إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله – سُبحانه وتعالى – من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ۩ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ۩ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

كنا قبل زُهاء أشهر سبعة قد طرقنا موضوعاً تحاماه كثيرٌ من العلماء والفقهاء لقرون مُتطاوِلة، ألا وهو موضوع القول في زواج الصغيرة التي لم تبلغ، وانتهينا فيه – بفضل الله تبارك وتعالى – إلى ترجيح مذهب غابر وقول دارس لاثنين أو لثلاثة من علماء الإسلام، في مُقابِل آلاف العلماء الذين يُمثِّلون المذاهب التسعة المتبوعة والمشهورة، أن ذلكم مما لا يسوغ ولا يجوز.

وشاء الله – تبارك وتعالى – أن يُثار هذا الموضوع بعد ذلكم في أكثر من عاصمة وفي أكثر من سقع عربي وإسلامي، حتى في المملكة العربية السعودية، ولعل التوجه الإسلامي علمياً فيها هو من أكثر التوجهات مُحافَظةً وتقليديةً، حتى في المملكة أُثير هذا الموضوع، وخرج علينا باحثون ودارسون وأهل علم وفكر يصدعون بأن هذا مما ينبغي أن يُعاد النظر فيه، وأنه مما لا يسوغ ولا يجوز، وهذا شيئٌ طيبٌ، في أكثر من عاصمة عربية!

ولنا – بحول الله تبارك وتعالى – اليوم عودةٌ إلى هذا الموضوع ولكن من زاوية أُخرى أو إلى موضوع قريب، إنه ليس القول في زواج الصغيرة التي لم تبلغ، وإنما في زواج البالغة العاقلة الراشدة ولكن مع تفاوت عظيم جداً وتباين في السن، كأن يتزوَّج ابن السبعين – وربما في بعض الحالات التي قرأنا عنها وطالعتنا بها الوسائط الإعلامية المُختلِفة أكثر من ذلك، مَن يكون أكثر من السبعين – بنت الخامسة عشرة أو بنت العشرين، وهذه داهية ما لها من واهية!

أيضاً للأسف الموقف التقليدي يتلخص ببساطة في أن هذا مما يحل ويسوغ وليس عندنا ما يُمكِن أن نُقيِّد به هذا الأمر من نص أو حتى من اجتهاد مُعتبَر لإمام يُعتبَر قوله وخلافه، أي خلافه مُعتبَر كما أيضاً يُعتبَر قوله، ومَن لا يُعتبَر قوله لا يُعتبَر خلافه، معروف! فلابد أن نُعيد النظر في هذا الموضوع وأن نفتحه، لعل الله – تبارك وتعالى – يُوفِّق فيه إلى قول وإلى رأي وإلى اجتهاد يُنصِف المرأة المُسلِمة، التي ما زال كثيرٌ من العرب والمُسلِمين يُصِرون على أنها لم تُظلَم وليست مظلومة وليست مهضومة، هذا من أعظم هضيمتها، وهذا من أبرز وأشنع مظالمها أو مظلومياتها، أن تُزوَّج وأن تُنكَح بنت العشرين أو مَن دون ذلك أو ما يُقارِب ذلك مِن ابن السبعين والثمانين.

ما عساه ابن السبعين والثمانين أن يُوفيها من حقوقها؟ ما عساه؟ تقريباً لا شيئ، إذا استثنينا المسألة المادية بما يتعلَّق بالنفقة، ما عدا ذلك لا شيئ تقريباً، ما هو الموقف الفقهي من هذه المسألة؟

أحسب أن هذه المسألة ستُشكِّل أيضاً حالةً أو نموذجاً للاجتهاد الفقهي وما يتعاناه وما تعاناه من قصور، قصور في النظر وقصور في التناول! الفقهاء ليسوا معصومين وليسوا كاملين، والاجتهاد الفقهي تاريخياً ليس اجتهاداً يُلقي بالكلمة الأخيرة في فهم النص وفي القول في النص أو في النصوص.

للأسف كثيرٌ من العلماء قديماً وحديثاً يجعلون وكدهم ونظرهم إلى مسألة نص بسيط ساذج مُعرَّىً أو مُقصىً عن الشروط الحيوية والنفسية والمُجتمَعية والثقافية للموضوع قيد الدراسة، وما هكذا تُورَد يا سعد الإبل! ما هكذا ينبغي أن يكون الاجتهاد والنظر الهادف إلى استنباط أحكام أرحم وأرأف وأحكم شارع، لا إله إلا هو، ما هكذا!

طبعاً بداهةً – أعتقد أنه بالبداهة – يجد المرء مُثقَّفاً كان أو غير مُثقَّف، عالماً كان أو غير عالم، مُسلِماً كان أو غير مُسلِم أن هذا الأمر فيه ما يُنكَر وفيه ما يُرَد، أن تُدفَع بنت العشرين إلى ابن الثمانين أو التسعين، هذا أمر لا ينسلك في ذهن مُحترَم، وفيه ظلم واضح وهضيمة عظيمة لهذه المسكينة، وجناية عليها وعليه أيضاً وعلى الذُرية إن كانت ذُرية، جناية على أطراف ثلاثة، مثل هذه الزيجات جناية على أطراف ثلاثة!

ما هو الموضع العتيد الذي ينبغي أن تُناقَش فيه هذه المسألة؟ إنه موضوع الكفاءة، الفقهاء للأسف درجوا على التفريط وعلى التساهل فلم يعدوا هذه المسألة أو هذا الموضوع من شروط أو من خصال الكفاءة، تكلَّموا عن الدين وهو حريٌ بأن يُتكلَّم بلا شك فيه، أي التدين! الدين بمعنى التدين، كصالحة لفاسق، الفاسق ليس كفؤاً للصالحة، خلافاً لمحمد بن الحسن، على كلٍ تكلَّموا في الدين، تكلَّموا في النسب، تكلَّموا في الحرفة، تكلَّموا في الحرية، كما تكلَّموا في اليسار أو في الغنى، الحنفية والحنابلة مثلاً! تكلَّموا في هذه الشروط، واختلفوا بعد ذلك اختلافاً يسيراً، هل خصال الكفاءة هاته تُمثِّل شرط صحة لعقد النكاح أو شرط لزوم؟ أكثر مُتقدِّمي الحنابلة نظروا إليها على أنها تُمثِّل شرط صحة، بمعنى أنها إن تخلَّفت العقد باطل، العقد فاسد! وهذا قولٌ لم يدرج عليه مُعظَم العلماء والجماهير حتى مُتأخِّرو الحنابلة تركوه، الصحيح – وهو قول جماهير العلماء – أن خصال الكفاءة تُشكِّل شرط لزوم، معنى كونها شرط لزوم أن لمَن له الحق أن يقف – أي يُوقِف في العامية – العقد فيُصبِح العقد غير نافذ، بل يُصبِح عُرضةً للفسخ، إلا أن يتسامح صاحب الحق بإسقاط حقه.

والآن هذا حق مَن؟ الكفاءة حق مَن؟ الصحيح – وهو قول جماهير العلماء – أنها حق مُشترَك، حق للزوجة وحق لأولياء الزوجة، ما يلفت النظر في هذه المسألة أن السادة الفقهاء قالوا هي حق مُشترَك للزوجة ولأوليائها لما يلحقهم أو لما عساه أن يلحقهم من معرةٍ بتزويج ابنتهم أو مُوليتهم – مَن كانت في ولايتهم، قد لا تكون ابنة، قد تكون قريبة، المُهِم هي مُولية وفي ولايتهم – غير كفؤ، وهذا كلام صالح في الجُملة، لكن كان ينبغي أن يُضاف إليع ما هو أهم منه، إنها حق أيضاً للزوجة لحاظاً أو اعتباراً لاستقرار الحياة، حتى تستقر الحياة! وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، والأصل في الزواج أنه عقد مُؤبَّد، الأصل فيه أنه عقد مُؤبَّد! وهذا مطمح النظر، والطلاق أبغض الحلال إلى الله، إذن ينبغي أن يُراعى من شروط وخصال الكفاءة ما يُراعى نظراً وتلمحاً ولحاظاً لاستقرار الحياة الزوجية وهناءة الطرفين.

فإذا أخذنا هذا بالاعتبار – وينبغي أن يُؤخَذ بكل حال – وجدنا بالبداهة هنا أو باستباط يسير أن يُمكِن لزوجةً أن تتزوَّج من رجلٍ لا يُكافئها نسباً ولا يُكافئها يساراً أو غنىً لكنه يُكافئها سناً، هي شابة وهو شاب أو هي شابة وهو كهل، وسنعود إلى هذا، يُمكِن! هذا يُتسامَح فيه، أن تكون شابة وهو كهل، هذا قريب، الأمر واسع، وبتعبير العلّامة الإمام الماوردي – رحمة الله عليه، أقضى القُضاة – ألا يختلفا في الطرفين، فإن اتفقا في طرف فلا بأس، ولذلك الكهل كفؤ للشابة، مُمكِن! هذا قريب جداً، لكن لا يكون العجوز أو الهرم كفؤاً للشابة، إنهما مُتباعِدان في الطرفين.
وحتى تضح هذه الفكرة أقول الشباب من البلوغ إلى الثلاثين، حتى نعرف مَن هو الشاب، فلسنا شباباً وإن أعجبنا هذا، لسنا شباباً بعد! الشباب من البلوغ إلى الثلاثين، والكهولة أو الاكتهال من الثلاثين أو الخمسين، أمثالنا كهول، كلمة كهل تُخيف بعض الناس، لا! الكهل هو أخ الشاب، الكهولة من الثلاثين إلى الخمسين، والشيخوخة من الخمسين إلى السبعين في المشهور، ومن السبعين حتى القبر أو حتى الوفاة الهرم، يُقال شيخ هرم، من السبعين إلى الوفاة! هذا هو التقسيم المشهور خاصة لدى الفقهاء.
فالكهل يُمكِن أن يُتسامَح في شأنه ليكون كفؤاً للشابة، لأنهما يلتقيان في طرف ويتباعدان في آخر، أما أن يتباعدا في الأطراف جميعاً – كأن يكون شيخاً أو هرماً ويتزوَّج شابة – فهذا بعيدٌ جداً، وهذه جناية عظيمة، وكما قلنا داهية ما لها من واهية! إلا ما يكون من رحمة الله ولُطفه سُبحانه وتعالى.

فهذه الشابة لو تزوَّجت هذا الشيخ أو الهرم الذي يُكافئها نسباً ويساراً وحسباً لكن لا يُكافئها سناً الحياة لا يُرجى لها الاستمرار، ولا يُرجى لها الاستقرار، بالعكس! أدنى وأحرى بالاستقرار والاستمرار حياة شابة مع شاب يُكافئها سناً ولكن ليس كفؤاً لها لا حسباً ولا نسباً ولا مالاً، الحياة هنا بالعقل، بالبساطة، بالحكايات، وبالمُشاهَدات هي أقرب وأدنى إلى الاستمرار والاستقرار، العوامل هنا التي تتهددها أقل، أما العوامل هناك فهي أكثر بكثير، وفي رأسها صفة الجمال، وما عساه يبقى من جمال الشيخ الكبير أو الهرم الفاني الهم كما يقول العرب – هم هرم فان شيخون – على حافة قبره؟ ما عساه يبقى من الجمال؟

وبلحاظ ذكي أو بلفتة ذكية الإمام النووي رحمة الله عليه في روضة الطالبين حين عرض لخصلة الجمال رجَّح أن الصحيح أن الجمال ليس من خصال الكفاءة خلافاً للروياني، الإمام عبد الواحد بن إسماعيل الروياني إمام عصره ومن أعظم تَلاميذ القفّال، وهو إمام الشافعية في وقته، رحمة الله تعالى عليه، الروياني اشترط السن شرطاً في الكفاءة، عجيب! النووي يتحدَّث عن الجمال، ويعترض على الكمال بكلام الروياني – رحمة الله عليه – في الشيخوخة في السن، لماذا؟ هذا تلفت ذكي من النووي، كأنه يقول الجمال يُعادِل الشباب، الجمال يُقابِل الشيخوخة، ما الذي يبقى من جمال الشيخ أو العجوز – امرأة عجوز ورجل شيخ – إذن؟ ما الذي يبقى؟ إن علو السن يضمحل معه الجمال، فلا يبقى منه إلا مثل آثار الوشم في معصم اليد، شيئٌ يسيرٌ جداً جداً، لا يُعبأ به، ويعود الإنسان شيئاً آخر، يضمحل جماله ويذهب بالكُلية إلا قليلاً، فالنووي هنا عادل بين الأمرين، بين الشباب وبين الجمال، وهذا كلام صحيح، فالأمران مُعتلِقان تماماً!

وهنا لننظر إلى الجانب النفسي، هذه المسألة – إن جاز التعبير – في نظري هي مسألة حيوية نفسية اجتماعية، وهي أكثر من ذلك! أي بيو- سيكو- سوسيولوجية كما يقولون إن جاز التعبير، من جانبها النفسي أليست المرأة تميل وتُشغَف بالجمال كما يميل إليه الرجال ويُشغَفون به؟ بلا شك تميل إلى الجمال وتشغف به، هي كائن وعندها تحسسها للناحية الاستطيقية أو الجمالية، بلا شك! والعرب لهم حكايات وأشعار كثيرة جداً جداً في ذم الشيب، لأنه علامة على اضمحلال الجمال وانحلال القوى، كلام كثير! ويعتبون فيه على النساء، لأنهن لا يُحِبنن الرجل الأشيب، كأنهم هم يُحِبون المرأة الشيباء، مُستحيل!

روى الجاحظ في المحاسن والأضداد وابن قتيبة في عيون الأخبار عن العتبي، قال كنت رجلاً كثير التزوج، فمررت يوماً بامرأةٍ أعجبني منظرها، هكذا دون أن تُسفِر! منظرها أنها شابة ومُتماسِكة، قال فأرسلت إليها أسألها هل هي مُزوَّجة؟ أي هل هي مُتزوِّجة؟ فردت أن لا، قال فصرت إليها، ودللتها على نفسي، وعرَّفتها بي وبمحلي، أي مقامي ورُتبي، حيثيتي الاجتماعية! فقالت حسبك، قد عرفناك، غير أن هنا ما تحتمل، يُوجَد شيئ لابد أن تتحمَّله! قلت وما هو؟ قالت بياض يسير في مفرق رأسي، أي يُوجَد بعض الشيب هنا، قال فثنيت عنان فرسي وانطلقت، فقالت عُد أيها الرجل، شابة ذكيةّ! شابة لم تُتِم العشرين كما قال الراوي نفسه، صاحب الحكاية، لم تُتِم العشرين! لكن العرب كانوا أمة حكمة، ليسوا كعرب اليوم، انتبهوا! اليوم – والله – لا تجد عند زعماء العرب لو وضعتهم في قارورة جميعاً أو في صندوق حكمة هذه الشابة الصغيرة، أمة تخبَّلت في زُعمائها وقادتها على مُستويات كثيرة، وستسمعون العجب، أمة ذكية جداً، اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩، هؤلاء وأسلافهم هم الذين حملوا الدين وفقهوه وعرفوه، كانت أمة عظيمة، كرم وعلم وحس وذكاء وشفافية وألمعية ولوذعية وعبقرية، أمة عجيبة كانت! قالت ارجع، قال فلما رجعت أسفرت عن وجهٍ كفلقة القمر وعن ضفائر وشعر كالحُمم، أسود عظيم! ليس فيه أثر للشيب، قالت هذا هو شعري، لكننا كرهنا منك – عافاك الله – مثل الذي كرهت منا. أنت رجل شيخ، هذا واضح عليك! تتقدَّم إلىّ لماذا؟ لماذا آخذك؟ لماذا أتزوَّجك؟ كما تُحِب أنت الشباب أنا أُحِب الشباب أيضاً، لا أُحِب شيخاً كبيراً، وعلى الرجل أن يفهم هذا!

أنا لا أدري لِمَ كان العرب يشتكون ولِمَ لا يزال بعض الناس يشتكي إلى اليوم من هذه الطباع السيئة في النساء وفي الغواني وفي الحسان، لأنها طباع الرجل أيضاً، أتُريد أن تعيش عمرك وعمر غيرك كما يُقال؟ انتهى! أنت عشت عمرك، اترك ابنك وحفيدك أن يعيش عمره أيضاً وأن يتمتع بشبابه مع شابة تليق به، أتُريد أن تأخذ كل شيئ؟ هذا طمع وعدم نضج، أنا أعتبر أن هذا من عدم النضج الانفعالي، من عدم النضج العقلي والنفسي، لكل دورة مُقتضياتها النفسية والاجتماعية والثقافية، انتهى! عِش حياتك، عِش مرحلتك، ولا تتعد، لكن هذه قرَّعته وأنَّبته بلُطف، قالت ولكننا كرهنا منك – عافاك الله – مثل الذي كرهت منا، وأنشدت، عجيب! هل هذا لها أو تُنشِده؟ الله أعلم، قالت:

رأيت شيب الرجال من الغواني                    بموضع شيبهن من الرجال.

أي شيب الرجال عند الغواني أو عند الفتيات مكروه، تماماً كما هو شيب الغواني مكروه عند الرجال!

رأيت شيب الرجال من الغواني                     بموضع شيبهن من الرجال.

حصيفة!

يروي أهل الأخبار كأبي الفرج وأيضاً ابن قتيبة وغيرهم أن الحارث بن سليل الأسدي – سيد وزعيم ومُقدَّم بني أسد في زمانه – أتى علقمة بن خصفة العبدي، وخطب إليه ابنته الزباء، وكانت فتاة فتية جميلة حسناء، فدخل على زوجه – أي علقمة بن خصفة العبدي – وقال لها أي فلان، إن الحارث بن سليل سيد بني أسد حسباً وموضعاً وبيتاً، وإنه قد رغب إلينا في ابنتنا الزباء، فلا يعودن إلا بحاجته، أي لا نُريد أن نُخيِّب هذا الرجل ولا أن نكسر خاطره ونُخيِّب رجاءه فينا، فلا يعودن إلا بحاجته! هؤلاء هم العرب، هذا في الجاهلية، العرب! فصاحة وحكمة وذكاء، وترك الأمر لمَن؟ للأم، لأنه يعلم أنها أدنى إلى إقناعها وتليينها وغلبتها على أمرها، مسكينة! فدخلت عليها أمها، انظروا إلى الأم والبنت الآن وإلى المُحاوَرة اللطيفة العجيبة، فقالت أي بُنية، أي الرجال أحب إليك: السيد الكهل – في الحقيقة لم يكن كهلاً، كان شيخاً، لكن تُريد أن تغرها من نفسها، قالت السيد الكهل – الجحجاح – الجحجاح هو الباسط اليد بالندى والكرم، يُعطي! وقد كان الحارث بن سليل هكذا، كان سيد قومه حقاً – المُعطي الندي المنّاح – كثير العطايا – أم الفتى الوضّاح – جميل وجهه، كورقة الكتاب كما يقولون، فتى جميل، لكن هذا سيد جحجاح عنده ماله -؟ قالت أي أمتاه، إن الفتاة تُحِب الفتى، كما يُحِب الرعاء أنيق الكلا، قالت واضح جداً، الفتاة ماذا تُحِب؟ ماذا تُريد من جحجاح؟ هل تُريد أمواله ونعمه؟ لا تُريد هذا، الفتاة تُريد فتىً يُقارِبه ويُلبي رغائبها النفسية أولاً والحسية ثانياً، قالت يا بُنية – تراودها وتغرها عن نفسها – إن الشاب شديد الحجاب، كثير العتاب، شديد الحجاب لأنه ماذا؟ وافر الغيرة، يغار! وبالمُناسَبة الشيوخ لا يغارون عُشر بُعيشير الشباب، لأن هذه الغيرة في نهاية المطاف تعبير عن سُلطة، والسُلطة تُريد مُبرِّرات، المُبرِّرات ضعيفة هنا، انتبهوا! لذلك تكثر الدياثة في الكبار الذين يتزوَّجون صغاراً، معروف هذا في التاريخ وفي الاجتماع وفي كل أمة، وكانت تعرف هذه، أي زوجة علقمة! فقالت لها إن الشاب شديد الحجاب، دائماً يستريب فيُغلِق ويمنع، لأنه يغار – يغار جداً – حتى من نسمة الريح، كثير العتاب، يظل يُعاتِب ويُراجِع ويُحاسِب ويُحاقِق ويُشاحِح، فقالت يا أمتاه، أخشى من الشيخ – انظروا إلى هذه الفتاة الحكيمة، الزباء – أن يُدنِّس ثيابي، الله أكبر! ما هذه الكلمة العجيبة؟ تقول أخشى ألا يفي بحقي وبحظي وألا يقوم بحظي الحسي، فيقودني هذا إلى مُواقَعة الفاحشة، انظروا! أخشى من الشيخ أن يُدنِّس ثيابي، ويُبلي شبابي، أي سوف يضيع شبابي مع شيخ ضعيف مسكين، ليس عنده شيئ، ويُبلي شبابي، ويُشمِت بي أترابي، يقول الرواة فلم تزل بها حتى غلبتها وأنزلتها عن رأيها، فتزوَّج الحارث بن سليل واحتملها إلى قومه، ودارت الأيام فبين هو جالس في مظلة له في الضُحى وهي إلى جانبه إذ أقبل فتيان شباب أسداء أشداء من بني أسد يعتلجون، يتصارعون! شباب فيهم حياة – وفرة الحياة – يعتلجون، فتنهدت وتنفست ثم بكت، لم تستطع أن تكتم أكثر من ذلك، فقال ما الذي أبكاكِ؟ فقالت ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ؟ انظر إلى هؤلاء الشباب، انظر إلى الاعتلاج والقوة، لكن هذا يا أخي ضعيف جداً وغير مُتماسِك! لا يستطيع حتى أن يُعلِّق على رجليه كما نقول، قالت دعني وشأني، ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ؟ قال لا أم لكِ، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، فذهبت مثلاً، قلت ضرب هذا المثل لنفسه، كأنه يقول لها انتهى، أنتِ مُسرَّحة، طلقتك! لا أُريدك حتى وإن اشتهيتك، حتى وإن تمنيتك، لأن الحرة – وكذا الحر – تجوع ولا تأكل بثدييها، لا تعمل ظئراً، ولم أر أكثر بل كل مَن حقَّق الكتاب عرف توجيه هذا المثل في هذا الموضع، هذا توجيهه! يقول لها إذن لا أُريدك بعد، انتهى مُباشَرةً! قال لا أم لكِ، هذه كرامة العربي، ليس كذاك الذي جاء يشكو من أنه تقريباً وجع على زوجه – والعياذ بالله – في حالة زرية جداً، ثم هو يبكي ويُوسِّط الشفعاء لكي يُعيدها إلى ذمته، ما هذا؟ ما هذه الديوثية؟ هذا عربي وهذا عربي، انتبهوا! هذا عربي مُسلِم مُحمَّدي للأسف، محمد بريء من هؤلاء الديوثين، وهذا عربي جاهلي، من أجل كلمة قال لها تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، كم من غارة شهدتها وسبية أردفتها وخمرة شربتها! الحقي بأبيكِ لا حاجة لي بكِ، هيا! طلَّقها مُباشَرةً وانتهى كل شيئ، لكن عرف!

في هذا المعنى ما رواه الميداني والمُفضَّل الضبي في أمثاله، عن فتاة أيضاً شابة فتية تزوَّجت من شيخ كبير ضعيف، ابن سبعين أو خمس وسبعين أو ثمانين سنة، وهي شابة في العشرين من عمرها، تزوَّجت منه! فبين هي جالسة معه ذات يوم إذ أقبل شباب جعلوا ينتعلون من قيام، الشاب طبعاً يلبس الحذاء ويخلع الحذاء وهو واقف، جعلوا ينتعلون من قيام! فقالت حبذا المُنتعِلون من قيام، والله شيئ حلو هذا، انظر إليهم ما شاء الله، لكن هذا المسكين لا يستطيع أن يفعل مثلهم، يأتون إليه بكرسي وشيئاً فشيئاً فيُلبِّسونه الجوارب في رجليه وما إلى ذلك، ضعيف! فقالت حبذا المُنتعِلون من قيام، هذا لم يكن عنده كرامة الحارث بن سليل الأسدي، قال وأنا أنتعل من قيام، فقام المسكين لينتعل – أكرمكم الله – فضرط، فقال مَن رام الباطل أنجح به، انظروا! هذه حكيمة، قالت مَن رام الباطل أنجح به، هذا باطل، في حقك باطل! لا تستطيع أن تنتعل من قيام، أيامك ولت يا حبيبي، انتهيت! ابن ثمانين سنة لا يستطيع أن ينتعل من قيام، فقالت له مَن رام الباطل أنجح به، انظروا إلى هذه الكلمة الحكيمة، فذهبت مثلاً! إلى اليوم هذا مثل، مَن رام الباطل أنجح به، أي لا تُعالِج – يقولون – ما لا تستطيع.

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْرًا فَدَعْهُ                                         وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ.

لا تُحاوِل ما لا تستطيع، انتهى! هذا ليس مما يُناسِبك ولا مما يليق بك.

فالبنات بلا شك والفتيات يُحِببن المُقارَبة في السن، بلا شك! أن يكون زوجها قريباً من سنها، على الأقل يتفقان في طرف كما قلنا، كهل لشابة أو شابة لشابة – يكون أحسن – وليش شيخاً أو هرماً هماً على حافة قبره لشابة صغيرة، هذا شيئ عجيب جداً جداً!

علقمة الفحل – علقمة بن عبدة، المعروف بعلقمة الفحل، مُقابِل علقمة الخصي – قال:

فإنْ تَسألوني بالنِّساء فإنَّني                          بصيرٌ بأدواءِ النِّساء طبيبُ.

إذا شاب رأسُ المَرْءِ أو قَلَّ مالهُ                     فليس له من وُدِّهِنَّ نصيبُ.

يُرِدْنَ ثَراءَ المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ                     وشرْخُ الشَّباب عنْدَهُنَّ عجيبُ.

يُحبِبن هذا جداً ويُعجِبهن، هذا مُعجِب! يُعجِب النساء جداً ماذا؟ شرخ الشباب، أن يكون زوجها وأبو بكرتها وأبو أولادها شاباً، هذا شيئ طبيعي ومعروف قال، أنا أعرف هذا والكل يعرف هذا!

في زمن الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أيها الإخوة والأخوات تزوَّج شيخ كبير فتاة صغيرة ففركت، أي كرهت! فاحتالت عليه ثم قتلته، طبعاً الصغيرة على الأقل إن كانت وفية وبنت ناس وأصول تعد على زوجها الشيخ أيامه، متى سيموت ونتخلَّص منه فنتحرَّر ونتزوَّج غيره؟ تعد أيامه! هذه الوفية، أنا أعرف قريبة لي كانت مضرب المثل في الجمال، رحمة الله عليها، ماتت في شبابها، زوَّجها أبوها – غفر الله له – برجل في مثل سنه، وهي مضرب المثل في الجمال، يتمناها أي شاب، علماً بأن هذا قبل سنوات بعيدة، يتمناها أي شاب، وقد تقدَّم إليها كثيرون، بنت ناس وبنت أصول وعلى جمال بارع، زوَّجها من شيخ في مثل سنه زواجاً هو أشبه بالشغار، ليأخذ هو لابنه من بناتهم من غير مهر، وهذا حرام، جاهل! فظلت – رحمة الله عليها – حزينة، وطبعاً ماتت بأمراض، أُصيبت بأمراض من الهم والحزن والكمد الدائم، وكانت نعم المرأة لزوجها، الرجل دائماً كان يحلف كما يُقال بعمرها، لكثرة ووفرة برها وتصرفها بكرم وأصالة معه بحسب أصلها وتربيتها، لكنها كانت مغمومة مكمودة ممرورة محزونة أبداً على نصيبها وقسمتها، وتقول إن سامحت أبي في كل شيئ لا أُسامِحه في هذا الشيئ، طبعاً يا أخي دمَّرها، لماذا؟ لماذا تدفعها إلى شيخ كبير؟ وهي غير بائرة ولا مقبوحة ولا مُذمَمة، جهل وظلم والعياذ بالله! وهذا لا يحصل في بعض الأسقاع في عالمنا العربي والإسلامي والعياذ بالله، خاصة الأسقاع التقليدية فعلاً الرجعية المُتمسِّكة ببعض التقاليد المُخالِفة للدين والعقل وحتى للأعراف المُستحدَثة، شيئ عجيب! قالت لا أُسامِحه في هذا، ظلت تقول هذا، وماتت المسكينة وهي في حدود الأربعين فقط، ماتت بأمراض! زوجها عُمِّر بعدها طويلاً، هذا الشيخ! ماتت وقُصِف عمرها من الهم والغم والكمد، ولذلك هذه المرأة في زمان سيدنا عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – قتلت زوجها، فبلغ الأمر عمر بن الخطاب فقام في الناس خطيباً مُغضَباً، قال أيها الناس ليتزوَّج الرجل لمَته من النساء، والأفصح لمَته كما قال الخطّابي في إصلاح غلط المُحدِّثين وليس لمّته، ليتزوَّج الرجل لمَته من النساء، ما معنى لمَته؟ التي تُقارِبه سناً، خُذ مَن هي مثلك في السن، لا تأخذ فتاة صغيرة وأنت شيخ كبير، ولتنكح المرأة لمَتها من الرجال، قال هذا هو السبب إذن، التفاوت البعيد في السن أحدث مثل هذه النتيجة الفظيعة!

أعجب مِن هذا ما ذكره صاحب نثر الدر، أن امرأة شابة تزوَّجت من شيخ ضعيف مُسِن مُتهدِّم، فلما أتاها ضمته إليها فكسرت أضلاعه، هذا حصل في خلافة الأمير عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكرَّم الله وجهه، فرُفِع أمرهما إلى الإمام عليّ عليه السلام، فقال يا لها من امرأة ووصفها بكلمة أُجلِكم عن سماعها، قال يا لها من امرأة ثم جعل الدية على عاقلتها، على أقربائها من العصبات يدفعون الدية، أنت تزوَّجتها لماذا؟ هل أنت قدها؟ كسرته! قال ضمته إليها فكسرت أضلاعه، ربما تعمَّدت هذا، فكسرت أضلاعه! المسكين يظن نفسه شاباً وقوياً ويستطيع أن يُحصِن النساء، قال أبو الفرج – جمال الدين بن الجوزي – هذا مثل الفجر الكاذب، يظن أن عنده قوة وما إلى ذلك، يقول أنا أستطيع أن أتزوَّج، فلتتزوَّج! مثل الفجر الكاذب، فجر كاذب ثم يُعقِبه ماذا؟ ظلام حالك، ينبلج عنه الفجر الصادق، هنا لا يُوجَد انبلاج، يُوجَد قبر! المُهِم أن هذا مثل الفجر الكاذب، وهم كبير! هذا وهم أنه يستطيع، كنت تستطيع وانتهى الأمر، هذه طبيعة الدنيا، عِش مرحلتك كما نقول، ارض بمرحلتك وابحث عن مُتعتها فيها وبشروطها ومُوجِباتها ومُقتضياتها.

الكلام كثير في هذا الباب، الكلام كثير والحكايا أكثر في القديم والحديث، المُهِم – بقيَ لدينا أقل من عشر دقائق – أُحِب فقط أن أقول الفقهاء لم يغب عنهم هذا الأمر بالكُلية، لاحظوه لأنه مما ينبغي أن يُلحَظ، هو يفقأ العينين الثنتين وليس الواحدة، لاحظوه تماماً! ولم يُخلوا كُتبهم ومُدوَناتهم المُوسَّعة المبسوطة ولا حتى الوجيزة من إشارات، لكن لم يذكروه على أنه شرط من شروط الكفاءة أو خصلة من خصالها، إنما ذكروه من باب الوصاة والنُصح، أي ينصحون الأولياء، لا تُزوِّجوا بناتكم إلا مِمَن يُقارِبهن سناً، من باب الوصية! مَن شاء أخذ به ومَن لم يشأ أسقطها وتركها، وكان حرياً بهم أن يتركوا هذا التفريط وهذا التساهل وأن يجعلوه ضمن خصال الكفاءة، لماذا؟ حتى تُحرِز البنت أو المرأة حقوقها، حتى إن زوَّجها أبوها من رجل لا يُكافئها سناً – التفاوت بعيد جداً – وقفت هي العقد، قالت لا، أنا لا أُمضيه، ورفعت الأمر إلى القاضي، فالقاضي ربما حكم بالفسخ، هذا من حقها! هذا الفرق بين وصية وبين أن تقول لي هو خصلة من خصال الكفاءة.
نحن ندعو – هذا مُحصّل خُطبة اليوم – أن يكون هذا من خصال الكفاءة، مُعظَم الفقهاء – أكثر من تسعة وتسعين بالمائة بكثير طبعاً – أو تقريباً كل الفقهاء من القدماء لم يفعلوا هذا باستثناء اثنين – أنا لم أقع إلا على اثنين – وهما الإمام العلّامة الروياني رحمة الله تعالى عليه، وأقضى القضاة الماوردي الذي كان دون الروياني مع أنه سابق عليه بقليل في الزمن – بقليل جداً – صراحة، الروياني صرَّح باشتراط التكافؤ في السن، قال لابد أن يكون هناك مُكافاءة في السن، صرَّح بهذا، رحمة الله تعالى عليه، صاحب الكتاب العجيب البحر وهو بحر حقاً، رحمة الله عليه، لكن النووي قال الصحيح خلافه، لا! أما الإمام الشافعي الصغير الشهاب الرملي في نهاية المُحتاج فقال – رحمة الله عليه – وهو ضعيف – أي هذا القول ضعيف – لكن ينبغي مُراعاته، مُتردِّد بين النصيحة – كما قلنا – وبين الحُكم الفقهي، لا نُريد نصائح ووصايا، نُريد حُكماً فقهياً مُلزِماً حتى يُمكِن تقنينه بعد ذلك، وبالمُناسَبة الآن بعض القوانين في بعض البلاد – وهي بلاد معدودة جداً، ربما لا تزيد على ثلاثة – قنَّنت لهذه المسألة، وصرَّحوا بأن التكافؤ في السن ينبغي أن يُراعى وهو شرط، خصلة من خصال الكفاءة، نحن مع هذا الرأي تماماً! الإمام أقضى القُضاة الماوردي – رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – قال إن لم يكن التفاوت بعيداً فلا يُعتبَر هذا، انتهى! أما إن كان التفاوت بعيداً – بحيث يختلفان في الطرفين على ما شرحت لكم – فقولان، قول يقول يُعتبَر وقول يقول غير مُعتبَر، لأسباب ذكرها الماوردي غير مُعتبَر وهي واهية تماماً، المقام يضيق عن ذكرها وردها، واهية تماماً وغير علمية بالمرة، أسباب ثلاثة غير علمية بالمرة! فهذا ما كان منهم.

أما المُعاصِرون فقد وجدت أيضاً عدداً منزوراً منهم صرَّحوا بأن هذا من خصال الكفاءة، في مُقدَّمهم العلّامة المرحوم والأصولي البارع محمد مُصطفى شلبي – الأزهري المصري رحمة الله عليه – في كتابه أحكام الأسرة، قال في النهاية ينبغي أن يُراعى هذا على أنه مما استجد به العُرف وأوضاع المُجتمَع – أي موضوع السن – والثقافة أيضاً على أنه من خصال الكفاءة التي تتبع تغير الأعراف، كما أن أكثر ما اشترطوه لم يدل عليه نص من كتاب وسُنة صحيح وصريح، وإنما اتبعوا فيه ونزلوا على مُقتضيات أعراف زمانهم، وهذا كلام مُستجوَد إلى الغاية، ومنهم أيضاً العلّامة الفقيه صاحب الفتاوى الذائعة والطائرة عطية صقر، تُوفيَ قبل سنتين رحمة الله عليه، الأزهري العريق رحمة الله عليه، في موسوعته المُبارَكة الأسرة تحت ظلال الإسلام – في ستة مُجلَّدات – في المُجلَّد الأول ذكر هذا على أنه خصلة من خصال الكفاءة، وهكذا عنون لها: الكفاءة في السن، وهذا كلام طيب، وكتب الرجل زُهاء ثلاث أو أربع صفحات في الموضوع، رحمة الله عليه، وأخيراً – هذا كل مَن وجدناه – العلّامة الشامي والفقيه الموسوعي محمد رواس قلعه جي نفع الله به وأمتع بطول عمره، في موسوعته أيضاً الفقهية المُيسَّرة اهتم بهذا الموضوع وذكر التكافؤ في السن مُوسِّطاً إياه بين خصال الكفاءة، فجعله تحت رقم ثلاثة، قبل أشياء كثيرة، قال التكافؤ في السن، فلا تُزوَّج شابة من شيخ كبير، وعلَّل بهذا بكلمة واحدة ومضى، الموضوع عنده مقطوع! قال لأنه عاجز عن إحصانها، انتهى! قد يقودها إلى الفاحشة والعياذ بالله.
هذا يُذكِّرنا بما قاله المرداوي الحنبلي في منظومته في الآداب رحمة الله عليه، في منظومة الآداب قال:

ولا تنكحن إن كنت شيخاً فتية             تعش في ضرار العيش أو ترضى الردى.

ما هو الردي؟ الزنا، إما أن تعيش مُنكَّداً مُنغَّصاً عليك لما قد تعلمون طبعاً، وإما أن ترضى – والعياذ بالله – بأن يكون الأبعد ديوثاً، لأنها تأتي الفعل الردي، ربما غلبها – والعياذ بالله – حرمانها وجوعها الحسي على أن تُقارِف الفاحشة.
قال العلّامة السفاريني في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب مُعلِّقاً على قول الناظم والديوث كما هو معلوم من أهل النار، لا يدخل الجنة، فالمسألة خطيرة! فلابد أن يُعاد النظر في هذا الموضوع للاعتبارات المذكورة، وغيرها كثير مما ضاق عنه المقام.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمنا رُشدنا وأن يُعلِّمنا ما فيه بلاغنا ونفعنا في دنيانا وآخرتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

غداً – إن شاء الله تبارك وتعالى – أول أيام العشر، وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩، في القول المشهور للمُفسِّرين والمُؤوِّلين، وفي الحديث الصحيح ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله – تبارك وتعالى – من أيام العشر، صياماً وقياماً وصدقةً وتلاوةً وأعمال برٍ من كل وجهٍ، فنسأل الله أن يُعيننا على أعمال البر وإتيانها والازدلاف إلى حضرة الرحمن الرحيم بها إن شاء الله.

أيها الإخوة:

يسعد الحاج ومَن حل الحرم وما حوله في هذه اللحظات وفي هذه الأيام والليالي المُبارَكات الزهراوات بما منّ الله عليه، ويشقى ويكمد أهل فلسطين حجّاج غزة بما هم فيه من حصار ظالم، اجتمع على ظلمهم فيه العرب قبل اليهود، قبل الصهاينة! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩.
والله الذي لا إله إلا هو في هذا اليوم الكريم إن الذي يحدث لشعبنا وأهلنا – والله الذي لا إله إلا هو – يجعل الحليم حيران، وكما نقول بالعامية يضع عقل الإنسان في كفه، شيئ لا يُفهَم! ماذا تفعل الشعوب؟ ولا أقول ماذا تفعل الحكومات؟ هؤلاء – مليون مرة لكثرة ما قلنا مللنا حتى أن نتكلَّم في هذه الموضوعات أو نُعقِّب عليها، انتهى – قد يئسنا منهم كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ۩، لا أمل فيهم، عجَّل الله بذهابهم وطي سُلطانهم واضمحلال دولهم، اللهم آمين، الدول لا تعني الشعوب، الدول تعني فترة حُكمهم، عجِّل الله باضمحلالها وطي بساطها من عند آخرهم، لا نستثني أحداً، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩.

اللهم إنا وإخواننا مغلوبون مظلومون فانتصر لنا، ونسأل الله هبةً لهذه الشعوب المسكينة التي صارت شعوباً من غنم بل همل النعم – والعياذ بالله تبارك وتعالى – أن تُصبِح شعوباً من بشر، شعوباً لها آدمية.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اغفر لنا وارحمنا وتول أمرنا، اللهم لا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا، ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وانصر عبادك الصادقين المُوحِّدين في كل مكان يا رب العالمين، وأدل لهم من عدوهم، فإن ذلك لا يُعجِزك.

عباد الله: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 فيينا (25/04/2008)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: