أخي الفاضل يسأل هل أزمتنا روحية أم فكرية؟ أعتقد لو عُدت يا أخي الكريم إلى بداية المُحاضَرة سيلوح لك وجه الجواب، فأزمتنا في الحقيقة – أي في حقيقتها – روحية، وإذا كانت روحية مُباشَرةً تستحيل إلى أزمة أخلاقية وفكرية وسياسية وما شئت من الأزمات، فما رأيك؟ أي أنه سوف تٌفرِّخ لك كل الأزمات، لكن لو نحن سرنا في خُطة الروح الصحيحة العتيدة – كما قلنا – بالتصور القرآني لانحلت كل أزماتنا – بإذن الله تبارك وتعالى – ولاشتغلنا في السياسة بشكل صحيح وفي الفكر بشكل صحيح وفي العمل بشكل صحيح وفي كل شيئ بشكل صحيح – بإذن الله تعالى – لكن بالمعنى الذي ذكرناه، فالروح لا تعمل – كما قلنا – في عرض الأشياء أبداً وإنما تعمل في طولها، وكلامي الآن عن الشيخ الحسني يُؤكِّد هذا، وليس شرطاً لأن تكون طالباً وجه الله وطالباً الآخرة وولياً كبيراً له قدم راسخة في الولاية ألا تُعنى بالدنيا وبعماراتها وبسياستها وبفكرها وبعلومها، وأنتم تعرفون الشيخ الحسني، علماً بأنه هو المُفجِّر الحقيقي للثورة السورية ضد الفرنسيين وليس سلطان باشا الأطرش، حيث يُعلَّم الناس أنمُفجِّر الثورة هو سلطان باشا الأطرش الدرزي، وهذا غير صحيح، فالمُفجِّر الأول والحقيقي هو الشيخ بدر الدين الحسني،ولو تقرأون كيف فجّر الثورة تندهشون، شيئ كالحديث عن الخوارق والأكاذيب لكن هذه حقيقة والمُؤرِّخون يذكرونها دائماً، فتلاميذه وقواد الثورة في ذلك الوقت هم الذين ذكروا هذا، الشيخ بدر الحسني بعث إلى رجالاً مُعينين من كل المحافظات والبلدات السورية، فقد كانوا رجالاً كباراً في العلم والجهاد، وكان يخلو بهم جماعات جماعات ثم يخلو بهم أفراداً- فرداً فرداً – بعد ذلك، فخرجوا وحدثوا بالعجب العاجب، يقول الشيخ الحسني – مثلاً – للواحد منهم أنت يا فلانمن حمص، فيقول له نعم سيدي أنا من حمص، فيقول له لديكم في حمص كذا وكذا وكذا وكذا، هناك ثكنات للمُحتَل في المكان الفلاني وكذا وكذا، ولديكم مغاوير وكهوف في المكان الفلاني وكذا وكذا، والخُطة ينبغي أن تكون كذلك كذا وكذا، أي أنه يعطيه خُطة عسكرية، وهى خُطة مبنية على معرفة دقيقة بأدق التفاصيل – كما قلت لكم – بمعالم البلدة والمغاوير والكهوف والطرق، ثم يقول له افعل هذا يا باه وبإذن الله النصر من الله، وهكذا فعل معهم واحداً واحداً، فكيف فعل هذا؟ هل كان يُعِد لهذا؟ هل هذا فتح إلهي؟ هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، هذا الرجل العارف الحقيقي وهذا هو النموذج والمُؤمِن الكامل مرة أخرى.

فإذن يا أخي لابد أن نبدأ، وينبغي أن نفهم شيئاً مُهِماً على كل حال، نحن الآن … ماذا أقول لكم؟ نحن في حالة ضبابية فكرية وفي حالة التباس واشتباه رهيب حقيقةً، فالأمور ليست واضحة لنا، وبعض الناس يُحِب أن يُقارِب الموضوع بهذه الطريقة ويقول لك هناك أشياء كثيرة عملناها ونعملها وإن كنا مسلمين وربما حتى بإعلان الدين وبإسم الدين لكن في الحقيقة فعلناها ونفعلها كما يفعلها أهل الدنيا، فالناس مثلاً تُدافِع عن حقوقها وتُدافِع عن بلادها وتُدافِع عن أعراضها – مثلاً – وتبني دنياها وتُعمِّر دنياها، فكل هذه الأشياء ليس شرطاً أن تُفعَل دينياً وباسم الدين طبعاً، وفي الحقيقة المسلمون فعلوا هذا وظلوا يفعلونه عبر تاريخهم مرات كثيرة فعلاً ليس من وحي الدين وإن كان حتى بإعلان الدين، مثل حتى فتوح البلاد وغزو الناس وما إلى ذلك، فهذا كان أمراً عادياً لا مُشكِلة فيه ويحدث للمسلمين وغير المسلمين، لكن ماذا لو أنهم فعلوا هذا دائماً بوحي الدين وإلهام الدين وحُكم الدين الحق وليس بوحي النفوس والأغراض والمصالح؟ ماذا كان يكون؟ أنا أقول لكم كان سيختلف التاريخ وكان سيختلف الواقع وكان سيختلف كل شيئ، وكنا سنُصبِح النموذج الكامل للخليفة الرباني في هذه الأرض، فينبغي أن نفعل هذا مرةً أخرى، وطبعاً نحن نزعم أن الخلفاء الراشدين فعلوا هذا، فهم فعلوا هذا على وجه مُغري ومُعجِب وعجيب جداً جداً جداً، وحين كنت شاباً في مُقتبَل عمري قرأت للفيلسوف الألماني العظيم أوزوالد شبنغلر Oswald Spengler وصفه في أحد مُجلَدات The Decline of the West للخلافة الراشدة، والعجيب أنه ينعتها باليوتوبيا Utopia ويقول الخلافة الراشدة هذه كانت فعلاً مدينة فاضلة، فتخيل أنت رجلاً يحكم بضع عشرة دولة ويلبس مُرقَّعة ويمشي في حين أن خادمه يركب، هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، أين يحصل هذا؟ حصل هذا في الخلافة الراشدة، ولك أن تتخيَّل هذا، بل أنه أقام الحد على ابنه ويموت تحت الحد،وهذا شيئ عجيب، فهؤلاء قدوة لنا، هؤلاء هم القدوة الحقيقية وليس بعد ذلك ما حصل في دول السلطنات والخلافات الاسمية.

سآتي للمسألة مرة ثانية لكي أٌقارِبها من ناحية ثانية فانتبهوا، في الماضي كان العالم المسلم – نفترض مثلاً مثل ابن تيمية ومثل العز بن عبد السلام ومثل الإمام النووي – إلى حدٍ ما هو مُثقَّف عصره ووقته، بمعنى هو منذور لـ ومطلوب منه أن ينهض بــ وأن ينهض للمهام السياسية أيضاً، فهذا – أي المهام السياسية – مطلوب منه أيضاً، فضلاً عن المهام العلمية والتربوية والتزكوية، لكن بسؤال بسيط هل استمر الوضع على هذه الشاكلة إلى الآن؟ طبعاً لا، واضح أن المسألة الآن اختلفت تماماً، علماً بأن هذه مسألة مُهِمة لكي نرفع الاشتباه بخصوص الأزمة الفكرية وما إلى ذلك، فالآن من المفروض أن المهام السياسية – مثلاً – ينهض بها مَن؟ أُناس مُتخصِصون في هذا الحقل، درسوا السياسة ومارسوها وعركوها، وهم من أبناء المسلمين وليس شرطاً أن يكونوا علماء في الإسلام وليس شرطاً أن يكونوا مُفكِّرين إسلاميين وليس شرطاً أن يكونوا أبناء حركات إسلامية، فقط هم مسلمون من أبناء البلد، وأنا أزعم أن هؤلاء لو وُكِل إليهم الأمر وعُدنا عليهم وتقدمنا بين أيديهم بالنصح الحقيقي مثلاً – لأن هؤلاء في نهاية المطاف مسلمون ويصلون معنا الجماعات أحياناً والجُمع تقريباً في كل الأحيان ويسمعون ماذا يقول الخطيب والواعظ والعالم الذي ينبغي أن يُلهمهم ويُوحى إليهم بالصدق وبالإخلاص وبتقوى الله تبارك وتعالى وإلى آخره – يُمكِن أن يتحسّن أدائهم ويفعلون بشكل جيد، فإذن ليس من شرطي الآن كعالم مسلم أن أنهض بكل هذه المهام، فهذا ليس مطلوباً مني، في حين أنه كان مطلوباً فعلاً وحتماً من واحد مثل العز بن عبد السلام لأنه مُثقَّف عصره، فهذا المُثقَّف الذي كان معروفاً في وقته، لكن اليوم الأمر اختاف، فهذه الأشياء توزعت، لكن أسأل مرة أخرى أيضاً هل توزع المهام بهذه الطريقة التي حصل فيها نوع من الفصام والفصال بين الديني والدنيوي وبين الروحي والزمني وبين الدنيا والآخرة هو الوضع صحيح؟ هل هذا وضع يطمح إليه الإسلام؟ هذا وضع غير صحيح ولا ينبغي أن يستمر أبداً، إذن كيف ينبغي أن نُعالِجه؟ أقول مرة أخرى بالدعوة والعمل على ثورة روحية حقيقية تُلهِم السياسي كما تُلهِم العسكري والفيلسوف والأكاديمي والكاتب والأديب والشاعر والروائي والمُمثِّل، فهى تُلهِم الجميع بإذن الله تبارك وتعالى دون – انتبهوا لأنني مُصِر على هذه النُقطة وشبه مُتعصِب لها قليلاً – دون أن نُنازِع الناس – نحن كمسلمين أو كإسلاميين كما يُسموننا لكنني بصراحة بدأت أتحسس من هذه التسمية، فنحن مسلمون وكلنا مسلمون – ما هم فيه، فضلاً عن أن نتنطع إلى تحقيرهم وتتفيههم وتسخيف ما يقومون به، بالعكس هذا يشق المُجتمَع، فإذن الحل مرة أخرى كما أعتقد في ضرب من ضروب الثورة الروحية الصادقة التي يتغيا أصحابها – بإذن الله تعالى – والسائرون في طريقة مصلحة الأمة ومصلحة الدين من قبل ومن بعد.

نأتي إلى الرياء والإخلاص، فالأخ سأل سؤالاً جيداً ومُمتازاً فعلاً، هل هناك مساحة أو نُقطة مُشترَكة بين الرياء والإخلاص؟ لا يُوجد هذا الشيئ أبداً، وإنما يُوجَد تميز كامل، والمسألة لا تتبع ظاهر العمل، مثل أن يُقال هذا الإنسان أخرج وتصدق ويقول يا جماعة أنا أتصدق لهذا المركز بخمسة آلاف، فليس شرطاً أن يكون مرائياً أبداً، وليس شرطاً أن يكون مَن أخفى صدقته مُخلِصاً، فما رأيك؟ هذا أمر عجيب، فهذا من المُمكِن أن يكون مُخلِصاً وهذا قد يكون مُرائياً، وهذا أمر عادي جداً ومعروف ومُقرَّر، أي أن المسألة مرة أخرى تتبع النية، فالذي أبدى الصدقة وأعلنها إن كان الله عز وجل يعلم من نيته أنه فعل هذا وهو يكرهه ولا يُحِب أن يرى الناس ولكنه أراد أن يبعث همتهم حين رآهم قابضي أيديهم فأحب أن يُحرِّكهم فذهب وفعل هذا وفعلاً تحرك الناس وفرح بهذا فإنه يكون صادقاً مُخلِصاً، قال تعالى في مثله إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ ۩، فالله قال هذا جيد، أي أن أنت تتصدق أمام الناس هذا أمر جيد، ولكن بأي قيد؟ بقيد الإخلاص، فيجب أن تفعل هذا مُخلِصاً، فشرط الإخلاص مطلوب في كل الأعمال – إنما الأعمال بالنيات – دون أي كلام، قال الله إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۩، فالآية واضحة وهكذا فهمها العلماء كما شرحناها ببساطة، فهذا فعل هذا بنية أن يكون نموذجاً وقدوةً لغيره ومن ثم سوف يُثاب بنيته بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا مُمكِن إذن لكن المسألة عويصة.

الفضيل بن عياض ماذا يقول؟ يقول العمل لأجل الناس – مثل أن تتصدق وتُصلي و تُحسِّن صلاتك من أجل أن يراك الناس – رياء، وترك العمل – أي الصالح – لأجل الناس شرك، وطبعاً في نهاية المطاف أصلاً هذا التقسيم غير دقيق، فكلاهما شرك لأن الرياء شرك، وفي الحديث – حديث معاذ في السُنن – أن اليسير من الرياء شركٌ،فالرياء شرك إذن، لكن هو أراد أن يُفهِمنا الجهة فقط، فإذن العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل – كأن أقول لن أتصدق حتى لا يراني الناس وحتى لا يقولوا كذا وكذا ومن ثم سأقبض يدي – شرك كما قال، وهذا شيئ عجيب يا فضيل، فما الحل؟ قال والإخلاص أن يُعافيك الله منهما، أي لا تعمل لأجل الناس ولا تترك العمل من أجل الناس، اعمل واترك دائماً من أجل الله لا إله إلا هو، وطبعاً هذه حالة عظيمة نسأل الله أن يُرّقينا إليها بحق لا إله إلا الله، فهذه حالة عظيمة وسنية جداً جداً، وهذا – كما قلت لأخي الكريم – مسار نسير عليه بإذن الله ونقطع خطوات باستمرار لكي نقترب منه بعون الله تبارك وتعالى، وعلى كل حال نكتفي هنا بهذا القدر.

أخي الكريم الأستاذ عبد الواحد سأل سؤالاً مُهِماً، حتى النشاط الروحي حين يتمأسس – الدين كله يتمأسس، فمرض الأديان يكون حين تتمأسس في الأخير
وفي قلب كل مأسسة إرادة الهيمنة وإرادة التحكم – ويغرق في توالي وتبعات المأسسة التي ففي جوهرها – كما قلنا – إرادة الهيمنة يُصاب طبعاً في مقتل تماماً يُفرِّغه من رسالته كعمل روحي، وأنت ترى – مثلاً – في الطرق الصوفية – طبعاً ليس كلها وإنما بعض الطرق – نزاعاً حقيقياً وملموساً وخاصة طبعاً لمَن هم في هذه الدوائر على الاستخلاف ومَن يخلف الشيخ ومَن يكون الشيخ وما إلى ذلك، تماماً كالنزاع على المناصب السياسية والإدارية والسيادية، ومن هنا يُوجَد نزاع حقيقي قد يصل أيضاً أحياناً إلى الإفتراء بل قد يصل إلى القتل، فما رأيكم؟ ففي قصة مولانا جلال الدين الرومي – قدس الله سره – مَن الذي قتل في أرجح آراء الدارسين والمُؤرِّخين لهذا الشخص الكبير شيخه شمس التبريزي؟ تلاميذه ويُقال ابنه، لكن من الواضح بنسبة لا تقل عن تسعين في المائة أن مَن كانوا في الدائرة المُحيطة بالشيخ جلال الدين هم الذين قتلوا شيخه، فهم قتلوه ورموه في البئر، كأنهم يقولون لا يمكِن أن نسمح له أن يستحوذ على شيخنا ولا أن يكون أقرب إليه من أي واحد منا، أي أنهم غاروا غيرة شديدة، فما هذا؟ طبعاً هؤلاء من المُستحيل أن يُقال أنهم كانوا طالبين لوجه الله، هم كانوا طالبين لوجه جلال الدين الرومي، فهؤلاء ما طلبوا الله وإنما طلبوا وجه جلال الدين، وطبعاً هذا نوع من الشرك أيضاً، فمن المُؤكَّد أن العمل الروحي مثل العمل العلمي وما إلى ذلك، وله طبعاً أمراضه وله سرطاناته التي تغتاله، وفي نهاية المطاف – كما قلت لكم – العمل الروحي وإن كان ينبسط في تجلياته على كل الأعمال الأخرى أو من المُمكِن أن ينبسط في تجلياته على كل الأعمال الأخرى – لأن عنده هذه الإمكانية ولا يتعارض بالكامل مع هذه الأمور – لكن هو في جوهره كدحٌ إلى مَن؟ إلى الواحد لا إله إلا هو، والله عز وجل ألم يسع الخلق كلهم؟ هو وسعهم طبعاً رَحْمَةً وَعِلْمًا ۩ ووسعهم أيضاً خلقاً وقضاءاً وتقديراً وإحياءاً وإماتةً، فهو الرب لا إله إلا هو، ولذا أنا أعتقد أن الكدح إليه والتوجه إليه يُمكِن بهذا المعنى أيضاً أن ينبسط وأن يمتد ليسع أي شيئ تُريده بإذن الله تعالى، فهذا أمر عادي من خلال كدحك الروحي هذا، ومن ثم يُمكِن أن تكون سياسياً ماهراً جداً جداً جداً، ألم يكن عمر سياسياً؟ عمر سياسي مُحنَّك، ألم يكن سيدنا خالد عكسرياً؟ خالد عسكري ولا مثله أي عسكري، وقد لا يكون له أي ضريب أو ضريع، وبعض الغربيين يقولون لك أن حتى الإسكندر الأكبر لا يُقارَن به، إنه ليس كخالد، فخالد أعظم منه عسكرياً، ولك أن تتخيَّل هذا، خالد بن الوليد أثبت في آخر حياته أنه كان شخصاً مُخلِصاً فعلاً وصاحب روح، خالد حين كان يُعزَل في فتوح الشام كان يُعزَل بطريقة مهينة، وكان يُعزَل في ذروة انتصاراته وتقدمه، وأتى بلال بن رباح كما تعرفون الذي كانوا يسمونه ابن السوداء أو العبد في الجاهلية قديماً – لأنه كان عبداً – لكي يحل عمامته ويُقيّده بها كأنه عبد آبق، وهذا شيئ عجيب، فخالد القائد المُظفَّر كان يُفعَل به هذا، لأن هكذا كان أمر سيدنا عمر رضوان الله عليهم أجمعين، وبعد ذلك يأخذ إحدى فردتي نعله، كنوع من التجريس الإبتدائي والبدائي له، وهذا شيئ غريب، لكن خالد يستقبل هذا بكل بساطة، والجيش طبعاً صعب عليه الأمر لأنهم كانوا يُحِبون خالداً جداً، لكن عمر فعل هذا لئلا يُفتَن الجيش بخالد، فعمر رجل مُلهَم ورجل عجيب، فحين تقرأ عن عمر وعن إلهاماته وعن صدقه تُدهَش، علماً بأن يستحيل أن يكون عمر كما ظن بعض الناس وكما حاول أستاذنا الكبير عباس العقاد للأسف الشديد أن يقول، فهذا عمل أيضاً الروح الخابية الضعيفة حين تُريد أن تحكم في الأرواح القوية الكاملة، فلا تفهمها وتُسيء فهمها وتُسيء إليها، ومن هنا ظنوا أن هذا نوع من ثأر قديم بين خالد وبين عمر في الجاهلية، وطبعاً كان يُوجَد صراع وغلب فيه خالد ويُقال فصل يد عمر وأشياء كهذه، فالعقاد قال بهذا لكن هذا كلام فارغ – والله – ولا يفعله الآن مسلم واحد منا عنده رائحة إخلاص، فكيف يفعله الفاروق؟ يستحيل أن يفعل هذا، هذا كلام باطل، فعمر يفعل هذا بإلهام، وعلى كل حال عمر قضيته قضية ثانية!

لما عمر نفى نصراً بن الحجاج بن علاط في القضية المشهورة لجماله جاءت أمه واستعطفته بأبيات تُبكي الجلمود ولكنه قال لا، أما وأنا حي فلا، لن يعود إلى المدينة، فهو رجل في مدينة رسول الله تُشبِّب به النساء، ومن ثم قال عمر أنا لن أدع هذه الفتنة، والناس كانت تستغرب من طريقة عمر لكنه نفاه إلى البصرة، وفي البصرة هناك اتصل سببه بسبب أمير البصرة، وفي النهاية أمير البصرة نفسه الذي كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ لاحظ مشهداً مُثيراً ومُريباً – كان مُثيراً للريبة وللارتياب – جداً، حيث رأى نصراً يكتب في الأرض وزوجته – أي زوجة الأمير – تكتب في الأرض شيئاً، فجاء واكفأ إنائين وقال ماذا قلتِ؟ وماذا قال لكِ؟ فقالت قال لي كذا وكذا وأنا رددت بكذا، فقال ما هذا لهذا، أي أن هذا الكلام لم يدخل مخه، ثم قال لنصر سألتك بالله ماذا قلت لها؟ وماذا قالت لك؟ فقال قلت لها كذا وقالت لي كذا، فقال ما هذا لهذا، ثم دعا بقارئ فوجد أنها كتبت له أُحِبُكَ حُباً لو كان فوقك لأظلك ولو كان تحتك لأقلك، وهو أيضاً رد عليها، فقال تعساً لك، صدق فيك عمر، والله لا تُجاوِرني في هذا البلد، أرأيتم ما حصل؟ أي أن حدس عمر كان صائباً، والرجل بعث قصيدة شعرية مُؤثِّرة جداً لعمر- أنا قرأتها وحين قرأتها بكيت – وقال له بمعنى الكلام أنني يا عمر لست ذاك الرجل الذي تظن ويأبى علىّ الإسلام وعفتي أن أفعل هذا وما إلى ذلك، وبعد ذلك نفوه إلى فارس، وهناك في فارس وقعت له واقعة مُشابِهة، فنفاه هناك الأمير وقال والله ما صدق فيك إلا عمر، فعمر رجل مُلهَم ورجل رباني، والإنسان حين فعل يتربب ويُصبِح ربانياً إلى هذا المُستوى – سبحان الله – تُصبِح تصرفاته كلها – بإذن الله – إلا ما شاء الله بنور الله عز وجل، ونرجع إلى عمر الآن، فعمر فعل هذا بخالد – هذا العسكري المُحنَّك المُتروحِّن الصادق والعبد المُخلِص – ومع ذلك يستجيب ويخضع وبيخع ويقول أنا ما عملت لعمر ولا لغير عمر إنما علمت لرب عمر، أي أنه يقول أنا أجري عند الله ومن ثم سوف أجلس، وجلس فعلاً وأخذها فرصه بعد ذلك لكي يبدأ يُوثِّق علاقته بكتاب الله، والقصة المشهورة على كل حال، ومن ثم نختم بالجواب عن هذا السؤال ونقول أن العمل الروحي يُمكِن أن يُصاب في مقتل طبيعي مثل أي عمل آخر، لكن على كل واحد منا – هذا سؤال أخي عبد الواحد الذي كان عن كيف نحذر بها هذا المُنزلَق وكيف لا ننزلق – ولن أقول علينا – لأننا هنا لا نتخاطب بصيغة المجموع، وإنما نقول علىّ وعليكَ وعليكِ، أي على كل واحد فينا دائماً – أن يُدرِك البُعد الفردي شديد الخصوصية لهذا النشاط الروحي، وفي نهاية المطاف أنا أبني الأرض وأنا أعمرها وأنا الخليفة وما إلى ذلك لكنني في نهاية المطاف أُريد فكاك رقبتي وأُريد أن أنجو من النار وأن أدخل الجنة، علماً بأن الأنبياء أنفسهم كانوا كذلك، قال الله وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ۩، أي أن النبي في نهاية المطاف كان هدفه أن ينجو وأن يتخلص، وأنا بصراحة أُريد هذا أيضاً وأنت تُريده، ولذلك في قلب العمل الروحي تكمن هذه الفردية التي تتأبى على كل أخطاء المأسسة وعلى سرطاناتها بإذن الله تعالى، أما إذا اختفى هذا الطابع دخلنا في لعنة المأسسة، والبيت الشهير للرجل الشهير ماذايقول؟ يقول ديني لنفسي ودين الناس للناس، كأنه يقول ديني أنا هو فعلاً دين الفرد ودين الخصوصية، أي هذا الدين الروحي، ودين الناس هو دين المُجتمَع، فالناس يُؤمِن بعضهم ببعض ويكفر بعضهم ببعض ويُسعِدون بعضهم ببعض إيماناً وكفراً، وحتى كفرهم بالله هو كفر بشيئ في المُجتمَع، وإيمانهم بالله هو إيمان بشيئ في المُجتمَع، لكن المُؤمِن الحق هو الذي يُؤمِن بالله ويكفر بما عداه في هذا المُستوى، والله أعلم.

(يُتبَع الجزء السادس)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: