د. صالح الفهدي كاتب، شاعر ومسرحي عُماني
د. صالح الفهدي
كاتب، شاعر ومسرحي عُماني

بعد أن فرغَ أحد الأئمةَ من الصلاة توجّه إلى أحد المصلّين فقال له: صلاتُك غير مقبولة..!! دُهش المصلي فأقبل عليه راجياً متمنياً بقوله: أرجوك إقبل صلاتي..! ردّ الإمام: لست أنا الذي يقبلها إنّما الله، فرد عليه: إذا لم تكن أنت الذي يقبل أو يرفض فمن جعلك قاضياً لكي تحكم على عبادات النّاس دون الحَكَم الأعظم..؟! هل ضمنت أنت قبول صلاتك ..؟!.

هكذا ينبري بعض الناس فيحكمون على النّاسِ ويصنّفونهم بحسبِ ما تشتهي أهواؤهم، وينسجمُ مع أمزجتهم، فيقحمون أنفسهم فيما لم يطلب منهم..!

فهموا حديث “الدين النصحية” بغير معناها، فحسبوا الحكم على الناسِ نصيحة وهي في حقيقة الأمرِ تعدياً على حكم الخالقِ على عباده، فهو المطّلعُ سبحانه على سواتر السرائر، وذخائرِ الضمائر..! ساعدهم في ذلك بعض الذين تسنموا المنابر بحجّة أنهّم أهلُ علمٍ وصلاح، ودعاةُ استقامةٍ وفلاح، فأصدر هؤلاءِ الأحكام على البشرِ دون رويّة، وتمعّن، وتلقّفها أتباعهم دون تثبُّتٍ وتأمّل فأصبحوا يتعاملون مع البشر وفق الظاهر، تاركين الباطن، وجرّدوا الدّين –بسبب ذلك- من معانيه العميقة النفيسة ليصبح مجرّد هيئةٍ، ولباسٍ، فأصبحَ التقيُّ من تدلّ عليه هيئته..! والنقي من تشمخُ على رأسهِ عمامته..! أما غير ذلك فالأحكامُ جاهزةٌ، معلّبةٌُ..!

هذا التسطيحُ ساق الأمّة إلى الجهل، وقادها إلى التمظهر مخلّفةً اللبّ الحقيقي وهو جوهر الدين: الأخلاقُ والمعاملة..! الأحكام المتهورة على البشر قادت الأمة إلى التجرّدِ من أعظم القيم الإنسانية لتدفع أخوين لقتل والديهما بطريقةٍ شنيعةٍ لأنهما حكما عليهما بالكفر..!! هؤلاءِ الشباب هم إفرازٌ للثقافة الدينية التي تصدرُ الأحكام الجائرة على الخلق والتي يتبناها من ادّعوا أنهم علماءُ دينٍ وهم سبب الكوارث قبل غيرهم من طغاة السلطة من الحكّام..!

أخبرني أحد الثقاةِ سليل قضاةٍ وأهل علم بأنّه كان مسافراً مع جماعةٍ فجاءَ إلى مسجدٍ ورأى رجلاً كثّ اللحيّة، فتوسّمَ فيه الصلاح (كمفهوم شائع في المجتمع)، فقدّمهُ للصلاة، وأصبح هو في موقف المأمومِ، فنظر الإمام إليه وقال له: قم من مكانك فأنتَ مسبل..! يقول فأغضبني أسلوبه الوقح فقلت له: بل قم أنت من مكانك، فقام حانقاً وصليتُ إماماً بمن كان معي..! ويضيف: لم أكن مسبلاً ولكن ثوبي لم يكن مرتفعاً في الوقت نفسه..!

كيف تحكمون على البشر وأنتم شهود الله في الأرضِ ولستم رقباؤه على خلقه؟! وهو أدرى بأعمالهم، وبواطن أنفسهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لام أسامة بن زيد رضي الله عنه لأنه قتل رجلاً نطق الشهادة قبل موته لأنه وحسب رواية أسامة أراد أن يعصم نفسه بها لكي لا يقتله، فقال له النبي عليه أفضل السلام: هل شققت عما في قلبه إن كان قالها خوفاً أوصدقا..؟!

تغذيةٌ مستمرّة يقوم بها علماءُ تنتظرُ منهم الأمة توجيهها للخير والصلاح بطرق شرعها الله “بالحكمة والموعظة الحسنة” (سورة النحل/125) فلا غرابة أن تنتج مجرمين، يصدرون أحكامهم على من شاؤوا، ويقيمون لهم المشانق، ويحزّون رقابهم..! والمصيبة أن الأمّة التي تبتلي بهؤلاءِ تتركُ مصادر الفكرِ من مراجعَ ومدّعي علمٍ يفقسون ويفرّخون وهم أصلُ البلاء..!!

كيف تحكمون على البشرِ والله أدرى بما في ضمائرهم وأعلم بنواياهم، فهل زكيّتم أنفسكم مقاماً، ودرجةً، وفضلاً عليهم..؟! فإن الحكم على البشر يعني دخول الكبر في القلوب والإستعلاءِ عليهم في جوانب اختصّ بها الله وأمر بها نبيّه قائلاً “ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل”(الأنعام/ 107).

ذات مرّةٍ خصصت إحدى القنوات يوماً كاملاً لجمع التبرعات للمتضررين في بلدٍ معيّن، وكان من بين المستضافين لمناشدة الناس داعية إسلامي وأحد الفنانين، فاتصل أحد الذين يحكمون جزافاً على الناس قائلاً: كيف تناشدون الناس التبرّع وبينكم المطرب الفلاني؟! فردّ عليه الداعية الإسلامي قائلاً: كيف حكمت على الرّجل وأنت لا تعرفُ عنه سوى أنه مطرب ..! هل تعرفُ أن يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً وهو صاحبُ سيرةٍ عطرةٍ، وخلقٍ رفيع؟!

يسوّغُ بعض النّاس لأنفسهم التحدّث بإسم الدّين وهم يخالفون رسوله من حيث لا يدرون إذ يقول المصطفى عليه السلام” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت “(متفق عليه).

حكمتم على الناس ففرقتم شعوبكم إلى طوائف، ومجتمعاتكم إلى مذاهب، فمزقتكم وحدتكم، وقطّعتم أواصركم، ثم اتهمتم الآخر بأنه وراء الفساد وأنتم أصلُ الفسادِ في الأحكامِ التي أصدرتموها دون أن يكون لكم موثقاً من الله، أو توكيلاً.. وكيف يمنحكم الموثق والتوكيل وهو الوكيلُ والكفيلُ على عباده، وله من خلقه من خصصّه لهذه المهام..؟! انظروا ماذا فعلتم بمجتمعاتكم التي تفرّقت وتمزّقت، وأصبحت بدداً وشظايا..!

أحد الذين تصدّروا المنابر الإعلامية كشيخِ علمٍ يتّهمُ مفكراً إسلامياً مجدّداً بأنّه “أحمق” و”ضال”و “خبيث”..! فأين هذا الذي يدّعي التقوى ويفتي الناس من قيم الدين قرآناً وسنّةً، ابتداءً من قوله تعالى “وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ” (الحجرات: 11) وقوله سبحانه:”وجادلهم بالتي هي أحسن”(النحل/125) وقوله”وقولوا للناس حُسنى”(البقرة/83) إلى قول رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” وقوله “قل خيراً أو أصمت” .. فكيف يكون يصلح حال الأمّة إذا أصدر علماؤها الأحكام المشينة على بعضهم البعض، وتنابزوا بالألقاب، وتبادلوا السِّباب..!

أحد المفكرين الإسلاميين نشر قائمةً في موقعه بكلمات السبابِ التي قذفها عليه بعض البشر الذين لا يراعون الله ولا أنفسهم فيما يخرج من افواههم من بذاءات وأحكامٍ نابية..!

لقد أساء بعض الذين ادعوا العلم والصلاح، ونسبوه لأنفسهم دون غيرهم، بسوء الظن الذي اتخذوه طريقاً لهم، وأجازوه للعامة اقتداءً بهم، حتى أنه إذا كتبَ أحد رأياً في مسألةٍ من مسائلِ الفقه انبرى من يتّهمه بشتّى الإتهامات، ويصدرُ عليه أصناف الأحكام بحجّة أنه خالف علماء المسلمين..!

هؤلاءِ هم دعاة الجمودِ والتحجّر إذ يريدون أن يعيشوا مجرّد مقلّدين لا مفكرين، فهم أشدُّ وطأةً وقسوةً على البشر من غيرهم، وهذا أمرٌ لا يكادُ يصدّق إذ أن المسلمَ الحقيقي هو الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده كما وردَ في الحديثِ الشريف.. فكيف يدّعي هؤلاءِ أنهم على الحقِّ وغيرهم على الباطل وهم يرشقونه بشتى أنواع الأحكامِ الظالمة، والتهم الجاهزة لأنه اجتهد في رأي، وأعاد النظر في مسلّمة من الموروث.
أقول: لا تنصِّبوا أنفسكم رقباءَ على الناس، ولا قضاةً عليهم، فتجلدوهم بألسنةٍ حدادٍ في مشاهد العلن، واذكروا قبل كل شيءٍ معايبكم، وأحسنوا الظن بالناس، فإذا شئتم أن تجادلوا فبالحسنى وإلا فلوذوا بالصمت فهو أجدرُ بكم وأحرى عند الله. يكفي هذه الأمّة بلاءً، وتمزقاً، فقد عصفت بها الخلافات، وشتتها النزاعات، وبددتها الحروب، وأوهنتها السياسات.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: