إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول – الله سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ۩ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۩ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين.
إخواني وأخواتي:
موضوعة الولاء والبراء موضوعة أساء استغلالها قبيلان من الناس، أناس من شانئي الإسلام وأعداءه ومبغضيه ذهبوا وفقها يزعمون أن الإسلام يحث ويحفز أتباعه إلى كره كل غير المسلمين فما حظ دين كهذا الدين في باب التعايش وفي باب التسامح؟ هكذا يتساءلون مُغرِضين، القبيل الاخر من الناس هم جماعات من المسلمين الذين ضُربِوا بالغلو، والغلو مصطلح شرعي يراد به التطرف، جماعة إذن من المغالين أساءوا فهم هذا الباب فانتقصوا كثيراً وكثيراً من حقوق غير المسلمين بإسم الولاء والبراء، وتحديداً بإسم البراء مِن هؤلاء الكفار المشركين أعداء الله وأعداء الدين، وأتوا بما لا تقوم دلالة عليه من كتابٍ ولا سُنةٍ ولا عقلٍ ولا فطرةٍ سوية، بل تمادى الأمر ببعضهم كما ترون وتعيشون فعملوا على تقطيع وصلات وأواصل المسلمين أنفسهم بذريعة الولاء والبراء فضيَّقوا ما وسَّع الله وتنطَّعوا بما لم يأذن به الله ولم يُنزِل به سلطاناً.
هذه الموضوعة – أي موضوعة الولاء والبراء – لم تُعرَف في الأعصار القديمة كما عُرِفَت في هذا العصر الأخير بالذات، حتى صرنا نسمع ونقرأ في عشرات المواقع المرئية والمسموعة والمكتوبة كلاماً يزعم أصحابه أن الولاء والبراء من آصل أركان الدين ومن أعظم وأهم وأخطر أسس الأعتقاد على أن كثير من عامة المسلمين لم يسمعوا أصلا بهذا المصطلح – الولاء والبراء – أصلاً، لم يسمعوا به فكيف صار من أخطر أسس وأصول الإعتقاد والدين؟ الله وحده أعلم، هكذا للأسف انتهي الأمر!
هذه الموضوعة على أهميتها في هذا العصر حول اشتجار واختلاف واسعان جداً وبلبلة فكرية بين أهل العلم والفكر، وطبعاً لا يُمكِن في خطبة ولا في ثنتين أو ثلاث أن يستوفى بعض الكلام في هذه الموضوعة، فهذه تحتاج إلى سلسلة طويلة بحيالها، لكن أحب أن أُدلي بدلوي كما يقال بين الدلاء بهذا الخصوص راغباً إلى الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمني رشدي وأن يُعيذني من خطأ رأيي واجتهادي، فما أصبت فهو من الله وتوفيقه وإسعاده، وما أخطأت فيه فهو من نفسي وشيطاني، والله بريء منه ورسوله، ولا نحمل عليه أحداً غصباً، إنما هو الرأي صوابٌ أو خطأٌ.
ابدأ لألفت إلى أن جملاً عظيمة من كلام جماعة من سادة هذه الأمة وكبار علمائها حين تُطالع يضح ويظهر للمُطالِع ابتداءاً أنهم أغفلوا مُلاحَظة أشياء مهمة في هذا الباب، ككلام الإمام العلامة الإمام ابن القيم – رحمة الله تعالى عليه – وكلام الإمام الجليل الشهاب القرافي في فروقه فضلاً عن المُعاصرِين وهم كُثر بالمئين، فأغفلوا مُلاحَظة ربما أهم ما ينبغى أن يُلاحَظ في هذا الباب، فالعالم العلم والجبل الأشم في علوم هذا الفرع المطهر الشهاب القرافي – رضوان الله تعالى عليه – حين ذهب في الفرق التاسع عشر بعد المائة من فروقه الجليلة يُفرِّق بين ما لم يأذن به الله من مودة وموالاة غير المسلمين وبين ما دعا إليه وأم به من الإحسان إليهم والبر بهم أقام تفرقته – رحمة الله عليه – على أن موضوع دائر على أهل الذمة وليس كذلك، وهذا شيئ عجيب، ومن هنا فعلاً لا عصمة إلا للمعصوم عليه الصلاة وأفضل السلام، مهما كبر وجل العالم قد تفوته أشياء مُهِمة أحياناً، فهذا الشيئ – مثلاً – نحن نُلاحِظ أنه شديد الأهمية لما اعتوره من أحوال وأهوال في عصرنا هذا، ربما في عصره لم يكن الأمر على هذه الشاكلة قط، لذلك أرسل الكلام مُستسهِلاً، فهو يتكلَّم – رضوان الله تعالى عليه – على آيات المُمتحِنة، في مطلع المُمتحِنة أو المُمتحَنة – ولكم أن تقولوا المُمتحَنة، علماً بأن الإمام أبو القاسم السهيلي جزم أنها المُمتحَنة وشايعه القرطبي، وابن حجر في فتحه قال الأشهر أنها المُمتحَنة بإسم المفعول – قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ۩.
الرجل تكلَّم كأن الآية نازلة في ودائرة على أهل الذمة وليست كذلك، الآية نازلة في المُشرِكين المُحارِبين، كيف وقد والتها الآية التي تقول إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ۩؟
كيف يُقال هذا؟ واضح جداً من الآية أنها في المُشرِكين المُحارِبين المُعتدين المُجاهِرين بعدوانهم لله ورسوله وشرعه وأتباع دينه، لكن الرجل تكلَّم عن أهل الذمة وأجرى الكلام كله في صحيفتين عن أهل الذمة، وفي هذا خطأ واضح، ولذلك لم يصب المحز فالذي يقف على كلامه الجليل يخرج بفوائد لكن في غير الموضوع، وإنما في موضوع آخر يتعلَّق بحقوق أهل الذمة وكيفية معاملة الذميين وليس بموضوعة الولاء والذمة الرئيسة التي هى مُعتمَد الكلام اليوم.
العلّامة ابن القيم – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الجليل الجامع الماتع أحكام أهل الذمة – وكم وكم حوى هذا الكتاب من فوائد فرضيَ الله عنه وأرضاه – لما تكلَّم عن آيات المُمتحِنة أسقط أمر أفادته هذه الآيات بشكل واضح جهير، وهذا الأمر هو ما يُمكِن أن يُصاب به المحز فتكلَّم عن الكفار كأنهم شيئ واحد، وكأن الذين نهى الله – تبارك وتعالى – عن مودتهم وموالتهم في صدر هذه السورة هم الذين أذن الله – تبارك وتعالى – بالبر والإقساط في حقهم في الآية الثامنة والتاسعة، وليس كذلك على الإطلاق، والآية الثامنة والتاسعة لمَن تلاهما يعلم ابتداءاً أنهما نزلتا في قبيل من المُشرِكين الوثنيين غير الذين نزلت فيهم الآية الأولى، فالآية الأولى في المُعادين المُحارِبين – هذا واضح تماما – أما الآية الثامنة تقول لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ۩، فالقضية ليست قضية كفار، قضية كفار قاتلوا وجاهروا وعادوا، وقضية كفار آخرين كفوا وسالموا ولم يعادوا ولم يُخرِجوا، كيف هذا؟ العلّامة ابن القيم لم يتوجه إلى مُلاحَظة هذا الامر قطُ وتكلَّم فلم يأت بشيئ يُعوَّل عليه.
من المُعاصِرين مَن تابع العلّامة ابن القيم الجوزية تماماً في مناط التفرقة بين المقامين، أي مقام النهى عن المودة والمولاة، ومقام الإذن أو الأمر، وهو أمر ندب وقد يكون أمر إيجاب في بعض الحالات لأننا مأمرون بالعدل مع مَن أحببنا ومَن كرهنا، قال الله الله عز من قائل وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۩ فضلاً عن أنه قال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، فالله يأمر بهذا سواءٌ أكان هذا الذي أُمِرتَ بالعدل معه وفيه كافراً أم مُوحِّداً، كافراَ عدواَ أو كافراَ كافاً، قال عز من قائل في المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ ۩ واضح أن هذا حتى في حق الكافر المُحارِب كما يعطيه سياق الآيات في هذه السورة الجليلة، وهذا معلوم ومثلها آية النساء التي ذُكِرَ فيها إيتاء ذي القربى أيضاً بغض النظر عن أي شيئ، فهذا مأمور به المُوحِّد ومأمور به المسلم سواءٌ أكان هذا القريب مؤمناً أم كافر، قال عز من قائل في أقرب قريب وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ ۩، فنحن مأمرون بصلة القرابات وإن كانوا من الكفار، وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت الصديق – رضيَ الله عنهما وأرضاهما – أنها قالت أتتني أمي – أي تزورني – في عهد قريش التي عاهدت – تُريد الحديبية – فاستفتيت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وقلت يارسول الله لقد أتتني أمي – أي تزورني – وهي راغبة – بمعنى أنها تُؤمِّل شيئاً من الصلة وشيئاً من العطاء ومن المال، فهذا معنى راغبة – أفأصلها؟ قال صلى أمك.
الأدلة على صلة الرحم الكافر كثيرة جداً – بفضل الله – في الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والتابعين رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجميعن، فإذن قد يرتقي الامر إلى أن يكون أمر إيجاب، والله تبارك وتعالى أعلم.
بعض المُعاصِرين زعموا – والله أعلم – مُتابَعة للإمام ابن القيم الجوزية أن الأمر يدور على التفرقة بين الموالاة والمودرة من جهة وبين البر والإقساط من جهة أخرى وليس كذلك، لو تأمَّلنا الآيات بأول قراءة وبأول تلاوة – باديء النظر – لعلمنا أن الأمر كما أعطته الآيات بظواهرها يدور كما سمعتم على كافرٍ مُحارِبٍ مُجاهِرٍ مُعادٍ يتلمظ تلمظاً ويتنهز وينتظر الفرص لكي يبسط يده ولسانه بالسوء، فهو عدو يريد منك فرصة كما يقال، وهناك عدو لم يُقاتِلك في الدين ولم يُخرِجك من ديارك ولم يُظاهِر على إخراجك، مثل مَن؟ مثل خزاعة، وقيل هاتان الآياتان نزلتا في خزاعة، خزاعة كما في صحيح البخاري كانوا أهل عيبة سر رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام ففيه صحيح البخاري رحمة الله تعالى عليه أن بديل بن ورقاء أتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في قومه – أي من خزاعة – وكانوا – كما يقول الراوي – أهل عيبة سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيوخ الإسلام كان الرسول يأخذ بنصحهم ويستمع إليهم، مَن أسلم منهم ومَن كفر لأنهم كانوا صادقي الود لرسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، فهذا كان يحدث مع مَن أسلم منهم ومَن بقيَ على شركه وكفره، وكانوا يمحضونه النصح، وكان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يعرف منهم ويعرف لهم ذلك، فإذن هاتان الآياتان في المشهور نزلتا في خزاعة وتعمان مَن مثل خزاعة، أي تعمان كل كافر كف عنا وسالمنا ولم يؤذنا ولم يتحين الفرص للنيل منا، فنحن مأمرون ببره والإقساط إليه، إذن المسألة تحصلت لأن ليس الإسلام الحنيف مُتشوِّفاً ولا حريصاً على أن يُعظِّم ويُعزِّز الكره في قلوب أتباعه لغير المسلمين، حاشا هذا الدين من هذا، هذا دين الرحمة ودين لتعارفوا، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، هذا دين وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرً ۩ وهذا دين وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، هذا الدين الذي خاطب الناس وحرص على هدايتهم وسعادتهم لا يقال أنه مُتشوِّفٌ عاملٌ دائبٌ على تعظيم الكراهية في نفوس أهله وأتباعه إزاء وتلقاء وتجاه غير المسلمين، هذا باطل وكذب وزور على هذا الدين الجليل، بدليل هذه الآية الجليلة التي تقول أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ – لماذا؟ – إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩، وأما البر فهو لفظ عام يدخل فيه وجوه من النفع والخيور، وأما القسط فالمشهور أنه العدل، لكن الإمام أبا بكر بن العربي المالكي – رحمة الله تعالى عليه – في أحكام القرآن أبى ورجح أن المقصود من القسط هنا أن يُعطوا قسطاً من المال، أي أن نصلهم بأموالنا أيضاً، نُعطى هؤلاء الكفار الذين كفوا عنا ولم يعادونا في الدين، فهم لم يُسلِموا ولم يؤمنوا إنهم كفار وثنيون لكنهم لم يعادونا، كأنهم صدروا عن نفس منطقنا لكم دينكم ولنا ديننا، فأُمِرنا في هذه الحالة بأن نبرهم ونُقسِط إليهم.
يجب أن نفهم الدين كما هو، ليست المسألة هى الفرق بين المودة والموالاة من جهة وبين القسط والبر من جهة أُخرى، المسألة أعمق من هذا وأخص من هذا، فهى تتعلَّق بالفرق بين كافر مُجاهِرٍ معادٍ وبين كافرٍ كافٍ مُسالِم وقد يكون ناصحاً، لكن الآن بعض مَن يتحدث في موضوعة الولاء والبراء – هذا شيئ عجيب – ضيَّقوا حتى أمر السلام، قالوا لا ترد عليهم السلام، ما معنى لا ترد عليهم السلام؟ إذا سلَّموا عليك لا ترد السلام، ليس فقط لا تبدأهم بالسلام بل لا ترد عليهم، علماً بأن البداءة بالسلام إسمها طرح السلام، أي أن تطرح وأن تُسلِّم، لكن طرح السلام أن يُسلَّم عليك وأنت لا ترد عليهم السلام، وهذا أمر عجيب، هذا من الظلم، الله أمر بالقسط وأمر بالعدل وقال وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ ۩ وأطلق، أطلق في التحية وأطلق في المُحيي، بغض النظر أكان المُحيي هذا مُوحِّد أو غير مُوحِّد، وهنا أى تحية لأنه أطلق في التحية، قال وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ۗ – أمر بالفضل – أَوْ رُدُّوهَا ۩، ردنا إلى العدل، فأدنى الأمور العدل، فإن زدت عليه فيهو الفضل وهو خير لك، قال الله فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ ۩، أما في الزيارة – أي زيارتهم وعيادة مرضاهم – فهم يتشددون ويتنطعون والعياذ بالله، وقد قال الإمام المروزي سألت أبا عبد الله – أي أحمد بن حنبل رضيَ الله عنه وأرضاه عنه – عن مسلم له قريب نصراني اعتل ومرض أيعوده؟ فقال نعم، ثم قلنا له نصراني، فقال أرجو ألا تضيق العيادة، فالأمر واسع لماذا لا يزوره؟
صفية بنت حيي بن أخطب – أم المؤمنين رضيَ الله تعالى عنها، زوجة رسول الله النضرية، أي من بنى النضير، وأبوها حيي بن أخطب النضري وهو سيد بني النضير الذين أردوا من رسل الله مما تعلمون مما قص الله علينا عاقبته في سورة الحشر – أوصت لأخيها وهو يهودي بشيئ من المال من ميراثها، فهذه وصية وهذا جائز وتلك أم المؤمنين، فهل نحن أفقه منها؟ هل نحن أدرى بالشرع منها؟
كذلك كان جماعة من الأنصار يصلون قراباتهم من المُشرِكين فكأن بعضهم تأثم من هذا فأمسك، فأنزل الله – تبارك وتعالى – يأذن لهم بهذا في أية البقرة الشهيرة، وهناك أشياء كثيرة تدل على هذا، فالآثار هنا كثيرة جدا، هذه سماحة الإسلام وهذا كرم الإسلام وهذه سعة صدر الإسلام.
إخواني وأخواتي:
لأن الوقت يتضيق سريعاً أحب أن أقول لكم لو لاحظتم الآيات الجليلة ستعلمون شيئاً هاماً، وهى كثيرة في الحقيقة حتى أن بعض أهلم العلم زعم أن أدلة الولاء والبراء في الكتاب والسنة والآثار تزيد على مائتين دليلا وقد تناهز الثلاث مائة دليل، فالآيات في كتاب الله كثيرة في هذه الموضوعة – موضوعة الموالاة والمودة والمعاداة والتبرؤ – لكن إذا جمعنا هذه الآيات بعد استقرائها ووضعناها أمامنا لنتأملها سوف نُلاحِظ شيئاً عجيباً، فماهو؟ هذا الشيئ يتعلَّق بتحديد كلمة أو لفظة أو مُصطلَح الموالاة والتولي والوِلاية أو الوَلاية كما في سورة الأنفال مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ۩، وإن فرق بعض أهل اللغة بين الوَلاية والوِلاية، فقالوا الوِلاية في الرئاسة والسلطان، والوَلاية في الإعتاق والمحبة والنصرة، فهذا تفريق لبعض أهل اللغة لا يُسلَّم له من آخرين، وعلى كل حال حين نضع هذه الآيات الجليلة أمامنا ونتأمل فيها ونُغلغِل فيها النظر سنجد أن القرآن الكريم يأتي بأكثر من شاهد وأكثر من دليل وبأكثر من وجه أو طريقة على أن موالاة الكفار المنهى عنها تعنى أمرين مُجتمِعين: المحبة القلبية مُضافاً إليها النُصرة والمُظاهَرة والمعونة، فمَن فعل هذا يُقال أنه والى غير المسلمين،لكن أن تُحب غير مسلم – وقد تُحبِه لسببٍ وقد تُحِبه لنسبٍ – هذا مأذون فيه شرعاً فانتبهوا، تعميم هذا بإسم الغلو وبداعية وبإلهام من الغلو هو الذي جرنا إلى أن نتنطع حتى على بعضنا البعض، حتى أن للأسف بعض هؤلاء المُغالين ذهب يُكفِّر طوائف من الأمة، وقال هم كفار بذريعة الولاء والبراء وأنهم لا يتبرأون من أعداء الله كما أمر الله، وهذا أمر عجيب، كيف هذا يا أخى؟ المحبة قد تكون محبة فطرية هل يملك المرء إلا أن يُحب أهله ولحمه ودمه ونسبه؟ ولذلك قال تعالى وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ۩، أبلغ من هذه الآية – أي آية لقمان – آية القصص أيضاً، ماذا قال الله لخيرته من خلقه عليه الصلاة وأفضل السلام؟ قال له – صلى الله عليه وسلَّم تسليماً كثيراً – إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ۩، سواءٌ نزلت في أبه طالب كما هو المشهور أم في غيره من المُشرِكين الآية واضحة في أن النبي كان يُحِب المذكور أو المذكورين، ولم تعتب عليه الآية أنه أحبهم لأن القرآن لا يمكن أن يأتي بما يُضاد الفطرة، أن أحب عمي وخالي وأبي وأمي وأخي وإن كان مشركاً هذه فطرة، لكن لا بلحاظ شركه، بالعكس أنا حين أبغضه أو أبغض فيه شيئ أبغضه بلحاظ ماذا؟ الشرك فيه والتولي عن الحق، حتى مَن يتحدَّث مِن إخواننا النصارى ويريدون أن يعيِّروا الإسلام ويظهروا ميزة لهم عن الإسلام – لكن الله يحب الإنصاف – نحن هنا نقول لهم نتحداكم ونتحدى كل مسيحي مخلص ومحب للآخرين أن يحب أحداً كافراً بالمسيح وبالمسيحية من حيثية كفره بالمسيح، هذا يستحيل ولا يُمكِن أن يُقبَل، فهذا تأباه الفطرة، لكن ستُحبِه من حيثية ماذا؟ إنسانيته – أي من حيثية الإنسانية – لأنه إنسان، فهو أخوك في الإنسانية، والمسلم يشركك في هذا، نحن نحب البشر جميعا من حيثيثة ماذا؟ كونهم عباداً لله وآدميين وبشريين، وإن كرهنا منهم شيئاً فإننا نكره منهم معاصيهم وكفرهم وإلحادهم، فنحن نكره هذا الشيئ، لكن انتبهوا إلى أنه ينبغي على المسلمين أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم وأيضاً صرحاء في تربية أذواقهم وأمزجتهم وأيضاً أبنائهم وبناتهم فيعملوا بموجب هذا ويصيروا إلي موجب هذا الفهم في الدين الله تبارك وتعالى، فبدل أن ندأب دائماً ونُواصل الدعاء على غير المسلمين بأن يفعل الله بهم ويفعل لماذا لا ندعو لهم على المنابر فيكل جمعة قائلين اللهم اهدهم، اللهم أسعدهم في الدنيا والآخرة، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم عرِّفهم الحق وطريقه ومن طريقه؟ لماذا لا نفعل هذا ونحن مأمرون بهذا؟ نحن مأموروت أن ندعو لكل غير المسلمين بالهداية والسعادة، علماً بان هذا لفظ الإمام القرافي – أي بالهداية والسعادة – ثم قال نحن مأمورون بهذا، وهذا لا يتناقض مع الولاء والبراء، ومع البراء بالذات، بالعكس لا يتعارض لا من قريب ولا من بعيد، لكنه التنطع – كما قلت لكم – والتعجل وتكييف الدين مع نزعاتنا الشخصية، هناك نزعات لدينا، فبعض الناس مزاجه يكون حاداً ويكون شخصاً مُكتئباً وشخصاً مراً فلا يتسع صدره للآخرين ويسيء الظن بالخلق أجمعين إلا ما شاء الله، فطبعاً هذا المسكين حين يأتي يفهم الدين يُقزِّم الدين ويمسخ الدين، لكن العكس هو الصحيح، فنحن علينا دائماً كما أقول – دائماً أيضاً أقول هذا – أن نُكيِّف أنفسنا مع دين الله وأن نرتقي إلى دين الله.
أعود إلى أهم نقطة في هذه الخطبة وهى التى أردت أن أدلي بها، فما هى؟ الولاية إذن في كتاب الله ليست مُجرَّد المحبة، انتبهوا إلى أن إذا ذكر الله المحبة في مورد النهى عنها إزاء الكافرين فإنه يذكر في الآية ويأتي مباشرة بما يدل على أن هؤلاء المنهى المُؤمِن عن مودتهم هم كفار مُحارِبون محادون لله ورسوله، وطبعاً بديه وفطري ومعقول هنا ألا تُحبهم، يستحيل أن أحب مَن يريد كفري- وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ۩ – ويريد موتي، هو يريد مني أن أكفر كما كفر ويريد أن يذبحني على إيماني، فكيف أُحِبه؟ هذا مُستحيل، أُحِب له الخير لكن لا أُحِبه، من هذه الحيثية لا أُحِبه وإن كنت أحب له الخير من حيثية أخرى، لماذا؟ أنا أُحِبه من حيثية إنني مؤمن أرجو له الخير وأرجو له ألا يخلد في نار جهنم، فهذا مُؤكَّد لأنني مؤمن رحيم ومُحِب، مثل قوله تبارك وتعالى لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ ۩، لم يقل يوالون، علماً بأنني سأعود إلى الموالاة، فالموالاة محبة مع نُصرة ومُعاوَنة ومُظاهَرة، وهذا شيئ خطير طبعاً وخيانة عُظمى للضمير وللأمة وللدين ولله ورسوله، لكننا نتحدَّث عن المودة والمحبة لأن الإسلام ليس دين كره، المودة يُنهى عنها المسلم والمؤمن في حق مَن؟ الكفاّر المُحارِبين المُعتدين المُحادين والمشاقين، كيف هذا؟ قال الله في آخر المجادلة لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ قد تقولون ما معنى حاد؟ عودوا إلى معجمات اللغة وستعلموا أن المُحادة هى المُعاداة والمُخاصَمة والمُبايَنة والمُشاقة، قال المُفسِّر الجليل والعالم الكبير أبو مسلم الأصفهاني المُحادة مُفعالة من لفظ الحديد، يُراد بها المُقاتَلة بالحديد وبالسلاح، فمعنى مَن حاد الله ورسول أي مَن عاد الله ورسوله وقاتل أهل هذا الدين وأهل هذه الملة، فطبعاً لا يُمكِن لمُؤمِن صادق أن يُحِبهم، مَن الذي يُحبِهم؟ مُنافِق مدسوس أو مُؤمِن ارتد عن إيمانه والعياذ بالله، فطبعاً هذا لا يمكن، وإلا كيف أُحِب من عاد الله ورسوله وجماعة المُؤمِنين ورفع السلاح عليهم وأراد إزالة خضراء المسلمين واستئصال شأفة الإسلام إلا أن أكون منافقاً مدسوساً – والعياذ بالله – أو مرتداً مدغولاً؟ نسأل الله العصمة والحفظة والسداد ونعوذ بالله من الخذلان.
إذن هذا هو، قال الله أيضاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء – انظروا إلى أن الله يقول عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ۩ – تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ۩، فهذا إخراج وتهجير وقتل وإبادة، كيف تودهم؟ ممنوع أن تودهم، لكن تبقى مسألة الموالاة، إذا ذكرت الموالاة قد تُذكَر بقيدٍ يدل على أنها تجمع الحب مع النُصرة والمُظاهَرة، مثل قوله عز من قائل في سورة آل عمران لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ ۩ قد يقول لي أحدهم الله قال الْكَافِرِينَ ۩ ومن ثم هذه عمت كل كافر سواءٌ أكان مُحاربِاً أو مُسالِماً، لكن هذا غير صحيح، تمِّم الآية، أهم شيئ ينبغي أن تفعله حين تُحِب أن تفهم كلام الله وأن تفسر كلام الله لا أن تقرأ الآية فقط إلى آخرها بل أن تقرأ الآية في سياقها، تقرأ السياق والسباق واللحاق وتُغلغِل النظر وتُقارِن، طبعاً يُقال لك لابد من أداة الفهم، أي أن يكون الشخص مُتوفراً على أداة الفهم، أي فهم اللغة والنحو والصرف والبيان وعلم أصول الفقه، فهذه هيرمينوطيقا -Hermeneutic – المسلمين.
ينبغي أن تفهم هذا، لا تتنطع لما لا تعلم ولا تتكلَّف ما لا علم لك به وإلا تضل، مُعظم ما نحن فيه الآن مِن أزمات وكوارث بسبب هؤلاء الذين يتكلَّفون ما لايعلمون، فيُكفرِّون ويذبحون ويقتلون ويُفجِّرون بإسم الدين، والجهلاء بهم مغترون ويقولون لك عن الواحد منهم هذا شيخ يا أخى بلحية وعمامة، فهل كل مَن له عمامة يُعَد عالماً؟ سبحان الله، رحمة الله على مولانا العلّامة الشهيد الشيخ البوطي الذي عجب حين سأله أحد أحبابنا – وهو معنا اليوم – قائلاً له يا شيخ كيف يصبح المرء شيخاً؟ وقال بعد أن عجب من السؤال وبرائته لا تُوجَد مشكلة في هذا، يلوث عمامة على على رأسه وسوف يُصبِح شيخاً، ثم يضحك رحمة الله تعالى عليه، لكن ليست هكذا المشيخة، فنسأل الله ألا نتكلَّف ما لا يعنينا وألا نتكلَّم إلا فيما نعلم، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩.
اقرأوا الآية التي تقول لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩، واضح أن هذه الآية في كافرين مُقاتِلين مُجاهِرين مُعادين، فالمرء حين يكون بينهم مُرخَّص له ومأذون له – هذا حكم وضعي وليس حكم تكليفي، وهذا حال الإضطرار وليس حال الإختيار – بأن يُتاقيهم، بأن يتقي ما يكرهه منهم، لأن قد يذبحونه وقد يسلخونه كما فعلوا بالمسلمين غير مرة ومع غير واحد من المسلمين، قال الله إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩، وطبعاً تُقَاةً ۩ إسم مصدر، أي تتقوا اتقاءاً، لكنه قال تقاة فأًصبحت إسم مصدر حروفه ينقص عن حروف المصدر، فهذا إسم مصدر واضح، إذن الله يقول أيضاً مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ ۩، وأتت مِن ۩ هنا لتأكيد الظرفية، أصل الآية دون المؤمنين، لكنه قال مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ ۩ لتأكيد الظرفية، وهذا قيد طبعاً، فقول الله لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩ قيد، لكن قد يقول لي أحدكم هناك آيات ليس فيها هذا القيد كالتي أفتتحت بها خطبتك، علماً بأن الآيات السابقة كانت في آل عمران، لكن الآيات التي افتتحت بها كانت من سورة المائدة، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ ۩ ولم يقل من دون المُؤِمنين، ذكرها هكذا بالمُطلَق، فهذا القيد غير موجود لكن هل هناك ما دل عليه؟ يُوجَد هذا بشكل واضح جداً جداً في السياق الذي تلوته عليكم ولذا تعمدت أن أتلوه عليكم بطوله، واضح أنهم يهود ونصارى مُحارِبون مُعادون، والحرب كانت قائمة إبان نزول الآية الكريمات، لكن نعود إلى أن الأصل في القيود أن تكون للاحتراز، فالقيد له فائدة وبلغة أصول الفقه له مفهوم ويؤخذ بمفهوم المخالفة في حقه، فحين قال الله – تبارك وتعالي – لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩ عُلِم أن المراد لا يتولى مُؤمِن كافرين على حساب المُؤمِنين بحيث ينصر هؤلاء ويخذل هؤلاء ويعين هؤلاء ويقطع عونه عن هؤلاء، فهذا لا يجوز ولا ينبغي طبعاً وهذا أمر طبيعي، فلا يُوجَد أي إنسان طبيعي ينتمي إلى فرقة من الفرق أو دين من الأديان أو نحلة من النحل إلا وهو يفعل هذا، فينصر أهل نحلته وملته على الآخرين، ويحب الخير لهؤلاء ما لا يحبه لهؤلاء إذا تعارضا، أليس كذلك؟ هذا شيئ طبيعي، فالآية لم تأت بشيئ خطير ضد أنسانية الإنسان وضد مباديء التعايش، الله يتحدَّث عن حالة حرب، ولذلك قال إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩، لأنهم لا يتركونك تعيش ولا يتركونك تفرغ عن منطق إيمانك وأنت حُر سليم، بل تذبح وتسلخ، قال السادة المفسرون هذه الآية كآية النحل التي تقول إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ۩، فلماذا أُعطيَ هذه الرُخصة؟ من باب الترخص له بالتقية، أي أن يُتاقيهم ويتقي شرهم ومكرهم، فإذن هذه الآية لو أخذناها بظاهرها سنجد أنها تدل على أن الموالاة – أولياء – تجمع المحبة مع النُصرة، وهنا قد يقول لي أحدكم ما حكم إنسان مسلم – والعياذ بالله تبارك وتعالى – نصر الكفار بأي طريقة من الطرق – تجسس لهم أو عمل عملاً مُعيَّناً لهم أو دلهم على بعض عورات المسلمين أو ربما قاتل معهم حتى ضد المسلمين – الآن؟ هل يكفر بهذا؟ بمُجرَّده لا يكفر، لكنه في خطرٍ عظيم جداً يُتاخِم الكفر والعياذ بالله، والدليل قصة الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة، فهو من أجلاء الصحابة وشهد بدراً وله مواقف مشهودة وسمعته حسنة، لكن فلتت منه فلتة وأي فلتة، والقصة معروفة في الصحيح طبعاً وفي السير، حيث بعث مع ظعينة أو جارية كتاباً أخفته في عقاصها – في ضفائها – دون أن يعلم أحد بهذا، وجاء الوحي ودل الرسول الخاتم على ذلك، والنبي بعث جماعة من أصحابه فيهم علي والزبير وقال أدركوها وستدركونها بروضة خاخ، وهذا شيئ عجيب لأنه حدد لهم المكان، فهو قال حين تنطلقون الآن ستقعون عليها في روضة خاخ، والكتاب معها فعلاً وأخرجته من عقاصها، فإذا فيه كلام من حاطب بن أبي بلتعة إلي جماعة من سادة وسدنة الكفر بقريش لكي يخبرهم ببعض خبر رسول الله فيما يتعلَّق بنية رسول الله فتح مكة بعد أن خفرت قريش بالعهد والذمة واعتدت على خزاعة – حلفاء النبي – في القصة المعروفة، فأراد النبي أن يجعل الفتح سراً، لماذا؟ أولاً ضماناً للنصر – لكي يدهمهم دهماً – وثانياً أيضاً تقليلاً للدماء والضحايا، وهذا ما كان بفضل الله تبارك وتعالى، لكن حاطب كتب لهم وقرأ النبي هذا فقال ما هذا يا حاطب؟ قال يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت أُمرأً ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها – كان حليفاُ ولم يكن قرشياً صميماً وإنما كان من حلفاء قريش – وكان مَن كان مِن المهاجرين معك لهم قرابات في قريش يحمون بها أموالهم وأهليهم، فرأيت إذ فاتني ذلك من النسب في قريش أن أصطنع يداً عندهم، أي قلت أعمل لهم جاسوساً في هذه المسألة، أقول لهم خذوا حذركم محمد على نية أن يدهم مكة، وأنا أتكلم الآن يقف شعر بدني، فهذا شيئ عظيم، صحابي جليل – رضيَ الله عنه وأرضاه – لكن الشيطان، نسأل الله العصمة والحفظ ، فهو صحابي جليل وبدري – ما شاء الله عليه – ولكن له غلطة يا لها من غلطة وفلتة يا لها من فلتة، هذه خيانة للدولة وخيانة لله وللرسول، لكن هذه – سبحان الله – فلتت منه، لديه حرص فطري على أمواله وعلى أهله وقرباته لئلا يذبحوا هناك، فقال اصطنعت هذه اليد من أجل هذه الغرض، ووالله يارسول الله ما فعلته كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة وأفضل السلام أما صاحبكم فقد صدقكم وفي رواية خلوا سبيله، قال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق – أي بسيفي – فقال ياعمر وما يدريك لعل الله أن يكون اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاطب بدري – رضيَ االله عنه وأرضاه – طبعاً، فنعوذ بالله من الخذلان، إذن هذا الرجل صحابي جليل لم يكفر ولم يرتد على أنه فعل فعلة يا لها وما أشنعها من فعلة، لماذا؟ لأنها لم تأت عن مُواطئة القلب ولا عن محبة دينهم ولا الرضا بكفرهم، ولو فعل- والعياذ بالله – لكفر قولاً واحداً بلا مثنوية، لو أنه فعل هذا حباً في كفرهم وحباً في وثنيتهم وحباً أن ينتصروا على الإسلام والتوحيد لكفر بلا مثنوية، لكنه لم يفعل، ولذلك الصحيح في حكم الجاسوس هو مذهب الإمام مالك، فأعدل الأقوال وأصح الأقوال في الجاسوس وحكم الجاسوس وماذا يُحكَم عليه به هو قول الإمام مالك، ماذا قال الإمام مالك؟ قال يُوكل أمره إلى السلطان، فالإمام هو الذي يستطيع أن يقدر الحالة من جميع حيثياتها وجناباتها ثم يحكم، وهذا اتفق في التاريخ، فابن عبّاد صاحب إشبيلية استعان بالنصارى الصليبيين على إخوانه اللمتونيين، ولكن الله خذله – والعياذ بالله – وكان منه ما كان ووقع في يد الأمير الجليل على بن يوسف بن تاشفين الأمير الجليل وكان صاحب سلطان وكان قاسياً وشديداً عليه، فأفتى كثير من العلماء بردته ووجوب قتله وبعضهم أفتاه بأنه لا يزال مسلماً فعل هذا من باب شفاء الضغائن والانتصارعلى من تكره، وطبعاً الآن لا يقال – مثلاً – في مسلم نصر غير مسلم على بعض المسلمين مِمَن يبغضهم لعصبية أو حزبية أو قبلية أو دولتية – هذا من دولة وهذا من دولة، مثل نزاعات الدول العربية الآن – أنه كافر، لا نستطيع أن نُكفِّره، فنحن لا نُكفِّره بالمعونة بمجردها حتى يجتمع إلى مُعاوَنته الكفار على المسلمين حُبه لدينهم وتفضيله دينهم على دين الإسلام أو حتى عدله به، فهذا كفر وخروج من الملة، فمسألة التكفير بالذات مسألة ضيقة جداً جداً، والأفضل لكل مَن أراد الخير لنفسه أن يبتعد عنها ويتجافى منها، فيتركها لمَن؟ للقضاة، فما علاقة حتى المفتي بها؟ ينبغي أن يتركها لقاضٍ يقضي فيها، ومَن ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين.
للأسف أدركنا الوقت ولابد أن نختم، إذن هذه الآية من آل عمران، والقيود – كما قلت لكم – الأصل فيها للاحتراز، وإن رجَّح الفخر الرازي وغيره أن القيد هنا في قوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩ قيدٌ لا مفهوم له، أي خرج للواقع وللحالة مثل قوله لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۩، وقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۩ فضلاً عن قوله وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ۩ فهكذا قالوا هذا لا مفهوم له، وهذا قول الفخر الرازي، لكن نأتي إلى آيات المقام وآيات الخطبة التي تقول يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ۩، فعلى كل حال واضح أن السياق كله يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى المذكورين كانوا مُحارِبين، وطبعا هذا في سورة المائدة، وسورة المائدة من أواخرالسور نزولاً، شأنها شأن التوبة، فمعروف أن سورة العقود من أواخر السور نزولاً، ومعروف ما بدر أصلا من يهود المدينة وما حولها إلى تلك السنين، ومعروف ما كان من النصارى، وقد قصصت عليكم في خطب آخرى أن النصارى كان لهم مصاولات مع المسلمين ربما بلغت تسعاً أو عشراً ليس كما زعم بعضهم وقال مرة واحدة، فهذا غير صحيح ولذلك الآيات تقول فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ۩، أي في اليهود والنصارى الذين نُهينا عن اتخاذهم أولياء، وقد قلنا إلى الآن نحن نرجح أن الولاية أو الموالاة بمعنى المحبة والنُصرة، أي تُحِبهم في قلبك وتنصرهم في الظاهر، وهذا شيئ خطير جدا جدا، ولذلك الله يقول في سورة آل عمران فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۩، فذن واضح أنها تجمع الأمرين، وإلا النُصرة بظاهرها تجعل للإنسان بقية عصمة يعتصم بها بحبل الله و لا تخرجه من ربقة الإسلام ولا تخرجه من دائرة الإسلام، ولذلك السادة العلماء مثل ابن عطية في المحرر الوجيز وكل المُفسِّرين كالألوسي وابن عاشور اضطروا في أول آية هنا في هذه السياق – وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۩ – إلى أن يتأول هذه اللفظة الجليلة، فلابد من تأولها، الآية بظاهرها تقول أنه كافر، مَن تولى اليهود فهو يهودي ومَن تولى النصارى فهو نصرانى، فهذا ظاهر الآية، تقول الآية الكريمة وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩، فقالوا هذه لابد من تأولها، لماذا؟ لإجماعهم – أجمعت الأمة وخاصة أهل السنة والجماعة – على أن الرضا بما دون الكفر ليس بكفر، وهو في التغليظ والغلظ بحسبه والعياذ بالله، أما إن رضيَ بالكفر فقد كفر، لكن هنا هو لم يرض،والآية تقول وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۩ ولذلك تأولوا هذه اللفظة أو هذا الموضع من الآية الجليلة بوجه من وجهين وقالوا إما هذا وإما هذا، الوجه الاول – وهذا الذي أُرجِّحه وهذا الذي انتهيت إليه – أن يكون المراد بالولاية الولاية المُطلَقة وليس مُطلَق الولاية، لكن ما الفرق بينهما؟ الولاية المطلقة هى الكاملة والتامة من جميع جناباتها، ولا تكون ولاية مطلقة إلا إذا اجتمع فيها رضا القلب ومحبته مع المعونة، علماً بأن رضا القلب ومحبته وحده يكفر به الإنسان، فكيف لو جمع إليه النُصرة والمعونة الظاهرة والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ هذه ولاية مُطلَقة، أما مُطلَق الولاية يُراد به أن أئ شيئ منها يُقال له ولاية، وهذا لا يكفر به الإنسان وإنما يكفر بالولاية المُطلَقة، فحملوا الولاية هنا في قوله وَمَن يَتَوَلَّهُم ۩ على الولاية المُطلَقة الكاملة بالأمرين معاً، قالوا هذا كافر وصحيح هذا كافر بلا شك، فهو كالمُنافِقين الذين كانوا مندسين مع رسول الله، ولذلك صرَّحت آية النساء بأنهم فعلاً شرٌ حالاً من الكفار، طبعا لأنهم كانوا كافرين في الباطن ويُحِبون ظهور الكفار على المسلمين وظهور أعداء المسلمين على محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأشياعه، أما الوجه الثانى فقد تأولوها بأنها من باب المجاز، أي نوع من المبالغة تشديداً في الأمر وكأنه يقول مَن يفعل هذا عاد كأنه واحدٌ منهم، فهو يقول كأنه واحد منهم ومن ثم يستحق ويستحق لكنه في الحقيقة ليس واحداً منهم.
الوقت أدركنا فعلى كل حال اقرأوا السياق بطوله وسوف ترون أن السياق يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين نُهيَ المسلمون عن توليهم وموالاتهم كانوا محاربين والسياق كله في حرب، قال الله فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ۩، فإذن تُوجَد حالة حرب هنا، الحديث عن قتال ومصاولات ومجاولات، فالجو كله جو حربي، وآيات التولي الأخرى ينطبق عليها نفس الشيئ، سوف تجدون ما يدل فيها على هذا المعنى، والله – تبارك وتعالى – يقول الحق وهو يهدي إلى السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

(الخُطبةالثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين امنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى وآله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخواني وأخواتي:
إذا وضح وإذا صح وترجَّح المراد بالولاية والتولي دون أن نُضطر إلى التفريق بين الموالاة والتولي كما فعل بعض العلماء النجديين – فرَّقوا بينهما ولست أدري هل لهم سلف في هذا أم ليس لهم سلف، ولكنها تفرقة يبدو أنها دائرة على ملاحظة أيضا موارد الآيات الكريمة وظواهرها، وعلى كل حال هى قابلة للنظر فيها – وعرفنا معنى الولاية أو التولي أو الموالاة فهذا أمر جيد، علماً بأن الإمام ابن الأثير الجزري – صاحب الموسوعة الكبيرة في تفسير ألفاظ الأحاديث الغريبة وهى موسوعة النهاية في غريب الأثر رحمة الله تعالى عليه – أول ما ذكر في هذه المادة ذكر الولي، قال من أسماء الله الناصر، أول معنى من المعاني النُصرة، فالولاية لها علاقة بالنُصرة بالمُعاوَنة وبالمُظاهَرة، فإن انضم إليها حب القلب انتهى كل شيئ، من باب الدنو تدنو من عقائدهم وتدنو من مصالحهم، لأن الولي مصدر، فالولي بمعنى الدنو والقرب، قال عليه السلام كُل مما يليك، أي مما هو قريب منك، وقال أيضاً ليلني أولى الاحلام منكم والنهي، أي ليقف خلفي في الصف الأول الألباء الفطناء الأذكياء العلماء، ويُقال لك تباعد بعد وليٍ، المطر حين يعقب المطر ويأتي بعد المطر بسرعة يقال له الولي، لأنه يأتي بسرعة ومن ثم هو قريب منه، والعلّامة الشوكاني عنده كتاب ماتع عظيم إسمه قطر الولي على حديث الولي يشرح فيه حديث الولي الذي يقول من عاد لي ولي فقد بارزني بالحرب، فالولي هو المطر بعد المطر، وهذا معنى أنه قريب ظاهر بحسه وقريب أيضاً بمعتقده وبطنه والعياذ بالله – نعوذ بالله من الحور بعد الكور – ثم يزعم أنه مسلم ويزعم أنه مؤمن، لماذا؟ هو مُنافِق مُندس – والعياذ بالله – ولابد أن نكون واضحين.
على كل حال إذا تبين أن هذا هو الراجح أو الأرجح – بإذن الله تعالى – فأنا أقول لكم أننا لسنا مُضطَرين حالة إذ أن نحمل الآيات التي نهت عن موالاة غير المسلمين مُطلَقةً من غير قيد – مثل قيد مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ ۩ – على الآية التي أتت بالقيد، وهذه هى القاعدة لكن بشروطها طبعاً وأنتم تعلمون الحالات الأربع فيحمل المطلق على المقيد، لكننا لا نضطر إلى هذا، لماذا إذن؟ لأن الموالاة معناها أصلاً أن تنصر الكافرعلى المسلم حباً في دينه وحباً لنُصرته على الإسلام وأهله والعياذ بالله، وطبعاً هذا بلا شك يُنهىعنه دائماً وفي كل عقل فضلا عن كل نحلة وملة ودين، لا يُمكِن أن يخون إنسان أهله وأهل دينه وطائفته ثم يُقال هذا متعايش، فهذا خائن، والأجدر به والأليق أن يلتحق بمَن أحبهم جهاراً نهاراً وعياناً بياناً، فلا ينبغي أن يكون مدغولاً مدسوساً في أناس يكذب عليهم ويختدعهم وبالعياذ بالله تبارك وتعالى، لكن ما دون هذه المعاني – كما قلت لكم وأتيت بالديل – من حُب النسب أو حب السبب فهذا أمر مُختلِف، فأنا قد أحب كافراً أو غير مسلمي لسبب، مثل مصلحة دنيوية وبالتالي هذا جائز، فهو أحسن إلىّ ومن ثم أنا أُحِبه من هذه الحيثية، والنبي قال مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والله قال هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ۩، والأكثر من هذا: هل النبي بكى على أبي طالب أم لم يبك؟ بكى وحزن حزنا شديداً عليه وعلى زوجه طبعاً خديجة وسُميَ هذا العام بعام الحزن، والمشهور عند أهل السنة والجماعة أن أبا طالب مات مُشرِكاً، فلماذا يحزن عليه؟ لماذا كان يُحِبه؟ كيف لا يحبه وهو عمه؟ هذا نسب طبعاً، وكيف لا يُحِب عمه وقد حاطه وذب عنه وحامى عنه ودافع بكل ما يستطيع حتى قال فيما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً ما نالتني قريش شيئا أكره – أي بشئ أكره – إلا بعد موت ابي طالب، فهو قال نالوا مني وفعلوا الأفاعيل بعد موته طبعاً، والأكثر من هذا ما كان مع المطعم بن عدي الذي سعى في جماعة من فضلاء القرشيين المشركين كأبي البختري- مثلاً – في نقض الصحيفة الظالمة – صحيفة المقاطعة – على أنه جمع إلى هذا فضيلة أُخرى وهى أنه وافق أن يدخل النبي في جواره مُنصرَفه من الطائف – من ثقيف – وخشيَ النبي أن تنال منه قريش شيئاُ يؤذيه ويكرهه، فعرض نفسه على فلان وعلى فلان فأبوا وقالوا نحن حلفاء والحليف لا يجير، حتى أتي مطعم بن عدي وخرج هو وأولاده في سلاحهم وقال له أدخل يا محمد فدخل، ومن ثم النبي لم ينسها له، ولذلك قال كما في صحيح البخاري في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدي حياً وكلَّمني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له، أي لتركتهم له، وانتبهوا إلى الأكثر من هذا، فهنا لابد أن يقف وقفة هؤلاء المُغالون من مُتنطعي المسلمين في باب الولاء والبراء والتشديد على الناس وتضييق ما وسع الله، حسان بن ثابت يبكي مطعم بن عدي، فهو يبكيه ولم يرثه فقط بل رثاه وبكاه، قال:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا.
هذا شيئ عجيب، فلماذا تبكي؟ قال أبكي عليه – أبكى على المطعم – لأننا لم نجد كافراً مثله في مجده، قال:
وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا مَنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا.
حتى هذا مما أُخذ على حسان وقيل فيه نوع من الاعتياص، فهو يقول هذا رجل ماجد عظيم، وهذا معنى قوله:
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا مَنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا.
إذن حسان يبكى على مطعم بن عدى، والنبى في بدر رأى ورأى غيره من الصحابة أبا البختري في ظهور المُشرِكين يقاتل المسلمين فنهى عن قتله، قال لا تنالوا من أبى البختري، أي لا تقتلوه، لماذا لا نقتله وهو كافر مُشرِك أتى لكي يُحارِب؟ أبو البختري سعى في نقض الصحيفة، أبو البختري كان يتودد إلى النبي، أبو البختري لم يبلغ النبي عنه شيئ يكرهه منه، كان أكف قريش عن رسول الله، لا يسبه ولا يطعن فيه، ولكنه كان كافراً وظل مع الكفار، ولذا نهى النبي عن قتله في بدر، هل رأيتم أخلاق رسول الله؟ هل رأيتم عظمة إنسانية رسول الله؟ كأنه يقول هذا كافر بي وبربي وبكتابي وبديني وأتيت لكي تُحارِبني ولكنني سأحفظ لك يدك، فالنبي لم يقل ليس بعد الكفر ذنب، هذا في باب الكفر والإعتقاد لكن في باب المُحاسَنة والمُكافأة يختلف الأمر، ولذلك قال النبي مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ، هذا محمد صاحب الخلق العظيم، قال الله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩، صلى الله على محمد وآل محمد.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً وفقهاً ورشداً برحمتك يا أرحم الراحمين، قِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلِح ذات بين المسلمين، اللهم ألِّف بين قلوبهم، اللهم ألِّف بين قلوبهم، اللهم اهدهم سبل السلام وادرأ عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩, وأقم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (28/8/2015)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: