لماذا الجمال الصارخ يشلنا أحياناً ويُذهِلنا عن أنفسنا ويُدخِلنا أيضاً في حالة روحية؟ هذا يحدث حين ترى وجهاً جميلاً جمالاً صارخاً أو صوتاً جميلاً كأن تسمع لأصحاب الأصوات الصيّتة الجميلة في المقامات العالية، لماذا حين يقفز أحدهم إلى مقام عالٍ يقشعر البدن أحياناً وتسيل الدموع وتكف العيون فجأة، ما الذي يحصل؟ هذا الصوت بهذه القفزة إلى تلكم المقامات يُحاوِل أيضا أن يُنجِز مجازه، أي مجاز الصوت وهو مثل مجاز اللغة الذي يُنجِزه المُنشئ والشاعر، فهنا المجاز أيضاً، وكذلك عن رغبتك في أن تحتضن الطبيعة ثم لا ترتوي، أنت تقوم بمجازك أيضاً في التحسس الجمالي، فلسفة طويلة عريضة عجيبة، كل هذا لأنه يُشير إلى ما بعده، فالله يقول لك هذا سبيل وطريق وسيعة وعريضة للتعرف إلىّ وللتعرف علىّ وللاقتراب مني وذلك عن طريق الجمال، قال الله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، ومعروف من قواعد اللغة ومن بديهيات العربية أن الإسم الموصول الَّذِي ۩ ينبغي في الأصل أن يُستعمَل للإشارة إلى شيئ في حيز المعرفة، أي واقع في حيز المعرفة، وهو نوع من التعريف كما أقول لك مثلاً أتى فلان وزعم كذا، فتقول لي مَن فلان؟ فأقول لك الذي كذا وكذا، فأدلك عليه أكثر، والله يدل على نفسه بالموصول ويقول الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، فهل تُريد أن تعرفني؟ هذا يُمكِن عبر الجمال وعبر المُقارَبة الجمالية، ونفس الشيئ في الآية التي تقول وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ ۩، فهنا تقول الآية كُلَّ ۩ إذن عُدنا إلى الكليات، فالملائكة هنا في هذه الآية تقول وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، وهناك آية تقول وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ۩، إذن كلية الرحمة وكلية العلم، بالنسبة لكلية الرحمة نقول أن هذا ينقص الآن أنفاراً كثيرين من المسلمين الذين ما عادوا يبحثون عن الله – عز وجل – في الرحمة ولا يرونه في مشاهد الرحمة، يرونه في مشاهد النقمة والعذاب ويزعمون أنهم يرون الله ويصدعون بأمره، لكنهم ما رآوه أبداً، وإنما الله يُرى في هذا المجلى، أي في مجلى كلية الرحمة، تقول الآية الكريمة وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، إلى آخر هذه الكليات وهى كثيرة جداً في كتاب الله، فإذن نبحث عن الله ونقترب من الله ونُريد أن نرى الله – تبارك وتعالى – عبر ماذا؟ عبر هذه الكليات.

الذي يحصل بعد ذلك أن البصيرة حين تكون فعلاً نقية وحين تكون مُلتمِعة وحين تكون صحية سليمة تلتقط هذه اللطائف في كل المشاهد الكلية عبر التاريخ وإلى الآن، أنا أعلم بعض العلماء المسلمين – لكن هذه تبقى مثل أمانات – توصلوا إلى نظريات وإلى إبداعات علمية من نوع فريد جداً جداً جداً غير مُعلَن عنها لأسباب كثيرة، فهى نوع فريد ونفيس أكثر مما تتخيلون، لكن عبر ماذا؟ عبر أي آلية؟ عبر آلية النظر بالبصيرة، بصيرة الروح التي يُلهِمها نص الكتاب ويُحيلها على العالم المفتوح الذي هو أصلاً عالم، وعلى كل حال هو يُحيل على العالم المفتوح، وعلى الأقل أنا الآن أستحضر اثنين فعلوا هذا وبشكل مُدهِش خارق، ولا أُبالِغ لأنني أعرف ماذا أقول، وهذا كان يحصل مع علماء المسلمين في العصور السابقة بشكل مُتواتِر، فالبصيرة حين تُجلى – أي حين تنجلي – وحين تصح وتسلم تُصبِح مُستعِدة لائقة لالتقاط اللطائف التي هى رسائل الرب لا إله إلا هو في خلقه.

وفِي كلِّ شييءٍ لَهُ آية ٌ                                             تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ.

أي في كل شيئ له رسالة، لأن الآية في النهاية هى رسالة، فالآية هى رسالة أو علامة، وعلى كل حال البصيرة تنفتح وتلتقط هذه اللطائف الربانية.

أختم حتى لا أُطيل وقد قاربنا الساعة، ماذا نستفيد أيضاً من هذه الثورة الروحية؟ وكيف يُمكِن – كما قلت – أن تجعل حياتنا أكثر طيبةً وأكثر جمالاً وأكثر رضاً عبر أصالة العمل الصالح؟ يُوجَد فرق بين العمل الصالح وبين أصالة العمل الصالح، أي أن يكون هذا العمل أصيلاً، ولذلك إنما الأعمال بالنيات، فهذا مُتصدِّق وهذا مُتصدِّق لكن هذا مقبول وهذا مردود، هذا حاج وهذا حاج لكن هذا مقبول وهذا مردود، وكذلك الحال مع مُصلٍ ومُصلٍ أو صائم وصائم أو مُجاهِد وُمجاهِد وإلى آخره، وفي الحديث أول من تسعر بهم النار – الحديث في مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعاً طبعاً – يوم القيامة مَن هم ؟ عالم بالكتاب أو عالم بالقرآن ومُجاهِد قضى شهيداً في سبيل الله – هذا واحد من ثلاثة هو أول مَن تُسعَّر بهم جهنم وهذا شيئ لا يُصدَّق – ومُتصدِّق جواد كريم، يُنفِق ماله ويُهلِكه في سبيل الله، فهؤلاء ثلاثة وهم أول مَن تُسعَّر بهم جهنم، لأنهم لم يكونوا أصيلين في العمل الصالح، لماذا؟ لأن بعدهم الروحي خابٍ والروح خابية ميتة جامدة مُتسقيلة، وفي القرآن الكريم وفي المنظور القرآني لا عبرة بالأعمال الصالحة بغير إيمان، قال تبارك وتعالى في سورة البلد فَكُّ رَقَبَةٍ ۩ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۩ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۩ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ۩ ثم قال ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ۩، فليس المُهِم أن تفتك الرقاب وأن تُعطي، لكن مُهِم جداً أن يأتي هذا معلولاً لعلة وهى الإيمان، ولذا الله يقول وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ۩ ويقول أيضاً وَالْعَصْرِ ۩ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۩ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، فعمل الصالحات يأتي دائماً معلولاً للإيمان ويأتي مُسبَّباً عن الإيمان، لماذا؟ هذا الذي يُعطيه – كما قلت لكم – أصالته ويُعطيه إمكانية امتداده واستثماره باستمرار وبركته، لكن كيف؟ لابد أن نشرح هذا، من قديم فرَّق السادة العلماء – رحمة الله على الجميع – بين الحُسن الفعلي والحُسن الفاعلي، لكن الناس لا يُفرِّقون، بالعكس الناس يدور معظمهم على الحُسن الفعلي، أي أنه عمل عملاً طيباً وأن هذا الرجل مُتصدِّق مُحسِن وهذا الرجل مُتدِين – ما شاء الله – وكثير الصلاة والقيام والبكاء وما إلى ذلك، لكن ليس هذا المُهِم – هو مُهِم لكن ليس هو الأهم – فقط، لابد من الحُسن الفاعلي، فإذن لدينا الحُسن الفعلي الماثل في العمل الصالح، والحُسن الفاعلي الماثل في إخلاص العامل، أي أن يعمل هذا بإخلاص – الآن عُدنا إلى الروح مرة أخرى، فنحن الآن في أحضان الروح – وأن يعمل هذا مُتوجِهاً به إلى الله، قال الله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ ۩، طبعاً المادي فضلاً عن المُلِحد بالمرة لا يُمكِن أن يستوعب هذه الفلسفة الإليهة، المُلحِد لا يُمكِن أن يفهم أن للروح تأثيراً حقيقياً في العالم المادي نفسه، وفي أول هذا العالم الجزء المادي في الإنسان، فما رأيكم؟ قبل أيام أُحدِّث بعض أحبابي وإخواني وأقول لهم آهٍ لو أن المسلمين أدركوا أن أقصر طريق للتربية الصالحة طهارة الروح وصدق التوجه وإخلاص النية، وذلك تربية أنفسهم طبعاً أولاً ثم في تربية أهليهم وأولادهم وذويهم، هل تُريد أن يُحسِن الله إليك في أولاد – في أبنائك وفي بناتك – فعلاً؟ أنا أقول لك قبل أن تتكلم وقبل أن تعظ وقبل أن تُقيم قدوة ظاهرية من نفسك – وهذا كله مطلوب، فلابد أن تعظ ولابد أن تتكلم ولابد أن تُعلِّم وما إلى ذلك، لكن نحن نقول قبل هذا كله ومعه وبعده وأهم منه جميعاً – لابد من طهارة الروح لديك ولابد من صدق توجهك إلى الله تبارك وتعالى وإخلاصك في دينك وفي تدينك، وأنا أقول لك أن هذا يختصر عليك أكثر من ثمانين في المائة من الطريق، فما رأيك؟ ومن هنا أنا أقول لك لو أنك قصرت في موعظة أبنائك لأن وقتك وأعمالك وظروفك وتنقلاتك وأشياء أخرى كثيرة لا تسمح لك فإن الروح تتولى هذا، لأنك كأب أو كأم أو كأخ كبير تعيش بينهم في هذا الإطار وفي هذا الحيز الفضائي المكاني الذي تُلقي فيه الروح بظلالها باستمرار، فالروح تُلهِم وتُعلِّم وتُشيع وتُشِع، هذه أرواحٌ تستمد من هذا، وقد حصل لي مرة – ربما ذكرت هذا الشيئ من قبل لكن هو شيئ مُؤثِّر فعلاً – قبل بضع سنين أنني كنت أُصلي من الليل – أي قيام الليل – وحدي وأقرأ بصوت خافض حتى لا يعني أُوقِظ أبنائي وأهلي، لكن في الصلاة قلت له أنني أُريد من إحدى بناتي التي كانت غير مُكلَّفة طبعاً في ذلك الوقت أن تقوم وتُصلي، وبعد أن جاءني هذا الخاطر سمعت مُباشَرةً صوتاً خلفي، لكنني لم أعرف ما هو، وبعد أن انصرفت من صلاة ركعتين إذا هى بإحدى بناتي – بنان – لبست لباس الصلاة ووقفت خلفي تأتم بي، فسالت دموعي مُباشَرةً وكأن الآية التي تقول وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً  ۩، تُليت أمامي، وكان المعنى من أراد هذا عليه هو أن يبدأ وأن يعمل ليكون من أئمة المُتقين، فحين يعمل هذا سوف تأتي البقية وحدها بسهولة وسوف تأتي تلقائياً، فالروح تُؤثِّر أكثر مما تتخيلون وتُشِع أكثر مما تخيلون، وأعتقد أن هذه الميزة بالذات في الديانة المحمدية وفي هذا الدين أو في هذا الشرع الخاتم، الله – تبارك وتعالى – ما أخبر مرةً أنه أرسل الرسول – عليه السلام – إلا وقدَّم التزكية كهدف من إرساله وتنبئته على هدف التعليم، قال الله يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ۩ وبعد ذلك قال وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩، إبراهيم – عليه السلام – حين دعا أن يبعث الله في هذه الأمة – أمة العرب – نبياً قال ما ذكرته الآية الكريمة: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۩، لكن الله لم يفعل هذا، فالله بعث نبياً يتلوا ويُزكّي ثم يُعلِّم، ومن هنا بعض أسباب ما نُعاني نحن المسلمين في هذا العصر أننا بشكل عام حريصون على ماذا؟ على أن نُعلِّم، أي أن نُعلِّم الناس الكتاب والحكمة وما إلى ذلك، لكن من الصعب أن أزعم أننا نُعلِّم الناس الحكمة، فالحكمة شيئ كبير، وعلى كل حال هل نحن حكماء لكي نُعلِّم الحكمة؟ هل ننشط بحكمة؟ هل نفهم بحكمة؟ هل نفعل بحكمة حتى نُعلِّم الحكمة؟ النبي يفعل هذا، وهو طبعاً بلا شك لائق ومُؤهَّل تماماً من جميع حيثياته لفعل هذا، لكن هل نفعل نحن هذا؟ على كل حال نحن معنيون أن نُعلِّم – هكذا في ظننا – الكتاب والحكمة، لكن أين التزكية؟ هى أهم بمراحل من تعليم الكتاب والحكمة، تعليم الكتاب والحكمة بغير تزكية ستكون النتيجة المُرتقَبة له مثل النتيجة التي باء بها بنو إسرائيل، بالكتاب وبالعلم وبالبينات زادوا تفرقةً وزاد بعضهم بغياً على بعض، قال الله وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ ۩، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ۩، وهذا ما يحصل الآن – إلا ما ومَن رحم ربي – في أمة محمد، بالعلم وبإسم العلم يبغي بعضنا على بعض ويُكفِّر بعضنا بعضاً ويلعن بعضنا بعضاً ويدعو بعضنا إلى قتل بعض وإلى إهدار دم بعض، أليس كذلك؟ وهذا كله بالعلم، لماذا؟ لأنه علم مبتوت الصلة بالتزكية، فهو غير مسبوق بالتزكية وهو غير ملحوق أصلاً بها، إذن لابد من التزكية في الأول، أي عمل الروح والحُسن الفاعلي، فليس المُهِم الحُسن الفعلي فقط لأن أهم منه الحُسن الفاعلي.

أختم إذن وأقول لماذا كان الحُسن الفاعلي بهذه المثابة من الخطر والأهمية؟ لأنه -كما قلنا – يستند إلى الروح مُباشَرةً، الروح التي لا تُريد إلا رضا الله – تبارك وتعالى – ولا تُريد أن تمتن عليك ولا تُريد أن تستتبعك ولا تُريد منك حتى الجزاء والشكور، أي أن تشكرني وأن تجزيني، وخذوا هذا معياراً إلهياً: إذا أسديت يداً أو أيادي بيضاء على أحد من الناس ثم كفر أياديك وشعرت أنت بالتنغيص وبالمرارة وجعلت تشكو صنيعه إلى الناس فأنا أقول لك أنك ما عملت هذا العمل مُخلِصاً لله، وثق أنه غير مقبول أصلاً، فهذا العمل غير مقبول عند الله لأنك علمته لنفسك، هذا ليس عمل الروح، هذا عمل الغريزة أو عمل العقل، عمل الحساب المادي وعمل الحساب المصلحي وربما الانتهازي أيضاً كطريقة السياسيين، لكن ليس هذا عمل المُؤمِن، عمل المُؤمِن على النحو الذي ذُكِر في الآية الكريمة التي تقول إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩، أي نحن لا نُريد أن تشكرونا حتى لأننا نفعل هذا لله، فتخيَّلوا أنتم إنساناً يعمل بهذه العقلية وبهذه الروحية ولا ينتظر ولا يُحِبُ الشكر من الناس أصلاً كم هى أصالة عمله الصالح؟ كم هو أصيل هذا العمل؟ ولا آصل، هذا أكثر الأعمال الصالحة أصالةً، والآن هل هذا العمل مُرشَّح لأن يمتد أم غير مُرشَّح؟ مُرشَّح لأن يمتد باستمرار، والعجيب أن مثل هذا العمل – أي العمل الذي تعمله لله وحده لا إله إلا هو – حتى وإن وصمك الناس بعكسه تماماً يُشعِرك بالسعادة، كأن تكون من أجود الناس – مثلاً – في السر إخلاصاً لله ومن أجود الناس عطاءاً وأنداهم يداً ومع ذلك تُعرَّف بين الناس بالبخل – أي تُبخَّل – ويقولون عنك هذا بخيل يا أخي، أعوذ بالله منه، ففي حياتنا لم نره أعطى شيئاً، لأن هذا البخيل لا يُعطي شيئاً، ثم تبدأ تسمع أنت بما يتسامع الناس من نعتك عن أنك البخيل ومع ذلك تشعر بالسعادة، فالمُؤمِن الصالح يشعر بالسعادة ويقول الحمد لله لقد وفر الله أجري، أجري طبعاً بهذه الطريقة كله عند الله، وسوف أتقضاه يوم القيامة، وتشعر برضا عجيب ليس بسبب مسألة الأجر فقط وإنما بسبب مسألة الاغتناء بنظر الله إليك، ومن هنا تقول يكفيني أنه ينظر إلىّ على أنني ما يعلمه، وهم لا يعلمون شيئاً من هذا، وأنت تغار أن يشركه أحد في النظر إليه وتكتفي به لأنك لا تُريد هذا، تقول الآية الكريمة أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۩، ألا تكتفي به؟ ألا تكتفي بمعرفته؟ وَهِّم نفسك – أي أَخطِّر بالك هذا الخاطر – أنك مظلوم وتُريد أن تفزع في رفع الظلم الذي لحق بك إلى واحد مُقتدِر من الناس، وبدل أن تصل – مثلاً – إلى رئيس جهاز الأمن وصلت إلى الرئيس نفسه – رئيس الحكومة أو رئيس الدولة أو الملك – فيما بعد، ألا تقنع بهذا؟ سوف تقول ما بعد عبادان من دار، هذا مُنتهى المُنى لأن الملك نفسه سينصرني، إذن انتهى كل شيئ، ولن تُعنى بعد ذلك لا بمُحامٍ ولا بقاضٍ ولا بصحفيٍ ولا بأحدٍ أبداً لأنك مع الملك، لكن ماذا عن ملك الملوك – لا إله إلا هو – الذي هو معك وباستمرار؟ هذا الذي يُعطي العمل إمكانية للامتداد – كما قلت – والمُبارَكة والتناسل إلى ما لانهاية، فيبقى إلى مُنتهى العمر باستمرار، وربما في كرم الله – تبارك وتعالى – هذا معنى الأضعاف المُضاعَفة التي يُضاعِفها – عز وجل – لمَن يشاء وكما يشاء، فربما يظل يُضاعِفها – لا إله إلا هو – للأبد، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا العمل المُخلِص بهذا الحُسن الفاعلي مُتوجَّه به إلى الأبدي الأبد – لا إله إلا هو – وإلى المُطلَق الذي لا يحول ولا يزول، وكل ما يتعلق بالله يأخذ شيئاً من أوصاف الله طبعاً، وأنت توجهت بهذا إلى الله – عز وجل – ومن ثم سوف يخلد هذا الشيئ بإذن الله، فهذا الشئ لا يفنى، وفي الدنيا تشعر أن الله يُعطيك قدرة زائدة!

قبل ليلة تفكرت في شيئ وكدت أزل ثم عُدت إلى رشدي وأدركت المعنى العميق، تقريباً تجد العارفين بالله شبه مُتفِقين أو مُتسالِمين على أن المُؤمِن الحق كل يوم في ازدياد، لكن المسألة صعبة، وقال لك مَن استوى يوماه فهو مغبون ومَن فضل يومه أمسه فهو ملعون، وهو ملعون بمعنى مجازي طبعاً وليس بالمعنى الحقيقي للعن، فهذا طبعاً منقوص الحظ، لأن كيف يكون أمسك أحسن من يومك؟ ما الحكاية؟ ولكن إذا استويا فأنت مغبون – إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۩ – لأنك لم تكسب جديداً، فينبغي أن تتقدم باستمرار، لأن هذا طريق ولا ينبغي أن تُراوِح في مكانك، ينبغي أن تقطع مراحل كل يوم وكل حين وتكدح إلى ربك كدحاً – ليس دونه مُنتهى ولا وراءه مرمى – لا إله إلا هو، وعلى كل حال وجدت أن العملية صعبة ومُرهِّقة جداً للإنسان حين يُدرِك أنه لابد أن يكون في ازدياد مُستمِر، وطبعاً أنا لا أستطيع هذا، فأنا بشر ضعيف وأنا أُخطيء وأنا أُزِل وأنا أعصي وأنا أنسى، أليس كذلك؟ فهذا يحصل بلا شك لأننا لسنا ملائكة ولسنا معصومين، لكن أنا أقول لكم أن المسألة سرها في الإخلاص، حين تكون مُخلِصاً تتوالد الصالحات تلقائياً – بإذن الله تعالى – وترى أنك أقدر على عمل هذه الصالحات يوماً فيوماً ومن ثم تسهل بين يديك تماماً وتُصبِح مثل السجية، مثلاً هل تُكلَّف الآن أن تُحِب أولادك؟ هل يستدعي الأمر أن تطلب أنت من الآخرين أن يحثوك وأن يحفزوا همتك على حب أولادك؟ لا تفعل هذا أبداً، هذه سجية فطرية وهذه غريزة، وكذلك عمل الصالحات عند المُؤمِن يُصبِح أقوى من الغريزة، بالإصطلاح القرآني هذه هى النفس المُطمَئِنّة، تقول الآية الكريمة يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩، يُوجَد اطمئنان للنفس واطمئنان للقلب – وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ ۩ – طبعاً.

يبدو والله أعلم – هذا اقتراح على الهامش – أن اطمئنان القلب بخصوص المسائل العقدية التصورية، واطمئنان النفس بخصوص المسائل العملية، فإذن رجعنا للحكمة النظرية والحكمة العملية من خلال النظر والتطبيق، النفس المُطمَئِنّة بالخير يصدر عنها الخير تلقائياً كما يتنفس صاحبها، أي أنه يصدر كالنَفس، فكرمك كالنَفس، وتسامحك وعفوك وغفرانك كالنَفس، حُبك للآخرين وإنسانيتك وإيجابيتك وعطاؤك كالنَفس، فأنت تفعل هذه الأشياء بسهولة – بإذن الله – ببركة ماذا؟ ببركة الإخلاص وببركة التوجه بها إلى صاحبها لا إله إلا هو، أي إلى الله عز وجل، تقول الآية الكريمة أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، فهذا العمل لله – منسوب إلى الله – فقط، فإن فعلت هذا وتجاوزت عقبة النفس كأن تكون عاملاً لنفسك أو عاملاً لغيرك فوزت، وفي نهاية المطاف مَن لم يعمل لله : يستحيل أن يعمل إلا لنفسه، ولا تقل لي أنا عملت للمجتمع، فهذا كذب لأن عملك للمجتمع وللناس وللآخرين ينحدر في نهاية المطاف إلى عمل للذات وللهوى ولتصنيم النفس ولتضخيمها، وهذا التصنيم وهذا التضخيم باستمرار ينعكس لعنة على الآخرين، وأقل هذه اللعنات المنَّ، أي أن تمنّ على الآخرين وتقول أنا اللذي فعلت وأنا الذي سويت، وأكثر هذه اللعنات إرادة تدفيعهم ثمن ما قدمت،
وإذا واتتك فُرصة فإنك تُريد أن تُدفِّعهم ثمن ما قدمت أضعافاً مُضاعَفة، لأنك تاجر فقط، أنت في نهاية المطاف تاجر وتستثمر فيهم فلابد أن يدفعوا الثمن لكي تربح أنت، أنت لا تُقدِّم عشرة لكي تأخذ عشرة وإنما تُقدِّم عشرة لكي تأخذ مائة، وهذا العمل في نهاية المطاف يكون تماماً كعمل كالنهّازين في كل الأمم، فيكون في حقيقته لعنة على الآخرين، بخلاف العمل الصالح وعمل الروح المُتوجَه به إلى الله – تبارك وتعالى -الذي يكون بركةً على صاحبه وبركةً على الآخرين .

هنا أُريد أن أقول لكم شيئاً وأُشهِد الله على هذا، أحياناً حين تقرأ لبعض الناس وقد أدبروا وتولوا من ألف سنة وألف ومائة سنة وألف ومائتين سنة – بعض الأئمة تقرأ لهم الآن أنت على بُعد ألف سنة وألف ومائتين سنة – تشعر مُباشَرةً بالبركة والخشوع وينفعك الله نفعاً عظيماً بما تقرأه ولو أسطر قليلة، وتقرأ لآخرين على بُعد عشرين سنة وعلى بُعد سنة وعلى بُعد صفر سنة – أي أنهم مُعاصِرون لك – وتقرأ كلاماً في الروحيات وفي تقوى الله وفي الإخلاص ولا تنتفع بشيئ، لماذا؟ إذن المسألة ليست مسألة شواهد ونصوص وآيات وأحاديث وأشعار أبداً، فالآيات التي هنا هى التي هنا، لكن ما الذي حصل؟ وهى ليست مسألة إبداع في الصياغة والبيان، بالعكس يبدو أن بعض المُتأخِرين أحياناً أطول لساناً بل أطول باعاً وأرسخ قدماً في التعبير المُنمَّق المُزخرَّف، في حين أن بعض السلف الصالحين كان تعبيرهم ساذجاً بسيطاً حتى في دعائهم، لكن أنت انظر اليوم إلى كيفية دعاء المسلمين وتُصدَم من الأسجاع التي تسمعها بالذات في ليلة السابع والعشرين من رمضان، تسمع نصف ساعة دعاءاً مسجوعاً محفوظاً حفظاً على ظهر القلب – ما شاء الله – فلا يحصل الخشوع ولا يحصل الانتفاع، لكن في دعاء الصالحين من أسلافنا القدماء كان يُقال اللهم اجعلنا مُبارَكين واجعلنا صالحين – كلام عادي بسيط جداً جداً جداً – وبعضهم كان يقول اجعلنا جيدين، أي اجعلنا كويسين كما نقول بالعامية، فما السر؟ السر مرة أخرى في الروح، هذا كلام كُتِبَ بروح، وهذا كلام كُتِبَ ببيان فقط وبغير روح ومن ثم هو ميت أو كما كان يقول القطب الجيلاني فطيس ميتة، ولذا من المُمكِن حتى أن يُؤذي، وهذا شيئ غريب، على عكس هذا الذي فيه روح تنبض، وأعتقد أن يونس بن عبد الأعلى هو القائل أو غيره بحسبك أن أُناساً تحيا القلوب بذكرهم – يُذكَر إسم الواحد فيهم وهو ميت كما قلت على بُعد ألف ومائتين سنة فتشعر بالخشوع فقط من ذكر إسمه – وبحسبك أن أُناساً تموت القلوب برؤيتهم، فالواحد منهم حي معك وحين تراه يقسو قلبك – لا إله إلا الله – وإن أتاك من باب الدين، في حين أن هذا الآخر مات من ألف سنة ومع ذلك عندما يُذكَر إسمه تخشع، لا إله إلا الله!

أرجو يا إخواني أن نتواصى بهذا – وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ۩ – وأن نُبديء وأن نُعيد على أهمية الروح وإخلاص الروح وإشعاع الروح لكي يُبارِك الله في أقوالنا وفي أعمالنا وفي مرأنا وفيما نقول وفيما نمسع وفي حضورنا وفي وجودنا، فأسأل الله تبارك وتعالى باسمائه الحُسنى وصفاته العُليا أن يجعلنا عباداً مُبارَكين وعباداً صالحين وأن يجعلنا بركةً على أنفسنا وعلى أهلنا وعلى ذوينا وعلى أحبابنا وعلى أمتنا وعلى العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

يُتبَع الجزء الرابع

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: