إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل وعز – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ۩ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا ۩ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ۩ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ۩ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ۩ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ۩ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ۩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ۩ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ۩ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩

 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

ربما مررتُ بالدوحة أو بالشجرة الفينانة المُثمِرة فغشيني حزن ورانت علىّ حسرة، ها هى ذي الشجرة تُثمِرُ كل موسم، فبالله ما بال دوحاتنا وما بال أشجارنا يمر بها الموسم والموسم والموسم ويُوشِك أن ينقضي العمر دون أن تُثمِر؟!

لماذا نُصلي ونسجد ونصوم ونقوم ونتهجد ونحج ونعتمر ونتصدَّق ولا تُثمِر دوحتنا؟!

لماذا هذا الفقر الروحي؟!

لماذا لا يُمَن علينا ولا نحظى بهذه الفرحة الروحانية ؟!

قال الله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۩، فلماذا لا نحظى بهذه الفرحة الروحية حين نرى شجرة النفس وقد أثمرت ثمار التُقى والوصال والمحبة والخشية والإنابة والتوكل والاعتماد والاحتساب والرقابة وإلى آخر هذه المعاني السامقة الجليلة؟!

سؤالٌ أحسبُ أنه يجدرُ بـ ويحق على كل مُؤمِن ومُؤمِنة أن يطرحه على الدوام على نفسه لئلا نكون كالذين قال الله – تبارك وتعالى – فيهم عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ۩، فننصب ونعمل ونتعب ثم لعلنا لا نحظى بالقبول – والعياذ بالله – وليس ينبغي أن ننتظر إلى يوم الحساب لنرى نتيجة الحساب، يُمكِن أن نعرف طرفاً من الأمر الآن وهنا حين ننظر إلى هذه الدوحة وإثمارها، هل تُثمِر أو لا تُثمِر؟!

ويُلخِّص هذا الإثمار كلمةٌ واحدة وهى أن يكون لك وأن يكون بينك وبين مولاك – لا إله إلا هو – سرٌ لا يعلمه إلا هو وأنت، السادة العارفون – عرَّفنا الله به ودلنا عليه كما دلهم وعرَّفهم – قالوا “مَن لم يكن بينه وبين مولاه سرٌ فهو مُصِرٌ على القطيعة، لم يتب منها”، إذن أنت المُصِر لأنك لست راغباً في وصال الله – تبارك وتعالى – ولست راغباً أن تصل إليه وإلى حضرته، فأنت من أهل الإصرار – والعياذ بالله – لأن الكرم واسع والمنة فائضة فلماذا لا يمتليء إناؤك الصغير؟!

الكرم واسع بحجم الأكوان كلها ولو كان إلى الأكوان أكوانٌ وأكوانٌ ليس مُنقطَع النفس بل مُنقطَع الفكر والخيال لوسعتها الرحمة ولعمها الكرم الإلهي، فلماذا لم يمتليء هذا الإناء الصغير إلى الآن؟!

لأنك غير مُقبِل، أنت مُصِر على أن تكون مُدبِراً عن الله تبارك وتعالى، فهكذا قال العارفون.

في هذه الخُطبة سنُعرِّج كثيراً على هؤلاء السادة الأجلاء الألباء الكُرماء الحُذقاء الذين هم أهل الله وأهل الحضور في حضرة الله وأهل وصال الله – تبارك وتعالى – لأنهم الأساتيذ ولأنهم الأشياخ، إذا تعلَّق الأمر بفقه القلوب والنفوس وبفقه السير إلى الله – تبارك وتعالى- وبجوهر الدين – هذا جوهر الدين، هذا روح الدين – ومعنى الدين وروح الدين فالأُمي منهم الذي لا يكتب ولا يقرأ هو أستاذ وإمام، والعالم فينا صاحب التصانيف والمُؤلَّفات الحفيلة في أحكام الفقه وعلوم الشريعة المعروفة من الأصلين والحديث والتفسير وما إلى ذلكم أُمي وذلك إذا كان خلواً من هذه العلوم للأسف، وأكثر الناس خلوٌ من هذه العلوم فلا يعلمون فيها شيئاً لأنها ليست علوم أوراق، هذه العلوم لا تُؤخَذ من الورق فتُحفَظ وتُردَّد، ليست كذلك وإنما هى علوم الخبرة والتجربة، علوم مَن ذاق عرف، علوم الذين سلكوا الطريق وأصبحوا خُبراء عارفين خريتين بها وبمعالمها وببُنياتها أيضاً، فهؤلاء هم الأساتيذ.

مبنى الدين على هذا المعنى، قال الله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩، كما أنه قال أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، وقال أيضاً وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۩، فضلاً عن أنه قال بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ – اللهم اجعلنا منهم – وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، قال سعيد بن جبير أن معنى بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ۩ أي أخلص دينه لله، فهو مُتبِع لسُنة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً – على أن الإحسان كما تعلمون جميعاً كما ورد في حديث مُسلِم وأصحاب السُنن من حديث أبي حفص الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فكأنه كان حقيقاً أن يقول بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ۩، فالمُحسِن هو الذي أخلص دينه لله تبارك وتعالى لأن النبي فسَّرها هكذا، فهذا هو الإحسان إذن، لكن بالله مَن عبد الله وتوجَّه إليه كأنه يراه – تعبد الله كأنك تراه – هل يلتفت إلى سواه؟!

مُحال.

ومَن عبد الله تبارك وتعالى – منزلة المُراقَبة هذه أنزل قليلاً، فتلك كانت منزلة المُشاهَدة وهذه منزلة المُراقَبة – وهو يعلم أن الله يراه أيضاً هل يلتفت إلى سوى الله وهو يعلم أن الله مُطلِعٌ عليه في كل لحظاته وخطرات نفسه على مدر الساعة؟!

قال الله يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩ لا إله إلا هو، فهل يُمكِن أن يلتفت المسلم إلى غير الله؟!

ومَن علم أن الله هو الواحد الأحد الصمد لا يُمكِن أن يلتفت أيضاً إلى غير الله، ومعنى الصمد الذي يُصمَد إليه في الحوائج، فإذا نابك أمرٌ أو دهتك داهية أو كرثتك كارثة أو احتجت حاجة أو ألجأتك ضرورة، فإلى مَن تفزع وإلى مَن تنفر؟!

مِن مَن تطلب؟!

في مَن ترغب؟!

بمَن تثق وعلى مَن تتوكَّل؟!

به وعليه وإليه وحده لا إله إلا هو، ولذا سُميت هذه السورة سورة الإخلاص، والحديث الآن عن الإخلاص وهى إسمها سورة الإخلاص، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ اللَّهُ الصَّمَدُ ۩، ليس ثمة إله آخر معه – لا إله إلا هو – حتى يُصمَد إليه أيضاً أو يُطلَب أو يُرجى أو يُخشى، كلا هو واحدٌ أحد لا إله إلا هو، فلا يُصمَد إلا إليه ولا يُطلَب إلا هو، جلّت سبوحات وجهه – لا إله إلا هو – في عليائه، ولذلك هى سورة الإخلاص وإن قال مِن العلماء مَن قال “سُميت بالإخلاص – وهو قول له وجهٌ بلا شك – لأنها وقفٌ على الله، فهى خالصة في وصف الله، فلا يُوصَف بالأحادية إلا الله ولا يُوصَف بالصمدية إلا الله، لا يُوصَف بأنه لا كُفء ولا ند ولا مثال له إلا الله، فهى خالصة لله في وصفه”، وهذا معنى جميل ولكن لعل الأجمل والأقوم – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – هو الذي ألمعت إليه وأشرت إليه، فهذه هى إذن سورة الإخلاص، ولذلك كلمة الإخلاص ما هى؟!

في حديث النسائي وغيره كان – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – إذا أصبح يقول “أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص – يُعلِّم أصحابه أن يقولوا هذا وهو يقوله أيضاً بنفسه – ودين نبينا محمد – صلى الله عليه وآله – ومِلة أبينا إبراهيم حنيفاً مُسلِماً وما كان من المُشرِكين”، إذن أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، فما هى كلمة الإخلاص؟!
هى لا إله إلا الله، لا معبود ولا مطلوب ولا مرغوب إليه إلا الله لا إله إلا هو، هذا الإخلاص وهذه هى كلمة الإخلاص.

والإخلاص يُطلَق بإزاء الشرك، فيوم القيامة يُبعَث الناس إما مُخلِصين – أي مُوحِّدين – لكن تحقَّقوا بالتوحيد أو مُشرِكين، وعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن ليست العبرة بالعناوين كأن تحمل عنوان “لا إله إلا الله” وتعيش في حياتك وألف ألف إله في حياتك، فالمال إله والهوى إله والبطن إله والفرج إله والمصلحة إله والتصنع للناس وطلب المكانة عند الناس وطلب المحمدة عند الناس والاعتبار في المُجتمَع كل هذه آلهة، كلها آلهة من دون الله، فما هذا التوحيد؟!

هل حقاً أنت من أهل “لا إله إلا الله” لتكون من المُخلصين ومن أهل وجماعة كلمة الإخلاص الذين تحقَّقوا بها، بلا إله إلا الله؟!

هذا شيئ عجيب، الأمر بقدر ما هو واضح وبسيط فهو صعبٌ جداً، ولذلك لما قيل لسهل بن عبد الله التُستري – قدَّس الله سره – أي شيئٍ أصعب على المرء؟!

قال “الإخلاص”، قيل: لم؟!

قال “لأنه لا حظ للنفس فيه”، فمعنى أن تكون مُخلِصاً – اللهم اجعلنا من عبادك المُخلِصين ومن أوليائك الصادقين بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله – هو ألا تطلب بعمل الآخرة شيئاً من حظوظ النفس في الدنيا، هذا هو الإخلاص فلا تطلب بعمل الآخرة، والكلام الآن ليس في عمل الدنيا، ولن نتحدَّث عن تلكم المقامات الرفيعات العاليات الباذخات كمقام كبار أولياء الله وأحبابه وخاصته وخِلصانه الذين تقريباً لا يكادون يعملون عملاً إلا ويكون عملاً للآخرة، فحتى أكلهم وشربهم ونومهم وصمتهم وكلامهم وفي كل شيئ يقومون به يكون من أجل الآخرة، ولذلك لن أتحدَّث عن هذا المقام العالي حتى لا نستشعر شيئاً من اليأس، فيُمكِن أن ييأس بعضنا ويقول: نحن إذن أشبه بالضائعين وبالسُدى، لا شيئ لدينا، فما هذا؟!

نُحِب أن نتواضع مع أنفسنا ونعرف أقدار نفوسنا الضعيفة المُقصِّرة، ولا أقول المُرتابة المُتشكِّكة ولكن الضعيفة والمُقصِّرة، فاللهم قو في رضاك ضعفنا وقونا على طاعتك على الوجه الذي يُرضيك منا وعنا يا رب العالمين، إذن هذا الإخلاص صعب والنفس تكره الإخلاص لأنه لا حظ لها فيه، حيث تعمل عملا ولا تلتفت البتة – مُطلَقاً لا تلتفت – إلى الناس سواء مدحوك أو ذموك أو اطعلوا عليك أم لم يطلعوا عليك أو كرهوك وسلقوك بألسنتهم وحقروك بعد إذ أنت مُجتهِدٌ جداً في العبادة أم لم يفعلوا، هذا يُعَد أمراً عادياً بل أن هذا هو الأفضل، فالمُخلِص يقول “هذا أفضل لي، الحمد لله فلعله يتقبَّل مني بعض هذه العبادات التي أقوم بها وأُسِرها ولا أستعلن بها، فأنا أعبده والحمد لله الناس يسلقونني والناس يحقرونني وهذا أفضل لي”، لكن أفضل من ماذا؟!

مما لو احترموه ووقَّروه وقبَّلوا الأيادي وقالوا له يا سيدنا ويا مولانا ويا فضيلة الشيخ، فهذه مُصيبة – والله – ومن هنا كان أولياء الله – الصحابة والتابعون فمَن بعدهم ومَن دونهم – يكرهون الشهرة جداً ويُحِبون الخمول، يُحِبون ألا يعرف أحدٌ بأعمالهم التي لا يُبتغى بها إلا وجه الله ولو كان هذا الأحد زوجةً أو ولداً فضلاً عن أخٍ وخلٍ وفي، يقول الإمام محمد بن واسع البصري مُستجاب الدعوة -رضوان الله تعالى عليه – “ربما بكى أحدهم عشرين سنة ولا تعلم به زوجته”، أي يبكي من خشية الله عشرين سنة وهى لا تعلم أنه يبكي من خشية الله، يُحاوِل ويجتهد جداً ألا تعرف زوجته هذا طبعاً، ليس في البكاء فقط وإنما في قراءة القرآن وفي الصدقات وفي الدعاء وفي الصيام وفي القيام وفي الإقبال على الله، في كل شيئ فأمثال هذا الرجل يخفون هذا، ولعله طبعاً يُشير إلى نفسه بهذا الكلام لأن هذه هى طريقة الصالحين حيث أنهم يتكلَّمون عن آخرين وهم يقصدون نفوسهم وفقاً لما فهمناه عنهم، فرضوان الله عليهم، فلماذا يطلع عليه الناس وهم ليسوا أرباباً لنا؟!

لماذا يطلع الناس على عملي وأنا لا أتقرَّب بهذا العمل إليهم؟!

مَن هم هؤلاء أصلاً؟!

هم مثلي ضائعون، هم لا شيئ، هم غرقى، هم عدم مثلي.

أنا – والله – ما وجدت أعقل من أولياء الله تعالى، والله الذي لا إله إلا هو والذي لا يُقسَم إلا بعزته وجلاله كلما تفكَّرت وكلما تعمَّقت وجدت أعقل عباد الله وأذكى وأكيس عباد الله هم الأولياء وهم العارفون بالله، قل كبيرة ولكن لا تقل لي أنك مُؤمِن وتُؤمِن بالله ولقاء الله ثم إذا فتشت نفسك وجدت أن مُعظَم أو عُظم عملك لغير الله، فأين عقلك إذن؟!

لا عقل لك، لا تقل لي ولا تُحدِّثني عن عقلك لأنه لا وجود لهذا العقل، لا عقل لك ولا عقل لي إذا كُنا هكذا، لكن العقل لهؤلاء الذين لما أيقنوا به – لا إله إلا هو – وبلقائه فلم يطلبوا إلا وجهه وحده ولم يفعلوا هذا سنة أو سنتين أو مرة أو مرتين تصنعاً لعله يُقيم لهم وزناً بين عباده ويلفت إلى مقامهم، فهذا هو شرك الباطن، ومن ثم الذي يفعل هذا هو مُشرِك أيضاً، فهل تُخادِع الله تبارك وتعالى؟!

هل يستطيع أحد أن يخدع الله، يتعبَّد ويتحنَّث ويُخفي عبادته ولكنه نيته غير سليمة؟!

لكن عن مَن تُخفي هذه النية؟!

هل تُخفي هذه النية عن مَن يعلم السر وأخفى؟!
هو يعلم منك ما لا تعلمه من نفسك، يعلم أنك إنما تفعل هذا لأنك تتلمح شيئاً أيضاً من عرض الدنيا مثل رغبتك في أن الله يُوسِّع عليك وأن الله يضع لك القبول والمحبة في قلوب الخلق وأن الله يرفع اعتبارك وأن الله يُظهِر أنوارك، وكل هذا شرك، إذن أنت ما قصدت الله بل أنت قصدت نفسك، هذ يعني أنك تعبد نفسك لأنك لم تعرف الله.

اللهم عرِّفنا بك يا مَن أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الحي القيوم، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث.

والله هذه بلية، أُقسِم بالله إنها بلية عظيمة جداً ولا منجا لها إلا الله تبارك وتعالى، ولذلك أنا تلوت خواتيم سورة الكهف من أجل الآية التي في الآخر والتي تقول فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۩، فليس المقصود هنا الشرك المعروف كأن يتحنَّث أحدهم للات أو العُزى أو هُبل أو مناة، ليس هذا فالصحابة جاوزوا هذا والمُؤمِنون جاوزوا هذا المنطق السخيف والمنطق الوثني المفضوح والمنطق الطفولي الذي لا يليق بإنسان راشد عاقل الذي يتوجَّه فيه إلى الله وإلى الصنم وإلى حجر وإلى خشبة، إنما نزلت هذه الآية في صحابي من أصحاب رسول الله – رضوان الله عليهم – حيث قال “يا رسول الله إني أُحِب أن اُجاهِد في سبيل – أنا رجل أُحِب القتال في سبيل الله، لست ذاك الحريص على الدنيا والبقاء فيها – ولكني أُحِب – أي في الوقت نفسه بجانب أنني أُجاهِد في سبيل الله – أن يُرى مكاني” أي مقامي وأنا أُناضِل وأصول وأجول وأُجندل في الكفّار وأُقاتل، فيُعرَف أنني كنت جريئاً وقوياً، فسكت النبي عنه، ما هذا؟!

هل تُحِب هذا وهذا؟!

هل تُحِب أن الله يراك والناس يروك أيضاً في نفس الوقت؟!

لذلك النبي سكت، فأنزل الله هذه الآية وسمى الله هذه النية شركاً فقال فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ ۩ إذن هذا هو الشرك، فأن تُحِب أن الله يراك والناس يروك يُعَد شركاً، أن تُحمَد عند الله ويحمدك الناس بعملك يُعَد شركاً، لكن ينبغي أن تتوجه إلى الله فقط لأن لله وحده الدين الخالص، في صحيح مُسلِم يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمَن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه.

وليس له شيئ يوم القيامة، ولذلك إذا ذكرنا الإخلاص نذكر الإحسان، فهو الإخلاص، قال الرسول أن تعبد الله كانك تراه، وقلنا مَن كان في هذا المقام – رقَّنا الله وإياكم إليه – من المُستحيل أن يلتفت إلى سوى الله، لأن الحضور في مقام أو لأن القيام في حضرة الله تبارك وتعالى يُعَد شيئاً عظيماً، الكون في حضرة الله – تبارك وتعالى – هو كون في حضرة أعظم عظيم وأكبر كبير وأكرم كريم وأرحم رحيم طبعاً، فتفنى حين تحضر في هذا المقام، وحين تستحضر الله تفنى عن العالمين، تفنى عن الدنيا والآخرة وحتى عن الجنة والنار تفنى، ولذلك الحضور في مقام عظيم مثل هذا أو الكون في مثل هذا المقام هو كون في مقام بهت وخرس وجلال ورهبة، ولذلك الذين زيَّنهم الله وأكرمهم بكرامة التقوى والإخلاص والإحسان يكونون على أدب أعلى مما يتخيَّل المرء منا مع الله تبارك وتعالى، لديهم أدب عجيب، حتى أن أحدهم – قدَّس الله سره – قال “ما مدتت رجلي في مجلس ذكر وعبادة أربعين سنة”، وذلك لأنه يستحضر أنه في حضرة الله الآن فلا يمد رجله، هذا مُستحيل كما هو مٌستحيل أن تمد رجلك لو كنت في حضرة الرسول أو في حضرة عالم وشيخ جليل، والآن أنت في حضرة الله فعليك بالأدب، ولذلك عوِّد نفسك على الأدب حتى حين تقوم إلى الصلاة، قال الله يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ۩، فالله يُعلِّمنا الأدب هنا ويقول للواحد منا تأدَّب حين تقوم بين يدي، ولذلك النبي نهى – وفي الظاهر هذا نهى تنزيه، ولكن هذا النهي للمُخلِصين والصادقين فاللهم اجعلنا منهم – أن يُصلي الرجل في ثوبٍ واحد ليس على عاتقه أو عاتقيه منه شيئ، أي وهو مكشوف العاتقين كأنه ذهب لكي يُقابِل رجل يسير في الشارع، وهذا عيب فلا يُوجَد أي أدب هنا لأنك لا تُقابِل كبيراً في قومك بهذه الهيئة، فكيف تقف بين يدي الله بها؟!

عليك أن تلبس لباساً جيداً وتُسرِّح لحيتك إذا كنت مُلتحياً وتستعطر وتقف بالإجلال والهيبة تُصلي حتى تنتفع من الصلاة، وأعتقد أن هذا بعض الجواب عن لماذا لا نُصلي ولا ننتفع بصلاتنا؟!

لأننا لا نُصلي بأدب، ولذلك مَن فارق الأدب أو فارقه الأدب طُرِدَ من الحضرة إلى البساط – كأنه يُقال له ارجع وتأخَّر، فبقلة الأدب سوف تتأخَّر عند الله ولا تتقدَّم ولا تصل -، ومَن فارق الأدب في البساط رُدَّ إلى الباب – الآن الطرد -، ومَن فارق الأدب عند الباب رُدَّ إلى سياسة الدواب، فاذهب واجلس مع الدواب هذه وارع لك بهيمة أو سُوس لك دابة، وهذا شيئ عجيب، فبعد أن كان في الحضرة – في حضرة الملك العلي الأعلى لا إله إلا هو – يُرَد إلى سياسية الدواب بسبب فُقدان الآداب، هو ليس مُتأدِّباً مع الله، ومن هنا ستقول لي: يا ويحنا – والويح لنا نحن – ويا ويلنا – والويل لنا – كيف نتناول كتاب الله أحياناً؟!

كيف نسخر من أشياء تتعلَّق بالله وبالربوبية وبالقرآن؟!

لأن القلوب مُظلِمة والأرواح غير مُتصِلة، فنحن محجوبون ونحن مطرودون، فحُقَّ لنا أن نبكي طويلاً على أنفسنا، فاللهم لُطفك الخفي يا رب العالمين.

قال الله إذن في الحديث الشريف فمَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، يُحدِّث أحد الصالحين قائلاً: كنت أتلو وأنا في غُرفة مُطِلة على الشارع ذات ليلة سورة طه – يُحدِّث عن نفسه رحمة الله عليه – فلما ختمتها أخذتني سنة من النوم فغفوت غفوة فرأيت كأن نازلاً من السماء ينزل – أي مَلك – ومعه كتاب فتحه أمامي فنظرت فإذا بسورة طه مكتوب أجر تلاوتها بإسمي – أي مكتوب أجر تلاوتها لفلان ابن فلان – وتحت كل كلمة عشر حسنات – رآى الرجل الصالح هذا في المنام – إلا موضع كلمة فإنه محوٌ ولم يُثبَت فيه شيئ – كلمة واحدة غير موجودة ولا يُوجَد عشر حسنات – فسألت المَلك لم؟!

طبعاً الآن يعلم معنى الكرامة الإلهية ومعنى الأجر، فالحسنة والعشر حسنات لها قيمة كبيرة في الآخرة، والله حسنة واحدة – أُقسِم بالله – يوم القيامة لتُبدِّينها وتُفضِّلنها على الدنيا وما فيها يوم القيامة هناك لأنها أفضل من الدنيا وما فيها، وهذه كلمة واحدة من سورة طه، قال الرجل الصالح: فسألت المَلك فقال بلى قد كتبناها فنُودينا أن امحوها – امحو هذه الكلمة – وامحو ثوابها، فبكيت وقلت لم وقد تلوتها؟!

قال “لأنك حين تلوتها مر رجلٌ فرفعت صوتك بها”، إذن حدث هنا خلل في النية فانتهى كل شيئ، فهذه ليست لوجه الله، وكأن الواحد منا يُريد أن يقول للناس أنه يقرأ في الليل قرآن، إذن لن تحصل على الأجر، وهذا درس بليغ في الإخلاص، لكن بعض الناس يقول “يا حسرتنا، يا حمقنا، نحن نتلو ونُصلي ونقوم ونتصدَّق في الخلاء وليس في الملأ – في خلوة – ويستر الله علينا ولعله يتقبَّل منا ثم نأتي ونُحدِّث الناس”، فيقول الواحد منا “صلينا كذا وكذا – الحمد لله – وختمنا في رمضان كذا وكذا ختمة وتصدَّقنا بكذا وكذا”، هؤلاء أذن مساكين حيث يُوجَد حمق ولا يُوجَد إخلاص لأنها لم تُفعَل إلا لله، هذا إذن لم يكن معمولاً لله، لو معمول لله لفرحت به ولكظمت عليه، فتضن – والله – به أكثر مما تضن على الُر والياقوت والألماس، وتقول أن هذا لي وبالتالي لن تعرفه زوجتي ولا أبي ولا أمي ولا أبنائي ولا أحد، هذا لي لأنني سأحتاجه يوم القيامة، فلماذا يعرفونه هم إذن؟!

أصلحنا الله وإياهم، أدعوا لهم بمثل ما أتاك الله من هذا الخير، ولكن لماذا يعرفون عملي؟!

شيخ خُراسان بل وشيخ الإسلام عبد الله بن المُبارَك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كان يعتاد زيارة طرسوس ببلاد الشام، وكان إذا أتى هناك ينزل في خان – مثل Hotel اليوم – بالرقة، وكان إذا نزل في ذاكم الخان يختلف إليه أحد أحبابه وتلاميذه من الشاميين فيخدمه ويقضي حوائجه ويسمع منه الأحاديث بالسند المُتصِل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً، ففي نوبة في إحدى تلكم السفرات وصل ابن المُبارَك إلى الرقة ونزل في الخان ولم يأته الشاب، فتفقَّده وقال: أين فلان؟!

قالوا “محبوسٌ في عشرة آلاف درهم” أي هو مدين وغارم بعشرة آلاف، والقاضي سجنه حتى يُقضى دينه، قال “فكَّ الله أسره” ثم تسلل دون أن يدري به أحدٌ من رفقته – أي أن الإمام ابن المُبارَك شيخ الإسلام هو الذي تسلَّل – وسأل عن غريمه الدائن فدُل عليه، فأتى إليه ووزن له عشرة آلاف – كانت بالميزان – فضية درهم واستحلف بالله ألا يُخبِر بهذا أحداً وهو حي، قال له طالما أنا حي سألتك بالله ألا تُخبِر بهذا أحداً من عباد الله، فأعطاه الرجل هذا، وعاد ابن المُبارَك وكأن شيئاً لم يكن، وهذا شيئ غريب فلم يُعرَف عنه هذا إلا بعد وفاته، فالرجل تحدَّث بعد وفاته عنه وكان باراً بيمينه، فهؤء الناس كانوا أصحاب كلمة، فإذا استحلف أحدهم الآخر لا يُحدِّث أحداً أبداً وينتهي كل شيئ، فحين مات ابن المُبارَك بدأ الكل يتحدَّث ببعض كراماته وأعماله الطيبة فتحدَّث هذا الشامي وقال كان من شأنه العجب حيث حدث كذا وكذا وكذا.
المُهِم هو أنه عاد إلى جماعته وحين قضى غرضه من تلكم السفرة شد الرحال وانطلق تلقاء بلاد العراق ففارس، أدركه الشاب على مرحلتين من الرقة فقال له الإمام ابن المُبارَك: أين أنت يا فلان فقد افتقدناك ولم نرك؟!

قال “يا إمام كنت مسجوناً أو كنت محبوساً في عشرة آلاف”، قال وكيف خرجت؟!
قال”لا أدري حيث أن أحدهم قضاها عني، فجزاه الله خيراً”، قال “جزاه الله خيراً وبارك الله فيك”، كأنه يقزل “الحمد لله أنه لم يقل لهم”، ولكن بعد أن مات ابن المُبارَك درى الناس ودرى هذا الشاب أن ابن المُبارَك هو الذي قضى عشرة آلاف فضية عنه، فإذن هذا هو الإخلاص والعمل لله، ولذلك – كما قلت لكم – كانوا يكرهون الشُهرة جداً.

سُفيان الثوري يقول أصلح شيئ لقلبي – أكثر شيئ أجد فيه قلبي وروحي وحياتي مع الله – عز وجل – حين أكون بمكة أو بالمدينة – وهو في الكوفة طبعاً، هو عراقي، ومع ذلك لم يقل أكثر شيئ أجد فيه قلبي وروحي وحياتي مع الله حين أكون في العراق، هو لا يُحِب بلده لانه كان معروفاً فيها بالعالم الجليل والولي الصالح وهو طبعاً لا يُحِب هذا بل يكرهه ويكتئب منه، كأنه يقول أكثر شيئ أجد فيه قلبي وروحي وحياتي مع الله حين أكون هناك بين أُناس فقراء من عامة المسلمين لا يعرفونني، فأعيش بينهم كأحد العامة، وبالتالي هناك أجد قلبي وأُصلي وأصوم وأبكي ولا أحد – الحمد لله – يعرفني.

ولذلك كان أيضاً من هديهم – رضوان الله تعالى عليهم وعنا أيضاً معهم أجمعين بفضله منه في هذا الشهر الكريم وهذه الأوقات الطيبة – أنهم لا يتطوَّعون في مساجد حاراتهم، فالمسجد الذي يكون في حارته التي يعيش فيها لا يتطوَّع فيه، وتسمعون بالتابعي الجليل الأواه المُخبِت المُنيب تلميذ مولانا وسيدنا عبد الله بن مسعود الربيع بن خُثيم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حيث أن ابن مسعود كان يُحِبه جداً وكان إذا رآه يقول”الله أكبر، وبشِّر المُخبِتين والله لو رآك يا ربيع رسول الله لأحبك”، هذا الرجل كان رجلاً عابداً ومُخبِتاً، وكان عنده جارية في البيت تخدمه ولكنه لا يتسرى بها – أي لا ينام معها – لأنه كان مشغولاً بالعبادة علماً بأنه لم يكن مُتزوِّجاً، ففي ذات يوم قال له أحد إخوانه “يا ربيع أتيتك في البيت أسأل عنك فقالت جاريتك الزرقاء لست ثمة، لست هناك”، قال: أوهيَ زرقاء؟!

هكذا خرجت منه كلمة، قال: ماذا؟!

ولم ترها؟!

فسكت الربيع، وهذه جاريته التي امتلكها واشتراها بالنقود والتي كان بوسعه أن يأتيها ولكنه لم ينظر مرة في وجهها ليعلم أن عينيها زرقاوان لأنه كان مشغولاً بشيئ آخر وهو الله، فهذه حالة عجيبة من الإقبال على الله والإعراض والرغبة عن هذه الدنيا وما فيها على الرغم من أن البعض قد يعترض ولا يروق له هذا، وطبعاً نحن لا ندعوكم إلى مثل هذه الأشياء والحياة، فلو أن الناس سلكوا هذا المسلك لتعطَّلت هذه الحياة، ولكن مَن يستطيع أن يسلك إلا مَن وفَّقه الله؟!

لكن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جله، بل بالعكس نحن لا ندعو إلى تعطيل المعائش والزواج أبداً، وبالتالي ندعو إلى عمارة الدنيا وتمدينها وتحضيرها ولكن مع قلب موصول أبداً بالله – لا إله إلا هو – ومع إخلاص حقيقي في النية وفي القول والعمل، فوالله لو تحقَّقنا ببعض هذا ولو فعلنا هذا – قد أكثرت الحلف في هذه الخُطبة – لرأينا بركات هذا تعود علينا سريعاً سريعاً، لكن الآن نحن نعيش النقم، نقم التباغض والتناحر والتحارب والتكافر والتدابر والتشانؤ بإسم الدين وبإسم الله ورسوله، لأننا فقدنا سر الإخلاص فلم نُعن بهذا، وجعلنا – كما قلت في الخُطبة السابقة – الدين كل شيئ إلا أن يكون ديناً وإلا أن يكون روحاً وإلا أن يكون نفساً بارئة طاهرة زكية، قال الله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩، وإلا فأين الدين إذن في حياتنا؟!

هذا هو الدين إذن ، فلنتمسَّك ببعض هذا الدين، يقول أحد إخوان الربيع بن خُثيم “ما رُؤيَ سوى مر واحدة – مرة واحدة فقط في الدهر – مُتطوِّعاً في مسجد حارته” لأنه يُعرَف إذا تطوَّع وصلى سيقولون “ما شاء الله صلى مائة ركعة” وهو لا يُريد هذا أبداً وبالتالي هو يُصلي الفرض فقط أمام الناس.

يقول أحد أحباب وتلاميذ شيخ الإسلام – كان عنده لقب شيخ الإسلام في وقته وهذا شيئ عجيب – محمد بن أسلم الطوسي وهو من أكبر رواة وعلماء وحفّاظ الأحاديث في تاريخ هذه الأمة المرحومة “صحبته أزيد من عشرين سنة ما تطوَّع لله إمام أحد من خلق الله”، أي أنه لا يُصلي إلا الفرض فقط، أما التطوَّع فلا يكون إلا في الخلوة، فيفعل هذا في البيت، حيث لا يراه الناس، فهذا إذن إخلاص عجيب.

أبو أُمامة البَاهليّ صاحب رسول الله – رضيَ الله عنه وصلى الله على رسول الله وآله وسلَّم – يمر بشاب ساجداً في المسجد لله – تبارك وتعالى – وهو يبكي، عيناه تذرفان من شدة البكاء، وبعد أن انصرف الشاب من صلاته – أي انتهى – أقبل عليه صاحب رسول الله – هؤلاء هم تلاميذ النبي محمد الذي علَّمهم هذا – وقال له “يا بُني أنت أنت”، وفي رواية”نعمة أنت”، كأنه يقول له “ما شاء الله عليك، أنت جيد، ثم قال “لو كان هذا في بيتك بعيداً عن عيون الناس”، أي يا ليت تُصلي وتبكي في البيت وليس أمام الناس سيكون أفضل كثيراً قال له وليس في المسجد، طبعاً.

الإمام أبو الحسن عليّ – عليه السلام ورضيَ الله عنه وأرضاه – بن أبي طالب تحدَّث عن علامة المُرائي، والمُرائي عكس المُخلِص وعكس المُحسِن، فالمُحزِن بل المُخيف في الحق أن الرياء صفة من صفات المُنافِقين وهى أيضاً صفة من صفات الكافرين، فالكفّار يُراءون وهذا مفهوم لأن الكافر لا يطلب وجه الله فيُرائي بعمله، وبالتالي الكافر لا يعمل عملاً كهذا، إذن إما أن يطلب بالعمل وجه الله وإما أن يطلب به المدحة عند الناس والمقام عند الناس، ولذلك قال الله تبارك وتعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ۩، فقول الله وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ هو بمثابة وصف للكفّار، فواضح جداً من سياق الآية وسباقها ولحاقها أنها في الكفّار، فالرياء صفة تليق بكافر وتليق بمُنافِق اعتقاد ولكنها لا تليق أبداً بمُؤمِن عرف الله أو زعم أنه عرف الله ويعرف الله، فالرياء إذن شيئ خطير، ولذلك يوم القيامة يُبعَث المُرائي ويُقال “المُرائي فُلان ابن فلان”، ولا يُقال “عبد الله” فضلاً عن أن يُقال “العابد التقي الأواه المُنيب” وإنما “المُرائي” فيُفتضَح على رؤوس الخلائق، ولذلك ورد في الخبر “مَن راءى راءى الله به يوم القيامة ومَن سمَّع سمَّع الله به يوم القيامة”، ولكن ما معنى سمَّع؟!

أي أن الرجل يعمل عملاً صالحاً ويُريد أن يسمع به الناس فيُقال عنه فلان عمل، ولكنه يوم القيامة سيُفضَح وسيُنادى عليه بالمُنافِق وبالمُرائي وبالمُسمِّع، ولذلك الفُضيل بن عياش وهو رأس من رؤوس أولياء الله المعروفين مَن هم كان يتلو قوله تبارك وتعالى من سورة القتال – من سورة محمد – وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ۩ ثم يقول “يا الله، ربنا إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا، فاللهم سترك”، يطلب أن الله يستر عليه، وكان يقول أيضاً “مَن شاء أن ينظر إلى مُرائيٍ فلينظر إلىّ”، قال “أنا مُرائي”، وطبعاً هذا لا تُصدِّقوه لأنه قال هذا من باب التواضع ومن باب هضيمة النفس، فمعروف مَن هو الفُضيل بن عياض ولكن هو يرى نفسه مُرائياً بالضبط كما كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعليّ وعثمان ومُعاذ وأبو ذر الغفاري يرون أنفسهم مُرائين وغير مُخلِصين لأنهم لا يرون أنفسهم – هذه هى علامة إخلاصهم – ولا يرون عملهم لأنهم يُدرِكون معنى:

ولو أن نفسي مذ برأها مليكها                   مضى عمرها في سجدة لقليل

فلو قضى أحدنا سبعين سنة مُتواصِلة في سجدة واحدة يجب أن يعلم أنه لم يقم بشيئ من حق الله – لا إله إلا هو – الذي أوجده من لا شيئ، فالله أوجدك من عَدم وأمدك من عُدمٍ، ولا أحد يستطيع أن يقضي عمره كله في سجدة، إذن لابد أن تعلم أن كل شيئ تعمله هو في حقيقة الأمر لا شيئ، ولذلك النبي نبَّهنا وقال “والذي نفسي بيده لن يدخل أحدكم الجنة بعمله”، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!

قال “ولا أنا حتى يتغمَّدني الله برحمة منه أو قال من عنده”، أي أن بالرحمة سوف ندخل الجنة وليس بالعمل ولكن لابد أن نُنقي العمل، لابد أن نُخلِص في العمل.

حتى لا أنسى لابد أن أقول أنه خطر لي أن أُفرِّق بين الإخلاص والصدق لأن بعض الناس لا يُفرِّقون بينهما فبلا شك بينهما تداخل كبير، لكن هناك بعض الأولياء وبعض العلماء الحاذقين فرَّقوا بينهما تفرقة دقيقة، فما هو الفرق بين الإخلاص وبين الصدق إذن؟!

خُلاصة الفرق – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – أن الإخلاص في التوجه، مَن تُريد وإلى مَن تتوجَّه بهذا العمل الطيب وبالصلاة وبالصوم وبالزكاة وبالحج وبالجهاد وبالتعليم وبالعلم وبكل عمل طيب كالتواضع الذي تُظهِره للناس وطيب المُعامَلة وطيب العشرة فضلاً عن أي شيئ يُتقرَّب به إلى الله؟!

أي شيئ حسن تطلب به وجه مَن وترجو به مَن؟!

إذا كنت لا تطلب به إلا وجه العلي الأعلى والولي المولى – لا إله إلا هو – فأنت مُخلِص – اللهم اجلعنا منهم – لأن هذا هو الإخلاص في التوجه، أما الصدق يكون في النية ويكون في القول – قالوا – ويكون في الفعال أيضاً، فالصدق في النية مثل قوله – تبارك وتعالى – في الأحزاب مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ ۩، إذن هم عاهدوه في نواياهم وقالوا “يا رب عهدٌ منا أن لك علينا وعندنا عهدٌ أن نُقاتِل في سبيلك ونُقتَل، سنظل نُطلب أن نُقتَل ونُستشهَد في سبيلك وفي سبيل مرضاتك وإعلاء دينك حتى نلقاك وأنت عنا راضٍ”، وهكذا يجب أن نرجو، فهذه هى النية إذن، علماً بأن الله شهد لهم بأنهم كانوا صادقين في نواياهم وفي عزماتهم، يسألني بعضكم وأسأل نفسي – قائلاً:أنا كان لدي نية أن أقوم الليلة ولم أقم وغداً كان لدي نية أن أتهجَّد، فلماذا إذن؟!!

لأنك لست صادقاً في نيتك، فقط هذه هى الإجابة، فلو كنت صادقاً لأُعِنتَ، هذا هو الصدق، قال الله مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ۩، مثل حدي شدّاد بن الهاد الذي تعرفون قصته جميعاً في الحديث الجميل العجيب، شدّاد بن الهاد هو ذاك الصحابي الجليل الشهيد الذي قاتل مع رسول الله ثم غنموا – علماً بأنني حدَّثتكم به ربما قبل فترة بسيطة – شيئاً فالنبي قسم لأصحابه وأعطاه حظه فقال: يا رسول الله ما على هذا اتبعتك”، قال: فعلام إذن؟!

قال “اتبعتك على أن أُقاتِل في سبيل الله”، أي كأنه يقول أن نيتي ليست أن آخذ غنيمة، ولكن أنا نبيتي وعهدي مع الله شيئ مُختلِف، فما هو يا عبد الله؟!

قال شدّاد بن الهاد “على أن أُقاتِل في سبيل الله فأُرمى بسهمٍ ها هنا – أي في نحره – فأُقتَل شهيداً”، فقال عليه الصلاة وأفضل السلام وآله “إن تصدق الله يُصدِّقك”، أي أن الله سيُصدِّق وسيُظهِر صدق هذه النية بحسب صدقك، إذن هذا هو الصدق، ومن ثم علينا الآن أن ننتبه إلى هذا، فهل عند الواحد منا نية حقيقية أن يفعل أم عنده نية مُزعزَعة؟!

بعض الناس يقول عندي نية ولكن نيته مثل ذكر الله في سورة التوبة وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۩، الآيات تتعلَّق بحديث ثعلبة وإن كان في سنده كلامه معروف طبعاً للمُحدِّثين ولكن المعنى واضح، وهى نازلة في قوم – أي في واحد أو أكثر – دون أن نعلم تحديداً إذا كان المقصود هو ثعلبة أو غير ثعلبة لكن لآيات واضحة، وهذا يحدث معنا كثيراً، إذن بعض الناس يقول “يا ربي إن آتيتني كذا وكذا وإن مننت علىّ بكذا وكذا وإن أنجحت صفقتي لك علىّ أن أتصدَّق بعشرة آلاف ليرة أو يورو أو بعشرة آلاف شيئ حسن”، ثم أن الله يُعطيه ما طلبل بل وربما يُعطيه أكثر مما طلب، وحين يجد الجد يقول “عشرة آلاف كثير لوجود ديون وفواتير الكهرباء والغاز والماء فضلاً عن أنني كنت أعطي يوم كذا وكذا” فيجعل العشرة سبعة، ثم أنه حين يُعطي السبعة يُخرِج للأسف خمسة ونصف وهو يقول “إن شاء الله سنُكمِل لك فيما بعد بقية المبلغ”، أي أن في نهاية المطاف لن يُخرِج العشرة الآلاف لأن النية كاذبة، فهو لم يكن صادقاً،مُنذ البداية، وطبعاً بعض الناس لا يُعطي شيئاً أصلاً وهذه كارثة، فهو لا يُعطي شيئاً وهذا يُعَد نفاقاً، قال الله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۩، إذن هذه هى علامة المُنافِق وهى أيضاً تُورِث النفاق، فالصدق شيئ مُهِم جداً لكي نبرأ من النفاق ومن غوائل النفاق، فإذا كان عندك النية أن تُعطي عشرة آلاف أعط العشرة الآلاف دون أن تتردَّد ودون أن يطرف لك جفن، والأحسن لكي أكون صريحاً هو أن تجعلهم خمسة عشر وليس فقط عشرة آلاف وقل الله يسَّر لي بسرعة وأنا اُعطي من كثير”، إذن أُعط من فضله يزدك، فإنك إن تفعل يزدك لا إله إلا هو.

نحن نعيش في امتحانات أو في امتحان موصول، إذن فهمتم أن الصدق في العزمات، ونعود إلى الحديث الشريف لأنه هو المُهِم الآن:

وبعد جولة وجولات أُوتيَ برجل محمولاً وقد وقع سهمٌ في نحره، فالنبي نظر إليه مُتأثِّراً وقال: أهو هو؟!

قالوا “نعم” ، قال “صدق الله فصدَّقه”، يقول الصحابي “فما أدلاه في حُفرته – يعني ما قبره ودفنه – إلا رسول الله بيديه الشريفتين”، رجل صادق، هذا الصدق، فهل رأيتم الإخلاص في التوجه والصدق في النية وفي الإرادة وفي العزيمة وفي القول؟!

كيف يكون الإخلاص في القول؟!

حين تقول أنا أُحِب الله يجب أن تكون صادقاً، فانتبه وحذاري أن تكون كاذباً أو تقول أخشى الله، وطبعاً الأفضل ألا تقول وألا تمدح نفسك أمام الناس لا بالخشية ولا بغيرها، اسكت أحسن لك، ولكن إن خرج منك بعض القول عليك أن تتحرى الصدق وأن تكون صادقاً، فإياك أن تصف نفسك بأنك مِمَن يخشى الله وأنت لا تخشاه أو بأنك مِمَن يتقي الله وأنت لا تتقيه أو بأنك أو بأنك أو بأنك وأنت لست كذلك، هذه مُصيبة كبيرة، يقول سري السقطي خال الإمام الجُنيد شيخ الطريقة – قدَّس الله سره – مَن تزيَّن للناس بما ليس فيه سقط من عين الله، وإذا سقط العبد من عين الله هل يرتفع؟!

سيهوي.

إياك إذن أن تسقط من عين الله، ولكن كيف تسقط من عين الله؟!

تسقط من عين الله حين تتكثَّر وتتزيَّن بما ليس فيك، حين تُظهِر للناس خشوعاً او إخباتاً أو تواضعاً أو إيماناً أو إحساناً أكثر مما عندك وفيه، فإياك أن تفعل لأن الرجل الصادق يفعل العكس.

يقول عبد الله بن المُبارَك الذي ذكرته قريباً حين سُئل عن إبراهيم بن أدهم أن فيه كلاماً جزلاً قوياً جميلاً، وقال ما رأيت أبا إسحاق إبراهيم بن أدهم دُعيَ إلى وليمة إلا ويكون آخر مَن يرفع يده، ولكن لماذا يفعل هذا؟!

الذي يُحِب بطنه والأكول الذي لا يشبع وغير الزاهد يفعل هذا، فلماذا يفعل ابن أدهم هذا وهو زاهد؟!

يفعل هذا لئلا يُقال زاهد، فهو لا يُحِب أن يقول الناس عنه أنه زاهد وأنه ما شاء الله يا أخي يأكل لُقيمات كالعصفور ويقوم أول واحد، لا يُريد هذا بل يُحِب أن يقوم آخر واحد، وطبعاً هو يظل يُشاغِلهم كأنه يأكل وهو لا يأكل إلا قليلاً جداً لأنه كان رجلاً زاهداً فعلاً كان، علماً بأن والد إبراهيم بن أدهم كان أميراً في فارس وعنده قصور، ومع ذلك ترك إبراهيم بن أدهم كل شيئ وهام على وجهه طلباً لرضوان الله – عز وجل – حتى لقيَ الله، فهو كان يتأخَّر في القيام عن الوليمة بسبب الإخلاص ولئلا يُقال زاهد.

وعلى ذكر ابن ادهم – قدَّس الله سره الكريم – يقول الفُضيل بن عياض “أدركتُ أناساً كانوا يُراءون بما يعملون – يتصدَّقون ويراءوان ويحجون ويُراءون، ويصلون ويُراءون وهكذا – والآن أرى أُناساً يُراءون بما لا يعملون”،هم كذّابون، فهؤلاء فقدوا الإخلاص والصدق مرة واحدة، ومن ثم يكذبون حتى في أقوالهم ويدّعون أنهم كذا وكذا وهذا كذب، يعني الأولون الذين ذكرهم هلكى لأن مَن يفعل هذا هالك وهؤلاء أيضاً كذلك، فمَن يُسمِّع بعمله وبكذا يُعَد هالكاً ولا يُقبَل منه شيئاً والله قال تركته وشركه، فلن يُقبَل منك، فكيف بالذي – والعياذ بالله – يُسمِّع ويُراءي بشيئ لا يعمله؟!

قال الله لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، فالواحد من هؤلاء يدّعي أنه كذا وهو ليس كذلك، فهذه مُصيبة إذن، وهذه درجة فائقة في الكذب والتدجيل والعياذ بالله تبارك وتعالى.

إبراهيم بن أدهم على ذكره – رضوان الله تعالى عليه – عمل مرة في النطارة – أي الحراسة، وحتى الآن العامة تقول ناطور، والمصدر نطارة والإسم أيضاً نطارة، أي صنائع وفعالة ونجارة وحدادة – ناطوراً لبُستان رُمان فقال له سيده – صاحب البُستان الذي يخدم عنده – مرة “يا إبراهيم ائتني برُمانة واستحلها” أي تكون حلوة، فقطف له رُمانة فإذا هى حامضة، قال “هذه حامضة، ائتني برُمانة حلوة” فأتى بثانية فإذا هى حامضة، فقال له: تأكل رُماننا ولا تُميِّز حلوه من حامضه؟!

قال “والله ما ذُقته قط”، وطبعاً هو لا يعرف أن هذا هو إبراهيم بن أدهم، هو يحسب أن هذا الرجل هو مُجرَّد ناطور، ولكم أن تتخيَّلوا أن ولي الله الصالح الكبير يشتغل ناطوراً ولا أحد يعرف، لكن هؤلاء كانوا يُحِبون هذا هم دائماً، فيشتغلون مثل هذه الوظائف ويُنظِّفون المساجد ويسافرون من بلد إلى بلد حتى لا يدري بهم أحد ولا يُدرى بهم، المُهِم هو أن إبراهيم بن أدهم قال “والله ما ذُقته قط”، فقال سيده “كأنك إبراهيم بن أدهم”، أي أنه يسخر منه، فهل أنت ورع لدرجة أنك لم تذقه وكأنك إبراهيم بن أدهم؟!

والسيد لا يدري أنه نعم أمام ابن أدهم بشحمه ولحمه ودمه فغدا من تاليه – أي غدا سيده وصاحب البُستان في اليوم الثاني – إلى المسجد ليُصلي وليُحدِّث الناس عن ما حدث، وقال لهم أنا عنده خادم قال كذا وكذا وهو يسخر منه، فسألوه عن أوصافه فقالها، فقال بعضهم تالله لكأنه ابن أدهم يا رجل، فالمُهِم هُرِعَ الناس إلى البُستان فسمع إبراهيم بن أدهم أصواتهم وضجيجهم وهم يقولون “ابن أدهم، ابن أدهم”، فاختبأ وراء الأشجار ثم اختلط بهم وجعل يقول: أين ابن أدهم؟!

ثم فر فلم يره أحد، قال الله فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۩، فنسأل الله أن يجعلنا فرَّارين من الشُهرة والشهوة والشُبهة ومن نظر الناس ومحمدة الناس والتصنع للناس إلى رحمة الرحمن الرحيم – لا إله إلا هو – وأجره العميم الجزيل الكريم، وعلى ذكر فراره هناك قصة تتعلَّق بالتابعي الجليل والولي الصالح محمد الذي كان يقول: إني لذات ليلة بالمسجد وإذا برجل حذاء الأسطوانة – عند عمود كبير – واقفٌ وقد قنَّع رأسه – وضع شيئاً على رأسه حتى لا تتضح معالم وجهه، فكان مُتقنِّعاً كالمُقنَّع – وأنا أُصلي وأدعو فسمعته يقول بصوتٍ خفيض فيه خشوع وإخبات “يا سيدي ومولاي، يا ربي قد جهد القحطُ – أي شقَّ واشتد القحطُ – بالناس وإني مُقسِمٌ عليك بك يا رب إلا ما سقيتهم”، قال ابن المُنكدِر “فلم يلبث المطر أن انهمر”، الله، وهذا يتعلَّق بحديث مُسلِم عن أبي هُريرة وحديث الترمذي عن أنس الذي يقول رب أشعث أغبر ذي طمرين – أي ثوبين خلَقين مُهلهَلين – لا يُؤبه له – في رواية مدفوعٍ بالأبواب، كأن يٌقال له اذهب بعيداً وما إلى ذلك – لو أقسم على الله لأبره، أي أنه يقول له يا رب أُقسِم عليك بك إلا ما فعلت كذا وكذا والله يفعل له مُباشَرةً وهذا شيئ مُخيف، وكان يشق على ابن المُنكدِر أن يخفى عليه أحدٌ من أهل الله لأن كانه شديد الغرام بهم، فاللهم عظِّم هذا الغرام في نفوسنا، علماً بأن هناك معلومة مُهِمة سأُعطيكم إياها وقد أجمع عليها كل أولياء الله وهى”إذا وجدت في قلبك حناناً لأولياء الله ومحبة لهم وشوقاً وطوقاناً إليهم فهذه هى البُشرى لأنك بعون الله فيك صلاح، وإن شاء الله أنت على أقدامهم وفي طريقهم بإذن الله اليوم أو غداً، وإن وجدت عكس هذا – وهذا موجود ونلمسه من بعض الناس، سُبحان الله لديهم نفور شديد من أهل الله ومن العارفين بالله ومن المُؤيَّدين بتأييد الله وسوء ظن بهم وغمز وطعن في القدماء وفي المُحدَثين وفي المُعاصِرين، وأكثر شيئ في المُعاصِرين طبعاًوحتى في القدماء من أولياء الله – فهؤلاء لا تترددوا محرومون محرومون – والله – محرومون طبعاً”، لأن أولياء الله أُناس أقرب إلى الله منا ويُذكِّرون بالله، فالأمر لا يقتصر فقط على منطقهم، وإنما منطقهم وأنواراهم وهديهم وسمتهم وتصرفاتهم تُذكِّر بالله لأنهم مع الله، كيف تكرههم يا رجل ولا تُحسِن الظن بهم؟!

مَن أنت يا رجل؟!

أنت محروم ومحجوب وقلبك مُظلِم والعياذ بالله.

إذن الإمام ابن المُنكدِر كان يُحِب جداً أن يعرف أولياء الله، فتعجَّب من وجود هذا الولي الذي لا يعرفه في المدينة المُنوَّرة، قال “فلما انصرف من صلاته انصرفت أنا واتبعته – أمشي خلفه تسللاً – وعلمت منزله وتركته، فلما أصبحت بعد صلاة الفجر غدوت عليه فإذا بنجرٍ – صوت نجارة، واحد ينجر – فاستأذنته فأذِن لي فدخلت فإذا هو ينجر أقداحاً بين يديه – يصنع أقداحاً وأكواباً من خشب وينجرها لأنه كان نجّاراً – فقلت له صبَّحك الله بالخير أو كلمة مثل هذه، فشُدِه الرجل واستعظمها – لأنه رجل فارسي ويبدو أنه مولى أو عبد أو خادم، فواضح أنه إنسان غلبان وكان فارسياً، لكن ابن المُنكدِر كان سيداً من سادات المدينة علماً ونسباً وحسباً وصلاحاً وعبادة ومن ثم استعجب الرجل من أنه قال له هذا لأن الكلمات التي مثل هذه لا تُقال لأمثاله – ولما رأيت انشداهه قلت له يا أخي سمعتك الليلة تُقسِم على ربك – أي فُضِحَ سره – فصمت، فيا أخي هل لك في خيرٍ مما أنت فيه أن أُغنيك بما أعطاني الله تبارك وتعالى – قال له أنا سأعطيك مُرتَّب شهري – لكي تفرغ لأمر آخرتك؟!
هؤلاء هم الصالحون الذين يُحِبون الصلاح ويُحِبون أن يفرغوا الناس للعبادة، ومن هنا قال ابن المُنكدِر لهذا الولي الصالح من المُفترَض ألا تعمل أنت نجّاراً وأنه بأمر الله سيُخصِّص له راتباً أو معلوماً شهرياً على أن يتفرَّغ للعبادة ليل نهار، لكن هذا الولي رفض وقال له ” غير ذلك أُريد”، أي أنه يُريد شيئاً ثانياً إذا أراد أن يُقدِّم له خدمة، قال ابن المُنكدِر “فقلت أطلب يا أخي”، فقال “ألا تذكرني لأحد – أي إياك تقول ما رأيت وما سمعت لأحد من عباد الله – وألا تأتيني في الدار – لا تأت لزيارتي – فإنك إن أتيتني شهرتني في الناس”، لأن الناس ستعلم أن ابن المُنكدِر يذهب عند الفارسي ومن ثم سيعتقدون أنه من الرجال المُهِمين وسيعلمون أن دعوته مُستجابة وهو لا يُريد هذا، قال ابن المُنكدِر”قلت فإني والله أُحِب أن ألقاك يا أخي”، فقال “تلقاني في المسجد”، أي القني في المسجد، قال ابن المُنكدِر “وانصرفت وتركته”، يقول ابن وهب “فما هى إلا أيام قليلة حتى اختفى الفارسي”، أي أنه ترك المنزل كله وترك كل شيئ ولم يُدر أين ذهب، فلا يعلم أحد إذا كان سافر إلى العراق أو إلى خُراسان أو إلى غير ذلك لأنه اختفى من المدينة المُنوَّرة كلها وتركها، فهو لا يُريد أن يعرفه أي أحد أو أن يعرف سره مع الله تبارك وتعالى، ثم قال “فكان أهل المنزل – أهل المنزل جرَّبوه ويعرفونه فيما يبدو ورأوا بركاته – يقولون الله بيننا وبين ابن المُنكدِر، أخرج عنا الرجل الصالح”، أي أن بسبب هذه الفعلة عدمنا بركته بعد أن كان عندنا.

نسأل الله أن يُصلِحنا له – لا إله إلا هو – بأسمائه الحُسنى وصفاته العُليا بما أصلح به عباده الصالحين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.


(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

لو ذهبنا نتقصَّى طرفاً من أخبار الصالحين والعارفين من أصحاب رسول الله وأتباعهم وتبع أتباعهم فمَن دونهم لما كفانا ليس خُطبة ولا مئات الخُطب لأنهم كانوا بفضل الله في هذه الأمة المرحومة بالألوف، كانوا كثيرين وقد أصبحوا – لا يزالون موجودين – قليلين، ولذلك الله – تبارك وتعالى – حين ذكر السابقين المُقرَّبين قال ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۩ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ۩، أي أن العدد ينقص، لذلك أكثروا من مُطالَعة الأخبار والآثار والحكايا عن مثل هؤلاء الأماجد الأماثل من أهل الله وخاصته وأحبابه لكي تحيا – والله – بها القلوب، فكما قال الإمام أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الحكايا عن العلماء والصالحين أحب إلىّ من كثيرٍ من الفقه، أي أن سماع قصص هؤلاء الصالحين أحسن عندي من أن أتعلَّم المسائل الفقيهة، وشيخ الطائفة أبو القاسم بن محمد الجُنيد – قدَّس الله سره – قال “الحكايا جُندٌ من جند الله يُثبِّت الله بها قلب مَن شاء مِن عباده، فقالوا: هل مِن شاهد؟!

أي من أين أتيت بهذا المعنى؟!

هل يُوجَد شاهد على قولك أن الحكايا عن الصالحين وعن فلان وعلان جُند من جُنود الله وأن الله يُثبِّت بها القلوب؟!

قال “نعم، الشاهد هو قوله تبارك وتعالى – أي في هود – وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۩“، فالحكايا عن الأنبياء وعن الصالحين والعُرفاء والأولياء وأهل الله شيئ تُثبِّت القلوب وهذا شيئ عجيب، وأنصح نفسي وإخواني بالحكايا عن المُعاصَرين بالذات الذين عاشوا في وقتنا وفي مُدتنا مثل الشيخ فلان والشيخ فلان ومِمَن بعضهم حي وبعضهم درج إلى الله – تبارك وتعالى – ومضى إلى الله سعيداً إن شاء الله تعالى، لأن الشيطان يأتي ويقول لك “الله أعلم هل الحكايا عن الماضين الله أعلم صحيحة أم مُلفَّقة ومُزوَّرة، وحتى لو كانت صحيحة فذلك يعود إلى أن الناس في القديم كانوا ما شاء الله قريبين من منبع النور ومن العهد النبوي السعيد فكثر فيهم الصلاح ولكن الآن لا صلاح وانتهى كل شيئ”، لكن إذا سمع المرء بعالم أو بصالح أو بأُمي حتى ولكنه من أهل الصلاح ومن أهل التأييد في أهل عصره نشطت روحه ونفسه إن كانت طاهرة – إن كانت نفساً صالحة – إلى طلب مثل هذه المقامات، فيتساءل عن ما ينقصه ليكون مثل هؤلاء الصلحاء ويقول: سأعمل مثلما عمل – إن شاء الله – وأكثر ربما لأصل إلى مثل ما وصل إليه وأكثر إن شاء الله تعالى، فلماذا هو طيب وأقرب إلى الله وأحسن عند الله مني وأنا لست كذلك؟!

هذه هى الغيرة المحمودة، قال الله وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩، ولكن انتبهوا إلى أنكم سوف تجدون مِن الناس – كما قلت قُبيل قليل في الخُطبة السابقة – مَن يُنكِر بالذات على عصرييه مثل هاته الأشياء، فلا يُصدِّق بوجود شيخ أو عالم أو رجل صالح في المُعاصِرين أكرمه الله – عز وجل – لأنه لا يُحِب هذا، وقد وصف هذه النزعة الإمام أبو الحسن الشاذلي – قدَّس الله سره – بالإسرائيلية، قال “إنها والله لإسرائيليةٌ”، وذلك لأن بني إسرائيل آمنوا بموسى الذي مات وخلا مُنذ زمن ولم يُؤمِنوا بمحمد الذي كان موصوفاً في كتابهم وأحبارهم الصادقون يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ ۩، فكفروا به لأنه كان مُعاصِراً لهم ولأنهم رآوه يمشي بينهم بلحمه ودمه فلم يُؤمِنوا به وآمنوا بموسى فقط، فقال أبو الحسن الشاذلي عن هذه النزعة “إنها والله لإسرائيليةٌ”، فالواحد من هؤلاء يُصدِّق بحكاية أو بحكايا عن أولياء ماضين ولكنه لا يفعل هذا مع أي أحد من الأولياء المُعاصِرين، فمثلاً مولانا العارف بالله الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – الذي كنا نُشاهِده في التلفزيون – Television – وجاء مرة على فيينا ينتقده البعض لأنه كان مُعاصِراً لهم.

كثيرون من المُعاصِرين مُؤيَّدون ولهم مقامات وأحوال وكرامات وأشياء عجيبة والله بفضل الله تبارك وتعالى وقدم صدق مثل الشعراوي وغير الشعراوي، فرضيَ الله عن أرواحهم الطاهرة، والشيخ الشعراوي مكث فترة في الحرم المكي ولكنني لا أدري – والله – كم هى بالضبط لأنني أُحِب أن أكون دقيقاً، ولكنه على كل حال درَّس فترة طويلة تصل ربما إلى بضع سنين – تصل تقريباً إلى سنتين أو ثلاثاً أو نحو ذلك – فكان مسموحاً في تلك الحقبة بهذا، وكان يجلس ويُدرِّس للناس ويُفسِّر كتاب الله احتساباً لوجه الله، ثم التُفِت إليه وإلى مقامه في العلم لأنه عالم جليل ومُحقِّق والله فتح عليه ورجل منطيق ما شاء الله ومحبوب وله القبول عند الناس ويُسهِّل العلم – قدَّس الله روحه الطاهرة – ففرضت له الحكومة هناك في المملكة مُرتَّباً وبأثر رجعي، يعني أنت – مثلاً – تُدرِّس من ثلاث سنوات، اضرب في اثني عشر شهراً وستكون الحصيلة ستة وثلاثين شهراً، وبالتالي سيأخذ في كل شهر كيساً من الأموال كما كان يقول، وأُوتيَ الرجل بكيس من النقود – كيس الريالات – فرفض – رضوان الله عليه – وقال: ما هذا؟ هذا مُستحيل ولن آخذ منه فلساً واحداً” على الرغم من أنهم قالوا له يا شيخ مُتولي هذا حقك، قال: الآن أنتم وظَّفتموني وبالتالي سآخذ مالاً بدءاً من هذا الشهر، أما ما مضى فلا والله لا أرجع في نيتي، كانت نيتي أنني أفعل هذا لوجه الله احتساباً، ومن ثم لا يُمكِن أن أرجع في نيتي وأن أكذب مع الله، فأنا لا أُتاجِر لأنني لست تاجراً مع الله ولكن أنا عبد”

هذا هو الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – ولذلك كان بركة، الشعراوي لا يخرج من تحته داعش أبداً ولا يخرج من جُبته قتلة أو تكفيريون أو أُناس يسبون ويلعنون ويُزندِقون ويُكفِّرون أو أُناس يُمزِّقون الأمة، لكن خرج من جُبته كل خير وبركة هو والشيخ الغزالي وأمثال هؤلاء الأماثل والأماجد الطيبين، بسبب الإخلاص والصدق عندهم.

اذهبوا إلى النت – Net – واكتبوا الشيخ الشعراوي واقرأو عنه من أحياء يُرزَقون، وبعضهم علماء دين وبعضهم رجال أعمال وبعضهم ناس عاديون وبعضهم مُمثِّلون ومُمثِّلات، وانظروا إلى كرامات الشيخ الشعراوي ولكن ليست تلك التي قرأناها عنه في الكتب أو التي سمعناها من حديث هيان بن بيان وإنما الكرامات التي عاشوها بأنفسهم، فالشيخ عمر عبد الكافي – مدَّ الله في عمره – أعتقد أنه صهر الشيخ الشعراوي – لست مُتأكِّداً ولكنني أظن أنه صهره – ويحكي قصة عجيبة جداً موجودة في النت Net حيث قال له الشيخ الشعراوي – رحمة الله عليه – مرة هيا يا عمر نذهب نُصلِح امرأة على زوجها، وكانت امرأة عادية من عُرض الناس ومع ذلك يذهب إليها بكل تواضع الإمام الشعراوي الذي كان يذهب إلى بيوت الناس العاديين ويُضيِّع من وقته ساعة ذهاب وساعة إياب وساعة لكي يجلس ويُصلِح امرأة على زوجها ، فهو كان من هؤلاء الذين يطلبون وجه الله، لكن الآن يُوجَد مِن الدُعاة مَن إذا تقول له تعال اعمل مُحاضَرة يقول لك كم الحضور؟ فإذا قلت له أن الحضور سيكون بحسب ما يتيسَّر يقول يرفض فلابد أن يكون الحضور بالآلاف لأنه لا يُضيِّع وقته ويسافر من أجل أن يُحاضَر في عشرة أو عشرين أو خمسين أو ستين أو سبعين، هذا مُستحيل ومن ثم قد يغضب مثلما غضب بعضهم غضباً شديداً جداً عندما حدث مع هذا، والناس أُسقِط في يديها وتعجبوا من الذي يحدث وقالوا أين الدعوة والعمل الصالح إذن؟!

الإمام أحمد بن حنبل يقول لأحد إخوانه تدري مَن الإمام ؟ فقال له مَن؟ فقال له “الإمام هو سُفيان الثوري ولا أحد يعدله في قلبه”، أي لا أحد له مكانة سُفيان الثوري في قلب ابن حنبل، وسُفيان كان إذا جلس لا يسمح بأن يكون في حلقته إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة، فإن زادوا قام من الحلقة لأنه لا يُحِب هذا مخافةً أن يُعجَب بنفسه وأن يظن أنه يُعَد عالماً كبيراً والناس تطلب علمه، وذات مرة نسيَ نفسه وهو يتحدَّث ويتكلَّم فاستغرق في الحديث واتسعت الحلقة – ربما أصبحوا عشرة أو عشرين – فلما أدرك قام وقال “أُخِذنا والله وما نشعر، أُخِذنا والله وما نشعر”.

جاء سُفيان الثوري مرة إلى مكة ولم يكن معروفاً بها ولكنه عُرِف شيئاً فشيئاً فتكاثر عليه الناس أيضاً فقال “والله أخشى أن يكون الله قد ضيَّع هذه الأمة – يعني أسقطها من نظره – إذ جعلي مثلي يُحتاج إليه”، أي كأنه يقول ويكأن هذه الأمة ضائعة لأن الناس فيها تحتاج له.

نعود إلى قصة الشيخ الشعراوي مع عمر عبد الكافي الذي قال له سنذهب لنُصلِح امرأة على زوجها، قال عبد الكافي: فوافقته وحين اقتربنا من العمارة قلت له يا مولانا ما القصة؟!

قال له “هذه المرأة سيدة فاضلة وأبوها تاجر خمر كبير ومشهور في البلد،وأبوها الآن أوقع الشقاق بينها وبين زوجها ويُريد أن يُطلِّقها من زوجها”، قال عبد الكافي: فقلت له لماذا؟!

قال “لأن أباها – تاجر الخمر الكبير الشهير هذا، الله يهديه ويُصلِحه – يخونه مُدراء عمله – أي يقومون بسرقته لأن جميعهم يخونونه – أما ابنته كانت تُدير العمل قبل ذلك وكانت لا تخونه، فيُريد الآن أن يُطلِّقها – ما شاء الله على هذا الأب الحنون الرهيب الذي يُريد أن يخرب بيت ابنته – لكي تعود تُدير تجارة خمره فلا تُنهَب”، قال عبد الكافي “فانقبضت نفسي من القصة كلها بسبب ذكر الخمر وما إلى هنالك فلم أُحِب أن أخرج معه، فقلت له يا مولانا أنت اخرج وأصلح بينها وبين زوجها، فقال يا عمر سوف تخرج وتنزل معي، فقلت أنزل يا مولانا وأنا مُمتعِض وكاره للخروج لأنني كنت كارهاً لهذه القصة كلها المليئة بهذه الأشياء العجيبة، فلما صرنا أمام الباب – باب الشقة – قال لي جدد النية – هذا يدل على أن الإمام الشعراوي كان يفعل كل شيئ لله، فالقصة لا تتعلَّق بإصلاح زوجين وينتهي الأمر وإنما يُريد أن تكون نيته في كل شيئ خالصة لله – فقلت في نفسي والله أنا غير راغب ولكن من أجل حق الشيخ، فنظر إلىّ من فوره وقال دع حق الشيخ – أُقسِم بالله حدث هذا واسمعوها من عمر عبد الكافي – واجعلها لله”، ما هذا؟!

هل كان لدى الإمام الشعراوي القدرة على أن يسمع ما في نفسك؟!

هذا هو الشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – إذن الذي كنا نسأل عن سر الفتوحات التي كانت تنهال عليه، لكن طبعاً سيقولون لكم “نحن قلنا لكم أن عدنان إبراهيم رجل دجّال ومُخرِّف ومُؤسطَر وغلبان وتائه، والآن لم يجد إلا الشعراوي ليتحدَّث عنه”، ثم يبدأ يُعطيك درساً طبعاً في القدح في مولانا العارف بالله الشيخ الشعراوي، لكن أنا أقول لك لأني أُحِب الخير لك – والله العظيم – ولنفسي احذر هؤلاء، احذر الذين يُؤذون الله في أوليائه، فهذه أذية لله، قال الله “مَن عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب”، احذر، والشيخ الشعراوي – قدَّس الله سره – في دار الحق وإلى الآن والله يرمونه بالزندقة وبالتخريف وبالخُرافة وبأشياء حين تقرأها يقشعر بدنك.

هذا الرجل الصالح والولي المُؤيَّد – رضوان الله عليه – ألقى ذات مرة مُحاضَرة – طبعاً ألقى ألوف المُحاضَرت غيرها – في جامعة القاهرة فأخذه الناس وحملوه من شدة التأثر والإعجاب فوق رؤوسهم وهو طبعاً يستغفر الله لأنه يُحِب هذا، وعندما أنزلوه غاب طويلاً في حين أن السيارة كانت جاهزة لكي تُقِله إلى بيته، فبدأ الناس يتساءلون: أين الشيخ مُتولي؟ حتى قال ابنه الكبير – لأنه رباه ويعيش معه ومن ثم هو يفهم أباه – أنا أعرف أين أبي، وذهب إلى المراحيض – أكرمكم الله – فوجد أباه قد شلح بعض لباسه وأخذ يُنظِّف في الحمامات – Toilets- وفي دورات المياه، قال: فقلت له يا أبتي ما هذا؟!

قال ” اسكت يا ابني، بعد الذي حصل معي وبعد ما فعل بي هؤلاء ما فعلوا كان يجب أن أفعل هذا لأكسر نفسي لله عز وجل، ليس متولي شعراوي الذي يُحمَل على الرؤوس، فمَن أنا ليفعلوا معي هذا؟!

هذا هو الشيخ الشعراوي الذي يقولون عنه أنه كان عميلاً للسادات وأنه عمل عنده وزيراً للأوقاف، ونعم كان وزيراً للأوقاف لكن كانت وزارته فصلاً من أشرف الفصول في حياته، ففي الفترة القصيرة التي قضاها وزيراً للأوقاف لم يجلس مرةً على الكرسي، ما رأيكم؟!

هل يُوجَد وزير لا يجلس على كرسي الوزارة؟!

لم يجلس – قدَّس الله سره الكريم – على كرسي الوزارة ولو لمرة واحدة، وكان يجلس دائماً عند الباب على الأرض ويُحضَر كل ملفات العمل ويبدأ يُعالِجها وهو يجلس على الأرض، فإذا سُئل يقول عن هذا يقول ” لا أجلس على هذا الكُرسي الذي أخشى أن يُغيِّر نفسي فيُصيبني نوع من العُجب”.

هذا هو الشيخ الشعراوي – رضوان الله عليه – ومثله الحمد لله يُوجَد في الأمة بفضل الله، نعم – كما قلت لكم – ليسوا كثيرين – كثَّرهم الله وباركهم الله وأعاد علينا من بركاتهم – ولكنهم موجودون ويُذكِّروننا بالأسلاف الصالحين الأوائل الذين نقرأ عنهم في الكتب القديمة الحمراء والصفراء، فإذن هؤلاء مازالوا موجودن ومن ثم هذا الدرب مازال مطروقاً بفضل الله عز وجل ومازال مسلوكاً، فاللهم اجعلنا من طارقيه واجعلنا من سالكيه.
اللهم اهدنا واهد بنا وأصلِحنا وأصلِح بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، عرِّفنا عليك بما عرَّفت به عبادك الصالحين وأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين ودلنا عليك دلالة الصادقين واجعلنا من عبادك المُخبتين المُتقين الأوّاهين الخشّاعين المُنيبين برحمتك ولطفك الخفي يا أرحم الراحمين، يا لطيف، يا خبير، يا كريم، يا غفور، يا رحيم، يا الله.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أعمارنا أواخِرها وأوسع أرزاقنا عند انقطاع أعمارنا وكبر أسنانا وأغننا بفضلك عن مَن سواك وأغننا عن مَن أغنيته عنا من عبادك برحمتك يا أرحم الراحمين، أغننا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقر عيوننا من عبادتك إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: