إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى -من قائل في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ۩ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۩ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۩ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۩ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ۩ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ۩ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

هل الدولة الإسلامية غاية في ذاتها أم وسيلة إلى غيرها؟

سؤال كبير وخطير وجوابه ليس بذاك الوضوح أو ليس بذاكم الوضوح مع أن الآية الكريمة التي سمعتم للتو من سورة الأعراف يصلح أن تكون مُدخلاً ملائماً جداً ومناسباً للجواب عن هذا السؤال المُشكِل المُشتبِه، قَالُواْ – أي بنو اسرائيل – أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ – أي موسى عليه الصلاة وعلى نبينا والتسليمات وآل كل وأصحابه – عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ ۩، هذا هو التمكين وهذه هى الدولة وهذه هى السلطة ولكن انتبهوا إلى أن في القضايا المُشكِلة المُلتبِسة والمُشتبِهة ينبغي دائماً أن نطرح سؤال وماذا بعد؟ إذا وجد هذا السؤال له سائغيةً وموقعاً فالأمر يكون لا يزال مُلتبِساً، وبتعبير آخر يكون الشيئ الذي يُظن غاية وسيلة في الحقيقة، فإذن إذا وجد هذا السؤال له سائغيةً وموقعاً فإن الأمر لا يزال قيد الالتباس وما يُظن غاية يكون عند التحقيق وسيلة، وهذه الآية تقول أن التمكين وأن بلوغ السلطة والدولة ليس غاية، لماذا؟ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ – والحمد لله يارب العالمين – فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩، إذن هى وسيلة لغاية، استخلفنا وماذا بعد؟ ماذا بعد ذلك؟ هل من المُمكِن أن نسأل هذا السؤال؟ يجب وينبغي أن نسأل هذا السؤال، استُخلِفنا ومُكِن لنا وبلغنا السلطة وأخذنا الدولة وأخذنا بأزمتها وبمقاداها وماذا بعد؟ هذا لا يمكن أن يكون غاية في ذاته ولذاته، وماذا بعد؟ في نهاية المطاف الدولة أياً تكن وبغض النظر عن توصيفاتها الكثيرة جداً بل بغض النظر عن طبيعتها – هناك نظريات أربع في طبيعة الدولة معروفة لدارسي العلوم السياسية – تبقى الدولة إطاراً لانجاز شيئ أو أشياء مُحدَّدة تجمعها كلمة التعايش، فهى تبقى إطاراً أوسع لهذا، ولأنها هى الإطار الأوسع فهى أوسع من إطار الجماعة أو الفئة أو القبيلة والعشرية أو الأسرة أو التشكيل أو النقابة، فأوسع الأطر هى الدولة بالقياس إلى ما ذُكِر، إذن هى إطار لماذا؟ للتعايش،   للتعايش القائم على التصالح والتسالم والتعاون، أن يعيش الإنسان في سلام وفي أمان وفي ضمانات ووفق ضمانات مُعيَّنة تحوط حقوقه وتبرر واجباته وماذا ينبغي عليه أن يفعل كذا وكذا بإزاء ما له من مزايا وحقوق، فهذه هى الدولة في نهاية المطاف بغض النظر عن تشكيلاتها المختلفة، وأحياناً تكون هذه الدولة خاضعة لشروط حتى الجغرافيا، ولا يزال إلى الآن نفرٌ من دارسي العلوم السياسية يتحدَّثون عن نمط الانتاج الآسيوي وإن كان نظرية فيها ما فيها – فيها مواضع كثيرة للنقد – والدولة المائية والدولة النهرية والهيدروليكية في المجتمعات النهرية مثل ميزوبوتاميا أو بلاد ما بين النهرين كما عُرِفت بعد ذلك والمجتمع المصري والصيني وإلى حد بعيد أيضاً الهندي، فهذه المجتمعات – تعرفون العبارة الشهيرة لهيرودوتس Herodotus التي تقول مصر هبة النيل – تقوم حياتها على ماذا؟ على جريان الماء كالأنهار، نهر يشق البلاد من أقصاها إلى أدناها، ولكي لا يتوقف سريان وجريان هذا لابد من ضبط الساكنين في الأقليم وفي البلاد كلها وإلا لو توقف أو قُطِع أو أُقيمَت حوائل وسدود دون سلاسة جريانه سوف يهلك الآخرون، أليس كذلك؟ فهذا اقتضى تاريخياً نشوء دولة شديدة المركزية وهى الدولة النهرية والدولة الهيدروليكية التي تضبط الوضع كله وتحتكر ملكية الأرض ولا يستطيع أحد أن يتملك لكن يُمكِن أن يكون عاملاً عند الدولة، وهذا نتج وتمخض عنه أشياء كثيرة جداً.

العلامة ابن خلدون – رحمة الله تعالى عليه – مُؤسِّس علم الاجتماع وفلسلفة التاريخ إلى حد ما ليس بدعاً من المُفكِّرين ولا الفلاسفة الذين أرهقتهم ظروفهم وأعربوا أو كشفوا أو أرسلوا إشارات كثيرة تؤكد وتبيِّن وتكشف عن مدى خضوعهم للظروف وتلائمهم وتكيفاتهم مع ظروفهم في قضايا العلوم الإنسانية وفي الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد، فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نقفز فوق ظلنا وأن نتجاوز ظروفنا، حتى النظريات التي تحاول أن تتجاوز الظروف وأن تعالج حتى الأوضاع في الأخيرة هى بنت هذه الأوضاع وتأتي ترجمةً وإنعكاساً لهذه الأوضاع شئنا أم أبينا، فكل ما أصابته الماركسية من حظوظ النجاح والفشل في تحليلاتها وتفسيراتها وتنبؤاتها بسبب هذه القضية، والظروف مُتغيِرة ومُتطوِرة ونجن نتحدث عن قوانين الاجتماع، أي قوانين الاجتماع البشري التي تحدث عنها ابن خلدون بلغة واثقة وعلمية إلى حد بعيد، لكن ينبغي ألا ننسى أن هذه القوانين في نهاية المطاف ليست قوانيناً أزليةً بل تتغيَّر، لأن عالم الإنسانيات وعالم الإنسان والاجتماع البشري هو عالم الحرية وعالم الاختيار.

علماء الأحياء والتطور يُحدِّثوننا كيف ساهم الإنسان نفسه في تطوير نفسه ليس اجتماعياً وليس فقط في باب السياسة والاقتصاد والاجتماع بل حتى على المستوى الحيوي البيولوجي والمستوى العضوي Organic، فالإنسان فعل هذا بما صنعه، أي الأدوات التي صنعها الإنسان، وصانعو الأدوات – Toolmakers – الأوائل حين صنعوا هذه الأدوات أرغمتهم هذه الادوات بالذات على أن يُحدِثوا تكيفات – Adaptations – وبالأحرى تعديلات – Adjustments، فأنواع من التكيفات أثرت حتى في شكلهم وفي تركيبهم العضوي طبعاً عبر مئات ألوف السنين ،عبر ملايين السنين، فما صنعته أثر فيك، وطبيعي أن ما أصنعه أيضاً في المستوى المعنوي والفكري والاجتماعي يُؤثِّر فيّ ويغيِّر ظروفي وبالتالي يحدث بقدر قليل أو كثير تعديلات على القوانين الحاكمة في الاجتماع الإنساني، ومن هنا خطأ ماركس Marx، ماركس Marx بحسب قوانين مُعيَّنة في الاقتصاد وعاها بشكل جيد ومدروس ومُعمَّق تنبأ بأن الرأسمالية وشيكة الانهيار لكنه لم يتنبأ أن الرأسمالية تعمل في نهاية المطاف في اجتماع بشري، وهذا الاجتماع البشري بما أوتيَ من حرية ومن قدرة مرنة على التغيرات والتعديلات قادر على أن يحرف – لا نقول أن يعبث وإنما أن يحرف – هذه القوانين لتصبح بعد قليل شيئاً آخراً مُختلِفاً قليلاً أو كثيراً، وهذا ما حدث وانقذت الرأسمالية نفسها، علماً بأن الفضل يعود إلى ماركس Marx فهو الذي نبهها وقال لها إن لم تفعلي فقد اقترب الأجل ومن ثم تنبَّهت فتغير كل شيئ وفشل التنبؤ الماركسي لأن القوانين ليست كما فهمها ماركس Marx أو ابن خلدون قوانين عتيدة أزلية، هذا غير صحيح، فالجزء العتيد الازلي الذي لا يتغير فيها ضئيل جدا، هذه النواة – Core – هى شيئ قليل جداً، فهذا موجود لكن أكثر الأجزاء تتغير وقابلة للتغير، وأي طرح في العلوم الإنسانية لا يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار سيعاني من أفشال ومن أشكال من الفشل كثيرة جداً ومن خيبات، وطبعاً المسألة لا تقف عند حدود التنظير المُجرَّد وإنما تأتي جماعات وتشكيلات وأحزاب تتبنى أشكالاً من هذه النماذج ومن هذه النظريات، فإن لم تع هذه الحقائق هذه الجماعات وهذه التشكيلات وهذه الاحزاب ستعاني من اخفاقات مُزمِنة متوالية ومن أفشال مُحبِطة مُدمِرة لأنها لم تفهم منطق القانون، وعلى كل حال ابن خلدون – رحمة الله عليه – لم يكن بدعاً حين ذهب يُمجِّد الدولة القبلية المحدودة التي عاشها في زمانه وظنها خير الدول مع أنه خبير بمنطق الدول وخضع لظروفه تماماً مثل فلاسفة أثينا Athens الذين رأوا أن دولة المدينة أو الدولة المدينة هى منتهى المُراد من رب العباد، لكنها ليست منتهى المُراد من رب العباد، فقد تجاوزها التاريخ – تجاوز الدولة المدينة أو دولة المدينة – أيضاً، مثل توماس هوبس Thomas Hobbes صاحب التنين الذي ظن أن الملكية المُطبقَة هى الحل الأنجح وهذا غير صحيح، فبعد قليل جداً بزهاء مائة عام برز له جون لوك John Locke مواطنه الإنجليزي ورد على أطروحاته جملةً وتفصيلاً وأحياناً متوسِلاً نفس أدواته ونفس مسوغاته، فبالمسوغات ذاتها أثبت له نتائج مُعاكِسة، وكان لوك Locke أقرب إلى السلام أو أقرب إلى السداد وسار الركب الغربي هنا الأوروبي في مسار لوك Locke وليس في مسار هوبس Hobbes وانتهى عهد الملكيات المُطلقَة وانتهت ملكيات التنين، وعلى كل حال الإنسان ابن ظروفه.

نعود إلى سؤالنا، إذن حين تقول وماذا بعد؟ مُكِّن لنا ووصلنا إلى السلطة وأخذنا بالمقادة وماذا بعد؟ فهذا يعني أن السلطة ليست هى الغاية، هى وسيلة إلى غاية أبعد، وأحسب أن هذا المُدخَل ضروري ومُهِم وقد يكون ناجعاً – إن شاء الله – لمُعالَجة هذه المُشكِلة الكبيرة المُستعصية التي تُصدع – صدعت ولا تزال تُصدع – رؤوس أبناء المسلمين والمسلمات، وهى يُمكِن أن تُسمى بمُعضِلة الدولة لأن أوشك أ لا يكون لها حل، وطبعاً الحلول التي تقرأونها في الكتب النظرية هذه والتي تُحكى على المنابر المختلفة – ليس منابر الجمعة فقط بل المنابر المختلفة – معظمها على الإطلاق تصورات تقليدية عفا عليها الزمن، وهى تقع في نفس الخطأ والخطيئة الذي ألمحت إليه للتو وهو ماذا؟ غفلتها عن وعدم إدراكها ووعيها بطبيعة القوانين من حيث التغير والتطور والتناسخ، فهى تتغيَّر ونحن الآن نعيش في عالم مُختلِف إلى حد بعيد، وكما أقول دائماً وقد فصَّلت هذا في خطبة عالم منسوخ أن العالم الذي تتحدَّث عنه هذه الكتب هو عالم منسوخ، فمَن لا يُدرِك هذا اليوم؟ لكن هؤلاء للأسف أكثرهم لا يُدرِكون هذا، مَن لا يُدرِك اليوم – وأكثرهم لا يُدرِكون – أننا نعيش في عالم لم تعد خطوط الفصل فيه عقدية دينية؟ خطوط الفصل ليست دينية لكن هؤلاء يُريدون أن يعيدوها جذعة، وللحق أقول لكم ليس إلى عهد صدر الإسلام بل بالعكس عهد صدر الإسلام – سبحان الله – كان استثناءاً وقد قطع مع ولم يتواصل مع الميراث القوروسطي في عالم السياسة، عالم السياسة في القرون الوسطية كان فيه الفصل دينياً بين الأفراد ولا أقول المواطنين لأن مفهوم المواطنة لم يكن واضحاً للأسف ولم يكن موجوداً أصلاً، مفهوم المواطنة كما نفهمه الآن من مُعطيات العصر الحديث وإن مهد له الرسول في دولته الرائعة ولكن تراث المسلمين تجاوز هذا باستغفال، فهو استغفله ولم يقم له الوزن الذي يستحق، لكن عالم القرون الوسطى كانت خطوط الفصل فيه دينية عقدية في المُجمَل من حيث القاعدة، لكن النبي لم يفعل هذا بشكل واضح وقال لك خطوط الفصل ليست دينية، وإلا أين فعل هذا محمد؟ هذا مُؤسِّس دين وأمة وهذا صاحب دين ورسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومُؤسِّس أمة وليس شيخاً أو فقيهاً، فهو ليس الماوردي أو الغزالي أو أبو يعلى بن الفراء أو الجويني، وهو ليس مُنظِّراً سياسياً، هذا رسول صاحب دين ومُنشيء أمة وقائد أمة ولذا كان واعياً تماماً من أول لحظة في المدينة المُنوَّرة وهو يؤسس أو إذ يؤسس دولته ويشيد بناءها لبنة لبنة أن خطوط الفصل لا ينبغي أن تكون دينية، وأنتم تعلمون هذا جيداً حين جعل كل المكونات وشتى المكونات من المؤمنين المسلمين ومن اليهود بقبائلهم المختلفة ومن المشركين في إطار واحد، وطبعاً النبي حين أتى المدينة على عكس ما يتصور بعض الناس لم يكن أهل المدينة من عند أخرهم قد دخلوا الإسلام، كان فيهم أناس لا يزالون على شركهم وعلى وثنيتهم لكن لا بأس ولا مُشكِلة في هذا، لأن – كما قلت لكم – السلطة أو الدولة هى إطار واسع للتعايش ولضبط المعيشة المُشترَكة في حدود من السلم ومن التصالح ومن التعاون ومن الاستقرار، فهذا هو الضبط وهذا هو المُراد بهذا الضبط الأوسع، والنبي قال هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء كلهم أمة من دون الناس، فهم أمة وواضح أن الامة هنا لا يمكن ان تكون بالمعنى العقدي لأن هذه ليست أمة ملية، لكن هذه أمة سياسية، فالنبي يتحدَّث عن أمة سياسية، فلا يُقال كيف اليهودي يكون معي أمة وهو يهودي وأنا مُسلِم مُوحِّد، لأن لا مُشكِلة في هذا، والمُشرِك يكون معي أمة أيضاً، فهو أمة معي من دون الناس ولذا نتناصر ونتواسى ونتقاسم أعباء هذا العيش المُشترَك، وكل طرف يدفع حصته بحسب النسبة التي تمثله كمكون أساسي في هذا المُجتمَع.

إذن النبي كان يؤسس لمواطنة واعية، والجميل جداً أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يطلب ولم يفرض – علماً بأنني ألمحت إلى هذا مرة – على هؤلاء اليهود الجزية، لكن يأتيك للأسف بعض العلماء ويقولون أو ليقولوا لك أن السبب في هذا هو الجزية لم تكن شُرِعت بعد، وهذا غير صحيح، فالجزية معروفة من قرون، الفرس يعرفونها وبيزنطة تعرفها وقطعاً النبي كان يعرفها وهذا الذي يُفسِّر لك أن النبي كان يُرسل أجناده لمقارعة كتائب المشركين كما في حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه في صحيح مسلم، وهو يأمره بأن يلوح بخيار الجزية، فيُمكِن للمُشرِك أن يدفع الجزية قبل شرع آية الجزية في السنة التاسعة، لكن هذا لم يلتفت إليه العلماء، وهذا حديث صحيح مُشكِل لأنه يُخربِط النموذج الذي عندهم، فهم عندهم نموذج بسيط وسهل يقول أن الجزية شرعت في تبوك في السنة التاسعة وانتهى الأمر، لكن هذا غير صحيح ف الجزية شيئ حضاري ومُشكِلة الفكر الإسلامي أحياناً للأسف الشديد أنه يريد أن يوهم نفسه أن الإسلام جاء بداية مُطلقة في كل شيئ، فهو طبعاً يقع في هذا الخطأ وهذه سذاجة فكرية وغرارة فكرية، والذي يعتقد مثل هذا الاعتقاد في عالم الفكر ليس فقط مُجرَّد ساذج وغرير بل هو أكثر من هذا أيضاً لكننا لا نريد أن نبذأ على الناس، فالإسلام لا يمكن أن يكون بداية مُطلقَة وإلا قل لي أين في كتاب الله تعريف العرف وتعريف المعروف؟ الله يقول خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩ ويقول أيضاً يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۩، ائت لي بآية واحدة يُعرِّف الله فيها العرف، أنت تقول لنا نحن نأمر بالمعروف فإذن عرِّف لنا المعروف، هذا لا يُمكِن وإلا يتناقض القرآن مع نفسه حالة إذ، فكيف يُعرّف لك المعروف وهو إسمه معروف؟ فهذا تعارفه الناس تماماً، والمملكة المتحدة إلى اليوم عبر قرون لديها شيئ إسمه القانون العام Common law، والقانون العام يعلمه الناس ويتعارفونه، وطبعاً لا يُوجَد دستور كما تعرفون لأنها تستند أيضاً إلى هذا العرف العام، وحتى في القانون فيها أيضاً القانون الـ Coded أو المكتوب كمدونة قانونية، فهذا معروف وموجود فيها هذا، وفيها أيضاً الـ Common law وهذا أكثر شيئ يعتمد على ماذا؟ على مهارة القاضي وعلى الحدس العدلي عند القاضي، وإلى اليوم يُوجَد هذا ليس على المستوى الدستوري فقط وإنما على المستوى القضائي أيضاً، والقرآن قال لك نفس الشيئ، فإذن ما معنى أن القرآن لم يُعرِّف المعروف؟ لا تُوجَد آية من جنس إن الذين كذا كذا أولئك هم أهل المعروف أو وأولئك هم أهل المعروف، في حين أن القرآن عَرَّف الإيمان مثلاً وقال مثلاً إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ وقال أيضاً أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۩، فهو عرَّف الإيمان وعَرَّف أشياء كثيرة لكن المعروف لم يُعرِّفه، لأن من خلال تسميته وتوصيفه لا يُعرَّف، فكيف هو معروف ونطلب أن يُعرَّف؟ لقد أصبح معروفاً، وهذا يعطي ملمحاً أو إضاءة تُفيد بأن القرآن يقول لك ليس من شأن الدين الحق أن يكون قطعاً مع الميراث البشري، بل بالعكس شأنه أن يكون تواصلاً مع الميراث البشري، لأن الدين – كما أقول دائماً – جاء للإنسان، والإنسان عنده نواة وعنده جوهر داخلي عميق قابل لأن يُخاطبه الدين وقابل لأن يحاججه الدين استناداً عليه وتعييراً به، فلو ما كان عندنا هذا الأصل وهذا الجوهر ما قام الدين نفسه، فلن تكون هناك في إمكانية لقيام الدين، ولكي أبسط سأقول لكم – مثلاً – ما هى إمكانية قيام العلم؟ لماذا يقوم العلم؟ لماذا يُمكِن أن يقوم العلم وأن يكون هناك العلم؟ لأن هناك انتظام في جوهر الظاهرة وانتظام في الوجود، هناك شيئ يُمكِن أن يُصاغ بما يُسمى القانون، فهناك القانون لان لدينا انتظام حقيقي، لو عالم الوجود عالم من الفوضى الحقيقية – انتبهوا لأننا نقول الفوضى الحقيقية وليس الفوضى الموهومة التي هى معيار و Index للجهل العلمي وللجهل البشري – لا يمكن لأكبر عالم ولا أكبر فيلسوف أن يخلع عليه   صفة قانونية، فهذا مستحيل لكن لكي أبسط وحتى لا ندخل في فلسفات مُعقدَة وتوهيمية سوف نتحدَّث عن حركة القمر التي هى مثلما قال تعالى بِحُسْبَانٍ ۩، فكله بحسبان وبحسابات، والحسبان هو جمع حساب كما قال مجاهد، فالحسبان جمع أو جماعة الحساب أو مجموع الحساب، وجماعة الحساب هى حسابات كثيرة مُعقَدة جداً كما يقول الله، فإذن – سبحان الله – هناك حسابات، هذه الحسابات اكشف عنها أنت الآن كرياضي وككوني، ولو لم تكن هذه الحسابات موجودة كانت ستطلع الشمس اليوم على الساعة تسعة – مثلاً – وغداً سوف تطلع في نصف الليل، وهذا سوف يكون أمراً عادياً، فمرة تعجل ومرة تبطئ وهكذا، لكن هذا لا يحدث ولذا هو غير صحيح، فهناك حركة مُنتظَمة للأرض وللشمس وللجسيمات الدقيقة تحت ذرية ولكل شيئ، فإذن في كل شيئ نوع من الانتظام كما يبدو لنا إلى الآن وهذا الذي أعطى العلم إمكانية أن يقوم، ونفس الشيئ يحدث هنا أيضاً، فحين يُوجَد دين ويُوجَد خطاب إلهي للإنسان فهذا يدل على وجود جوهر إنساني ثابت يمكن أن يحاجج الإنسان بمقتضاه ويمكن أن تُعيّر أوامر الدين ونواهيه، ومعقولية الدين تأتي استناداً إلى هذا الجوهر، وهذا هو معنى المعروف، قال الله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩، وقال أيضاً يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ۩، فإذن الدين ليس قطعاً مع المواريث الإنسانية، وهذا يعطينا طمأنينة على إنسانيتنا، فليس لازماً وليس بالضرورة وليس صحيحاً أيضاً أن الدين يعدمنا إنسانيتنا فأتخلى حتى عن إنسانيتي وعن ميراثي البشري المُشترَك وأحس نفسي شيئاً مُختلِفاً عن كل البشر لأنني أمتلك الدين الحق، فأي دين هذا؟ أي دين هذا الذي يقطع مع الميراث البشري كله؟ إذن هل هذا يقطع مع الجوهر الإنساني؟ ولذلك قال الإمام الشاطبي – علماً بأنني ذكرت هذا مرات كثيرة جداً لكن هذا أيضاً لابد أن يُقدَر قدره هذا التصريح، فهذه الإفادة Statement من الشاطبي خطيرة جداً – هذه الضرورات – أي الضروريات الخمسة وهى حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض أو النسل – مُراعاة في كل ملة، فهذا ليس فقط في الإسلام وليس بحسب قال الله وقال الرسول وإنما في كل ملة وفي كل شعب وفي كل أمة، فكل الأمم لديها هذا لأن الاجتماع البشري يعرف مصالحه.

ابن خلدون أبدع – رحمة الله عليه – هنا رغم أنه أكد كثيراً بإلحاح على دور الدعوة الدينية كرافد لعصبية النسب، فكيف تقوم الدولة عند ابن خلدون؟ الدولة عنده لا تقوم بمنطق الحق وبمنطق المثال ولا تقوم من خلال أن نُحدِّد مجموعة من الأهداف الجيدة المثالية ثم نذهب إلى تطبيقها، فهو قال هذا كلام فارغ، ولذلك سخر حتى من فكرة المهداوية، فحتى فكرة المهداوية عند ابن خلدون فكرة مسخور منها ومنكورة، فلا يُمكِن لمجرد أنك تطوق إلى مثال وتطوق إلى أحلام معينة أنها ينبغي أن تغير الواقع وأنك ستنجح، فهذا ليس شرطاً، والواقع لا يتغير عند ابن خلدون هكذا ولكن من خلال نظرة موغِلة في الوضعية – Positivism – كما يُقال الآن في لغة علم الاجتماع، فهذه نظرة وضعية ونظرة غير معيارية، وهذه هى النظرة العلمية، فجوهر النظرة العلمية أنها واقعية وأنها تأخذ الوقائع بعين الاعتبار وليس بالأحلام أو المُثُل أو الرغبات، لكن الوقائع هى التي تُحدِّد لنا كل شيئ، وتاريخياً يقول درس التاريخ – وتاريخ الإسلام ليس استثناءاً من هذا – ويُعلِّم أن كل الدول في نهاية المطاف تتحرَّك بمنطق خاص لها، فالدولة عندها منطق خاص، وعموماً هذا المنطق يُصدِّر القوة على الحق والقوة على المثال، فهذا هو منطق الدولة شئت أم أبيت وهذا هو الحاصل، فدائماً يحصل هذا، والآن تكون وظيفة النظريات الليبرالية والنظريات الديمقراطية أن تُخفِّف من هذا الطغيان في منطق الدولة وأن تقول لأ، لابد أن نلجم الدولة قدر ما نستطيع، وهذا جيد ولابد أن نعمل عليه وأن نتوافق معه لكن في نهاية المطاف هذا منطق تاريخ الدول ومنطق السياسة، وابن خلدون فهم هذا جيداً وتكلَّم عنه في عشرات الصحائف رحمة الله تعالى عليه، وابن خلدون رغم أنه أكَّد على دور عصبية النسب في قيام الدول ونشوئها إلا أنه أكَّد بقدر أقل طبعاً – لكنه أكد أيضاً وبإلحاح – على أهمية الدعوة الدينية وخاصة في مُجتمَعات العرب كما يقول، فعند العُربان بالذات لابد من دعوة دينية، وهناك عصبية نسب تتذرع وتتوسل وتعتل بالدعوة الدينية لكي يقوم المُلك، وعصبية النسب – يعني الدولة الطبيعية والدولة العرقية الآن وليس حتى الدولة السياسية – بطبيعتها وفقاً لابن خلدون تتجه نحو التملك ونحو المِلك – أي نحو المُلك – والسلطة لكنها تحتاج إلى دعوة دينية، ورغم أن ابن خلدون – كما قلت لكم – أكَّد على هذا وألح عليه إلا إنه كان يؤكد أن الدين السماوي القويم الذي يأتي بالأخلاق وبالمثل وبالقيم ويُلاغي الطموحات البشرية العالية ليس شرطاً أساسياً في نشوء الدول، فهو فهم هذا وقال هذا ليس شرطاً، واحتج لقوله بأن هناك دول كثيرة قامت على غير دين سماوي، فلماذا إذن؟ وعلى ماذا قامت؟ في نهاية المطاف مهما كانت الدولة تنحاز إلى قوة بإزاء الحق لابد أن تتذرع وتتوسل بخدمة الحق وبخدمة الجمهور وبخدمة الشعب ومصالح الناس، فلابد من هذا حتى لو نفاقاً، لكن هذا الحق أين يجد جذره؟ في الجوهر الإنساني في الطبيعة الإنسانية وفي الإنسان، فهذا موجود في الإنسان وبالتالي من الخطل والخطأ أن نتخيل أن الإسلام في منظوره للدولة وفي تعاطيه مع هذه الموضوعة المُشكِلة والمُشكِلة جداً بالذات في تراثنا السياسي قطع مع الميراث البشري وأن له هذا التصور شديد الخصوصية للدولة، فهذا غير صحيح بالمرة، تصوره مثل أي تصورات أخرى، وهو تصور عملي وأيضاً متلائم ويمُكن أن يُقال أنه خاضع للواقه – أكيد هو خاضع لهذا، لماذا نخجل من أن نقول هذا؟ هذا لا ينتقص الدين – ولإرهاقات الواقع ولشروط الواقع، وهذا شيئ طبيعي!
حتى لا تند الفكرة مني أُحِب أن أقول أن من علماء الكلام بالذات لدينا مَن يتكلَّم في موضوعة الدولة موضوعة السياسة، ولذا علماء الكلام شكى بإسمهم إمامهم في وقته أبو المعالي الجويني صاحب الكتاب الذي قد يكون هو أبدع وأروع كتاب في الفقه السياسي الإسلامي وهو الغياثي أو غياث الظلم – هذا الغياثي من أوسع ومن أروع الكتب في الفقه السياسي الإسلامي، وهو فيه ما فيه، أي له وعليه – أن المُتكلِّمين هم الذين لا يزالون يتكلَّمون في موضوعة الدولة وفي موضوعة السياسة والشأن العام والفقهاء صامتون، فلماذا إذن؟ لماذا يشكو؟ هل تعلمون لماذا؟ طبعاً هو يشير إلى أن علماء الكلام للأسف دأبوا من قبله ومن قبل عصره على أن يُلحِقوا في آخر كتبهم وآخر كتب العقيدة – علم الكلام هى العقيدة – فصلاً يختص بالإمامة والولايات العامة، أي بالسياسة، فما دخل هذا في العقيدة؟ لذا الجويني غاضب من هذا ويتشكى منه وقال المفروض أن الذي يتكلَّم في الموضوع هذا الفقهاء وليس نحن، فنحن علماء عقيدة وهذه ليست عقيدة وليس عندها أهمية عقيدة ولا أولوية عقيدة، لكن الفقهاء صامتون ونحن نتكلَّم، فلماذا؟ وهذا الذي عبَّر عنه الماوردي وغير الماوردي بقول أن الإمامة من مسائل المصلحيات وليست من مسائل التعبديات، يعني هى غير داخلة في جوهر الدين، فالإمامة ليست داخلة في جوهر الدين أبداً، هى شأن مدني بطبعيته قائم على المصلحة، أي على تحقيق المصالح وعلى رعاية المصالح ودفع المفاسد، وهذا الشان يتعطاه كل البشر، فكل المجتمعات الإنسانية عرفته كما أشرت عن ابن خلدون.

أعود إلى قضية الرسول – عليه والسلام – والجزية وخطوط الفصل في دولته – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – في المدينة، فالمُلاحَظ – كما قلت لكم – والطريف واللطيف جداً أنه واثق هؤلاء وعاهدهم، وفي الحقيقة كانت صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة أو كتاب المدينة مُجرَّد مُعاهَدة، فهى مُعاهَدة إذن، لكن ما معنى مُعاهَدة؟ يعني نشاط طوعي اختياري، لأنه تم باختيار أطرافه، فهم تعاهدوا على هذا، وطبعاً بعد أن تعاهدوا يلزمهم ما تعاهدوا عليه، فأنت إذا التزمت شيئاً فإنه يلزمك، فالأمر لا يخضع للهوى فتدخل بعد ذلك بمجرد التشهي وتخرج أو تلتزم بنوداً وتنتهك أخرى، هذا لا يُمكِن أبداً لأن الوثيقة نفسها تُلزِمك وتنص على هذه الحالات وعلى هذا التعاطي مع هذه الحالات، لكن هى نشاط تعاهدي حر المرعي فيه والمنظور إليه فيه هو المصلحة، والمصلحة هى إطار – كما قلت لكم – واسع للتعايش ولضبط الجتماع، وهذا شيئ جميل، والنبي – كما قلت لكم – لم يفعل هذا لقاء جزية، فلم يقل النبي ادفعوا لنا الجزية أيها اليهود وسوف ندخلكم معنا، لكن لماذا أحكي هذا الكلام؟ تخيَّل أن مِن السنة الأولى للهجرة واليوم نحن في القرن الخامس عشر الهجري والحادي والعشرين الميلادي مَن يقول من العلماء الكبار والمشائخ والمفاتي والمُنظِرون في الفكر السياسي الإسلامي بالجزية وأنه لا بد من الجزية وأن أي أحد غير مسلم في الدولة الإسلامية لابد أن نُدّفعه الجزية، فما هذا الكلام الفارغ؟ هؤلاء لا يفهمون شيئاً، هؤلاء لم يفهموا منطق الإسلام بالمرة ولا منطق الفقه السياسي الإسلامي الحقيقي، هم غير قادرين على أن يفهموه بسبب وجود حالة من الجلمود الفظيع المُخيف، لكنك قد تقول لي كيف ترمي هؤلاء الأفاضل الكبار؟ وأنا بدوري أقول أن الحق أحق أن يُتبَع، فالنبي لم يفعل هذا – كما قلت كلم – من أول يوم مع أن الجزية شرعها معروف في الأمم والحضارات والنبي غير غافل عنها ويعرفها، وحديث مسلم – كما قلت لكم – يُؤكِّد أنه كان يعرفها وأتاحها خياراً عند حرب المسلمين للمُشرِكين، فانتبهوا إلى أن هذا كان قبل شرع الجزية في صحيح مسلم، ومن ثم لن تجد أي جواب طبعاً عن هذا، اذهب واقرأ كتب الأحاديث والشروحات وسوف تقف أمام طريق مسدود أو طريق مسدودة لأن لا يُوجَد أي جواب طبعاً وهذا أحرجهم، لأن هذا يعاكس النموذج البسيط جداً الخاص بهم والذي يقول أن الجزية شُرِعَت في السنة التاسعة، وهذا غير صحيح، فهى مشروعة قبل حتى الإسلام والنبي كان واعياً بها، فلماذا لم يُدفِّع اليهود في المدينة الجزية؟ لأن من غير اللازم أن يُدّفعهم، لماذا يُدّفعهم؟ هؤلاء يصلحون بالمنطق الحديث – منطق الدولة الحديثة – أن يكونوا مواطنين كاملي المواطنة، فهم ليسوا مواطنين درجة ثانية سواء كانوا من اليهود أو المُشرِكين أو النصارى وأي أحد كان موجوداً، ولا تُوجَد أي مشكلة مع رسول الله في هذا، لكنك قد تقول لي إذن ما علاقة الدولة بالدين إذا كان هذا هو النبي وهذا ما فعله وهو يُؤسِّس الدولة؟ أنا أقول لك لا يُمكِن أن تكون علاقة الدولة بالدين أو أن تكون وظيفة الدولة أن تفرض الدين على الناس أو أن تكره الناس على الدين ومَن لم يفعل إما تقتله وإما تذله بتدفيعه جزية، هذا – والله العظيم – باطل وخطأ كبير يتعارض مع تصرف رسول الله وقد انتهينا من قضية السنة التاسعة والتشريع، فهذا كلام غير صحيح وغير دقيق علمياً، إذن ما الذي حدث؟ الذي حدث هو ما فهمه شيخ الأزهر الشيخ الإمام محمود شلتوت ببصيرة شيخ الأزهر، فالعلامة شلتوت رحمة الله عليه في رسالة صغيرة أنصح كل واحد بقرائتها من سبعين صفحة فتح الله – والله سبحان الله – عليه فيها في أشياء لا تجدها في مُجلدَات ضخمة لا تُعرَف، والرجل كان ذكياً جداً، والإمام – رحمة الله عليه -شلتوت من المعروفين طبعاً، وعلى كل حال شلتوت تحدَّث عن آية الجزية، وهى الآية التاسعة والشعرون من سورة التوبة التي تقول قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، وقال حاول أن تفهم هذه الآية وقف على مبعدة منها وتريث واطرح مفروضاتك ومقبولاتك الأولية التي جئت بها من الأول ثم تعال خُلواً وواجه هذه الآية خُلواً من أي مفروضات ومسبوقات، سوف ترى أن هذه الآية تأمر بالقتال، وهذا بحد ذاته مُشعِر ببدء عدوان منهم، أي من أهل الكتاب هؤلاء، علماً بأنني شرحت لكم في خطبة الخلفية التاريخية والوقائع التاريخية الثابتة التي تؤكِّد هذا بشكل جلي سافر، فهم كانوا يحشدون أصلاً لكي يجتاحوا المدينة المنورة وتعرفون حديث غسان عن سيدنا عمر حين قال أجاءت غسان، فقيل له لا، طلق رسول الله نساءه، وهذا معروف ومُقرَّر، وهم قتلوا عامل رسول الله على معان في الأردن وصلبوه لأنه أسلم، وهذا عدوان على الإسلام واضطهاد ديني وفتنة بشكل واضح، وبيزنطة هى بدأت بالحرب، وأهل الكتاب هؤلاء بدأوا بحرب الإسلام وقتلوا ستة من عيون رسول الله أيضاً، فهذه حرب واضحة ومع ذلك يُقال لا تُوجَد حرب، لكن هذه حرب ومن ثم الله أغرى النبي وقال له قاتلهم بمن معك لأنهم بدأوك، قاتلهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ۩، لكن علينا أن ننتبه الآن إلى أن لو كان هذا القتال كما يظن هؤلاء المُشتبِهون وهذا أدق ما يمكن أن يوصفوا به – أي لو كان قتال الرسول ومن معه عليه الصلاة وأفضل السلام لهؤلاء المذكورين والمنعوتين بالأوصاف المعينة في الآية الكريمة من أهل الكتاب – من أجل مصادرة الحرية الدينية وإدخالهم في الإسلام فإنه يستحيل أن تُجعل غاية القتال الجزية – حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ۩ – الآن، وينبغي أن تكون الغاية أن يُسلِموا أو أن يتفانوا من عند آخرهم، فيُقال لهم إما أن تُسلِموا وإما أن تموتوا، لكن الله لم يقل هذا أبداً وإنما قال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ۩، لكن قد يقول لي أحدكم أن هذا معناه أن هذا القتال – وهذا الذي يقوله كل التائهين اليوم وكل المُشتبِهين – يدل على أن الإسلام يُعتبَر ديناً عنيفاً، فالإسلام ليس فيه حريات ومحمد كان أكبر عنيف – استغفر الله – في وقته، لماذا يا حبيبي؟ قد يقول لأن هذه الآية تأمر بالقتال حتى يأخذوا الجزية، فإذن هى مسألة تقشيط وقطع طريق على الحرية، وهذا غير صحيح، هذا استخفاف وهذه قلة عقل وقلة فهم، ولا يقول هذا إنسان يحترم نفسه، ما هذا؟ هذه رغبة في الشنآن للأسف الشديد، يا أخي اذهب واقرأ فالتاريخ مفتوح – والله العظيم – أمامك، وأقسم بالله أن عندك مئات القيادات السياسية والعسكرية التي كانت تمارس وتصدر عن عنف لا إنساني فظيع، فاذهب وانتقدها يا رجل، كيف تنتقد سيد العالمين ورحمة العالمين دون أن تفهم شيئاً؟ ما هذا الصغار والحقار؟ أنا أقول لكم أن هذا هو التودد لكارهي الحق وكارهي الصدق بإسم أنني من المسلمين لكنني حر وأنتقد محمداً نفسه وبصفه أنه كذا وكذا، لكن أنا أقول لمَن يقول هذا أنت لا تفقه شيئاً وأنت تزري بنفسك، وكما قلت غير مرة بفضل الله عشرات المستشرقين الكبار من الذين يُساوي الواحد منهم مليوناً من هؤلاء الصغار حقيقةً بل لا يعدل بواحد منهم في البحث العلمي وفي القراءة ،وفي التأني وغي الموسوعية كانوا مأخوذين برحمة محمد وإنسانية محمد والقدر العجيب الذي كان يُعرب عنه محمد من كرهه لسفك الدماء وحبه للسلم، والشهادات موجودة في كتبهم وهى كتب تاريخية، لكن حين يأتي لي صغير لا يفهم شيئاً ومع ذلك يتكلَّم فإن هذا الأمر يُعَد شيئاً مُزعِجاً، هذا مُزعِج جداً ومن ثم أنت تزري بنفسك وليس بالحقيقة في نهاية المطاف، أنت تزري بنفسك والشمس لا تُستَر بغربال كما تعلمون ولا حتى بطرف أصبع، فلا تستطيع أن تستر الحقائق، لكن المُهِم الآن هو أنه يُقال لقد أمر محمد ومن معه بقتالهم من أجل تغول أموالهم ومن أجل الجزية، فكيف هذا؟ انظر في قيمة هذه الجزية، فهى – والله – حتى لا تصلح ان تكون بدل حماية، لا تُصلِح – والله – أن تكون بدل خدمة لأنها زهيدة جداً جداً وحقيرة، فهى ذات قيمة حقيرة جداً واقرأ – أنا فعلت هذا – عن الجزية في بيزنطة وفي فارس، انظر إلى قيمة الجزية التي كانت لديهم ثم قارن، فالجُزاة كانت مُرهِقة جداً جداً جداً كانت الجُزاة ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل – كما سجل المؤرخون الثقات هنا في الغرب – كان الفردي يدفع الجزية المُرهِقة المُذِلة ويخدم في الجيش أيضاً رغماً عنه، لكن محمد قال لك لن أسمح بهذا، ادفع هذا المبلغ البسيط جداً جداً جداً ونحن سوف نحميك كما نحمي أنفسنا وذمامنا ونساءنا وأولادنا ولن يُعدى عليك بأي شكل من الأشكال لا منا ولا من غيرنا لأننا لن نسمح بهذا، إذن إذا كانت لا تُساوي شيئاً لماذا نعرض حالنا للخطر؟ لماذا نعرض أبناءنا للخطر ونُقاتِل من أجل هذا المبلغ التافه الذي لا يُساوي شيئاً؟ أصلاً القصد والغاية ليست الجزية ولا القتال شُرِعً من أجل أخذ الجزية – لا والله – وهنا تأتي عبقرية الشيخ شلتوت، فالعلامة شلتوت يقول تأتي هنا كلمة وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ لتكشف لك النقاب عن جلية الأمر، أولاً الله يقول حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ۩، فالذي يقدر على دفعها فقط هو الذي سوف يدفع، لكن مَن الذي يدفع الجزية؟ بكلمة واحدة ونترك الاختلافات الكثيرة والتشعبات ونقول أن الذي يدفع الجزية هو القادر على حمل السلاح واللائق به حمل السلاح، فالراهب الشاب قادر على حمل السلاح لكنه لا يحمل السلاح بحكم ترهبنه وبالتالي لا يدفع الجزية، ولك أن تتخيَّل هذا، وكذلك الإنسان الذي يعتمل في أرضه ولا يتعرض للقتال لا يدفع جزية، ونفس الحال مع النساء والشيوخ والأطفال، فلا يدفع أي أحد من هؤلاء الجزية، وهذا هو الإسلام – يا الله – حقاً، ومع ذلك يُقال لك هذه ضريبة رأس Poll tax، لكن هذه ليست ضريبة رأس، هذا كذب، فهذا اصطلاح عام وهذه ليست ضريبة رأس، هذه ضريبة حَمَلَة السلاح، أي الذين يحملون فعلاً – Actually – السلاح، هذا هو فقط، فهى ليست على كل رأس، لكن للأسف في الأدبيات الغربية يقولون ضريبة الرؤوس، فهكذا يُترجِمون الجزية، لكن هذا غير صحيح، فالجزية ليست ضريبة رأس، وإنما هى ضريبة حماية من القادرين على الحماية لكنهم لا يودون أو لا يليق أن يقاتلوا معك أهل دينهم وملتهم، وهذا من الرحمة، ومن ثم يقول الشيخ الإمام شلتوت – رحمة الله عليه – هنا تأتي كلمة وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ لتكشف لك النقاب عن جلية الأمر، فهو يقول أن كلمة وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩ تُشعِر وتُوميء إلى وتُنبيء بسبق عدوان منهم وبغي، أي مَن الذي بدأ هذا القتال؟ مَن الذي داس على طرف المسلمين وطرف دولة المسلمين؟هم هؤلاء، أي أهل الكتاب والروم – من بيزنطة – الذين داسوا على طرفنا، والآن وقع القتال وكُتب عليهم الانكسار وهُزِموا، فإذن أمامكم الآن إما أن تُقتَلوا – وهم لا يودون أن يُقتَلوا طبعاً – وإما أن تدفعوا هذه الجزية، والجزية علامة على خض شوكة شركم وعلامة على كسر كبريائكم وعلامة على هزيمتكم، فهذا هو معنى الصغار لأنكم انهزمتم، ومن هنا نقول للواحد منهم قل لي الآن بطريقة عملية أنك آسف على ما فعلت وأنك لن تعاودها، ومن ثم سوف يرد قائلاً كيف أقول هذا؟ فنقول ادفع الجزية، وهو بدوره سوف يقول سأدفع، وهذه هى قضية الجزية كلها، وإذا فهمنا هذا سوف نفهم الآن بشكل واضح لماذا النبي لم يُدَّفِع اليهود في المدينة الجزية، لأنهم لما أتى المدينة لم ينصبوا له الحرب ولم يبدأوه بعدوان، فالعكس حدث ومن ثم قال سوف نقوم بعمل تعاهد بالتعايش فقالوا نحن معك، وقال بدوره أهلاً وسهلاً، فجزية ماذاهنا؟ هنا لا تُوجَد أي جزية، لكن قد يقول لي أحد الآن يا مصيبة، هل هذا يعني أن إخواننا النصارى وغير النصارى في البلاد العربية لا ينبغي عليهم أن يدفعوا الجزية الآن؟ طبعاً لا تُوجَد جزية الآن، جزية ماذا؟ هؤلاء أهل البلاد وهم مواطنون مثلنا مثلهم، وبالأمس القريب حاربوا الاستعمار معنا جنباً إلى جنب Side By Side، أليس كذلك؟ ولهم جهاد مشكور ومقدور، لكن قد تقول لي فيهم خونهم ويُوجَد المعلم يعقوب وما إلى ذلك، وأنا بدوري أقول أن فينا خونة أيضاً يا حبيبي، فنحن فينا خونة وما زال فينا خونة إلى اليوم، فالخونة ليسوا فقط في الأقباط وفي المسيحين بل وفي المسلمين يُوجَد خونة أيضاً، والآن فلسطين مُحتلَة وفيها خونة، فما هذا الكلام الفارغ؟ هذا ليس تفكيراً علمياً، فإذن لا تقل عن هؤلاء أنهم أهل ذمة ومن ثم ينبغي أن يدفعوا الجزية، هذا كلام فارغ وهو كلام مَن لم يفقه جيداً الكتاب والسنة والسيرة النبوية، لكن ينبغي أن نفقه هذه الأشياء – كما قلت لكم – بمنطق علمي وبمنطق يدرك هذا التدرج وهذا التطيف في القانون الاجتماعي وبمنطق يُدرِك كيف يتغير ويتلائم ويتعدَّل قانون الاجتماع، وأنت لابد أن تتغيَّر وأن تتلائم وأن تُعَّدِل نفسك لكي تلاحق هذا القانون في تغيره وإلا سوف تكون إنساناً جامداً ولن يكون لديك أي فقه يصلح للحياة، ومن ثم سوف تصير فعلاً كما ظل اليساريون ينعتوننا رجعياً، أي فقيهاً رجعياً، لكن ما معنى أن تكون فقيهاً رجعياً؟ أن تعيش ببدنك في القرن الحادي والعشرين لكن عقلك ومعجميتك وثقافتك تعيش بها في القرن الأول، لكن النبي لم يكن كذلك – كما قولنا – بالمرة، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، لكن لماذا أقول هذا؟ أقول هذا لأن هذا غير مقبول في الوقت الذي ارتفعت فيه درجة ووتيرة أيضاً تحسس الأفراد والشعوب لدينا في العالم العربي والإسلامي للحرية، فاليوم يُوجَد شيئ أصبح مُقدَساً أعند الناس – وحَيَّهَلاً بهذا – إسمه الحرية، فيُقال لا تنتقص حريتي ولا تُكرهني ولا تفرض عليّ ما لا أريده، لكن هل النبي عندما أسَّس دولته كان هدفه من هذه الدولة أن يكره الناس على ما لا يريدون؟ هذا مستحيل طبعاً، وإلا لماذا قًبلَ بالمُشرِكين فيها؟ لماذا قَبلَ باليهو ومن غير جزية؟ هذا أمر عجيب، إذن الدول المسلمة لا تفعل هذا، ونعود إلى سؤال ما علاقة الدولة بالدين؟ ماذا تفعل مع الدين؟ الدولة النبوية والدولة المسلمة أو الإسلامية الأولى لن نقول أن ليس من أولوياتها بل ليس من مهامها أصلاً وليست وظيفتها أن ترغم الناس على الدين وأن تُدين الناس، فإذن ما هى وظيفتها؟ العكس تماماً، هل تعرفون ماهى وظيفتها؟ وظيفتها أنها تتيح الحريات وتصونها، وهذا معنى قول الله وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ – دفع الكافر المعتدي المُضطهِد بالمُسلِم المُؤمِن بالحريات – لَّهُدِّمَتْ – انتبه إلى أنه لم يبدأ بالمساجد – صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ – دور عبادة اليهود والنصارى وغيرهم – وَمَسَاجِدُ – دور عبادة المُسلِمين – يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۩، الله، ما هذا الجمال؟ هذا الإسلام العظيم، وهذا هو القرآن وروعة القرآن، فالآن لا يقل لي أحد قال أبو حنيفة أو ابن تيمية أو سيد قطب، فأنا أقول له اسكت يا أهبل لأننا نتحدَّث عن القرآن الآن، افهم وكيّف عقلك مع القرآن وليس مع نظريات لها وعليها، وهى نظريات بشر كما نُخطيء هم يخطئون أيضاً، فإذا كنت تُريد أن تتحدَّث عن سيد قطب و المودودي وفلان وعلان فإن سيد قطب و المودودي آمنوا بالدولة الشمولية، فما رأيك؟ والمودودي صرَّح بهذا في الدستور الصغير، وقد قرأت هذا الدستور وأنا صغير وهو منشور حتى الآن بالإنجليزية وبالعربية وإسمه The Islamic Law and Constitution، أي القانون الإسلامي أو الشريعة الإسلامية والدستور، ويقول فيه أن الدولة المُسلِمة أوالدولة الإسلامية لا تحصر نفسها في مجال بعينه وإنما ترى أن من واجبها ومن ضمن وظائفها ومهامها أن تنبسط في كل المجالات، كالمجال الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي والتعليمي والتربوي وكل المجالات، فهى دولة متغولة وهى دولة التنين – دولة هوبس Hobbes – فعلاً لأنها دولة مُطلَقة، وماذا يقول المودودي – والله بالحرف – أيضاً؟ يقول – وعودوا إلى الكتاب لأنه موجود بالإنجليزي وبالعربي – بالحرف – رحمة الله عليه – الآتي: وهى من هذه الزاوية أو من هذا المنظور – Perspective – تشابه الدولة البلشفية Bolshevik – الدولة الشيوعية الخاصة بلينين Lenin – والفاشية.

طبعاً تقشعر أبداننا إذا نسمع هذا الآن، لكن أنا أقول لك أن هذا في زمان المودودي كان أمراً عادياً، لماذا؟ لأن لا الفاشية ولا البلشفية في زمانه كانتا قد انتهيتا بالكامل وأصبحتا من عار التاريخ، ومن ثم قال هذه دول قوية وعندها إيدولوجيا ونصف العالم مقسوم لصالح البلاشفة والشيوعيين، وبالتالي هذا أمر عادي بالنسبة له، لكن اليوم تقشعر الأبدان من هذا، لذلك لا تشمئز من المودودي – رحمة الله عليه – طبعاً، فهو مُفكِر كبير وإمام مُقتدِر ولكنه يفكِّر ضمن ظروفه، فالرجل يُفكِّر ضمن ظروفه وإن كان التفكير قطعاً خاطئاً، فهذا التفكير قطعاً غالط وقطعاً خاطئاً ولا يُمكِن أن نقبل نحن بإسم الإسلام أن تكون هناك دولة إسلامية شمولية مثل الدولة الشيوعية والدولة الفاشية، أي أن تكبت على أنفاس الناس وتحسب عليهم كل شيئ وتقول للواحد منهم يجب أن تصلي رغماً عنك وأن تذهب إلى المساجد رغماً عنك وأن تحج وتعمر وتؤدي الزكاة رغماً عنك ويُقال للفتيات يجب أن تتحجبي رغماً عنكِ، فهذا كله تكذبه سيرة رسول الله.

قل لي بالله عليك أين في كتاب الله – وعندك سورة التوبة اقرأها بطولها وهى ليس فيها بسملة طبعاً – أن الرسول عاقب المُتخلِفين عن الجهاد؟ هل الرسول عاقبهم؟ لم يفعل هذا، لكن هل اليوم تُوجَد دولة تسمح لواحد مُجنَد بألا يذهب إلى الجيش التعبئة العامة مثلاً لما يُطلَب؟ لا يُمكِن هذا، سوف يذهب إلى السجن مباشرةً، وفي الدول البلشفية والفاشية سوف يذهب إلى الإعدام، أي أنه كان سيُعدَم مباشرةً في هذه الدول، وحتى في الدول الديمقراطية والليبرالية سوف يُذهَب به السجن، وقد رأينا نموذج محمد علي كلاي وما إلى ذلك، فهذا كله ممنوع ورغماً عنك سوف تذهب إلى الجيش، لماذا؟ لأن هذه دولة ماكس فيبر Max Weber، فماكس فيبرMax Weber قال لك أن الدولة لها تعريف عنده، فالدولة عند عالم الاجتماع العظيم ومُؤسِّس علم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weber هى التي تحتكر العنف المشروع، فمن حقها أن تمارس العنف، وهذا العنف له مشروعية على الأفراد كلهم، لكن الرسول لم يكن كذلك، فلم يصدر عن مثل هذا المنطق الشمولي القهري المتغول للدولة أبداً، والنبي كان حتى النهاية يتعامل مع الدولة – كما قلت لكم – من منظور تعاهدي، فأطراف المجتمع ومُكونات المجتمع تعاهدت على أن تتعاون وأن تتعايش، فقيل أهلاً وسهلاً بهذا الاختيار، وحتى على المستوى الديني في بيعة العقبة على ماذا بايع الأنصار النبي؟ على أنه إذا صار إليهم في المدينة منعوه مما يمنعون منه أزرهم، أي نساءهم وأطفالهم وأعراضهم وذمامهم، ولذلك لما النبي خرج لمُلاقاة العير في بدر تخلف أنصار في جماعات وليس جماعة واحدة – جماعات من الانصار – وقالوا لم يقع الاتفاق على هذا، وهذا أمر عجيب، مع أن هذا قتال مع النبي، لكنهم قالوا هذا القتال كله ضمن شؤون سياسية، فالنبي ذهب لكي يقاتل وهو الآن خارج المدينة، أي لا يُوجَد عدوان عليك ونحن لم نعاهده على هذا، فلم تقع البيعة والصفق بها على أن نمنعك في كل مكان، نحن نمنعك في المدينة، فحين تكون عندنا لن ينالك أي أحد بسوء لكن حين تكون خارج المدينة نحن أحرار، ومن ثم منهم مَن ذهب مع النبي – أبو الهيثم بن التيهان ذهب ماشاء الله عليه – ومنهم مَن لم يذهب، والنبي لم يعتب عليهم لأنهم نزلوا على وأخذوا بمقتضى التعاقد، فانظروا إذن إلى هذه الحرية وهذا الجمال، والأكثر من هذا هو ما ستعرفون الآن، فالنبي الآن عنده دولة وهذه الدولة تخوض حروباً وهى دولة مُهدَّدة في عقر دارها، وبيزنطة – كما قلنا – كانت تهددها واعتدت على المسلمين في العسرة ولم يذهب عدد من المُنافِقين وتعلَّلوا بالحر، فقالوا لن نذهب بسبب الحر لكن هم الحقيقة كانوا يخافون من الروم، فهم اعتقدوا أن بيزنطة سوف تذبحهم في عشية واحدة أو في غدوة واحدة، فمحمد مَن وأصحاب مَن الذين سوف نذهب معهم لمُلاقاة الروم؟ هذه بينزنطة وهناك ألف سنة وما إلى ذلك، فما هذا الكلام الفارغ؟ هؤلاء منافقون والعياذ بالله منهم، وعلى كل حال اقرأوا سورة التوبة وقولوا لنا كيف عاقبهم النبي، هل جلدهم؟ هل قطعهم من خلاف؟ هل اعتبرهم مُحارِبين أٌفسدوا في الأرض؟ لم يفعل هذا أبداً أبداً أبداً، فقط القرآن اكتفى بالدمدمة عليهم وأنهم مُخلَفون وجبناء وأنهم كذبة، وقال الحمد لله أنهم لم يخرجوا معك – لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ۩ – وإلا كانوا فتوا في عضد الجيش المسلم وضعضعوكم وأضعفوكم وأرجفوا، ومن ثم كان من الأحسن ألا يخرجوا، فليذهبوا إلى الجحيم، لكن هل هناك دولة تعمل هذا الآن؟ لا يُمكِن أن تجد دولة تقول هذا، سوف تقول لمَن يفعل هذاتعال إلى هنا، إلى أين أنت ذاهب؟ اهرب اليوم من الدولة في النمسا هنا من أداء الضرائب وانظر ماذا سيحدث، سوف تُجذَب – والله – من شوشتك، فهذا الكلام غير مسموح به وغير موجود يا حبيبي، لكن محمد لم يكن عنده هذا المنطق، وهذا المنطق طبَّقه في الزكاة أيضاً، فعند جمع الزكاة كان يبعث النبي مَن يقول لهم ادفعوا زكواتكم فقط ولم يكن عنده أي عيون أو أي جواسيس، فإذا دفع أحدهم كان بها، وإذا لم يدفع فإنه يقول هو لم يدفع ومن ثم لن نأخذه منه بعد ذلك، ما هذا؟ هل هناك دولة تتصرف بالمنطق هذا وتقول لن ناخدها منك؟

الغامدية التي جاءت وقالت طهرني يا رسول الله هى التي أتت بالإقرار واعترفت على نفسها، وهذا إذا أخذنا أن النبي فعلاً رجم وأنه رجم قبل النور وإن كان في القلب حتى من هذا كله شيئ، لكن على كل حال لو أخذنا بهذا وبظاهره فإن هذا كان بإقرارها، وكذلك الحال مع ماعز الذي قال يا رسول الله حدث كذا وكذا، فقال له أنت كنت سكراناً وأنت كنت كذا وكذا ولعلك ولعلك، فقال له بل أنا فعلت كذا، أي بإقراره هو، فلا يُوجَد أي بوليس Police سري أو بوليس Police أخلاق يكتب في الناس التقارير ويقول هذا عمل وهذا سوى، هذا غير موجود بالمرة، لماذا؟ لأن فعلاً في الأساس يُوجَد دين هنا، وانتبهوا إلى أن الدين حتى في إطار دولته – دولة محمد عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – من حيث هو ومن حيث جوهره يقوم على الاختيار الحر وعلى الرغبة في النماء الروحي والخُلُقي بحرية وباختيار، فلا يمكن أن يكون من وظائف الدولة تديين الناس كأنها تقول لهم لابد من التدين بالقوة وبالتهديد وبالسجن، فهذا مستحيل لأنه يخالف طبيعة الدين وقد رأينا هذا، إذن يبدو أن الدولة المحمدية – دولة رسول الله – كانت تقف على الحياد من هذه المسألة، فإذا كنت تحب أن تبقى يهودياً كُن كما أنت يهودياً، وكذلك الحال إذا كنت مسيحياً فتبقى مسيحياً، بل وتبقى حتى مُنافقاً، أنت حر ما دام لا تخل بالأمن العام وبالاستقرار وبمقتضى هذا التعاهد الأولي، فأنت حر في أن تبقى على دينك ونرجو لك الخير دون أن نرهقك، وهذا هو الصحيح، فالدولة المسلمة لا تجد نفسها في هذا – في أن تفرض على الناس شكل دين معين – أبداً.

طبعاً أنا سوف أكمل الفكرة الآن فقد أدركنا الوقت لأننا في فصل الشتاء وسوف نقوم لكي نصلي، فما هى الفكرة إذن؟ في الوقت الذي صارت الشعوب والأفراد يتحسسون جداً لحرياتهم وكل ما يمسها أو ينال منها أو ينتهكها نرى أن عندنا طروحات إسلامية – وأنتم تعرفون مثل ماذا طبعاً وتعرفون وما شاء الله ماذا يُقال عن الدولة طبعاً وعن دول الإسلام والدولة الإسلامية وما إلى ذلك – تجعل خطوط الفصل بين من المفروض أن يكونوا مواطنين – لا يُوجَد طبعاً مفهوم المواطنة، فهذا كلام فارغ عندهم، فلا يُوجَد عند هذه الطروحات مفهوم المواطنة Citizenship – ليس فقط الدين – أي الإسلام وما عدا الإسلام فيُصبِح الآخر درجة ثانية هذا إذا سُمِح له، ويا ليت والله هذا – بل أن خطوط الفصل – انتبهوا لهذه الكلمة – عند هؤلاء وفي تنظير هؤلاء وممارسة هؤلاء ليست الدين بمعنى الإسلام بإزاء أديان أخرى أو شرائع أخرى وإنما قراءة شديدة الخصوصية والضيق والحصرية للدين، أي قراءة مُعيَّنة للدين يصدر عنها هؤلاء ويُلزِمون الكل بها، فلماذا هذا؟ هل يفعلون هذا بمنطق الاجتهاد؟ هل يفعلون هذا بمنطق المُقارَعة بمغنى أنهم غلبونا فكرياً وحجاجياً واجتهادياً؟ يفعلون هذا بمنطق القوة، فهم يقولون الدولة بيدنا والسلطة بيدنا ومن ثم سوف نفرض هذه القراءة، وفي هذه الحالة مَن الذي سيعاني؟ ليس فقط غير المسلمين، وإنما كل المسلمين أيضاً ما عدا الذين يتبنون هذه القراءة شديدة الخصوصية والحصرية والضيق، فيا له من وعد، ومع ذلك يقولون هذه دولة الإسلام وهذه الدولة الإسلامية وهذا وعدها!

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلمياً كثيراً.

كان المفروض في الحالة العادية أن نستقبل من الكلام زهاء أربعين دقيقة لكن ينبغي أن ننهي الآن لظروف – كما قلت لكم – الشتاء وقرب دخول وقت صلاة العصر، فبكلمة أحب أن أقول لكم إذا لم تجد الدولة الإسلامية الحق كدولة رسول الله نفسها في إكراه الناس على الدين وفي تديين الناس على الرغم عنهم فإذن تجد نفسها أين؟ انتبهوا إلى هذا وقولوا هذا دائماً وبشروا بهذا في العالم وارفعوا رؤوسكم، قولوا دولتنا – دولة القرآن ودولة محمد و دولة السيرة والسنة – تجد نفسها في بسط الحريات والدفاع عنها، وآيات القتال في كتاب الله تقول هذا، لماذا؟ يقول الله في سورة البقرة وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩ ويقول في الأنفال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۩ فهل تعرفون التفسير الصحيح والرجيح والمليح لهاتين الآيتين ونظائرهما؟ معنى قول الله حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩ أي حتى لا يُضيَق على الضمير الديني وحتى لا يُضيَق على الناس في حرياتهم الدينية، فمن عَبَدَ الله منهم ووَحَدَه عَبَدَه ووَحَدَه خالصاً من قلبه دون رياء أو نفاق أو إكراه ودون رغيبة أو رهيبة، أي أنه فعله بمحض إرادته فقط، أما أن تفسر آية وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۩ بمعنى لا يكون شرك فيفنى الشرك من الأرض فهذا تفسير غير دقيق بالمرة وإن قال به غير واحد إلا أن يكون تفسيراً من باب تفسير الفتنة بالشرك على أنه تسمية للشيئ بإسم مُسبِّبه أي سببه، وهذا مجاز نقبله كما فعل الفخر الرازي على أنه كان واضحاً في أن معنى الفتنة الإضطهاد في الدين وهذا ما تعطيه الأدلة وحديث ابن عمر عن نافع في صحيح البخاري يقول هذه الفتنة وهذا ما يعطيه استقراء كتاب الله، فالفتنة في كل الموارد هى صرف الناس عن دين الله الحق بطرق من الاختداع والتلبيس والتمويه والتشبيه وبطرق أيضاً من الترهيب والتعذيب، فكل هذا إسمه فتنة كما يقول كتاب الله، فهذه هى الفتنة إذن، والقرآن لا يريد فتنة لأحد ويريد أن يكون الدين – الدين الحق – عن طواعية وعن إخلاص بلا فتنة، فإذا وضعت الفتنة أوزارها وانتهت الفتنة لا قتال، فلا نقاتلهم إذن لأن لدينا احترام للحريات.

إذن الدولة المسلمة – سبحان الله – تجد نفسها في هذا الموضوع بالذات، أي في بسط الحريات وحياطة الحريات وإتاحة الحريات، فمن أحَبَ أن يُفكِّر في الدولة وأن يُنظّر للدولة وأن يعد – يعطي وعداً Promise – بالدولة وأن يُبشر بالدولة فلُيبشر بها وليعد بها من هذا المنطق ومن هذا الفهم، أي انطلاقاً من هذا الفهم تماماً، فيقول هذه هى دولتنا، لكن طبعاً عليه أن يعيد النظر في تراث فقهي وسياسي كبير وطويل وعريض لكي يجعله مُعدلاً ومتوائماً مع هذا المنظور، وأنا أقول لك حين إذن سنرى العالم كله يصفق لوعد الدولة الإسلامية ويقول مرحباً وحَيَّهَلاً بهذه الدولة لأنها ستخوض اختباراً أخلاقياً لتثبت أنها الأكثر التزاماً بالحريات وبشكل حقيقي ومُعمَّق أحياناً وليس بشكل قشوري تزييني موزاييكي بل بشكل حقيقي ومُعمَّق.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت وتولنا فيمَن توليت، افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، أصلِحنا وأصلِح بنا واهدِنا واهد بنا إنك ولي ذلك والقادر عليه، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: