُزهِّدون في استخدام العقل، يُخوِّفون من استخدامه ويُزهِّدون في استخدامه، لأنه وجع رأس ووجع دماغ طبعاً، وماذا تُريد من وجع الدماغ؟ لماذا تُوجِع دماغك؟ لماذا تُؤلِم رأسك؟ جميل جداً! مَن أراد أن يُريح دماغه فهناك الخمر وهناك المُخدِّرات وهناك النوم، يجب أن نمشي حتى النهاية مع هذه المُنطلَقات والمبادئ والمباني الفكرية والتصورية، إذا أردنا راحة الدماغ فهناك النوم وهناك الخمور والمُخدِّرات أيضاً، هذه تُريح أكثر، هذه تُميت العقل، فعلينا أن نمضي إلى آخر السبيل، وعلى كل حال هذا ما يحصل، والآن يتفشى هذا في العالم العربي بطريقة انشطارية عجيبة، المُخدِّرات – والعياذ بالله – التي تأفن العقل، تأتي على البقية الباقية وهي ضئيلة على كل حال، البقية الباقية من العقل الواعي الصاحي والفكر الناقد اللمّاح اليقظ قليلة جداً، صُبابة كصُبابة الإناء، وتأتي عليها المُخدِّرات، شيئ طبيعي!

من قديم يقول شاعرنا المُبين والأحمق المنطق، وإن كان فصيح العبارة، ولكنه أحمق في منطقه، يقول:

لما رأيت الحظ حظ الجاهل                                 ولم أر المحروم غير العاقل.

شربت عشراً من كروم بابل                            فصرت من عقلي على مراحل.

طبعاً! مُجتمَع يُزهِّد في العقل، ويُخوِّف من استخدامه، ويدعو إلى راحة الدماغ، لا إلى وجع الرأس، يقول جميل جداً، أنا سأكون مُتسِقاً مع منطقي ومنطق هذا المُجتمَع المأفون الأحمق وسأشرب عشر كاسات وليس طاسات واحدة من الخمر، فأصير على مبعدة بعيدة جداً من عقلي، عقلي في وادٍ وأنا في وادٍ، فصرت من عقلي على مراحل، هكذا! والعيش خيرٌ في ظلال الحُمق، الشاعر يقول والعيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل، قال الشقي هو الذي يُفكِّر، الشقي – قال – يكد ويتعب، فيسود أمامه الأُفق، تسود حياته، ويقل حظه، يُبخَس الحظ في هذه الدنيا! قال أنا لا أُريد، أنا أُريد أن أبقى جاهلاً وأحمق وأصم وأعمى وغبياً، على أن أعيش وأتمتع، كالبهائم! يأكلون ويتمتعون، عجيب جداً.

مع أننا نلحظ كل يوم غير هذا، لا أستطيع أن أُمثِّل وربما أُضطر أن أُمثِّل، فما يُمكِن أن يُمثَّل به عشرات ألوف الأشياء، نحن هنا الآن نعيش في ظلال العقل، في ظلال ثمرات العقل، على الأقل العقل العلمي والعقل التقني، الذي يسَّر لنا أن نتواصل، وأن يرى بعضنا بعضاً في مثل ضوء النهار أو أضوأ، وأن يُسجَّل هذا الكلام أو يُذاع في العالم بعد ساعة، فيسمعه مَن في أطراف الأرض – إن شاء -، شيئ عجيب! هذا هو العلم.

قبل أن نأتي أخذنا بلا شك حظنا من الماء ووسائل الزينة أيضاً والتصحاح – أي الــ Hygiene كما في الألمانية والإنجليزية -، أخذنا بوسائل التصحاح! لماذا؟ لأن حياة البشرية – ليست حياة فقط المُسلِمين أو غير المُسلِمين، وإنما حياة البشرية – اختلفت، بعد روبرت كوخ Robert Koch وبعد لويس باستور Louis Pasteur وبعد الميكروبيولوجي Microbiology وبعد اكتشاف الميكروبات بأنواعها والجراثيم بأصنافها اختلفت حياة البشرية، نظرياتنا اختلفت، سلوكنا اختلف، تصرفاتنا اختلفت، مفهومنا للصحة وللمرض وللطبابة وللعلاج اختلف، كل شيئ اختلف، بفضل هذه المعلومات الخطيرة جداً، تم اكتشاف هذه الكائنات الدقيقة، المُمرِضات على اختلافها، كالميكروبات والفيروسات، إلى آخره! فاختلفت الحياة، قبل ذلك لم يكن مُتاحاً قط لأحد من البشر أن يُفكِّر على هذا النحو أبداً، لم يكن يفهم أنه إن لمس شيئاً فهناك مُمرِضات مُعيَّنة اسمها كذا وكذا وتنقل له مرض كذا وكذا، لا! أبداً لم يكن على بالهم، لأنه لم يكن متاحاً لهم.

ولذلك هناك هذه الاستتباعات، هذه هي اللوازم التي تلزم عن كشف حقيقة ما، عن معلومة علمية مُحقَّقة ما، تُلزِمنا رُغماً عنا، تلقائياً! ستختلف مُنطلَقاتنا، تختلف مبانينا، مفروضاتنا، سلوكاتنا، وتصرفاتنا، لكن ليت شعري، لماذا لا تختلف حياة الناس بالأفكار الدينية والعقائد المِلية – أعني في حق مَن آمن بها وانتحلها واعتنقها -؟ لماذا لا تُؤثِّر كثيراً في حياته؟ لماذا ينتحل ديناً وشرعاً، يأخذ بعض قشوره وطقوسه، ثم هو يهيم في وجهه في سائر المجالات على ما يُزيِّن لها هواه ونفسه، فيرتكب الكبائر والصغائر، يكذب، يغتاب، ينم، يفتري، يأكل الحرام، بل قد يحتقب الآثام الكُبرى والفواحش، ثم يقول لك نعم، أنا مُسلِم أو أنا مسيحي أو أنا يهودي، أنا مُتدين، أنا أعرف الله؟! وهذا عجيب، عجيب! هل أنت مُؤمِن حقاً؟! الشرع يُحرِّم هذه الأشياء حُرمة مُؤكَّدة، يُخوِّف بطريقة راعبة منها، يُخوِّف من مصير مَن يتعطاها، ما قصتك؟! لماذا لا تُؤثِّر فيك كما أثَّرت فيك النظرية الميكروبية – مثلاً -؟ هذا سؤال!

النظرية الميكروبية تُؤثِّر فينا حقيقةً، أليس كذلك؟ نتعاطى وسائل التصحاح بطريقة جدية وصارمة دون رقيب، نخاف على صحتنا، نخاف على أنفسنا، لا نرغب في الأمراض والمشاكل، فلماذا؟ هل نرغب في غضب الله؟ هل نرغب في سخطه – تبارك وتعالى -؟ هل نرغب في جهنم في الآخرة؟ هل نرغب أن ينقطع حبلنا الآن مع الله؟ ستقول طبعاً لا نرغب، لا! ترغب وترغب، أنت مُتناقِض مُتهافِت، ترغب! أنت تفعل هذا عملياً حقيقةً، وبلا مُبالاة، دون أن تتحرَّج أو تتحرَّك فيه شعرة كما يُقال، دون أن تتحرَّك لك شعرة تفعل هذا، لماذا؟

أنا أظن أولاً – هذا السبب الرئيسي الأول – لأننا لم نمتحن هذه العقائد، وأنا أقول هذا دائماً، نحن لم نختبرها، نحن لم نخترها أصلاً، هي اختيار لنا، وامتُحنت عنا، وفُكِّر فيها بدلاً عنا وبالنيابة عنا، وجاءتنا جاهزة، وأخذناها جائزة، ولم نُعِد حتى اختبارها، يبدو أنها ليست عقائد حقيقية لنا إذن.

طبعاً لا يُمكِن لأحد أن يلبس عنك، في البرد لا يُمكِن لأحد أن يلبس – مثلاً – معطفاً ثقيلاً من صوف أو لباد أو كتان، لكي يتدفأ عنك، لا يُمكِن! لابد أن تلبس أنت، لا يُمكِن لأحد أن يأكل في معدته عنك، لكي تشبع أنت، لا يُمكِن! وكذلك لا يُمكِن لأحد أن يشرب عنك، لكي يروي ظمأك، لكن لماذا ترضى للآخرين أن يُفكِّروا عنك كابن فلان وأبي فلان من العلماء الأحياء والعلماء الأموات من قبل ألف وأربعمائة سنة؟ لماذا؟ لماذا ترضى لهم أن يُفكِّروا عنك وأن يقولوا لك هذا الصحيح وهذا الخطأ، وهذا الحق وهذا الباطل؟ لماذا؟ لماذا تفعل هذا؟ فهل خلق الله هذا العقل لكي تُعطِّله وتُعيره غيرك؟ وهل يُمكِن أصلاً أن يتم ذلك؟!

لذلك ما أكذب لُغتنا! بما فينا أهل الفكر وأهل الذكر والعامة والدهماء، ما أكذب اللُغة التي تقول فكَّرت وظننت وأنا أعتقد وأنا أحسب وأنا أُرجِّح! لا، هذا كله كذب، ينبغي أن تقول فُكِّر عني، فُكِّر لي، قيل لي، لُقِّنت، اعتُقِد عني، حُسِب عني، ورُجِّح بالنيابة عني رأي كذا وكذا! قل هكذا لكي تكون صادقاً، أنت لم تُفكِّر ولم تُرجِّح ولم تعتقد ولم تنتخب ولم تختر ولم يكن لك أي يد ولا يدان في هذه المسألة من أصلها، خطير! هذا شيئ خطير.

وهناك تجربة أجراها بعض علماء النفس السلوكيين، عجيبة جداً! اسمها تجربة القرود الخمسة، جوَّع أحد العلماء قروداً خمسةً، جوَّعها ثم بعد ذلك أدخلها في غُرفة كبيرة أو في قفص من حديد مُتسِع وعالٍ، وعلَّق في سقف هذا القفص قروناً من الموز، وهيَّأ سلماً للصعود، يُمكِن أن تُنال به قرون الموز، أي بهذا السلم، وطبعاً بدهي وطبيعي أنها سارعت لحظة دخولها القفص إلى السلم، فبادرها بخرطوم ماء قوي شديد البرودة، رشها به، فأُحبِطت قليلاً، ثم حاولت ثانيةً، فثالثةً، وهو دائماً يُبادرِها دون الموز بالماء، يُبادِرها دون الموز بالماء حتى طبعاً غلبت عليها حالة الإحباط واليأس، فجلست في قاع القفص مُحبَطةً جائعةً، ترنو إلى الموت.

كالعيس في البيداء يقتلنا الظمأ                         والماء فوق ظهورنا محمول.

والموز فوق رؤوسنا معقود، لكن هكذا يئست، هذه بداية التجربة!

قام العالم بعد ذلك بإخراج أحدها، وأتى بقرد جديد، لم يشهد شيئاً من هذه التجربة، فبادر القرد السلم، وكان قد جوَّعه أيضاً طبعاً، فبادر القرد مُباشَرةً السلم، بادر السلم! هُرِع إلى السلم، لكن العالم هذه المرة لم يرشه بالماء، القرود تولت أمره، مُباشَرةً برَّحته ضرباً وصدته عن السلم، لا تُريد أن تتعذَّب بالماء البارد مرة أُخرى، وهو لا يدري، لا يفهم ما الذي حصل، لماذا تضربه؟ لماذا تصده وهو جائع المسكين؟

بعد ذلك أيضاً استمرت التجربة، أخرج ثانياً من القدماء – ذكرنا الأربعة الآن القديمة – وأدخل قرداً جديداً، لم ير شيئاً، نفس الشيئ! وشاركها في ضربه وصده عن قرون الموز القرد الحديث، هذا ما حدث، لابد أن نُشارِك كما قلنا، الناس يرجمون، فلابد أن نرجم، الناس يسبون، فلابد أن نسب، الناس يُكفِّرون، فلابد أن نُكفِّر، الناس يذبحون، فلابد أن نذبح، النمط! هذا الــ Pattern، أي النمط، نمط هذا.

وهكذا تتابعت خُطوات التجربة حتى صار في القفص خمسة قرود جديدة لم يُرش قرد منها بالماء، وهي لا تُريد الموز، وتمنع كل مَن يدخل ويهفو إلى الموز، تجربة من أعجب ما يكون!

قلت ماذا يُريد؟ ما هو المفروض؟ ما هو المسكوت عنه في هذه التجربة؟ ماذا يُريد أن يقول لنا هذا العالم؟ يُريد أن يقول لنا ببساطة إن هناك أفكاراً وآراءً وعقائد وسلوكات، تنشأ في ظروف مُعيَّنة وفي سياقات مُعيَّنة ولها ما يُبرِّرها، لها ما يُبرِّرها! هذه القرود الآن تصِد – وليست تصُد، وإنما تصِد بأنفسها – عن الموز، وهذا مُبرَّر، معروف لماذا، لأنه (مش جايب همه) كما يُقال، عند الاقتراب من الموز يتم الرش بالمار البارد في الجو الشتوي أو المُشتي، لا! لا نُريد، مُبرَّر ومفهوم جداً، تصرف حتى عقلاني هذا، تصرف عقلاني! يُوجَد نوع من المُوازنة والترجيح، حتى هذا الإحباط عقلاني وإن عمل بطريقة غرزية، ولكنه إحباط عقلاني ومعُقلَن، إحباط مُعقلَن!

لكن بعد ذلك يتم تطبيع أفراد وأجيال أُخرى بهذه الأفكار والآراء والسلوكات، تُمرَّر! تُمرَّر لأجيال أُخرى مبتوتةً عن سياقاتها، مقطوعةً عن مُبرِّراتها وظروف نشأتها، وهكذا نرى أجيالاً تلو أجيال تتبنى حقائق وآراء وتعصبات ومواقف مُسبَقة وتقليديات وأشياء غريبة جداً دون أن تعرف لماذا، ومن هذا – مثلاً – التشاؤم، كل مظاهر التشاؤم! لا يدرون لماذا إذا حرَّك الإنسان المقص في الليل هكذا يغضب البعض، يقولون لا، لماذا تفعل هذا؟ هذا شؤم شديد! هذا مقص وأنا ألعب به في الليل، ما المُشكِلة؟ لا، هذا ممنوع، وطبعاً في ظروف نشأة هذه الفكرة حدث شيئ عرضي اتفاقي صُدفي، واحد فعل هكذا – مثلاً – بالمقص، فربما قص أُصبع أمه – مثلاً – أو ربما أنف أبيه، وطبعاً نشأت الفكرة، ثم عُبِّرت دون ذكر مُبرِّرات نشأتها أو ظروف نشأتها، وصار هناك شيئ اسمه التشاؤم، يقولون لك هذا مشؤوم، لماذا هذا مشؤوم؟ خُرافة! النبي قال لا يُوجَد طيرة في الإسلام، هذه خُرافات، هذا دين عقلاني، هذا كلام فارغ، وهكذا كله غير صحيح، وهو طبعاً بالآلاف، في الأمم آلاف الظواهر التي يقع بها ومنها التشاؤم، آلاف! قد تُعلَّل على هذا النحو، لكن المُحيِّر – كما قلنا قُبيل – كيف يعتقد بها الناس وهي خُرافة غير معقولة بل بارئة من العقل وخلو من المنطق؟ هذا هو، هذا يحدث حتى في الأديان والعقائد والمذاهب والمُنتحَلات المِلية بنفس الطريقة، بنفس الطريقة! قصة القرود هذه تتكرَّر، قصة القرود تتكرَّر دائماً!

لماذا لا يُكشَف عن حكاية القرود؟ لماذا قصة القرود تُقدِّمنا وهي مُستمِرة؟ نتقدَّم نحن دون أن ندري، هل تعرفون لماذا؟ لأن العقل الناقد الصاحي اليقظ الواعي نائم، ويُراد له أن ينام، هناك مُؤامَرة تنويم، وكل مَن يستعمل عقله هذا يُشار إليه على أنه زنديق وعلى أنه عقلاني، والعقل تُهمة بالمُناسَبة، العقل تُهمة! يُقال هذا عقلاني، يستخدم العقل – والعياذ بالله -، فيه شُبهة كفر.

الآن أذكرني أحد الإخوة الفضلاء بما وقع له، وهو جالس أمامي الآن، ذهب قبل فترة بسيطة جداً ليتم زواجه في بلد عربي مُسلِم، من بلاد المعاهد العلمية العريقة التي تُعلِّم الإسلام، وقال لي يا شيخنا حدث شيئ عجيب جداً، تم امتحان ديني، قلت له امتحان! قال لي تم التفتيش علىّ، نحن نعيش في بلادنا الآن نسبياً محاكم التفتيش، أي الــ Inquisitions، كأننا في العصور الوسطى الأوروبية المُظلِمة، يُفتَّش على عقائد الناس، فقلت له كيف؟ حدِّثني! قال لي طبعاً لأن هذا الشيخ قبل أن يُتِم عقد زواجي لاحظ أنني أُناقِش وعندي أفكار مُتحرِّرة وعقلانية ومُتنوِّرة في الدين، فقال لا، لماذا نحن نُورِّط بنت الناس مع واحد قد يكون كافراً أو زنديقاً؟! هي نمتحن عقائده، مَن ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل؟ ماذا تقول في عودة المسيح؟ ماذا تقول في الدجّال؟ قال يمتحنونني!

قال وأجبت بما أعتقد وبما أنتحل بجراءة، القواطع قواطع بحمد الله – تبارك وتعالى -، والخلافيات – قال – أنا أنتحل فيها آراء أُخرى تعلَّمتها، وكانت النتيجة – الله ستر والحمد لله – أنه ليس كافراً، قال له هذا ولأهله ولأهل العروس، قال ليس كافراً هذا، ليس خارجاً عن المِلة، ولكن رأسه عنيد، وعنده أفكار خطيرة جداً، أي على شفا حفرة الكفر، دعة واحدة ويسقط في الكفر، تفضَّلوا! هذا العالم العربي، وهذا العالم الإسلامي، ويقولون لكم الإسلام دين العقل ودين التحرر، مُباهاة فارغة! أنا أقول لكم هذا.

تعرفون إريك فروم أو إريخ فروم Erich Fromm، عالم النفس وعالم الاجتماع الكبير، من أصل ألماني وهو أمريكي، صاحب الكتاب الشهير عالمياً الهروب من الحرية، باختصار أُلخِّص لكم هذا الكتاب بجُملة واحدة، وهو كتاب معروف عالمياً، الذي يكون مُثقَّفاً لابد وأن يكون قرأه، أي مُثقَّف! وإلا لا يعرف الثقافة، إريخ فروم Erich Fromm قال الناس يطلبون في الحالة الواعية العادية، يطلبون الحرية، يتشوَّفون ويتشوَّقون إليها، لكن إذا دخلوا في طور العمل ودخلوا في طور الثمن – أي دفع الثمن، ثمن كسب الحرية، وثمن المُحافَظة عليها ومُمارَستها – يرون أن الأثمان بالنسبة إليهم باهظة جداً جداً جداً، أبهظ الأثمان في نظر إريخ فروم Erich Fromm أنهم سيتحمَّلون مسئوليات، أنت الآن حر، أنت لست عبداً، أنت لست عبداً! أنت الآن عليك أن يكون رأيك من رأسك، وسلوكك على ما تُرجِّح وتختار وتنتخب، وأنت ستتحمل التبعات والمسئوليات، ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً.

فقال عند هذه اللحظة يُترجِم الناس عن سلوك غريب جداً، أو يُعرِب الناس عن سلوك غريب جداً، يتراجع مُعظَم الناس عن الحرية، وهذا الغالب في كل الشعوب والحضارات، يتراجعون عن هذه الحريات، لا نُريد! فيُسلِّمون أدمغتهم ومقاداتهم للسُلطة، السُلطة الدينية والسُلطة السياسية وسُلطة الخُرافة والتقاليد، نعم!

ماذا لو الآن لو قلت لكم هناك مَن ينتحل آراء مقبولة ولكنها باطلة؟ أنا مُتأكِّد كلكم الآن شعرتم بالتهافت، هذه العبارة مُتهافِتة! كيف تكون آراء مقبولة لكنها باطلة؟ طبيعي جداً جداً، آراء مقبولة لكنها باطلة! مَن قال لك إن المقبول حق؟! انتبه! طبعاً هذه قوة النمط وقوة التقرير، حين تسمع أن هناك رأياً مقبولاً سيعني هذا ماذا؟ ما معنى أنه مقبول؟ قبله المُجتمَع، قبله الناس، توافقوا عليه، تواطأوا عليه، تسالموا عليه!

و(ياما) كما يُقال أو كأين من رأي وكأين من مُعتقَد انتحله البشر بل البشرية لعشرات القرون، وثبت الآن أنه من أبطل الباطل وأمحل المُحال! هو من أبطل الباطل وأمحل المُحال، لم يكن ولن يكون أبداً وليس له مصداق، لكن نحن نفهم هكذا المقبول، المقبول معناه الصحيح، لكن هذا غير صحيح بالمرة، بالمرة! الشرك والكفر والوثنية كانت مقبولة عن تسالم تام تقريباً ما عدا الحنفاء وهم قلة على أصابع اليد أو اليدين أو الثنتين في جزيرة العرب، كله! اللات والعزى وهُبل ومناة الثالثة الأُخرى، كله هكذا! هذا المقبول تماماً، وهو باطل، من أبطل الباطل، وأفرى الفرى، وأكذب الكذب، وأمحل المُحال، وجاء الرسول، فاتُهِم هو بالكذب وأنه مُخرِّف وأنه ساحر وأنه شاعر وأنه… وأنه… ما هذا؟ أتدعونا إلى إله واحد؟ قالوا، هذا شيئ عجيب جداً – قالوا -، هذا عجيب جداً – قالوا -، أتُحارِب الوثنية يا محمد أنت؟ هل أنت طبيعي؟ هل أنت مُصاب في عقلك؟ هل تُحارِب الوثنية؟ قالوا، أُتحارِب الآلهة المُتعدِّدة وتدعو إلى إله واحد؟ أتدعو إلى إله واحد؟ قالوا، شيئ عجيب هذا، ويُثير السخرية، كما تُثير الآن الوثنية سخريتكم كمُوحِّدين بفضل الله، أليس كذك؟ لكن ليس عن اختيار، أنا أعتقد هكذا للأسف، سخريتنا هذه لا تُترجِم اختيارنا ولا وعينا ولا انتخابنا للآراء، نحن أيضاً مُقلِّدون مثلهم، كما أقول دائماً الإيمان نمط والكفر نمط، هذا هو، هذا ما يحدث، وهذا شيئ خطير جداً جداً، لابد من هز الناس، هذه واحدة.

أُحِب أيضاً أن أذكر مسألة ثانية، ذكرتها أعتقد في الخُطب السابقة، هناك فرق في عالم الأفكار والآراء والمُنتحَلات بين الأدلة وبين العلل، الدليل يعمل على مُستوى اختبار الرأي في حد ذات الرأي، ما هو الرأي؟ رأيي كذا كذا، سواء كان علمياً أو نظرياً أو عملياً، وسواء كان سياسياً أو فلسفياً أو دينياً أو اجتماعياً، إلى آخره! هذا هو الدليل، نُريد أن نختبر الرأي المُعقتَد أو الفكرة في حد ذاتها، هل هي صحيحة أو غير صحيحة؟ هذا هو الدليل.

أما العلة فلا علاقة لها بالدليل، العلة تُجيب وتكشف النقاب عن لماذا اختار المُجتمَع هذا؟ كيف اختار المُجتمَع هذه الآراء؟ ومتى اختارها؟ ولأن المُجتمَع اختارها – انتبهوا – فأنا أختارها أيضاً، أو بالأحرى ليس أختارها، فأنا أُقلِّد المُجتمَع، هذه علة، هذه ليست سبباً، وهذه ليست دليلاً، هذه علة، علة! والمُجتمَعات تنعطف نحو آراء مُعيَّنة ونحو حماقات مُحدَّدة في ظروف مُحدَّدة، هذه علل، علل! والتحليل الاجتماعي والعلمي الدقيق يكشف عنها، لماذا؟ لماذا انحرفت؟

الآن – مثلاً – يُوجَد تصاعد لليمين في أوروبا، هذه ظاهرة – مثلاً – في الاجتماع السياسي، لماذا؟ تُوجَد علة، لكن لا تُوجَد أدلة، لكنك تحتاج إلى أدلة حقيقية – مثلاً -لكي تُثبِت لهم أن الأجانب في النمسا تقريباً هم مُعظَم الشعب النمساوي، أن الاجانب في النمسا هم الذين يقومون بالأعباء والأحمال على ظهورهم، ولو قد نفيناهم تنهار البلد اقتصادياً وعلمياً وما إلى ذلك، هذا لا يستمع إليه اليمين ولا مَن يُصفق لليمين، هناك علل، هناك علل مُعيَّنة، وهناك أزمات اقتصادية، هناك أزمة عالمية الآن، تلف العالم كله، والكل يُعاني منها، لابد من كبش فداء، حمل فداء! مَن هذا؟ طبعاً الذي يتسع له مُخ هؤلاء – وهم مُخهم ضيق جداً جداً، أي هؤلاء اليمينيون، وهم مُهرِّجون في السياسة طبعاً وغوغائيون – وأمخاخ طبعاً وأدمغة مَن يُصفق لهم هو أن نُحمِّل على الأجانب! أنت نفسك أجنبي، من أصل يوغوسلافي – مثلاً -، أي هذا شيئ غريب، وما تحديد الأجنبي بالضبط أصلاً هو؟ ومُعظَم مَن يُعطيك أصواتهم أجانب، من أبناء جلدتك الأولين – مثلاً -، ما الذي يحصل؟ تقول أنا لا أُناقِش أدلة، أنا أشتغل على العلل.

يلعبون هذه اللُعبة الحقيرة، وهذا يحصل في كل مُجتمَعات الناس، ليس في اليمين فقط هنا، وإنما في كل الدنيا، وكان يحصل عبر التاريخ، وما زال يحصل، لأن هذه البشرية لم تبلغ رُشدها، هذه المُجتمَعات لم تبلغ رُشدها، لا تُفكِّر بطريقة عُقلائية أو عَقلانية، إنما تُفكِّر بطريقة النمط الغوغائي الدهمائي، فلابد أن نُفرِّق بين الأمرين، ولذلك أقول الآتي فيما يخص – مثلاً – الآن خلافات المُسلِمين وفيما يخص المُحاوَرات والمُجادَلات الطويلة العريضة التي شاهدنا جُزءاً منها على الفضائيات – مثلاً – بين الشيعة والسُنة، عالم شيعي إزاء عالم سُني، وشيعيان إزاء سُنيين، وهكذا وهكذا، وطيلة شهر رمضان مُحاوَرات – ما شاء الله – بالساعتين كل ليلة، بالساعتين! ستون ساعة مُحاوَرات بين أدمغة السُنة وأدمغة الشيعة، كلام فارغ هذا في نظري، لماذا؟

كان ينبغي على مَن يعقد هذه المُحاوَرات والمُناظَرات أن يسأل نفسه أولاً – أولاً لابد من هذا، لابد من التفكير، لابد أن تكون هناك جدوى فكرية وليس اقتصادية، جدوى! لكي نختصر الوقت علينا والهم على الناس – كم نُقدِّر نسبة الناس الذين سيتأثَّرون إيجابياً وبطريقة منهجية بهذه المُحاوَرات من الشيعة ومن السُنة؟ أنا أقول لكم لم يهيء أحد نفسه لطلب الحقيقة قبل هذه المُحاوَرات باستثناء صنف مخصوص من طلبة العلم، ليس كل طلبة العلم، لا! أكثرهم كالعوام، طلبة العلم والعلماء مُعظَمهم كالعوام، بل أشد سوءاً من العوام، هم الذين يُظلِمون الجو أمام العوام، أنا أقول لكم هم الذين يُغبِّشون الرؤية، هم هؤلاء العلماء للأسف الشديد والدارسون والباحثون وأصحاب الشهادات، لكن صنف خاص وهو قليل جداً من طلبة العلم هيَّأوا أنفسهم قبل هذه المُحاوَرات وقبل هذه المُناظَرات لوجدان الحقيقة وطلب الحقيقة والجهر بها حين يتحسَّسونها وحين يقعون عليها مهما كلَّفهم ذلك، ولا نكاد نرى هؤلاء، إلا وهم يُعدون على أصابع اليد أو اليدين، والله العظيم! قلة قليلة جداً جداً جداً.

هناك مَن يقول بعكس مُنتحَلاته، بعكس طائفته، وبعكس مذهبه، ويأتي بالدليل، وموقفه قوي، ويتحمَّل اللعن والطعن والزندقة والتكفير و… و… و… إلى آخره، وربما القتل والذبح في الأخير، انتبهوا! هؤلاء قلة، وهؤلاء يُمكِن أن تنفعهم المُحاوَرات والمُناظَرات، أما البقية الباقية فيكتفون باللعن وبالسب وبالتشبث بمواقفهم ومواقعهم، وهنا لن نبرح، ها هنا قاعدين، سنبقى قاعدين، لن نترك مواقعنا.

هذا الذي يحصل، لماذا؟ أين الخطأ؟ أين الخطأ؟ أين الفشل؟ الخطأ يا إخواني أن هؤلاء المُتحاوِرين – ربما الطيبي النية، هكذا نظن بهم – يظنون أنهم في أنفسهم وأن الناس ينتظرون الدليل، غير صحيح! الناس لا تنتظر الدليل، ليست مُهيَّأة أصلاً لفهم الدليل، ولا أنتم تنتظرون الدليل ولا تطلبون الدليل، وهذا واضح طبعاً، واضح في خمسين ألف نُقطة، ولا أنت ولا هو تطلب الدليل الحق، إنما أنتم تُدافِعون عن المعلولات، معلولات مُعيَّنة، وهي العقائد والمُنتحَلات.

ولذلك إذا أردنا أن نبدأ بداية صحيحة فعلينا أن نعلم أن الطريق ليس من هنا، ليس أن نأتي بالشيعة والسُنة ونتحاور، لا! لابد أن نبدأ كما أفعل هنا على هذا المنبر، أن نفتح أعين الناس على أحابيل الفكر، على الأشراك والفخاخ، كيف يعمل دماغ الإنسان؟ كيف يعمل عقله؟ كيف ينتخب أفكاره؟ كيف يُضحك عليه ويَضحك على الآخرين؟ كيف تتم العملية؟ وبأي آليات؟ وأن نأتي بالأمثلة الكثيرة على ذلك، حتى يبدأ الإنسان يشك، نُريد منا ونُريد لنا أن نشك، نشك في أنفسنا، نشك في هذه الدوجماوات القطعية الجزمية بالمُطلَق، أننا لدينا الحق المُطلَق، عجيب!

جمال الحقيقة وشرف الحقيقة في خفائها، في خفائها، وفي غموضها، وأجمل من هذا: في البحث عنها، وتطلبها، وتعشقها، والهُيام بها، هذا جمال الحقيقة، الحقيقة ليست هكذا سهلة جداً بحيث تعرفها العقول بضربة واحدة، أبداً! وإلا لماذا شقت الأمة وشقت الأمم وشقت البشرية؟! لا، ليست كذلك، فهي صعبة، صعبة! حتى في الإيمان بالله صعبة، ليست سهلة، وكبيرة إلا على الخاشعين – والعياذ بالله -، وإلا على الصادقين، عمليات صعبة، ليست سهلة، هي ليست سهلة!

فهؤلاء يظنون أن القضية تكمن في الأدلة، هيا نعرض الأدلة! وهذا غير صحيح، كلام فارغ، الموضوع ليس كذلك، لذلك الموضوع لابد أن يَبدأ أو يُبدأ به بداية منهجية، حفر في الأصول مُنذ البداية، في المباني! طب الأفكار كطب الأبدان، طبيب أحمق الذي يذهب ليُعالِج الأعراض، ويترك السبب والمصدر، أي مصدر العلة، مهما عالج الأعراض فسوف يبقى المصدر يُتيح عدداً زائداً من هذه الأعراض، أي الــ Symptoms، باستمرار! إلى أن يُقضى على المريض، إلى أن يهلك!

فأي طبيب دارس وواعٍ يذهب مُباشَرةً إلى أصل الداء، يُحارِب أصل الداء، أي جرثومته، فتختفي الأعراض، لأنه يُجفِّف المنبع، أي جفِّف المنبع يختف البعوض، حين يُوجَد منبع ماء أو بركة ماء آسنة يبقى البعوض يتكاثر بمئات الألوف، أي لا فائدة، حين تُحاوِل أن تقضي على البعوض يظل البعوض موجوداً، حين تُجفِّف الماء ينقضي البعوض بضربة واحدة، هذا هو! وطب الأفكار نفس الشيئ، كيف هذا إذن؟ لا تذهب إلى النتائج: ويعتقدون بكذا، ويقولون بكذا، ولازم قولهم سُنة أو شيعة كذا وكذا وكذا، ويلزم منه كذا! هذا كلام فارغ، هذا خطل، هذه حماقة، أي أن تذهب إلى اللوازم والاستتباعات والنتائج، اذهب إلى الأصول والمباني، أصول النظر، أصول الانتخاب الفكري، طريقة التوزين، وطريقة الترجيح، وكُن دقيقاً وصارماً، ولا تترك مسألة حتى تقتلها بحثاً مع مُناظِرك ومع أخيك، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۩، لابد أن نُؤسِّس مباني قوية جداً للنظر، قوية صُلبة، بصُلب الخرسانة المُسلَّحة، وكل ما ليس قوياً ويُمكِن أن يشتبه لابد أن يُطرَد من الساحة، بعد ذلك سوف ترى في النهاية النتيجة أن الدين سوف يتحدَّد في أصول ضيقة جداً جداً وبسيطة وسهلة وواضحة، تجمع الأمة ثم لا تُفرِّقها من بعد بإذن الله – تعالى -، إن لم نفعل هذا فسوف يبقى البعوض يفقس ويتكاثر، باستمرار! لأن المنبع بقيَ كما هو.

وسأضرب لكم ربما فيما بقيَ من الوقت بعض الأمثلة، لابد من أمثلة حتى أُوضِّح ما أقول، فمثلاً أنا يُحيرني ويغيظيني كما غاظ الكثيرين في القديم والحديث أسطورة أن الله أنزل قرآناً ثم رفعه، شيئ عجيب! وطبعاً أنا مُتأكِّد بعض العوام وبعض الذين لم يدرسوا العلم الشرعي لم يسمع بهذا من قبل، سيقول لي أحدهم يا رجل هل أنت مُتأكِّد مما تقول؟ وسأقول له اسأل أي طالب علم بسيط في سنة أولى شريعة، طبعاً هذه بدهيات عندنا في العلوم الشرعية، ومن ثم سيقول نعم، إذن الذي يسخر منه هذا القمص زكريا حقيقي هو حقيقي، يسخر من نسخ القرآن، ليس نسخ الأحكام وإنما نسخ الأحكام نفسه، وسأقول له طبعاً هذه حقيقي، وفي البخاري ومُسلِم هذه، فضلاً عن الكُتب الأُخرى طبعاً، في البخاري ومُسلِم!

كيف؟ ما القصة؟ وما الحكاية؟ الحكاية هكذا: الله يُنزِّل سورة طويلة، ثم يرفعها، يرفع السورة كلها بعد أن يكون الناس تلوها وقرأوها في المحاريب وصقلوها وما إلى ذلك، الله يرفعها، وتُنسى وتُؤخَذ من الأدمغة، حتى من دماغ رسول الله، سيقول لي أحدهم يا ويلتاه، ما هذا؟! طبعاً هذا في الصحيح، عن أبي موسى الأشعري، الله – قال – أنزل سورة، كانت في طول سورة براءة أو أطول منها، ثم رفعها الله، وأُنسيها الناس – قال -، الكل – قال – أُنسيها، الكل! ولم يبق منها إلا واحدة، هاتها! هاتها يا أبا موسى، يا حكيم هذه الأمة هات الآية هذه حتى نتملى في قرآن لم نقرأه من قبل، قال لو كان لابن آدم واديان من مال لتمنى وادياً ثالثاً، أهذا قرآن؟ ما الصيغة السخيفة هذه؟ أنا أقول أقول هكذا بسرعة، وهذا في الصحيح، هذا ليس قرآناً، أُقسِم بالله الذي أنزل القرآن هذا ليس عليه طلاوة القرآن ولا إعجازه، لو كان لابن آدم واديان من مال لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب، هذا الذي بقيَ من سورة في طول براءة، ارتُفِعت! رُفِعت بالكامل، والحديث في الصحيح هذا، عجيب!

وعمر قال نفس الشيئ، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وأرغب في أن أفهم ما موقع البتة هنا، وأنا أفهم بالضبط ما معنى كلمة البتة، ومتى استخدم الله في طول كتابه وعرضه كلمة البتة؟ أحضروني إياها، أحضروني هذه الكلمة في كتاب الله، البتة! وما موقعها في الآية هنا – أي في الآية المكذوبة على الله -؟ والحديث طبعاً في الصحيح، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله، جزاءً بما كسبا، قال والشيخ والشيخة، لكن لماذا والشيخ والشيخة؟ فماذا عن الشاب والشابة؟ ما الإعجاز هذا؟ ما هذه البلاغة الفظيعة في الآيات؟

ولذلك نحمد الله على ابن المُرتضى، هذا العلّامة الكبير في المُنية والأمل قال هذه الآيات التي يُزعَم أنها آيات ليست في طلاوة كتاب الله – تبارك وتعالى -، ليس واضحاً أن هذا قرآن، أهذا قرآن؟ قال، أهذا القرآن؟ قال، والرجل علّامة في البلاغة، هذا ابن المُرتضى! قال أهذا قرآن؟!

لن نُحضِركم آيات أُخرى مثل هذه، لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفرٌ بكم، قال لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفرٌ بكم، قال كفرٌ بكم، لا تُوجَد طلاوة، لا تُوجَد بلاغة، هذه آية وارتفعت – قال لك -، وارتفعت! بعد ذلك في مُسلِم عن عائشة كان فيما أُنزِل من القرآن وارتفع عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، وارتفع! انظر كيف ارتفع، أكلته الماعز أو الدجاجة، وضاع للأسف، ضاع! ما هذا؟ كيف؟ والحديث أصله في الموطأ، والتتمة في أحمد وغير أحمد، انتبهوا حتى تعرفوا كيف يُفكِّر العقل أو ينام، ينام أربعة عشر قرناً أو ثلاثة عشر قرناً أو اثني عشر قرناً، ألف سنة ينام العقل!

أتُشكِّك في الصحاح؟ كافر زنديق! لكن أنت تُشكِّك في كتاب الله، أنت مُؤمِن تقي، ما شاء الله عليك، أنت تُطرِّق طريقاً للطعن في محمد وفي كتاب الله – تبارك وتعالى -، انعم، انعم بأفكارك هذه وآرائك، وانعم بالصحيحين، رضيَ الله عن صاحبي الصحيحين، لكن يا أخي ما هذا؟ الكتابان ليسا معصومين يا إخواني، ما هذا؟ ليسا قرآناً، البخاري ومُسلِم – رضيَ الله عنهما – ليسا بقرآن، أعني كتابيهما.

قال عائشة – رضوان الله عليها – قالت كان فيما أُنزِل عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، والصياغة ينطبق عليها نفس الشيئ، ركيكة! قالت عشر معلومات يُحرِّمن، ائتني من كتاب الله بكلمة يُحرِّمن، يُحرِّمن بصيغة المُضارِع، يُحرِّمن! كذا يُحرِّم، لا تُوجَد الصيغة هذه، عشر رضعات معلومات يُحرِّمن! قالت فنُسِخت – أي هذه الآية – أو فنُسِخن – أي العشر الرضاعات المعلومات – بخمس معدودات، فتُوفيَ رسول الله وهن مما يُتلى من القرآن، وهذه الكارثة أيضاً، أي النسخ هذا تم بعد رسول الله، أي هنيئاً لمَن يقول القرآن زُوِّر والقرآن حُرِّف والقرآن أُخفيَ منه أجزاء وأجزاء، فعلاً هنيئاً لهم، هنيئاً لهم بأحاديث أهل السُنة هذه، هذه أحاديثنا نحن، لسنا شيعة للأسف، لأنهم يقولون بالتحريف، أي الشيعة، أصبحنا مثلهم، أو نُعطيهم الأدلة، قالت الرسول مات وهذه الآيات موجودة، فأين هذا يا أم المُؤمِنين؟ أين؟ أين هذا؟ وما المصير؟ قالت المصير هو أنه لما تُوفيَ رسول الله للأسف حدث الآتي، في نفس اليوم الذي لقيَ فيه ربه حميداً سعيداً! قالت تشاغلنا بموته، وكانت في صحيفة، فجاءت داجنة من البيت فأكلتها، كانت تحت السرير – قالت – الصحيفة، ما شاء الله على الذكاء! أين ذكاء علمائنا هنا؟

إذن ما معنى هذا؟ أولاً سأُعلِّق تعليقاً عاماً على هذا الكلام كله، أولاً الله يقول سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ۩، هم قالوا لا، النبي نسي، والأمة كلها من ورائه نسيت، أبو بكر وعمر وعليّ وزيد، كل الأمة! وكل حفظة القرآن، كلهم! أولاً للأسف بعض هؤلاء المُتمحِّكين والمُتمحِّلين والمُعتلين ماذا قالوا؟ قالوا لا، الله قال – نعم – إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩، لكن هناك تأويل، هذه أكبر آية يُطعَن في صدر كلامهم بها، أوَّلوها أيضاً وفرَّغوها من معناها، قالوا نعم، يحفظه عنده، وإذ حفظه عنده فالقرآن محفوظ، لكن أنسانا إياه وأُخِذ من صدورنا، كلام فارغ!

قال الإمام السَرَخْسي – رحمة الله تعالى عليه، علّامة الأئمة وشمس الأئمة، اسمه السَرْخَسي أو السَرَخْسي، كلاهما صحيح، قال رحمة الله عليه الآتي في كتابه، في الأصول – وحفظه للقرآن لا يُراد به الحفظ عنده، لأن الله يتعالى عن النسيان والغفلة، كأنه يقول سأحفظه عندي حتى لا أنساه فلا تخف، وسأُحاوِل ألا أنساه، ما الكلام الفارغ هذا يا أخي؟ هذا لازم قولك، لازم مَن قال محفوظ عنده أن الله يُمكِن أن ينسى، يُمكِن أن يُغلَب على كلامه، لكن هو قال لكم أنا أعدكم أو أُعطيكم وعداً بأنني سأحفظه عندي، هذا كلام فارغ كما قال السَرَخْسي، هذا كلام فارغ! قال فظهر أن المعنى حفظه عندنا، وهو غير محفوظ – أنتم تقولون – وضاع، أكلته الدجاجة، أكلته الدجاجة أو العنزة أو الشاة، لا أعرف! داجن البيت، إحدى دواجن البيت، أياً كانت، شيئ لا يُصدَّق، هذا كان أولاً.

ثانياً مَن قال إنه قرآن وغير موجود في الصدور وغير موجود على الألسنة وليس موجوداً إلا في صحيفة واحدة تحت السرير وحين أكلتها الدجاجة ضاع كل شيئ؟! ما الكلام الفارغ هذا؟ هذا كلام فارغ، هذا كلام مُتهافِت تماماً، لا يُمكِن! القرآن أصلاً لو لم يُكتَب في صحيفة أو في عظمة أو في أي شيئ فهو محفوظ في الصدور، اسمه قرآن، وأنزلت عليك كتاباً – أي القرآن – تقرأه نائماً ويقظان، لا يغسله الماء، ليس تأكله الداجن، الله يقول لا يغسله الماء، لماذا؟ لأنه في الصدور، اذهب واغرق حتى، القرآن سوف يبقى في صدرك، قال مصاحفهم صدورهم، في حديث الدارقطني مصاحفهم صدورهم، فما هذا؟ ما قصة الداجن وهذا الكلام الفارغ؟ هذه الثانية.

ثالثاً والحمد لله قال شوقي – رحمة الله عليه -:

إن الذي جعل الحقيقة علقماً                             لم يُخل من أهل الحقيقة جيلاً.

وجدنا الكثير من العلماء الذين يُنكِرون أسطورة أن القرآن يُنسَخ تلاوةً، وليس فقط أبا عبد الله بن ظفر صاحب الينبوع في التفسير كما ظن بعض العلماء الأفاضل في العصر هذا، لا! قبل ابن ظفر صاحب الينبوع وبعد ابن ظفر وجدنا قامات وهامات عالية وشامخة، تُنكِر أسطورة أن القرآن يُنسَخ تلاوةً، بغض النظر نُسِخ معه الحُكم أو نُسِخ التلاوة وبقيَ الحكم، أي هذا التقسيم الفارغ، كله كلام فارغ هذا، مثل مَن؟ مثل أبي بكر الجصاص الرازي، مُجتهِد المذهب، الإمام الكبير، صاحب أحكام القرآن، مُجتهِد المذهب الحنفي، هذا أبو بكر الرازي! بعده هناك الإمام ابن ظفر، أبو عبد الله محمد الصقلي، صاحب الينبوع في التفسير، ولا يزال مخطوطاً في مصر، ويبدو أنه عالم ذكي جداً، هناك العلّامة أبو الوليد بن رُشد، الحفيد وليس الجد، القاضي والفيلسوف والمُفسِّر والفقيه والأصولي، أنكر هذا في كتابه الضروري في أصول الفقه، وسأذكر لكم آراءهم وعلى ماذا دارت، وهناك الإمام الزركشي، بدر الدين الزركشي – رحمة الله تعالى عليه -، صاحب البُرهان في علوم القرآن.

هذه طائفة من المُتقدِّمين، وكلهم أئمة وعلماء يُشار إليهم بالبنان، أطبقت كلمتهم على أن هذا الكلام مُتهافِت لا يُقبَل، واحفظوا هذا السبب وحده فقط، لسبب كبير رئيس، هناك جُملة أسباب، لكن هذا يتقدَّمها، وهو أن قرآنية أي آية مُفترَضة يُشترَط فيها التواتر، أي القرآنية بشكل عام، حتى تقول لي هذا قرآن، القرآنية كما هو مُتسالَم عليه ومُقرَّر ومُمهَّد بإجماع الأمة قاطبةً – كل مَن يعتقد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله – لا تثبت إلا بالتواتر، القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر! وأزيدكم الفائدة التي أفادناها الإمام العلّامة محمد أنور شاه الكشميري – رحمة الله تعالى عليه -.

الكشميري قال القرآن مُتواتِر بطريقة مُختلِفة حتى عن المزعوم في تواتر السُنة، لأن إلى الآن لم يثبت بإجماع الأمة حديث واحد عن رسول الله مُتواتِر لفظياً، ولا حديث بإجماع الأمة، حتى الحديث الوحيد الفرد اليتيم: مَن كذب علىّ مُتعمِّداً فليتبوء مقعده من النار، اختلفوا في صيغته على أربعة عشر وجهاً، قال الإمام النووي ونازع في تواتره بعض أشياخنا أو بعض مشايخنا، لأن شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، وهذا الشرط غير موجود في كل طرق الحديث، وفعلاً غير مُتواتِر، بخلاف القرآن، ليس مُتواتِر رواية وإنما مُتواتِر طبقياً، يقول الإمام الكشيمري – قدَّس الله سره – القرآن تواتر طبقياً، ألوف الناس قرأوه وصقلوه في المحاريب وفي البيوت بالدموع، وأخذه عنهم ملايين، لأن عن الألوف ألوف وألوف، وظلت الملايين تأخذه عن الملايين، حتى بلغنا، ليس في كتاب وأكلته داجن وهذا الكلام الفارغ، هذا القرآن، هذا القرآن الكريم!

فالقرآنية لا تثبت إلا بمثل هذا التواتر، فكيف تقول لي أنت بحديث آحاد – هذا آحاد، في البخاري ومُسلِم، بل في مائة بخاري ومُسلِم، ليس في واحد فقط، لو هناك مائة بخاري ومُسلِم ستظل هذه أحاديث آحاد، واحد عن واحد، اثنان عن واحد، ثلاثة عن واحد، أحاديث آحاد – هذا قرآن؟ كيف تقول لي بالآحاد هذا قرآن نزل وارتفع؟ كيف؟ عليك أن تُثبت قرآنيته، قرآنيته لا تثبت إلا بالتواتر، وليس موجوداً، ماذا تفعل؟ انتهى! يُقطَع بك، انتبه، قد تقول لي والله هذه حُجة، وأنا أقول لك هذه الحُجة أعرفها من سنين طويلة، حاولت أن أتمحَّك وأن أتعلل لدفعها لكنني لم أجد وسيلة، دفعها الشوكاني أو حاول أن يدفعها، لكن هذا كلام فارغ، كلام مُتهافِت، وضعيف جداً جداً، لم يستطع أحد هذا، ثم إن هذا لم يمر على ذهن أبي الوليد بن رُشد والإمام الجصاص والإمام ابن المُرتضى في المُنية والأمل وأمثال هؤلاء العباقرة، قال لك القرآنية شرطها التواتر، أوجدونا التواتر، أين التواتر؟

أنا أضرب لك مثلاً، كالذي يقول هذا حوض ماء، تُقطِّر فيه حنفية، أي صنبور ماء، قطرة قطرة! بعد عشرين ساعة يمتلئ فيفور، هذا التواتر – مثلاً -، سنفترض هكذا، لكن جاءك مَن يقول لك قطَّرت فيه لدقيقتين وفاض الماء، أنت ستقول لك هذا كذب، كلام فارغ، ما هذا؟ كيف إذن؟ هاتان قطرتان، فلا يُمكِن أن تفيضاه، هذا الآحاد! هذا الآحاد، فكيف تُحاوِل أن تُثبِت لي هذا وتُريد أن أُصدِّق أنه امتلأ الوعاء وفاض الماء بعشر أو بمائة قطرة وهو لا يفيض ربما إلا بثلاثمائة أو أربعمائة ألف قطرة؟ من أين؟ من أين؟! كيف أنا أُصدِّق أن هذا القرآن نزل وارتفع بأحاديث آحاد؟ يُراد أن نُصدِّق قرآنيته بأحاديث آحاد، ويُراد منا أن نُصدِّق ونكذب على الله بأنه أرتفع أيضاً وضاع وذهب وأتاه الباطل بأحاديث آحاد، والله هذا شيئ عجيب جداً جداً يا أخي.

وهذا لم يُفِد الإسلام، ولم يُفِد القرآن، كما قلت لك هذا عبَّد طريقاً وطرَّق طريقاً لأعداء الإسلام قديماً وحديثاً أن يطعنوا في القرآن وفي تواتر القرآن وفي ثبوت القرآن، بهذه الأحاديث! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، الفكر! لا يُوجَد فكر، أين الفكر يا أخي؟ أين الفكر المنهجي الصارم الذي لا يُحابي ولا يُجامِل؟!

مثال آخر، قبل مُدة – سنة أو سنة ونصف – ظهر أحد الدُعاة – بارك الله فيه – على فضائية، وهو رجل مُتعلِّم، وحصل على أعلى الدرجات للأسف الشديد، لكن منهاجه الفكري غير سليم، بعض الناس يقولون هكذا بذكاء أكبر، لا بجُهد أعظم، وهذا الكلام صحيح، لكن هناك ما هو أحسن منه، أي الكلام هذا، يقولون لك في بعض المرات أنت تبذل جُهداً كبيراً من غير أن تستخدم العقل، وهذا لا ينفع، لكن الأحسن بمراحل أن تفعل هذا بذكاء، بذكاء أقل! قليل من الذكاء يستطيع أن يفي بما تتطلَّبه المسألة أو الموضوعة من جُهد كبير، وقد لا تنجح، أنا أقول بمنهج أصح، وليس شرطاً بذكاء أعظم، قد يكون ذكاؤك عادياً جداً ومُتوسِّطاً، لكن المنهج الذي تنطلق منه والمباني النظرية والفكرية التي تعتمدها قوية جداً، لا تنثتي، ولا تنثلم، لا يستطيع عباقرة البشر أن يتصدوا لك، سوف تُفحِمهم، انتبه! لا لأنك أذكى منهم، لأن منهجك أصح، انتبه! هذا هو، ليست مسألة ذكاء أعظم أو هذا بذل جُهداً أعظم، لا! بالعكس، ذكاء مُتوسِّط ومنهج أصح، المنهج لابد أن يكون صحيحاً، من الصعب نقده، ومن ثم سيكون من الصعب أن يرد عليك أحد إن كان يحترم عقله، إلا أن يُهرِّج كالمُهرِّجين طبعاً ويدخل في العواطف والكلام الفارغ هذا كما يفعل مُعظَم هؤلاء للأسف الشديد.

هذا الداعية خرج على التلفزيون Television، وكان يُريد أن يُدهِش الناس، انتبهوا! وحكى لنا – هذا كان مُصوَّراً طبعاً، عنده فيديو Video – عن النحل الذي دس إليه بعض العلماء في تجربة شيئاً يسيراً جداً من الخمر في رحيقه، فلما شرب النحل الرحيق سكر وداخ، دخل في دوخة الخمر ونُزف، وبعد ذلك حين عاد إليه وعيه رفض أن يشرب من الرحيق، الله أكبر، سُبحان الله!

حدَّثت أحد الناس بهذه القصة قبل فترة، فقال الله أكبر، فقلت له أنت منهم، أنت من المصائب، قال لي كيف؟ قلت له اسمع الآن إذن، اسمع لأن هذه مُصيبتنا، وأنا أعرف أنك ستقول الله أكبر وسُبحان الله، ماذا يُريد هذا الداعية أن يقول لنا؟ انتبهوا! في علم التفكير واليوم في علم النفس التربوي والتعليمي ونظريات الذكاء والعقل لا يُوجَد فكر ولا يُوجَد كلام يُقال – إلا أن يكون صاحبه مجنوناً طبعاً – إلا ويصدر عن وجهة نظر، عن منظور مُعيَّن، منظور! والمنظور في نهاية المطاف يتفكَّك إلى ماذا؟ وينحل إلى ماذا؟ إلى مفروضات، هناك مفروض مُعيَّن، هناك فرضية مُعيَّنة، انبنى عليها المنظور، المنظور الذي انطلقت منه للنظر والرصد، فهذا الذي يحصل، هناك منظور في هذا الكلام، حكاية النحل السكران هذه لها منظور، أنا من واجبي كإنسان ناقد عندي عقل وأحترم نفسي لابد أن أُفكِّك المسألة، هناك منظور.

ما هي المفروضة؟ ما هي مفروضات هذا الرجل؟ أولاً هي إما… أو… لا يُوجَد غير هذا، أي Entweder… Oder…، إما… أو… لا يُوجَد غير هذا علمياً، إما أنه يُريد أن يقول لنا الشرع الإلهي الإسلامي – الشرع المُحمَّدي بالذات، والحمد لله رب العالمين – الذي حرَّم الخمر خلافاً لشرائع أُخرى يأخذ بعض صدقيته وبعض رسوخه وبعض حقانيته من مُصادَقة الحشرات والحيوانات عليه، فالنحل أيضاً لا يُريد السكر، وهذا كان أولاً، هذه مفروضة، وهي مُمكِنة، أو يكون الرجل غُلِب على عقله – ثانياً – ويظن أن هذه الحشرات والبهائم والحيوانات كلها بمعنى أو بآخر مُكلَّفة بما كلَّفنا الله به من الشرائع، بما يتناسب معها، أوليس قد قال الله – تعالى – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩؟ وهذه من العالمين، فمن المُمكِن يا أخي أن تكون مُكلَّفة، وأن يكون السكر بالنسبة لها حراماً يا حبيبي، وها هي رفضت تسكر، رفضت تسكر، هذه ثانية، وهي مُمكِنة جداً جداً.

أو على الأقل – الاحتمال الثالث – أن يكون هناك للتشريع الإلهي مُستوى فطرياً عاماً، يعم سائر أنواع الحيوانات، هذا فطري، مُستوى فطري، يشاء بعض الناس أن يقول غرزي، وليس عندنا مُشكِلة، ربما يكون هناك مُستوى فطرياً مُعيَّناً، يعم كل هذه الأنواع، وهي تصدر عنه، يُريد الله لفت النظر، أي لفت نظرنا نحن كمُشترِعين، إلى أن شرعكم هذا وهو من إنشائي له مهاد وأساس فطري، تصدر عنه الحيوانات كلها.

والبقية طبعاً معروفة، حتى لا أُطيل عليكم ولا أُصدِّع أدمغتكم، وقد صدَّعتها، أي جئتكم بالصداع، وجئتكم بوجع الدماغ، فسامحوني، كما أفعل دائماً، لكن هذا ما عندي، هذه بضاعتي، أنا أعلنت عليكم العقد، أعلنت عليكم وجع الدماغ، وليس تنويم الدماغ، فاحتملوني، التنويم يأتي في النوم، لكن لابد أن نحترم عقولنا، فالبقية حتى لا أُصدِّعكم معروفة، تُستدعى الآية من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ مُباشَرةً! وحديثين أو ثلاثة عن رسول الله، وسُبحان الله، ثم موسيقى وتنتهي الحلقة، عجب وإعجاز علمي! ما هذا؟ ما هذا الذي يحدث؟

وطبعاً وفق هذا الكلام يبدو أن العقل الإنساني الذي نزعنا الثقة منه إلى حد بعيد جداً وزهَّدنا فيه وجعلناه تُهمة – يُقال هذا عقلاني، هذا يتعقلن، هذا يستخدم عقله كثيراً، هذا يُمعِن في استخدام العقل – غير قادر على أن يعرف حقية شرع الله، العقل تهمة، انتبهوا! يبدو أن العقل غير قادر وحده دون إسناد من عالم الحشرات والحيوانات كالقرود ربما والببغاوات أن يعرف حقية شرع الله، فيحتاج إلى الحيوانات، يحتاج إلى الحيوانات لكي تُبرهِن له أن هذا الشرع جيد، فتمسَّك به يا ابن آدم، مُمتاز هذا، انتبه! هذه واحدة.

هذه تضمينات، هذه اللوازم، رابعاً – الحالة المفروضة الرابعة – لابد حين نُمعِن النظر والتجريد في عالم الحيوانات أن يتبدى لنا عالم الحيوانات وفق هاتين المفروضتين عالماً Perfect، عالماً تاماً، عالماً كاملاً مثالياً، ليس فيه إلا المثال، عالم لا تعادٍ فيه، لا تباغض، لا تناحر، لا سرقة، لا شذوذ جنسي، لا خمر، لا سكر، لا عدوان، ولا حروب، والواقع والحق أن عكس ذلك تماماً هو الحاصل، الحيوانات يعدو بعضها على بعض جنسياً ودموياً بالناب والظفر، يقتل بعضها بعضاً، يبعج بعضها بعضاً، كالذئاب والأسود والفهود، إلى آخره! الحيوانات منها صنوف يعدو وينزو ذكرانها على بعضهم بعض، أكرمكم الله كالخنازير وكقرد الــ Pavian، أي البابون Baboon، وأنواع أُخرى من الحيوانات، الذكور فيها شذوذ جنسي، جيد! بحسب المفروضات الخاصة بك هذه لابد أن نُعيد النظر في تحريم الشذوذ الجنسي، قد يكون حلالاً، فالحيوانات تفعله، أنت تستمد شرعك منهم، ما شاء الله! ماذا تفعل أنت؟ ماذا تُريد أن تقول؟ ما هذا الكلام الفارغ الذي يُقال للمُسلِمين في الشاشات؟ أي عقلية تبنون أنتم؟ لا تُوجَد عقلية، كلام يُقال وينتهي الأمر، ينتهي! فلا يقل لي أحد أنت بالغت، لأنني لم أُبالِغ، هذا هو الموقف النقدي العادي الذي ينبغي أن ينطلق منه أي طالب مُسلِم في الإعدادية والله العظيم، أن يُعيد النظر فيما يسمع، فيما يرى، وفيما يُقال له يا أخي!

بعد ذلك أنا أمام تجربة النحل السكران سآتيكم بتجربة الفأر المُدمِن، ابن الحرام! وهذه التجربة علمية حقيقية، انتهت بموت الفأر، وهو جرذ، أي هذا فأر كبير، الجرذ المُختبَر، ماذا عمل له العلماء؟ أتوا له بعجلة من الصعب تحريكها، أي هذا ليس سهلاً كثيراً، نسبياً هذا صعب، وحاول أن يُحرِّكها، يُريد أن يرى وأن يختبرها، فلما حرَّكها مُباشَرةً أتاه Stitch صغير هكذا، أي Stich، حصل على وغزة من حقنة مورفين Morphine بسيطة، فحدث دوار في دماغه، فشعر باللذة، أي الملعون هذا، والفاسق عن أمر الله، شعر باللذة، وماذا كان منه بعد ذلك عبر ألوف المرات وعبر الأيام؟ قالوا لكم ظل فقط يُحرِّك العجلة، يُريد المورفين Morphine، أي المُخدِّرات يا أحبابي، الفأر فعل ذلك، حتى هلك، لهى عن طعامه وعن شرابه وعن أُنثاه، أي الفأر، لا يُريد لا الأكل ولا الشرب ولا الجنس، مثل البشر المُصابين بالهبل، ما هذا؟ هل هذا حلال إذن؟ هل الخمر على النحل حرام والمُخدِّرات للفئران حلال؟ ما هذا؟ أي منطق هذا؟

لذلك أنا أُريد أن أقول الآتي، وهذا غاظني جداً جداً، غاظني جداً أن يحدث هذا معنا، أُريد أن أقول في النهاية وقد أطلت عليكم قليلاً يا إخواني وأخواتي، أُريد أن أقول للذين يُزهِّدون في الحرية ويُزهِّدون في العقل وحرية استخدام العقل وإطلاق العقل خوفاً من عبثيات المعقول والعقلاء إلى ماذا تفرون إذن؟ أتفرون إلى الخُرافة، إلى الأوهام، إلى الأكاذيب، وإلى الأفكار اللاعلمية واللامُحقَّقة؟ إلى ماذا؟ أتفرون إلى إكراه الناس على مُنتحَلات البعض الذين فكَّروا عنا واختاروا لنا وأعملوا أدمغتهم بالنيابة عنا؟ أهذا هو؟ أنتم تفرون من اليفاع إلى الوهاد، تفرون من السعة إلى الضيق، وتفرون من النور إلى الظلام، حتى وإن اعترت – ولابد وأن تعتري – مُحاوَلات العقل زلات وكبوات فهذا شيئ طبيعي، إلا أن محاسنه وآثاره وإصاباته أكثر بكثير، وهو يُصحِّح نفسه.

في الختام أرجو أن يبرز الآن مِن المُسلِمين – من علمائنا، من شبابنا، ومن شاباتنا – مَن يقول مثلما قال جون ستيوارت ميل John Stuart Mill في القرن التاسع عشر، هذا الفيلسوف التجريبي الإنجليزي قال It is better to be Socrates dissatisfied than a fool satisfied، إنه خير لك أن تكون سقراط Socrates ساخطاً من أن تكون أحمق راضياً، وفي الحقيقة هو عنون وقال Than a pig satisfied، أي خنزيراً راضياً، قال It is better to be a human being dissatisfied than a pig satisfied; better to be Socrates dissatisfied than a fool satisfied، أنا أقول لا يُوجَد وسط، لا يُوجَد! الثالث مرفوع، إذا لم تكن إنساناً يستخدم عقله فستشقى، قال أنا أعرف – أي ميل Mill – أنك ستشقى، لن ترضى، لن تكون Satisfied، لن ترضى! فعلاً ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، أبو الطيب أحمد المُتنبي يفهم هذا، قال حين تستخدم عقلك تشقى، والعوام – كما قلت لكم في أول خُطبة اليوم – يعرفون أنك لو استخدمته سوف تَتعَب وسوف تُتعِب مَن حولك، قال أنا أعرف أنك ستتعب، أي ميل Mill، لكن ليس عندي مُشكِلة، أنا أُفضِّل أن أكون سقراط Socrates، أي مثل سقراط Socrates، سقراط Socrates الذي دفع رقبته ومات مُتجرِّعاً السُم، وفاءً لعقله وحرية فكره، على أن يُسلِّم للأوثان والخُرافة، وقد أنكر الآلهة الوثنية بالمُناسَبة، ويُقال إنه كان مُوحِّداً الرجل هذا وسلَّم، كان شهيداً من شُهداء الفكر، قال ميل Mill وأنا مثله، أنا أُحِب أن أكون مثله، أُحِب أن أكون إنساناً ساخطاً وإنساناً مُكتئباً وتعبان و(غلبان) و(وجعان)، ولا أُحِب أن أكون أحمق راضياً و(متجلي) و(مهيص)، لا أُريد هذا، لا أُريد هذا الآن، لابد أن أكون سقراط Socrates الذي يُعاني الفكر ومحنة الفكر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، اللهم قدِّس سرائرنا، ونوِّر ضمائرنا، وافتح علينا فتوح العارفين بك، وافتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك، واتباعاً لسُنة نبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، اللهم اجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، واجعل محبتك أحب الأشياء إلى قلوبنا، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقر عيوننا من عبادتك بلُطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا مالك المُلك، يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (15/10/2010)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: