الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، فيقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما يرويه عن صاحبه أبو هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وفيما خرَّجه الإمامان الجليلان – الإمام البخاري ومُسلِم رضيَ الله تعالى عنهما – مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه، إذن فتكثير الذنوب في شهر رمضان أمر مشروط بسببين، بل مشروط بتمام سببين، أن يصوم الإنسان رمضان كله، بشرط الإيمان والاحتساب لوجه الله – سُبحانه وتعالى -، فلابد أن يَكمُل هذا الشهر، ولابد أن يُكمِل الصائم العدة، فهذا هو السبب الأول، والسبب الثاني ظاهر، وهو قيام ليلة القدر، فمَن كمل له هذا الشهر الكريم الفضيل وقام ووافق وأصاب فيه هذه الليلة كُفِّرت عنه – إن شاء الله تعالى – بشرط التحقق بحقيقة الصيام سائر ذنوبه المُتقدِّمة، ومَن كان على غير ذلك فلتطل حسرته – والعياذ بالله -.

ولذا كان الإمام عليّ – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يقول كانوا أشد اهتماماً بقبول العمل منكم بالعمل نفسه، يقول منكم بالعمل نفسه، فأمثالنا يهتم بالعمل، أن يُصلي وأن يصوم وأن يقوم وأن يتلو وأن يستغفر، وأما أمثال السلف الصالحين – رضيَ الله تعالى عنهم – فكان همهم ليس في العمل، إذ أنهم كانوا ينصبون ويعملون ويجتهدون ويُؤدون ويُوقعون أعمالهم على خير وجه يكون، إلا أن همهم ينشأ بعد ذلك من هم القبول، هل تقبَّل الله أو لم يتقبَّل؟ قال الإمام – عليه السلام – لأن الله – سُبحانه وتعالى – يقول إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، ومَن ذلكم الرجل الذي يشهد لنفسه بالتقوى أو بحقيقة التقوى؟! فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ۩.

ولذا قال الصحابي الجليل – صاحب رسول الله الأوسي، أحد أهل بيعة الرضوان – فُضالة بن عُبيد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال والله لأن أكون أعلم أن الله – سُبحانه – تقبَّل مني مثقال حبة من خردل لكان أحب إلى نفسي من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، وترون الغافل المسكين الغارق في شهواته يُوقِع العمل على أي وجه كان، لا على أحسن وجه يكون، ويظن أنه صار في حيز القبول، من أين لك هذا؟

لَعَلَّكَ غَضْبَانٌ وَقَلْبِي غَافِلٌ                             سَلامٌ عَلَى الدَّارَيْنِ إِنْ كُنْتَ رَاضِيَا.

نعم! كانوا أشد اهتماماً بقبول الأعمال منا بإيقاع هذه الأعمال، رمضان كشأن العبادات جميعاً، أعني الصيام فيه، أعني الصيام في شهر رمضان، مكيال مَن وفاه وُفي له، ومَن بخسه وطفَّف فيه نُقِص من أجره وحُط من رُتبته، فهو مكيال وهو ميزان العمر، مَن وفى وُفيَ له، مَن وفى العمل كاملاً وُفيَ الأجر كاملاً، ومَن أعطى ما عليه مُوفَّراً أُعطيَ أجره أجراً، لا نقداً، نعم!

غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ                           وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا.

إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ                           وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا.

ولذا لما رأى ولي الله السيد الجليل وهيب بن الورد – رضيَ الله تعالى عنه – أناساً يتضاحكون في يوم عيد الفطر بعد تصرم هذا الشهر الكريم قال مِمَ ضحكهم؟ والله لو كان صيامهم مقبولاً عند الله – عز وجل – فما هذا فعل الشاكرين، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، قال ما هذا فعل الشاكرين، ولئن كان صيامهم غير مقبول عند الله – سُبحانه وتعالى – فما هذا حال الخائفين، نعم! هكذا كانوا.

قيل لأبي الحُسين النوري – رحمه الله تعالى ورضيَ عنه – غداً العيد، فماذا أنت لابس؟ فبكى – رحمة الله عليه – وأنشد، قال:

قَالُوا غَداً الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لابِسُهُ؟                           فَقُلْتُ خُلْعَةُ سَاقٍ عَبدهُ جَرَعَا.

فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَايَ تَحْتَهُمَا                           قَلْبٌ يَرَى رَبهُ الأَعْيَادَ وَالْجُمُعَا.

أَحْرَى الْمَلابِسِ مَا تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ                 يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا.

الدَّهْرُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي                    وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا.

قال خُلْعَةُ سَاقٍ عَبدهُ جَرَعَا، سَاقٍ يسقي عبده الجرع، فَقُلْتُ خُلْعَةُ سَاقٍ عَبدهُ، مفعول لساق، خُلْعَةُ سَاقٍ عَبدهُ جَرَعَا.

فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَايَ تَحْتَهُمَا                           قَلْبٌ يَرَى رَبهُ الأَعْيَادَ وَالْجُمُعَا.

أَحْرَى الْمَلابِسِ مَا تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ                 يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا.

لا في ثوب الكبر، ولا في ثوب العجرفة، ولا في ثوب حُسن الظن بالنفس، وإنما في ثوب الفاقة، وفي ثوب الضعف، الله أخرجنا من بطون أمهاتنا ضعيفين مُفتاقين مُحتاجين إلى كل ألوان وصنوف رحمته.

أَحْرَى الْمَلابِسِ مَا تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ                 يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا.

الدَّهْرُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي                    وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا.

رحمة الله عليه رحمةً واسعةً، ورُؤيَ عارف بالله آخر في يوم عيد الفطر بعد تصرم هذا الشهر الكريم الفضيل – أعاده الله علينا وعلى المُسلِمين والأمة الإسلامية في خير من حالها هذا، في خير من حالها الدامي المحروب -، رُؤيَ في ثلاث يبكي ويهتز ويُنشِد – رحمه الله تعالى -، يقول:

بِحُرْمَةِ غُرْبَتِي كَمْ ذَا الصُّدُودُ!                               أَلَا تَعْطِفْ عَلَيَّ أَلَا تَجُودُ؟!

سُرُورُ الْعِيدِ قَدْ عَمَّ النَّوَاحِي                               وَحُزْنِي فِي ازْدِيَادٍ لَا يَبِيدُ.

فَإِنْ كُنْتُ اقْتَرَفْتُ خِلَالَ سُوءٍ                            فَعُذْرِي فِي الْهَوَى أَنْ لَا أَعُودُ.

فيا مَن أعتقه ربه – سُبحانه وتعالى – من الأغلال ومن النار لا تعد، لا تعد إلى رق الأوزار، بعد أن أعتقك – سُبحانه وتعالى – من نار جهنم، وربما لا تستحق هذا العتق، وقد ورد أنه – سُبحانه وتعالى – يُعتِق الملايين من خلق الله، من المُوحِّدين المُسلِمين الصائمين، مِمَن استوجبوا نار جهنم بكبائرهم وجرائحهم وجرائرهم، نعم!

وَإِن امْرأ ينجو مِنْ النَّار بَعْدَمَا                            تزوَّد مِنْ أَعمالهَا لسعيدُ.

قال بَعْدَمَا تزوَّد مِنْ أَعمالهَا لسعيدُ، لأنه لا ينجو إلا برحمة الله، كما أخرج البيهقي عن جابر وأخرجه أحمد عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال، لم تُعطها أمة غيرهم، وذكر خامستها، إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان غفر الله لهم وأعتقهم من النار، فقيل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال لا، فإن العامل – في رواية أحمد قال فإن العامل – إذا قضى عمله – أي فرغ من عمله – وُفي أجره، هذه تختلف عن ليلة القدر، في آخر ليلة من رمضان.

كان أبو الحسن – ختن رسول الله، الإمام عليّ، عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – يُنادي ليلة العيد، يقول مَن قُبِل منه صيامه أيها الناس فنهنيه، ومَن لم يُقبَل منه صيامه فنُعزيه، يحتاج – والله – العزاء، المحروم مَن حُرِم في هذا الشهر الكريم، لماذا؟ لأن أسباب الرحمة والمغفرة مُتظاهِرة مُتضافِرة مُتكاثِرة، يأخذ بعضها بأعناق بعض، على رأسها قيام هذا الشهر وصيامه، على رأسها قيام ليلة القدر، ومنها تفطير الصائمين، ومنها التخفيف عمَن ترأسهم، وقلنا هذا في معنى التخفيف عن المملوك، فلا مملوك الآن، فدخل في معناها عمَن ترأسهم، مِمَن دخلوا تحت رياستك وتحت سُلطانك وقهرك وأمرك، نعم! وأيضاً من هذه الأسباب استغفار الملائكة للصائم حتى يُفطِر، يستغفرون له طيلة النهار أو سحابة نهاره إلى أن يُفطِر.

ومن هذه الأسباب الاستغفار نفسه، وبالذات في شهر رمضان، استكثروا فيه من خصلتين، لا غنى بكم عنهما، ما ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، ولذا روى الإمام الطبراني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – المُستغفِر في شهر رمضان مغفور له، أي كأن الله يضمن أن يغفر له أو كأن الرسول ضمن لنا أن الله يغفر لمَن استغفر في هذا الشهر، فاستكثروا من الاستغفار، واستزيدوا من لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ولذا قال أبو هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال كل صائم يُغفَر له في رمضان إلا مَن يأبى، قيل يا أبا هُريرة ومَن يأبى؟ قال مَن يأبى الاستغفار، مَن يأبى الاستغفار! لأن الاستغفار باب مفتوح، يُغفَر به للصائم ذنبه.

إذا كانت رحمة الله للمُحسِنين فإن المُسيئين لا يقنطون منها، وإذا كانت مغفرته كُتِبت للمُتقين فإن المُسرِفين ليسوا مُحجوبين عنها، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، أرجى آية في كتاب الله، ولهي أرجى في حقنا في هذا الشهر المُبارَك الفضيل.

إن كانَ عِفوكَ لا يَرجُوهُ ذو خطأٍ                       فمَن يَجُود على العَاصِينَ بِالكَرَمِ؟!

هَبْ لِي بِجودِكَ فَضْل العَفو عَنْ زَلَلي                 يَا مَنْ إليه رَجاء الخَلق في الحَرَمِ.

قال:

إن كانَ عِفوكَ لا يَرجُوهُ ذو خطأٍ                       فمَن يَجُود على العَاصِينَ بِالكَرَمِ؟!

الله – عز وجل – أكرم ما يكون في هذا الشهر الكريم، وإنما عُد العيد – أي الإفطار من شهر رمضان عيداً – للأمة المُحمَّدية المرحومة لماذا؟ لأنه عُتِقت فيه – أي في هذا الشهر – رقابهم من نار جهنم، فحُقَّ لهم أن يُعيَّدوا، حُقَّ لهم أن يعيشوا عيداً، فمَن لم يُفعَل به هذا فليطل حُزنه، ولتمتد حسرته على نفسه – والعياذ بالله -، وإنما جُعِل عيد الأضحى أيضاً – عيد النحر – عيداً أكبر للأمة الإسلامية تلو هذا العيد وعقب هذا العيد بمُدة وجيزة لماذا؟ لأن قبله يوم عرفة، الذي لا يُرى فيه يوم أكثر مغفوراً لذنبه أو ذنبه من ذلكم اليوم، أي من يوم وقفة عرفة، فمَن غُفِر له وعُتِق من نار جهنم في العيدين أو في أحدهما فله حق في يوم عيد، ومَن فاته العتق في اليومين فله يوم وعيد، الأول له حق في يوم عيد، له الحق أن يعيش عيداً وأن يفرح وأن يمرح.

قيل لبعض السلف الصالحين وقد رُؤيَ حزيناً مهموماً باكياً في يوم العيد، قيل له إنه يوم سرور وفرحة، فقال نعم، صدقتم، ولكنني عبدٌ أمرني مولاي بعمل أن أعمله، فلا أدري أقبله مني أم رده علىّ، عملت العمل ولا أدري هل قُبِل أم لا، يهتم للقبول، فلا يستطيع أن يعيش عيداً سعيداً، وعندما دخل بعضهم على الإمام عليّ – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في يوم عيد فطر وجدوا أمامه طبقاً فيه زيت قديم وخُبزة ناشفة – كسرة من خُبز ناشف جاف -، فقيل له يا أبا الحسن أهذا أو أمثل هذا في يوم عيد؟ فقال دعني منك، دعني من كلامك، كل يوم لم أعص فيه ربي فهو عندي يوم عيد، هذا هو العيد.

الدَّهْرُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي                   وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا.

قال الدَّهْرُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي، وَالْعِيدُ – أي الدهر عيد لي – مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا، ما دام الإنسان في عين الله، وفي كنف الله، وتحت رعاية الله – سُبحانه وتعالى -، لا يتجاوز أمر الله، ولا يقع ويتخوَّض في نهي وفي مناكره ومساخطه، فهو في عيد دائم.

كلمات تجول على الخاطر، أظن أن الرباط بينها أو النظام ضعيف، فلا تكاد تنتظم في خطاب، ولكنها تجول وتطفو، تجول وتطفو والجامع الذي يجمعها معنىً من معاني السلوان، ومعنىً من معاني العزاء، ومعنىً من معاني الحُزن، ومعنىً من معاني الأسى، رمضان يُوشِك على الرحيل يا إخواني، عازم على الرحيل، لم يبق منه إلا قليل، فمَن أحسن فيه فعليه التمام، ومَن أساء فيه فليغتنم هذه الليالي والأيام القادمة اليسيرة، فإنما الأعمال بالختام.

واستوهبوا أنفسكم من رب العزة في هذه الأيام والليالي المُبارَكة – في العشر الأواخر بل في السبع الأواخر المُتبقية -، استوهبوا أنفسكم ورقابكم من رب العزة الغفور الرحيم المُتجاوِز – سُبحانه وتعالى -، وقدِّموا أعمال صالحة من صلاة وقيام، علها تشهد لكم عند الله الملك العزيز العلّام، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، كما قيل رمضان سوق قامت ثم انفضت، ربح فيها مَن ربح، وخسر فيها مَن خسر.

النبي أمَّن على الدعاء أن الله لا يغفر لمَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له في رمضان، لأن أسباب المغفرة – كما قلت – كثيرة، فمَن لم يُغفَر له بكل هذه الأسباب فمتى يُغفَر له؟ متى يُغفَر له؟ متى يصح مَن كان به فيه – مَن به في هذا الشهر الكريم – مِن داء الجهالة والغفلة مرضان؟ إن الشجر إذا لم يُورِق في أوان الإثمار قُطِع ثم أُوقِد عليه في النار، أليس كذلك؟ وهذا قلب العبد، إذا لم يُصدِر توبةً نصوحةً وعودةً حميدةً وأوبةً ضارعةً مُخبِتةً إلى رب العزة في هذه الأوقات فحري به أن يُقطَع من مادة الحياة أو تُقطَع عنه مادة الحياة ويُقذَف به في نار جهنم، كما أمَّن النبي على عدم المغفرة والرحمة له، قال آمين – والعياذ بالله – كما في صحيح ابن حبان وغيره، الشجر إذا لم يُثمِر في أوان الإثمار فحري أن يُقطَع ويُوقَد عليه في النار، وهكذا قلب العبد.

نسأل الله – عز وجل – أن يأخذ بيدي وأيديكم وأيدي المُسلِمين جميعاً إلى ما يُحِبه ويرضاه، وأن يُسبِغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وأن يعتق رقابنا من نار جهنم في هذه الأيام والليالي المُبارَكات، آمين اللهم آمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، والعاقبة للمُتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المُبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

ودَّع بعضهم رمضان فقال – ولله دره، وقد جوَّد وحسَّن ما شاء -، قال:

فَياَ شَهْرَ الصّياَمِ فَدتْك نَفْسِي                             تَمهّلْ بِالرّحِيلِ وَالانْتقاَلِ.

فَماَ أدْري إذاَ ماَ الحول وَلّى                            وَعُدْتَ بِقابلٍ فِي خَيْر حاَلِ.

أتَلقاَنِي مَعَ الأحْياءِ حَيّا                             أمْ أنّك تَلقَاني فِي اللّحدِ باَلِي.

فَهذه سُنة الأيام فينا                                     فِراَقٌ بَعْدَ جَمْعٍ وَاكتمالِ.

وقد قلت في أول خُطبة في هذا الشهر المُبارَك – عاده الله علينا بخير وعليكم – إن السلف الصالحين كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يُسلِّمهم إلى رمضان، أن يحيوا وأن يعيشوا إلى رمضان، ستة أشهر! أن يُبلِّغهم الله رمضان، فإذا ما بلَّغهم الله رمضان دعوا ربهم – سُبحانه وتعالى – ستة أشهر أن يتقبَّل الله منهم رمضان، السنة كلها لأجل رمضان! فسلِّم اللهم لنا رمضان، وسلِّمنا إلى رمضان القادم، وتقبَّله منه سالماً مُشحَّراً لوجهك وحضرتك، إلهنا ومولانا رب العالمين.

فعودوا إلى الله – عز وجل -، واغتنموا توبةً صادقةً، وجاهدوا هذه الأنفس واقرعوها، ولا تيأسوا من رحمة الله – عز وجل -، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ۩، عسى ربكم أن يغفر لكم وهو أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تتقبَّل منا عباداتنا، صيامنا وقيامنا، ركوعنا وسجودنا ودعاءنا، وأن تختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.

اللهم تقبَّل منا رمضان، تقبَّله منا سالماً، وسلِّمنا له يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالسيئات غُفراناً.

اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا حاجةً لنا فيها صلاح ولك فيها رضا من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعنت على قضائها، بلُطفك ومنّك وتوفيقك وتيسيرك.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، ونسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومرداً غير مُخزٍ ولا فاضح، اللهم أعنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلِح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.

اللهم إنا نسألك يا حي، يا قيوم، يا جبّار، يا قهّار، يا عزيز، يا مُنتقِم، يا ذا القوة المتين، يا ناصر المُستضعَفين، يا أرحم الراحمين، يا راحم المساكين المخذولين، نسألك إلهنا ومولانا رب العالمين أن تُعِز الإسلام وتُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، وأن تنصر الإسلام والمُسلِمين، اللهم ادحر أعداء الإسلام والمُسلِمين.

اللهم كُن لنا ولا تكن علينا، اللهم خذِّل عنا ولا تخذلنا، اللهم امكر لنا ولا تمكر بنا، اللهم زِدنا ولا تنقصنا، أكرِمنا ولا تُهِنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تُؤثِر علينا، وارض عنا وأرضنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة الدنيا زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، والطف بنا فيما جرت به المقادير.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (1993)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: