أخي الفاضل يسأل عن الكدح والوصول إلى مرتبة الإحسان، الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدين كله إسلامٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، أليس كذلك؟ الإسلام أن تسمع عن الله وعن قضايا الدين، الإيمان أن تعتقد بهذا وتحتازه كرؤية، الإحسان أن تُكاشَف به، الإسلام أن تسمع عن العسل، الإيمان أن ترى العسل، الإحسان أن تذوقه، الإسلام أن تسمع عن قصير مُنيف في آخر الطريق أو بستان فينان، الإيمان أن تسلك إليه وتُؤمِن بهذا وتُصدِّق وتسلك إليه لكي تصل ثم تراه – إلى الآن أنت في الإيمان – بعد ذلك، الإحسان أن تدخل في هذا القصر وأن تعيش فيه، فهذا هو الإحسان، الإسلام هو علم الشريعة وعلم الفقه، الإيمان هو علم الكلام وعلم أصول الدين، الإحسان هو علم العرفان والتصوف، فهذا هو إذن، إسلام، إيمان وإحسان، وكل هذا الشئ شيئٌ واحد في نهاية المطاف.

يقول ما علاقة الكدح والوصول إلى الإحسان بالعقبة – فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ – هنا؟ هناك علاقة لكن من وجه مُعين، وطبعاً في سورة البلد ما هى هذه العقبة التي تُقتحَم؟ قال فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۩، يبدو أنها عقبة كؤود، عقبة كأداء كبيرة، فكيف يكون اقتحامها؟ بافتكاك الرقاب، قال الله فَكُّ رَقَبَةٍ ۩ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۩، وطبعاً قيل في العقبة أنها عقبة الصراط، وقيل أنها عقبة القيامة، وقيل أنها عقبة الأهوال، وأشياء كثيرة لكن الذي يرتاح إليه ضميري أن هذه العقبة هى عقبة النفس، تقول الآية الكريمة وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ ۩، ومن هنا قال الحسن البصري هناك أمران من أصعب الأمور، فما هما؟ قيام الليل وإنفاق المال، لكن من أين أخذها؟ من آية السجدة، ماذا تقول آية السجدة؟ تقول آية السجدة تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ – إذن قيام الليل وإنفاق هذا المال – فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ – اللهم اجعلنا منهم – جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، قال الله وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ ۩ وقال أيضاً قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا ۩، ليس لأن مالك كان قليلاً، بل حتى لو كنت تملك مفاتح خزائن رحمة الله كلها من الصعب أن تُعطي، فهذا هو الإنسان وهذا شح الإنسان، وعلى كل حال الإنسان الشحيح، ويُؤشِك أن يكون عابداً للمال والعياذ بالله، ومن المُؤكَّد أن أكبر إله عُبِد من دون الله ومع الله هو المال والعياذ بالله منه، فتباً له من إله ولعنة الله عليه من إله – هذا الإله الزائف اللعين – طبعاً، فإذن هذه هى العقبة، تقول الآية الكريمة وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۩، فحين تتغلب وتُعطي وتفتك الرقاب وتتصدق وتكدح وترضخ – بإذن الله تعالى – تكون تجاوزت نفسك، أي عقبة النفس، فأنت الآن تخطيت ظلك، وهذه مسألة صعبة جداً لكن يفعلها المُؤمِن، فكيف حين يفعلها بإخلاص أيضاً وبصدق؟ كيف حين يفعلها – كما قلت في أثناء المُحاضَرة – ويُرمى بالبخل ويرضى بهذا بل يسعد به؟

الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين – عليهما السلام – عاش ومات وهو مُبخَّل، وهذا الشيئ يُبكي حين تقرأه، فالناس كان يقولون عنه أن لا غبار عليه في العلم وفي الفصاحة وفي العبادة وفي الخشوع – كان يُصلي ألف ركعة في اليوم والليلة، فشيئ عجيب هذا الرجل – ولكن يُوجَد عنده عيب واحد – هذا ما قاله بعض الناس طبعاً وليس كل الناس – فقط، فما هو؟ أنه لا يُعطي، لا يدفع المال ولا يتصدَذق، نحن لم نره يُعطي شيئاً، ومن ثم كان يُبخَّل كما روى الإمام أحمد في الزهد حيث قال أنه كان يُرمى بالبخل، فلما توفيَ إلى رحمة الله – عليه السلام ورضوان الله عليه – فقد أهل مائة بيت من أبيات المدينة مَن كان يعولهم، فجأة فقدوا هذا لأنه كان كل ليلة يُطرَق عليهم الباب ويُعطَون الملابس والطعام والشراب وما إلى ذلك، لأنهم أيتام وأرامل ومحاويج ومُعتازين، وحين نُزِع عنه لباسه – عليه السلام – لكي يُغسَّل ويُعَد للآلة الحدباء – على الآلة الحدباء غُسِّل – وجدوا مثل الخطين الأسودين الغائرين في ظهره الشريف أثر حمل الأجربة – لأنه يحمل الأجربة في الليل – ولك أن تتخيَّل هذا، ومع ذلك كان يعيش ويموت وهو يُرمى بالبخل، وكان يرضى بهذا، فهذا قطعاً اقتحم العقبة – فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ – ما شاء الله وفاز فوزاً عظيماً، فهذه هى العلاقة إذن يا أخي الكريم، وطبعاً بلا شك الإنسان الذي بلغ رُتبة الإحسان قطعاً اقتحم هذه العقبة بدليل حديث ابن عباس، فالنبي كان أجود الخلق – النبي كان أكرم الناس – وجبريل كان يلقاه في رمضان يُدارِسه القرآن، يقول ابن عباس فكان إذا لقيه جبريل يُعطي ولهو بالخير أجود من الريح المُرسَلة، لماذا إذن؟ جبريل حديث عهدٍ بربه، وجاء جبريل يُدارِسه القرآن الكريم، علماً بان هذا هو أكبر كرم، فلو سألكم سائل ما هى أكبر كرامة يُعطيها الله ويمنحها الله ويهبها الله للمُؤمِن؟ قل له أن يُفهِمه في كتابه وأن يفتح الله عليه فهماً في كتابه، فتفهم الآية من وجه جديد وتفهم معنىً جديداً ويظهر لك معنىً لطيف ونُكتة في الآية، فهذا أكبر كرم، لماذا؟ لقول الله – تبارك وتعالى – وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩ مع قوله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۩، وأعظم تعليم أن يُعلِّمك في كتابه وفي كلامه وأن يُفهِمك عنه، فهذه أعظ مكرامة، ولذا النبي كان يأتيه جبريل يُدارِسه ويتكلَّموا في تفسير الآية وما فيها من لطائف، والنبي يُعطي عطاءاً أجود من الريح المُرسَلة، لأن الذي يقترب من الله يُصبِح من أجود الناس طبعاً، لأنه اقترب من مصدر الكرم، فيكرم هو أيضاً ويُصبِح من أرحم الناس، ولذا النبي بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، فالله أعطاه صفتين من صفات الله أو اثنين من أسماء الله وقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، لأنه هو الأقرب إلى الله فيُصبِح الأكثر رحمة.

أخي الفاضل يسأل – نعم – عن الشيخ الحاتمي الطائي محي الدين بن عربي – رحمه الله تعالى – ويقول ما الموقف من هذا الشيخ؟ هل له شطحات؟ هل له أخطاء؟ طبعاً ليس مثلنا مَن يُسأل عن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، لا يجب أن نتنطع فنبدأ نضعه في الميزان وما إلى ذلك، نعوذ بالله من المُتكلِّفين، والجواب الصحيح يكمن في أن نُطالِع وأن نقف على أقوال العلماء الدارسين والصالحين الواصلين أيضاً من أهل الله في هذا الرجل، وبلا شك الرجل محنة، حيث اختلف الناس فيه، منهم مَن جعله في رُتبة قديس ومنهم مَن هوى به إلى حضيض إبليس، وهذا أمر معروف، بل أن بعضهم يقول الشيخ الأكفر – أستغفر الله – وبعضهم يقول بل هو الشيخ الأكبر وبعضهم تغير موقفه، فصاحب نفح الطيب – المقري التلمساني رحمة الله عليه – يزعم والعهدة عليه أن الإمام العز بن عبد السلام كان يطعن في اعتقاد الشيخ محي الدين بن عربي، فلما وقف على بعض الحقائق من بعض العلماء والعارفين تغير رأيه فيه تماماً كما تغير رأيه في التصوف كما يُقال، وعلى كل حال لدينا الآن من السادة الصوفية الإمام عبد الوهّاب الشعراني وهو من أدرى الناس أيضاً بتراث الشيخ محي الدين بن عربي، وفي اليواقيت والجواهر يذكر ويُقسِم بالله – يُقسِم بالله الشيخ عبد الوهّاب الشعراني الذي هو من أهل القرن العاشر الهجري – أنه رأى شيخاً عالماً عارفاً بالله من اليمن، وهذا الشيخ عنده النُسخة الأصلية من الفتوحات المكية المكتوبة بخط الشيخ – هكذا يقول – وقد آراها للشيخ عبد الوهّاب الشعراني، ثم يُقسِم الشيخ عبد الوهّاب أنها خالية من كل تلك الكفريات التي أُخِذَت على الشيخ محي الدين بن عربي، وخاصة الكفريات الوحدوية التي يُصرِّح فيها بوحدة الوجود، وطبعاً مَن قرأ الوصايا التي طُبِعَت مُجرَّدة – هى من الفتوحات طبعاً وموجودة في آخرها لكنها طُبعِتَ في مُجلَد أيضاً، وتُعرَف كما يقولون بوصايا الشيخ الأكبر – يعلم أن من الواضح جداً جداً أن الرجل يقول بالبينونة وأنه ليس من أهل الوحدة، وأنه يُشهِد الله وملائكته ورسله والمُؤمِنين على عقيدته هذه – هكذا يقول – وأن الله بائنٌ من خلقه، فالخالق خالق والمخلوق مخلوق ولا تُوجَد أي وحدة، فهو صرَّح بهذا، لكن في النُسخ المطبوعة والمُتداوَلة من سنين – من مئات السنين – للفتوحات المكية هناك مواضع كثيرة وخاصة في الفصوص أيضاً – في فصوص الحكم – فيها شبه تصريح بالوحدة وأن الحقيقة في النهاية – حقيقة الوجود كله – هى واحدة، واحدة بالجوهر وواحدة بالحقيقة والماهية لكنها تختلف بالتجليات والصفات، فهذا مُلخَص ما يُفهَم من كلام الشيخ رحمة الله عليه والله أعلم، وهذا ما زعمه الشيخ عبد الوهّاب الشعراني، وقد ذكرنا اليوم العلّامة الشيخ علي الطنطاوي – سقى الله عهده – وهو رجل ثقة بلا شك وكان يُؤكِّد أن جده – علماً بأنهما في الأصل من طنطا فعلاً، أي أنهما مصريان، وجده كان عالماً كبيراً – ذهب إلى تركيا وأتى بالنُسخة الأصلية للفتوحات المكية المكتوبة بخط تلميذ الشيخ وحواريه ابن زوجته طبعاً – الشيخ تزوج أم علاء الدين القُنوي،فيُعتبَر هذا ربيبه بمعنى ما – علاء الدين القُنوي الذي كتب الفتوحات المكية، فهى بخط علاء الدين القُنوي، والشيخ علي الطنطاوي يُؤكِّد أن كل مَن اطلع على هذه النُسخة وجد أنها تحتوي على تلك الكفريات أو الموسومة بالكفريات، فهذه المسألة أصبحت مُشكِلة وفيها فعلاً إشكال ولذا تحتاج إلى تفتيش أكثر من هذا، وفي نهاية المطاف الشيخ محمود أبو الشامات – رحمة الله تعالى عليه – عرض له محي الدين بن عربي في المنام، علماً بأن الشيخ محمود أبو الشامات هو شيخ من شيوخ بلاد الشام وعارف بالله وفقيه وشاعر وكان تقريباً أحد أساتيذ السلطان عبد الحميد الثاني، فهو كان أستاذه، وأنا قرأت بخط السلطان – خط السلطان عبد الحميد بالعربية جميل جداً، كأجمل ما تكون الخطوط – أنه بعث للشيخ محمود أبو الشامات رسالة يقول له أُقبِّل أياديكم يا شيخي ويا أستاذنا، فهو كان أستاذ السلطان عبد الحميد وهو شيخ ثقة،والشيخ محمود أبو الشامات عرض له أو سنح له في المنام الشيخ محي الدين بن عربي وقال له يا شيخ محمود ألا تذب عني؟ فقال له ماذا أذب يا شيخنا؟ قال له أنا مُتهَم بالوحدة، ويعلم الله أنني بريء من هذا، أنا لا أقول بالوحدة ولست من القائلين بالوحدة، فقال كيف أذب ؟ ماذا أقول يا شيخ؟ فقال قل كذا وكذا، وتلا عليه الشيخ محي الدين قصيدة من نظمه، يقول الشيخ أبو الشامات – قدس الله روحه الكريمة – فاستفقت من المنام وأنا أحفظها على ظهر قلبي، وفعلاً مَن يذهب إلى ضريح الشيخ في سفح قاسيون يجد أن على ضريح الشيخ مكتوبة قصيدة، هى هذه القصيدة، فقد كتبها الشيخ محمود أبو الشامات أو أمر بكتابتها ومن ثم كُتِبَت على الضريح، وهى تبرئة للشيخ مما رُمِى، فالقضية مُشكِلة على كل حال، ولذلك نحن وجدنا مُتأخِرين أو بعض مُتأخِري صالحي الصوفية والفقهاء مثل الشيخ العلّامة المُجاهِد محمد الحامد – شيخ حماة وشيخ سوريا في وقته – الذي كان ينصح دائماً المُريدين وتلاميذه ألا يقرأوا في الفتوحات المكية، يقول لهم هذه لها أهلها ولسنا من أهل، فلماذا تُدخِل نفسك في هذه الملاحج وفي هذه المعاوص والطرق الضيقة لأنك قد تضل وقد تظلم الشيخ وقد تظلم عقيدتك، فلا نحتاجها إذن، وعلى كل حال الأمر مُشكِّل والحقيقة عند الله تبارك وتعالى.

نهايةً أراد أن يُدخِلني أخي عبد الواحد في سؤال كبير ولكن أنا سأختصر، فالسؤال كبير فعلاً والجواب سيكون أكبر وأطول، والمسألة مُعقَّدة لكن المسألة قديمة حديثة على كل حال، وهى مسألة الواحدية والثنائية، أي الثنائية الديكارتية ومن قبلها الثنائية الأفلاطونية، وهناك طبعاً الثنائية الإسلامية، فهناك أقوال للإسلاميين الكبار لكنني سأجتزأ فقط بالإمام ناصر الملة والدين الإمام الباقلاني رحمة الله تعالى عليه، فالقاضي العلّامة الكبير الباقلاني عنده نظرية في الروح عجيبة جداً، وطبعاً الإسلاميون يُعادِلون بين الروح والنفس، أي أن الروح هى النفس والنفس هى الروح، فكلهم هكذا تقريباً للأسف، والإمام الباقلاني عنده نظرية في الروح والنفس، وهى نظرية مادية كالمادية الجدلية تماماً، ومع ذلك لم نجد مَن يُكفِّره – الحمد لله – ولا مَن يطعن في اعتقاده، فهو كان يعتقد أن النفس أو الروح عرضٌ من أعراض البدن، بمعنى أن البدن مُكوَّن بطريقة مُعينة ومُرتَّب على نحو وشكلة مُحدَّدة وبمقادير مُحدَّدة، وحين تتفاعل مع بعضها تُنتِج شيئاً إسمه النفس أو الروح، فإذا إنحل البدن وزوى وفنى تفنى معه هذه النفس والروح وينتهي كل شيئ، بمعنى أنها ليست مُكوِّناً آخر مُفارِقاً للبدن، بل هى شيئ مُحايث للبدن كأثر من آثاره، وهذه نظرية مادية بحتة ولذا هى نظرية خطيرة، ونحن طبعاً لا نُؤمِن بها، وهى نظرية عاجزة وعرجاء وتعجز عن تفسير عشرات الظواهر كما تعجز كل النظريات المادية الواحدية، وفي رأسها الأحلام الاستشرافية والرؤى الصالحة، وطبعاً في المنظور الديني هذه الرؤى تأتي بها الروح وتطوف حول عرش الرحمن – كما ورد في بعض الأحاديث عن عليّ وعن سيدنا عمر رضوان الله عليهم أجممعين – وتعود إلى صاحبها ببعض نبأ الغيب، وطبعاً هذه الرؤى الاستشرافية تقع للمُؤمِنين وتقع حتى للملاحدة، وهذه النظريات المادية – كما قلت – تقصر وتعجز عن تفسيرها، فما هذا الشيئ؟ كيف مخر هذا الشيئ في عُبابَ الزمان؟ كيف مخر سنة أو سنتين أو عشر سنين في المُستقبَل وأتاني بنبأ يتحقق على وجهه، كيف يحدث هذا؟ هذا شيئ عجيب وغير معقول.

إذن بالنظرية الواحدية المفروض أن الإنسان يُدرِك كل الإدراكات الحسية – Sensory Perceptions – بالمعنى المحدود للإدراك الحسي، فالبصر عنده حدود، البصر لا يُمكِن أن يتصل بالمُبصَر إلا أن يكون في أفق الرؤية، فأنا لا يُمكِن أن أرى ما يقع الآن – مثلاً – في وسط المدينة، هذا لا يُمكِن – مُستحيل – أبداً، لكن هذا يتواتر ولايزال يتواتر لبعض البشر وقوعه باستمرار!

المرحوم طيب الذكر مصطفى محمود – رحمة الله عليه وأحسن الله جزاءه وشكر له ما قدَّم – رجل كان طيب ومُتروحِّن أيضاً، واجتهد كثيراً على روحه لكي يقترب من الله، فهو رجل صالح – رحمة الله عليه – حقيقةً، وفي الحقيقة أنا أُحِب هذا الرجل حُباً جماً، والله في الكثير من المرات أقرأ له أسطراً يسيرة فأصرخ من الفرحة وأقول هذه – والله – أحسن من ألف خطبة، هذه – أقسم بالله – أحسن من مئات الكتب، لكن الناس لا تفهم الدين، يعتقدون أن الدين يقتصر على أن تأتي لهم بالأحكام فقط، وهذا شيئ سهل وموجود في الكتب، لكن أن تفهم بهذا العمق وبهذا الجمال وبهذه الشفافية فهذا شيئ نادر، ولا يكون إلا عن معاناة واجتهاد حقيقي في بناء الروح وفي التكامل، ومصطفى محمود يُحدِّث عن نفسه قصة عجب ويقول كنت نائماً ثم استفقت من النوم واتصلت بجلال العشري – الناقد المصري الكبير الذي مات شاباً في الخامسة والثلاثين من عمره، وهو ناقد وفيلسوف ورجل ذكي جداً، رحمة الله عليه – صديقي وقلت له أين كنتم يا جلال؟ أنا أعرف أن أنت وفلان وفلان وفلان كنتم في مُنتصَف الليل في الشارع الفلاني تتمشون، وفلان قال كذا وكذا وأنت قلت كذا وكذا، فقال له هل كنت معنا يا مصطفى؟ فقال له لم أكن معكم، قال فكيف إذن؟ قال له رأيت هذا في المنام، والآن السؤال مَن الذي رأى؟ وكيف رأى؟ أنت تتحدَّث عن بدن محصور ضمن كل حدود الإدراك الحسي، فما الذي حصل الآن؟

العلّامة المُجدِّد الشيخ محمد رشيد رضا – رحمة الله عليه – أُحِبه أيضاً على نزعته السلفية وأُحِب علمه، علماً بأنني لاحظت شيئاً عجيباً وبعد حين من الدهر فهمت سره، فهناك أُناس – سبحان الله – أشعر بجمالية خاصة فيما يكتبون وفي شخصياتهم كبشر وفيما يقولون، على أن هناك ما يُباعِد بينهم من التخصصات والاهتمامات، وهذا شيئ عجيب، فمصطفى محمود – مثلاً – طبيب مُثقَّف، وعبد الوهاب المسيري رجل ماركسي سابق لكنه تحول إلى مُفكِّر إسلامي وباحث في اليهودية والصهيونية، ومحمد رشيد رضا عالم تقليدي مُجدِّد ومُصلِح كبير، جمال الدين القاسمي عالم كبير ذو نزعة سلفية، والحسن الندوي -رحمة الله عليه – علّامة كبير وينطبق عليه هذا الكلام أيضاً، وهؤلاء أُحِبهم جداً وأُحِب أن أسمع لهم وأن أقرأ لهم، فهم عندهم جمال فيما يقولون وعندهم طابع روحي عجيب في كل كلامهم بشكل عجيب، ثم أكتشفت أنهم جميعاً من نسل رسول الله وأن كلهم سادة، فيبدو أن لأهل بيت رسول الله – لا إله إلا الله – ميزة على الدهر، فحين يكون العالم سيداً حُسينياً – سبحان الله – يخرج منه الشيئ العجب، فحتى المسيري – هذا المُلحِد السابق – حُسيني، ومصطفى محمود اكتشف في آخر حقبة من حياته أنه أيضاً من نسل زين العابدين، وتُسجِّله جهات أمريكية وغربية في إحدى السنوات على أنه كان أكثر شخصية إسلامية مُؤثِّرة في العالم الإسلامي في تلك السنة وعلى أنه من النسب الشريف، فهم عندهم هذا الجمال وهذه الروحية وهذا الطابع – لا إله إلا الله – لأن هذا من أثر روح رسول الله، ومن ثم نرجع مرة ثانية إلى الروح، فهذا أثر الروح – لا إله إلا الله – عبر الزمن في الدم وفي العروق.

محمد رشيد رضا طبعاً حُسيني – من نسل زين العابدين – وعنده جمال في كتاباته وجمال في علمه وجمال في فتاواه، وسأعطيكم نصيحة – ليست نصيحة بالمعنى الحرفي لكنها شيئ على الهامش – الآن، إذا كنت تحب أن تقرأ الفتاوى الدينية وتُريد أن تشعر بأنك في حديقة – هذا شيئ جميل جداً – اقرأ لفتاوى الشيخ علي الطنطاوي التي جُمِعَت في مُجَّلد – شيئ لا يُصدَّق، كيف يكون الفقه بهذه الطريقة؟ شيئ جميل جداً – واقرأ فتاوى الإمام محمد رشيد رضا التي جمعّها المُحقِق التراثي الكبير الذي مات من فترة طويلة صلاح الدين المنجد – رحمة الله تعالى عليه – في أربع مُجلَدات، ورشيد رضا يُحدِّث عن نفسه في تفسير المنار – وهو من أجود التفاسير الذي وصل فيه إلى سورة يوسف طبعاً، وهو من أحسنها ومن أحفلها بالفوائد والإبداعات – قائلاً حين كنت صغيراً في الخامسة من عمري تقريباً كنت نائماً في غرفة في حديقة الدار في القلمون في سوريا، وأنا نائم مُستلقياً – يُريد في اليقظة – رأيت جدتي في الشارع تمشي في شارع بعيد عن الحديقة، رأيتها تماماً كأنها أمامي وهى تمشي في الشارع وتحمل شيئاً، ثم جاءت وفتحت باب الحديقة، ثم جاءت وطرقت الباب، فإذا بالباب يُطرَق، فإذا هى جدتي على نحو ما رأيتها تماماً، والآن السؤال مَن الذي رأى وكيف تسني له أن يرى؟ وطبعاً ظواهر الخروج من الجسد كثيرة جداً جداً جداً ومُتواتِرة، فقبل سنة كنت أجلس مع رجل صالح عنده – سبحان الله – هذه القدرة، وهو رجل صالح طيب، كان جالساً معنا ثم أغمض عينيه وبدأ يرفع رأسه ويُحدِّق فيما لا أعلم، فقلت له ماذا حصل يا مولانا؟ هل حدث شيئ ما؟ قال لا، ولكن أين هم؟ فقلت له مَن هم؟ قال العائلة والأهل، علماً بأن الأهل طبعاً على بعد ثلاثة آلاف كيلو متر، أي في بلد آخر، فقلت له ما معنى هذا؟ قال لقد ذهبت إلى هناك الآن ودخلت العمارة، وفي الطابق الأول لا أحد وفي الطابق الثاني لا أحد وفي الطابق الثالث لا أحد، فالأمر حيرني، ما الذي يحصل؟ أين هم؟ أي أنه كان قلقاً، فقلت له هذا أمر عجيب، لكن هو يحصل معه ما هو أعجب من هذا بكثير طبعاً لكن هذا أحدث شيئ رأيته، ثم اتصلنا بهم فلم يرد أي أحد علينا، أي أن التليفون Telephone لا يرد، وفي اليوم التالي اتصلنا بهم وقلنا لهم أين كنتم بالأمس؟ فقالوا نحن فعلاً بالأمس ذهبنا جميعاً إلى الأرض وفسحنا أنفسنا ولذا لم يكن أحدٌ في البيت، وهو رأى ذهب ورأى هذا، فما – لا أقول مَن وإنما أقوا ما – هو الجزء الذي ذهب الآن ورأى؟ لا تستطيع أن تُنكِر هذه الثنائية إذن، يُوجَد فينا مُكوِّن من الغيب، وهذا المُكوِّن هو الذي افتتح به مولانا بطريقة ولا أروع – جلال الدين الرومي – مثنويه بأنشودة الناي، قال مولانا الفيل دائماً حين ينام يحلم بأرض الهند، وهذا الناي يبكي ويُسيّل الدموع على غابة القصب التي قُصَ منها لأنه يحن إليها، ونحن أيضاً يا إخواني أسرى في هذه الدنيا، نحن غرباء، وفينا حنين دائم إلى شئ آخر، حنين إلى مثوانا، فنحن أبناء آدم ونحن الذين نُسِلنا وأُخِذنا وذّرِينا من صلبه، فإذن كنا في الجنة في يوم من الأيام سنعود إليها.

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا                           مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ.

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى                           نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟!

نسأل الله أن يُسلِّمنا وإياكم وأن نعود إلى ثمة – إن شاء الله – سالمين مُسلَّمين ظافرين ناجين، والحمد لله رب العالمين.

انتهت بحمد الله المحاضرة

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: