السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته الحمد لله ربّ العالمين , الحمد لله الذي عمّ برحمته جميع العباد وخصّ أهل طاعته ففازوا منه ببلوغ المراد نحمده سبحانه وتعالى حمدا معترفا له بجزيل الارفاد وأعوذ به جلّ مجده من وبيل الطّرد والإبعاد وأشهد أنّ لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له واشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا وعظيمنا محمّدا عبده ورسوله قامع الكافرين والزّائغين وأهل الضّلال و الإلحاد صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه الأكرمين الأجواد وأتباع بإحسان إلى يوم الدّين وسلّم تسليما كثيرا. سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم,ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . إخواني وأخواتي فيما أخرج الإمامان البخاريّ ومسلم في الصّحيحين من حديث سعيد بن جبيْر رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين عن الحبري البحر عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ الرّسول صلّى الله عليه وعلى اله وأصحابه وسلّم قال :”عرضت عليّ الأمم فرأيت النّبيّ ومعه الرّهط ورأيت النّبيّ ومعه الرّجل والرّجلان ورأيت النّبيّ وليس معه أحد ثمّ رفع لي سواد عظيم …” إلى آخر الحديث وهو حديث السّبعين ألف الذين يظلّهم الله بظلّه والذين يدخلون الجنّة بغير حساب. سؤال إخواني وأخواتي :ما معنى أنّ الله سبحانه وتعالى يتأذّن بإرسال نبيّ وهو يعلم مسبقا أنّ لن يستجيب منهم إليه أحد ؟ وجوابنا :أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بذلك إقامة للحجّة وقطعا للمعاذير أي لكي لا يكون للنّاس حجّة على الله بعد الرّسل لألاّ يقال يوم القيامة لو أنّك بعثت فينا نبيّا أو أرسلت فينا رسولا لصدّقناه وآمنّا. فقطع الله بذلك معاذيرهم وألزمهم الحجّة. لكن ما هو أدعى إلى العجب قوله : يبعث النّبيّ ومعه الرّجل والرّجلان . فما معنى أن يبعث الله سبحانه وتعالى نبيّا في قوم يعلم أنّه لن يلبّيه ولن يستجيب لدعوته إلاّ رجل أو رجلان؟ إنّ في هذا الموقف لدلالة بالغة العجب , إنّ هذا الموضوع يقع في القلب وفي المركز من موضوعة الرّحمة .ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى ينظر إلى كلّ واحد منّا نظرا خاصّا, كلّ فرد منّا يُعتبر خليقة وعالما بحياله , يستأهل الفرد الواحد منّا أن يُبعث له نبيّ أو إلى رجل أو إلى رجلين أو إلى رهط من النّاس (والرّهط هي الجماعة دون العشرة وقيل من الثلاثة دون العشرة وقيل من السّبعة دون العشرة) لماذا قلت إنّ هذه المسألة تقع في القلب وفي المركز من موضوع الرّحمة؟ لأنّها تقوم على جعل قيمة الفرد قيمة قُسوى تقوم على النّظر إلى الفرد نظرا تعيينيّا تشخيصيّا إفراديّا وليس نظرا إحصائيّا ,فالله تبارك وتعالى يعلّمنا ألاّ نتعامل مع النّاس جميع النّاس دون حصر بطريقة إحصائية, فالتّعاطي الإحصائي مع النّاس هو مولّد لأعظم الفظاعات وأشنع الجرائم والكثير من العذابات. لكن ما معنى التعاطي الإحصائيّ ؟ كيف يمكن أن نتعاطى مع النّاس إحصائيّا ؟ ويقع في هذا للأسف بعض رجال الدّين وبعض الدّعاة في كلّ الأديان .والحال أنّ منطق التّعاطي الإحصائي هو منطق الجبّارين أكلة اللّحوم القتلة بالجملة. كنّا قد وقفنا خلال ثلاث حلقات عند السّؤال:لماذا رحمة للعالمين ؟وحاولنا التّبسّط للإجابة عن هذا السّؤال فحدّدنا البواعث والأسباب التي بعثتنا لاختيار هذا الموضوع في هذا الظّرف بالذّات من حياة أمّتنا المرحومة وصنّفناها الى باعث ظرفيّ وبواعث جوهريّة أساسيّة وقلنا إنّ الباعث الظّرفي مردّه ما تعيشه الأمّة الإسلامية من تحارب وتناحر وتعانف وتكاره وأفضى بنا القول الى طرح سؤال عن سرّ تظاهر تديّن جماعة من المتديّنين بكلّ هذه القسوة والشّدّة والكره والغلظة وفسّرنا ذلك بأسباب تتعلّق بالدّلالة وأسباب تربويّة تزكويّة . وبهذا التّمشّي نكون قد تهيّأنا في هذه الحلقة للحديث عن الأسباب الجوهريّة الأساسيّة ويمكن اختزاله في جملة واحدة وهي : أنّ الرّحمة هي الأساس الذي شاد الله عليه الوجود كلّ الوجود .والقرآن يقرّ بهذا فالوجود محفوظ برحمة الله ومدبّر برحمته إنّ هذه الرّحمة سرّ الوجود وروحه إنّها الأثير الذي يسبح فيه كلّ الوجود كلّ مفردات الوجود علوه وسفله في عالم الحيوان وفي عالم الإنسان في عالم الأملاك المكرّمين كلّ الوجود من عرشه الى فرشه كلّ الوجود يسبح في أثير الرّحمة أنّ هذا الوجود رحموتي . كذلك غائيّة الرّحمة في شريعة الله تبارك وتعالى فهي الغاية الأبعد والمقصد الأعلى والأعظم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” فغاية الشّريعة ومقصدها الأجل والأخطر هي الرّحمة فالشّريعة في جوهرها رحموتيّة ونحن في لحظة فارقة من تاريخ الإسلام فمن تسنّى له بطريق أعمال الخيال أن ينظر نظرة طائر محلّق في جوّ السّماء على الإسلام والمسلمين في هذه اللّحظة من التّاريخ قد يتراءى له الإسلام يقف مراوحا في نقطة إزاء تحدّ كبير هو تحدّي الاختيار بين تصوّرين وبين فلسفتين تخصّانه :فلسفة سلامية تسامحيّة تعدّديّة غير حصريّة ونابضة متحرّكة وفلسفة حِرابيّة حصريّة جامدة غير متحرّكة وهذه الأخيرة تؤذن بخروج من أبناء المسلمين وبناته من دين الله أفواجا كما دخل أسلافهم إليه أفواجا ولكنّنا على يقين أنّ هذا الدّين خالد لا يندثر لأنّه الدّين الخاتم وهو الرّسالة الخاتمة الجامعة لا بدّ أن يصحب الإنسان نحو الاكتمال, ونحن بفضل الله نرى في خضمّ هذا المعترك الدّامي الأحمر وهذا المعمعان الضّروس ميلادا جديدا للإسلام ولروح الإسلام ونقف على محاولات لإعادة استكشاف الإسلام ستجعله دين السّلام ودين الرّحمة ودين المحبّة ودين الإنسان وبالتالي دين العالمين وسيشهد التّاريخ القريب بإذن الله دورة جديدة لعالميّة للإسلام وقد شهد بالأمس التّاريخ الدّنى دورة أولى لعالميّة الإسلام انتشر فيها وبسط ظلّه ومدّ رواقه على العالمين من الاندلس غربا حتّى الهند والصّين شرقا ومن بلاد القفقاز وآسيا الوسطى وسقليّة وجنوب ايطاليا شمالا حتّى أواسط افريقيّة وبحر العرب والمحيط الهندي جنوبا ,هكذا بلغ الإسلام معظم ما بلغ الليل والنّهار لكن لم تكن هذه هي النّهاية كيف وهو القائل جل مجده : ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ” ولفظ “كلّه” تشمل الأديان السّماويّة والأديان الوضعية حتّى الشّركيّة الوثنيّة . فنحن إذن بإذن الله تبارك وتعالى على موعد مع اللّحظة في قلب التّاريخ يثبت فيها الإسلام أجدريّته ولا أقول جدارته على كل دين وعلى كلّ إيديولوجيا وعلى كلّ منظومة فكريّة كليّة أو شموليّة .لكن الإسلام المعاصر كما نتعاطاه ونتعامل معه كما نكتوي بنيرانه نحن الأمة الإسلامية وكما يكتوي غير المسلمين بنيرانه ,الإسلام الذي يتحرّك بعض أتباعه بحماس مجنون مُلْتاث للضّرب على غير هدى ضربات فتّاكة إرهابية شرقا وغربا شمالا وجنوبا في الدّاخل والخارج بحجّة أنّ هذا هو الإسلام وهذه هي عزةّ المسلم , إنّهم يتحرّكون بمنطق إحصائي ويتعاملون مع البشر إحصائيّا لا إفرادياّ مع أنّ كتابهم العظيم علّمهم :”ولا تزر وازرة وزر أخرى” ” كلّ نفس بما كسبت رهينة” هذا هو المنطق الإفرادي الذي يجهلونه للأسف الشّديد . فنحن إن شاء الله على موعد جديد مع عالميّة الإسلام لكنّ بعد أن ننجز مهمّة إعادة استكشاف الإسلام كما أراده الله سبحانه وتعالى الاستلام القرآنيّ والإسلام المحمّديّ المصطفويّ صلّى الله على محمّد وعلى آل محمّد وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا . ونعود بعد هذا التّحليل إلى الإجابة عن السّؤال :ماهو المنطق الإحصائيّ؟ باستثناء الدّراسات العلميّة وهي مبرّرة بشروط وتسويغات علميّة ( وهذا يحدث كثيرا في علم الاجتماع فمثلا شركات التّأمين مثلا تنجز دراسات تكون نتيجتها مثلا 20 بالمائة سنويّا يتّفق للمؤمّمنين في المجتمع بالقاهرة حوادث تقتضي التّغطية ولا تهتمّ شركات التّأمين بالتّعرّف على هؤلاء الذين يستوجبون التّأمين إذا ما كانوا ذكورا أو إناثا فقراء أو أغنياء من المسيحيين أو من المسلمين لا يعنيها مثل هذا التّحديد كلّ ما تهتمّ به هي النّسبة على الشّيوع وهذا المنطق هو منطق إحصائيّ الذي على أساسه تبنى الدّراسات باستثناء هذا المجال الذي يبرّر فيه التّعامل مع البشر إحصائيّا أعتقد أنّ مثل هذا التّعامل مع البشر في سائر المجالات أفرادا وجماعات هو أمر فظيع بل هو من أبشع الفظاعات وإنّه لا يقدم عليه إلاّ الطّاغية أكلة الشّعوب كما سمّاهم “هوميروس” أذكر أنّه في الحرب العالميّة الثّانية عند المواجهة بين جيش هتلر النّازي وجيش ستالين وكانت المعركة الضّروس التي راح ضحيّتها ألوف بل مئات الألوف بل ملايين في حقية الأمر,قال ستالين الذي لم يقدّم روحه ولا أرواح أبنائه وبناته فداء بل مات أبناء الشّعب السوفيتي قال مخاطبا هتلر:” لا بأس إنّها مسألة أرقام ملين منّا ومليون منكم وسوف نرى من يصبر وينتصر في النّهاية ” وكانت النهاية انه سقط من السوفيت 27مليونا أمّا من الألمان في الجهة الأخرى فقد سقط 5.5 مليون من البشر وهذا هو عين المنطق الإحصائي. كذلك الإرهابيون يتحرّكون بنفس المنطق إنّهم لا يتحرّكون بمنطق إنسانيّ. فهم يبرّرون عنفهم وقتلهم بكونهم وقع الاعتداء عليهم ووقع استباحة دمائهم ودماء نسائهم وأبنائهم فهم بذلك يحقّ لهم قتل أبنائهم وأزواجهم وأهليهم وشيوخهم على الانطلاق دون تعيين.وهذا هو الإرهاب المدان شرعا وعقلا وإنسانية غنه إرهاب جنكيز خان ,ارتاب الرّومان وإرهاب الإمبراطوريات التي توسّعت على حساب البشر وبنت قصورا من جماجم البشر وأشلائهم وعظام الضّحايا لكن لا يمكن أن يكون مبرّرا إنسانيّا فضلا عن أن يكون مبرّرا رحمانيّا وربّانيّا في شرع الله سبحانه وتعالى. سمعت مرّة في قناة الجزيرة قبل سنوات إلى أحد منظّري هذا الإرهاب الإسلامي يقول:”نعم ضربنا هناك في نيويورك وفي لندن في مدريد في الكثير من الأمكنة وفي بلاد العرب والمسلمين . والله سبحانه وتعالى يقول:” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّا قتل النّاس جميعا ” ولعمري إن هذه الآية هي أكفر نصّ يمكن أن يقع عليه بشر بمنطق الإحصاء فالله ينكر هذا المنطق معتبرا أن قتل نفس واحدة أيّا كانت هذه النفس في غير قصاص كأنّما قتل النّاس جميعا . وفي الحديث المخرّج في الصّحيحين لعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: قال صلّى الله عليه وسلّم:” ما من نفس تقتل ظلما إلاّ كان على ابن ادم الأولّ كفل منها (أي نصيب وحظّ) وذلك أنّه أوّل من سنّ القتل ” لكن القران يتعاطى مع قاتل النّفس كأنّ هو الذي سنّ القتل فينسحب جرمه على كافّة النّاس “ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا “(أي أحيا نفسا تستحقّ القتل لجرم أتاه صاحبها فالعفو عن القاتل متعمّدا هو من إحياء النّفس وجزاؤه عظيم عند الله تبارك وتعالى ولذلك:”فمن عُفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان” وأخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم أنّ من عفا عمّن يستحقّ القتل قصاصا أعتقه الله كلّه من نار جهنّم ” فالعفو مستحبّ أكثر من القصاص في شرع الله بل بلغ الأمر بالنّبيّ إلى أنّه فظّع وكرّه ورغّب عن القصاص حين جاءه أحد الصّحابة وقد قتل أخوه عمدا فأراد النّبيّ الإصلاح بينهما فوليّ الدّمّ رفض فقال له النّبيّ أنت ذاك فأخذ الرجل القاتل يجرّه بنسعته (حبل من جلد ) فعقّب النّبيّ بكلمة:” إن قتله فهو مثله” مع أنّه قتله بإذن رسول الله وبشرع الله فهو يقتصّ لأخيه . فقيل له : يا فلان أما سمعت ما قال الرّسول في حقّك لقد قال كذا وكذا فخُطف نفس الرّجل وقال للرّسول إنّما قتلته بأمرك فقال له “هو ذاك” فعفا الرّجل .وهذا إعلان الهيّ سابق قبل إعلان حقوق الإنسان اليوم لحسم هذا الباب باب القتل حتّى بقصاص وتضييقه إن لم يتسنّى حسمه علما أنّ حسمه لو تمّ لكان علامة على عظم رقيّ الإنسانية. فكلّ واحد منّا لديه فرصة ليختطّ لنفسه مسارا جديدا كما لو كان البشرية جمعاء كما لو كان نشأة بحياله مسارا جديدا ينتهجه هو والراشدون النّاجون الرّحماء من البشر الذين يرفضون القتل نهجا ويختارون الرّحمانيّة مسارا فيرحمنون خطابهم الإسلامي وفهمهم لين الله تبارك وتعالى ويسعون لأن يختطّوا خطّة يسعد بها العالمون بدورة عالميّة ثانية للإسلام يثبت فيها إن الإسلام هو الذي حظي بهذا الشّرف قبل أي دين أو إيديولوجيا . يقول إرهابيو الإسلام: هم يقتلون أهلنا فلنا أن نقتل أهله م لا على التّعيين.وقد سمعت لمنظّر يقول نحن نفعل كما قال الله تبارك وتعالى ” وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به” وهم يقتلون أهلنا في أفغانستان والعراق وغيرها فلنا إذن إن نقتلهم .وقد اغترّ الكثير من المسلمين العلماء وغيرهم بهذا التنظير السّاقط الكاسد ويسألون أليست العين بالعين ؟” ويظهر عيب هذه الشّبهة بسؤال واحد :من الذي ينبغي أن يعاقب البريء الذي كفّ يده امرأة أو طفل أو شيخ كبير أو انس سلامي خرج ليتظاهر ضدّ الحرب عليك وعلى بلادك بالملايين خرجوا للتظاهر في لندن أم الجندي الذي جاء وقتلك؟ لذلك حقك مكفول في أن تقاتل من قاتلك في ساح الوغى لا أن تقتل الأبرياء في أماكنهم وهذا ما يصلح أن يكون تعريفا يقع عليه التّسالم والتّوافق للإرهاب وهو ” أن يضحّى بالأبرياء المدنيين في سبيل فرض أهداف سياسيّة ّ هذا هو تعريف الإرهاب ولا يمكن للإسلام آن يكون دينا إرهابيا . أين هذا التنظير الفاسد الكاسد ممّا ذهب إليه علماء هذه الأمّة وأفذاذها وأئمّتها السّادة الأحناف والسّادة المالكيّة الذين قالوا حرصا على تضييق دائرة القتل واستحلال النّفوس المعصومة قالوا: من أتى مكفّرا يقضي عليه بالكفر من تسعة وتسعين وجها حكمنا له بالإيمان ضنّا بالدّمّ أن يسفك .احتمال إسلامه الذي لا يفوق الواحد بالمائة جعل الأئمّة يحرّمون قتله . وبالتالي لا يمكن قتل مفكر أو عالم أو شخصية سياسية لأنه قال كذا أو فعل كذا . الإمام أبو حامد الغزالي وهو إمام الشّافعيّة في وقته الفقيه الأصولي الكبير قال كلمة و يالها من كلمة :وترك ألف كافر في الحياة خير من سفك محجمة من دم امرئ مسلم من غير حقّ(والمحجمة هي القارورة الصّغيرة مثل كأس الشّاي الصّغير في سورية أوفي تركية وهي أداة من أدوات الحجامة التي يقطّر فيها الدمّ) فالغزّالي يرى أن احتمال وجود مؤمن بين ألف كافر دون التعرّف عليه يجعلنا نبقي على الألف كافر حتّى لا نسفك دم مؤمن . فلماذا يتساهلون في إصدار الأحكام بقطع الرّؤوس ويستسهلون تطبيقها بطعنة أو طعنتين وقضي الأمر. قد يقضى الآمر ولكن يذبح الإسلام في نفس الوقت بل لعل دم الإسلام هو الذي ينزف وليس دم الأبرياء المساكين وهذا الإسلام قد ساءت صحّته واعتلّ في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمّة . هذا هو إذن منطق الإحصاء ومنطق الإفراد ولذلك نصيحتي لكم :قبل أن نمعن ف التثريب والدّمدمة على مطلقي الرّصاص الغادر الخائن الرّصاص السّياسي المشترى بأموال ربّما دفعها أعداء الأمة في الداخل والخارج علينا ان نجتهد وان نكون صارمين في كمّ أفواه الملتاثين من مُتَعَالِمِي فقهاء الجريمة والإرهاب الذين يتكلمون بسم الله وبسم الرسول والله ورسوله براء منهم .علينا أن نكمّ أفواه هؤلاء . وأفظع من القتل هو تبرير القتل تبريرا مستسهلا له متسرّعا في اجرائه , إنّها مجرّد خطوة أو خطوتين وتقع الجريمة ويردى الحيّ قتيلا وهذا أفظع شيء يقع . وأن يقع هذا في أمة محمّد , نبيّ الرّحمة في الأمّة المهداة, فمعناه أنّ هذا الدّين يعاني اِلتياثا وارتجافا, يعاني علّة, لا بدّ أن نكون صادقين في مواجهتها وفي طلب الشّفاء منها . ومن عجيب ما رأيت فيما رأيت بين المتظاهرين هذه الأيام من يحمل سيفا.أمازلنا في عهد السّيف؟ انتهى عهد السيف وحلّ عهد اللّسان عهد الحجة والبرهان وديننا دين الحجة والبرهان وما حمل السيف في عهده إلا على وجه الاضطرار والإكراه للدفاع عن أنفسهم وإلا فهذا الدّين لم يكن رسالة سيف بل رسالة رحمة ومحبّة ولا يوجد في كتاب الله وصفا للرسول أنّه القاتل أو الجبار أو القاهر أو المجاهد بمفهوم السّيف أو الشّهيد …بل هو البشير النّذير السّراج المنير. وليس عليه ولا إليه حساب النّاس بل هو أمر موكول إلى الله فما بال هؤلاء النّاس يسلكون كأنّ حساب الخلائق إليهم وأمر الدّنيا إليهم وكأنّ أمر حساب الآخرة وجزاؤها إليهم ؟ إنّ القدر الكبير الذي نراه من الكراهية والغلظة والقسوة والجفاء ومجاوزة حدود شرع الله تبارك وتعالى ليس له عندي من تفسير إلاّ بأنه يشي بحالة من اللاّ إيمان إزاء حالة من الإيمان بأنّ الدّنيا والدّنيا وحدها الآن وهنا هي كلّ شيء هي الحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة وراءها لذلك لا بدّ أن انتقم ممن أظنّ انه ظلمني حتى وان تجاوزت شرع الله حتى وان قتلت النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء وارتكبت الجرائم والفظا عات لأنّني لا أومن حقّا وصدقا ويقينا بيوم آخر بيوم الدّينونة بيوم الحساب وبأن هناك الفصل الأخير الأكثر حسّاسية وحراجة وجدّيّة من هذه الدّرامة الإنسانية هذه الدرامة الكونيّة في الآخرة وليس هنا في الدّنيا .لذلك المؤمن بأنّ الأمر آيل إلى الله تجده وادعا تعلوه السكينة والهدوء ليس فاحشا ليس مستعجلا بل موقن بأنّ الله تبارك وتعالى سيضع كلّ شيء في نصابه وإذا تحرّك يتحرّك بأحكام الشّرع لا يجاوزها قيد أنملة رغم ما في هذه النّفس البشرية من غرائز وحشية لا تتناغم مع ما في هذا الشّرع من أحكام فالإنسان مزيج من شقّ ملكيّ وشقّ شيطاني وشقّ حيوان وحشي زائد النّفخة الإلهية وهي منبع الرّحمات . قد نرى مجرما يقتل مرّة أو مرّتين فحقيق بأن تغلّ يده ويودع السّجن أو مصحّة الأمراض العقلية والنفسية لكن حقيق ألف مرة أن يُكمّ فمه الذي يبرّر للجريمة والقتل لأنه مجرم متسلسل لا نهاية لجرائمه .بمجرّد إطلاق فتوى على الفضائية أو في بيته وهو يحتسي الشّاي بهذه الفتوى ـ التي قد يهوي بها في سخط الله في نار جهنّم سبعين خريفا ـ يفتح بابا لجرائم لا تتناهى وكلّ من قتل فيما بعد وفق هذه الفتوى إنّما يتحمّل أيضا مثل وزره صاحب هذه الفتوى. وهنا يكمن الخطر ,في الفهم الملتاث الذي لا يعكس رحمانية هذه الشّريعة قبل أكثر من مائتي سنة قال الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير وهو في نحو الثّمانين من عمره وهو الذي تردّد موقفه من الدّين واليسوع والمسيحيّة كثيراخلال كامل حياته قال : “سيكون خلاصنا في المستقبل بفضل المبادئ الأخلاقيّة الحبّيّة التي أتى بها هذا السّيّد الجليل يسوع لا بفضل قضيّة الأب والابن” أي أنّ مستقبل المسيحيّة كامن في أخلاقيّتها في حبيّتها لا في لاهوتها فالثّيولجي النّصراني دمّرنا مزّقنا دفّعنا أثمانا باهظة جدّا وفولتير لم يكن ملحدا بل كان ربوبيّا ومن لطيف ما يذكر عنه انه في أخر سنوات عمره خرج ذات يوم رفقة صديقه ليعتلي تلّة يريد أن يرى منظر تبلّج الفجر وبزوغ الشّمس ولمّا رأى الشّمس في جلالها وهي تقبل على الدّنيا قرصا أحمر يغمر الأفق كلّه سجد لله تبارك وتعالى يتملّكه الخشوع ثمّ شخص الى السّماء وقال :” إلهي ربّي إنّ أومن أمّا مسألة الابن والسيّدة العذراء فتلك قضيّة أخرى” ومستقبل الإسلام يكمن في لاهوته في المنظومة العقديّة والأخلاقيّة معا ولا مستقبل للمنظومة الأخلاقيّة الإسلامية بغير العقيدة الإسلامية الحقّة . سؤال :1/ كيف ندعو المسلمين لتطبيق مبادئ حقوق الإنسان؟ 2/ كيف يمكن الجمع بين فلسفة الرّحمة والعنف؟ 3/ متى يكون الاختلاف رحمة وليس نقمة؟ الجواب :1/ لسنا مضطرّين لتبنّي كلّ ما جاء في منظومة حقوق الإنسان فنحن لدينا منظومتنا الحقوقية التي كان لها قصب السّبق في هذا الباب قبل 1400سنة وصحيح أنّ هناك أحكام فقهية كثيرة تتعارض مع بعض مقرّرات حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها اليوم .لذلك فإنّه من الأولويّات أن نعيد النّظر في بعض الفقهيّات المتّصلة بحقوق المرأة مثلا وهي قابلة لإعادة النّظر فيها وأذكر أنّه قبل سنوات أقلّ من عقدين راجع مجموعة من أفاضل علمائنا من مختلف الدّول العربيّة مسألة ديّة المرأة فالمشهور على المذاهب الأربعة أنّ ديّة المرأة على النّصف من ديّة الرّجل وبعد مراجعة مستندات ومتّكآت هذه المسألة بشكل دقيق بُهت هؤلاء العلماء بأنّه ما من دليل يؤكّد صحّة هذا الاستنباط .كذلك موضوع الرّدّة وقد كتبت فيه بفضل الله تبارك وتعالى دراسة معمّقة في شكل كتاب وأحصيت أكثر من 170عالما ومفكّرا مسلما من حول العالم كلّهم يرون انه لا وجود لما يسمّى بحدّ الرّدّة في الاسلام.فالمرتدّ المجرّد لا يقتل كان مسلما ثمّ غيّر دينه أصبح ماركسيّا أو مسيحيّا أو غير ذلك لايقتل لمجرّد هذا الارتداد بل المرتدّ المحارب هو الذي يقتل .ف الشريعة الإسلاميّة تقرّر الحريّة الفكريّة والحرّية العقديّة . وهناك مسائل كثيرة تدعو العلماء الى إعادة استكشافها والنّظر فيها.لكن من حيث الأصل بفضل الله تبارك وتعالى للإسلام منظومة حقوقيّة حُقّ للمسلمين أن يفخروا بها جوابا على السّؤال الثّاني : إذا اجتمع العنف والرّحمة في الشّخص الواحد على نحو متعادل متساو فاعلم أنّك إزاء شخصيّة ملتاثة لابدّ أن تعالج نفسانيّا .والصّواب أن يكون عند الإنسان أكثر من 99 بالمائة من الرّحمة لأنّنا مأمورون بالتّخلّق بأخلاق الرّبّ لا إله إلاّ هو فيما هو متساوق مع قابليّتنا فهناك أشياء تقبلها الطّبيعة البشريّة وهناك أشياء أخرى من مختصّات الله لا إله إلاّ هو فلا يليق بالإنسان مثلا أن يكون متجبّرا أيّا كان لكنه مأمور بأن يكون رحيما إنّه أكثر ما يدعى الإنسان أن يكون رحيما “إنّما يرحم الله من عباده الرّحماء” وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى على لسان نبيّه المعصوم أنّه خلق 100 رحمة ” لمّا قضى الله الخلق ,خلق مائة رحمة أرسل منها واحدة في لأرض” وإنّي أجد الرّحمة التي تنطوي عليها أضلع أمّ واحدة العالم كلّه فكيف ببليارات الأمّهات كيف برحمة الآباء كيف برحمة الأولياء والصّالحين كيف برحمة الأنبياء كيف برحمة الوحش بصغيره… إنّ هذا الكون عامر بالرّحمة ومحفوظ بها ولولاها لتداعى الكون من عند آخره ولدخل في لجّ العدم ز والنّبيّ يقول كلّ هذه الرّحمات والتّمظهرات للرّحمة في الدّنيا مجالي لرحمة واحدة خلقها الله لا إله إلاّ هو فإذا كان يوم القيامة ضمّ هذه الرّحمة إلى تسع وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة .لذلك قال عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه :” أبشروا أبشروا أبشروا وأمّلوا فوالله ليغفرنّ الله مغفرة لا تخطر على قلب بشر ـ اللهمّ اجعلنا بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا من أهل رحمتك في الدّنيا والآخرة ـ والمفروض أنّ الإنسان يتناغم مع هذا المفهوم الدّيني العظيم فينطوي على تسع وتسعين في المائة رحمة وواحد في المائة عذاب وشدّة فيما ينبغي الشّدّة فيه . أنا مثلا قاض رحيم ربّاني أحبّ النّاس وأفسّر كلّ شكّ لصالح المتّهم ولكنّني حين أكون إزاء قاتل متسلسل محترف مخيف جدّا وخطير تورّط في ذبح الأطفال يكون من الخطإ الفظيع أن يُرحم مثل هذا المجرم ورحمة به وبالبشر أن يزول من على وجه الأرض ثمّ نرحمه فيما بعد بالدّعاء له بالمغفرة .وإنّه لينفطر قلبي كلّما تذكّرت ذلك المشهد المريع حيث قام ذلك الأخّ في الإسكندرية صاحب اللّحية الضّخمة بإلقاء الغلام المسكين من فوق خزّان الماء وينتابني شعور بالشّفقة نحو ذلك الرّجل الذي اعترف على نفسه حين ألقوْا عليه القبض وطالب بأن يُعدم لقد حزنت لأجله وإنّي لأدعو له بالمغفرة لقد دمّر نفسه لكن من الذين حقنوه بهذه الحقن المسمومة بالكراهية والعنف والغيظ والخبث والمكر.لذلك فإنّ الإنسان إذا تساوت نسبة العنف لديه بنسبة الكراهية فعليه أن يراجع نفسه ويعالجها أمّا إذا فاقت نسبة العنف فيه نسبة الرّحمة فلا بدّ حينها أن يشكّ في إنسانيته وأن يختطّ خطّة لتقويم نفسه. جوابا على السّؤال الثّالث / متى يمكن ان يكون رحمة ومتى يكون نقمة ؟ كل اختلاف في هذه الأمّة يؤدّي بها إلى التّكافر والتّلاعن والاقتتال فهو عذاب ونقمة والحقيقة ان معظم ما تتكافر به هذه الأمة لا يصحّ أن يكون وجها من وجوه التّكفير بل هذه أمّة التّوحيد والنّبيّ الصّادق الأبرّ أخبرنا في صحيح مسلم وغيره أنه لا يخشى على أمّته من الشّرك بعده . فهذه الأمّة أمّة التّوحيد وحاملة لواء التوّحيد لا يمكن أن تشرك أمّا المختلف فيه بين المذاهب اختلاف مشروع فالباب مفتوح لكلّ اجتهاد ورأي ولكل قول ونظر, شرط ألاّ يتطوّر الاجتهاد إلى جريمة فقد يستحيل الاجتهاد جريمة حين يمنع الأخر حقّه في الاجتهاد عندها يصبح الاختلاف نقمة وليس رحمة والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إعداد: نادية غرس الله /تونس

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: