تفسير القرآن الكريم ۞ سورة سبأ الآيات 10 – 14 ۞ الحلقة 2

video

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن والاه.

۞ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۞

 

وقفنا إخواني وأخواتي عند قوله – تبارك وتعالى – يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ۩، وقلنا إذن في أرجح الأقوال التأويب هو الترجيع، والترديد. قال وَالطَّيْرَ ۩، على هذه القراءة المُثبَتة في مُصحَفنا الشريف هذا (حفص عن عاصم) الطَّيْرَ ۩ منصوبة بالعامل، ما العامل؟ آتَيْنَا ۩، آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا ۩ وآتيناه ماذا؟ الطَّيْرَ ۩. هل هذا واضح؟ وهناك قراءة والطيرُ، فالطيرُ إذن كانت مأمورة بأن تُؤوِّب معه كالجبال، أي يا جبالُ ويا طيرُ أوِّبي معه.

وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۩، لا إله إلا الله! ذكر كل المُفسِّرين أن من معاجز وكرامات هذا النبي الجليل أن الله أكرمه بأن ألان الحديد بين يديه، فكان يصنعه ويُشكِّل منه الدروع والحلق وما إلى ذلك، بغير مطرقة وبغير إدخال نار، بيديه! كان بين يديه كالعجينة أو الشمع، قوة! آتاه الله قوة خاصة، أو أودع في الحديد بأمره التكويني – لا إله إلا هو – خاصية أن يلين لهذا العبد الصالح، قال له في أيدي هذا العبد الصالح لابد وأن تكون مثل الشمع أو مثل العجين. أو أعطاه قوة، وكل هذا مقدور لله، كل هذا مقدور! أو وقع الاثنان، الله أعلم أي ذلك كان.

وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۩، وبعضهم ذكر قصصاً حول لماذا فعل الله هذا به وله، ونضرب عنها الذكر صفحاً، لأنها إسرائيليات قد لا تصح، ولكن هذه المكرمة والمُعجِزة ثابتة له بنص كتاب الله – تبارك وتعالى -، وكان يصنع الدروع كما سيأتي في الآية المُوالية مُباشَرةً، كان يصنع الدروع ويبيعها، يقولون كان يصنع الدرع، غيره يصنعها ربما في أيام طويلة، وهو يصنعها في نهار أو بعض نهار، ويبيعها بثمن كبير، ويأكل من عرق جبينه وكد يمينه. والنبي قال ما أكل امرؤ خيراً من عمل يده أو كسب يده، وإن نبي الله داوود كان يأكل من كسب يده. كان حدّاداً، زكريا كان نجّاراً، نوح كان نجّاراً، آدم كان مُزارِعاً، الأنبياء تقريباً كلهم كانوا هكذا، النبي رعى الغنم، موسى رعى الغنم، وأمر زوجته رعيه الغنم عشر حجج، كل الأنبياء كانوا يتكسَّبون من عرق جبينهم وكد يمينهم – عليهم الصلوات والتسليمات -.

 

۞ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۞

 

أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ۩، وهي ماذا؟ وهي الدروع. السابغات هي الدروع، سبغ الشيئ إذا ماذا؟ إذا استطال واتسع. سبغ الشيئ إذا استطال واتسع! إذن السابغات هي الدروع، الدرع السابغة.

أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۩، السرد هو نسج الدروع، ما معنى نسج الدروع؟ تُنسَج من حلقات، حلقات مُرتبِطة ببعضها. قال المُفسِّرون وكانت الدروع قبل داوود صفائح، ألواح إلى جانب بعضها، فكانت تُبهِظ وتُثقِل حاملها جداً، نعم تُحقِّق له المنعة، ولكن تعوقه ماذا؟ حركته. جاء الله من باب تتميم النعمة على هذا العبد النبي الصالح – عليه الصلاة وأفضل السلام، وأنبياء الله جميعاً، نعم – وقال له ماذا؟ قال له وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۩، وَقَدِّرْ فِي ۩ نسج هذه الدروع، وَقَدِّرْ ۩ أخذاً بالقسط من الأمرين، أخذاً بالقسط من الأمرين! ما المقصود بالأمرين؟ المناعة، والخفة. بحيث تكون الدرع على هذا الوصف، قد يقول لي أحدكم الدرع مُذكَّر أو مُؤنَّث؟ لا، الدرع التي للمُقاتِل مُؤنَّثة، والدرع التي للمرأة تلبسها مُذكَّر. يقول لك جاءت في درع. وهو درع – مثلاً – جميل، درع أبيض. ما معنى هذا؟ أي الثوب الذي تلبسه، وهذه اسمها المدرَّعة أو الدرع، هذا مُذكَّر. أما درع المُقاتِل، فهذه مُؤنَّثة في اللُغة العربية، هل هذا واضح؟
على كل حال فقال له – تبارك  وتعالى – وَقَدِّرْ ۩، خُذ بالقسط من الأمرين، من الطرفين: أمر الحصانة والمناعة، وأمر ماذا؟ الخفة والرشاقة. اصنعها بطريقة، بحيث تكون منيعة، وفي الوقت عينه تكون ماذا؟ غير باهظة، غير ثقيلة. يتحرَّك فيها الفارس بسهولة، وكانت من الحلق. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۩

ابن عباس كان يقول أمره بأن يجعل المسامير في مكانها غير قلقة. أي لا تتقلقل، لا! ولكن يبدو أن القول الأول – والله أعلم – أليق بالآية.

وَاعْمَلُوا ۩، والخطاب ليس لداوود الآن، لآل داوود، كما قال في السورة نفسها بعد اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، هنا قال وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۩، لمَن الخطاب؟ لداوود وآله، لأزواجه وأبنائه وأحفاده وكذا. قال لهم وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۩، سُبحان الله! لأن عمل الدنيا يقع في طول عمل الآخرة، أنت تنسج وتسرد – ولذلك هذه يُسمونها المسرودة، الدرع تُسمى أيضاً مسرودة -، أنت تصنع وتسرد أو تنسج هذه المسرودات أو هذه الدروع السابغات، تتكسَّب منها، تكفي نفسك، تغتني أنت وما إلى ذلك، وفي نفس الوقت تكسب بها ماذا؟ الأجر والثواب عند الله – تبارك وتعالى -. لأن النية صالحة، النية صالحة! فهذا يقع في طول هذا، ولا يتعارضان – بحمد الله تبارك وتعالى -، أرأيتم كيف يكون القرآن حين يُفهَم؟ هو جميل، جميل وعجيب، ثورة! ثورة ثقافية وحضارية – والله – لو أحسنا فهمه، وماذا نقول؟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، طبعاً فهمه والعمل به، فهذا أهم شيئ، ليس الفهم فقط، والعمل، نعيش! وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩.

 

۞ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ۞

 

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ۩، إذن الرِّيحَ ۩، هذه ما الذي نصبها؟ نفس العامل، نفس الشيئ! كأنه قال ماذا؟ آتَيْنَا ۩ سُليمان الريح، آتَيْنَا دَاوُودَ ۩ كذا وكذا، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ۩. أو تقدر على أن تقول لا، هذا عامل آخر، من معنى العامل الأول، محذوف، نستطيع أن نُقدِّره، نستطيع نحن أن نُقدِّره، وليس شرطاً أن يكون آتَيْنَا ۩، يُمكِن أن يكون سخَّرنا، سخَّرنا لسُليمان: الرِّيحَ ۩.

وَلِسُلَيْمَانَ ۩، سُليمان نفس الشيئ، سُليمان اسم آخره ألف ونون، مثل عدنان، عثمان، سُفيان. ممنوع من الصرف. وَلِسُلَيْمَانَ ۩، ولو كان مصروفاً، لقلت لي ماذا؟ ولسليمانٍ. مثل ولمحمدٍ، أليس كذلك؟ ولكن لا يُوجَد شيئ اسمه ولسليمانٍ.

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۩، الريح تحمل سُليمان وحاشيته ومَن معه في غدوة، ينطلقون في غدوة، في الصباح! في هذه الغدوة يُمكِن أن تسير بهم لساعتين أو لثلاث، غدوة! تسير وتقطع ما يُقطَع بالركوبة – بالحصان، بالفرس المُضمرة – في شهر، ثم بعد ذلك هناك الروحة في المساء، لساعتين أو لساعتين ونصف، في هذه الروحة تقطع بهم ما يُقطَع في شهر، بمعنى أن هذه الريح كان سُليمان يقطع بها – بتسخير الله لها – في يوم واحد أو في نهار واحد أو في سحابة نهار واحد ما يُقطَع في شهرين، شيئ عجيب! لا إله إلا الله، من آيات الله هذا.

غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۩، قد يقول لك أحدهم كيف هذا وكذا؟ قل له ها أنت اليوم تركب الطائرة – ما شاء الله -، وفي غدوة واحدة تقطع ما يُقطَع في شهر أو أكثر ربما، فهذا هو. ولذلك نبَّهت أكثر من مرة على ما فتح الله به على مولانا وسيدنا بديع الزمان النورسي – قدَّس الله سره العظيم -، هذا الكردي التركي الذي نعش الله به الحق في تركيا الكمالية، هذا الرجل في تفسيره للفاتحة – ولم أقرأ هذا لأحد من قبله – قال الظن أن كل مُعجِزة ذكرها الله لنبي أو رسول من الأنبياء والرُسل ستتحقَّق في يوم من الأيام للجنس البشري، للنوع البشري! بجُهدهم وعلمهم. وضرب أمثلة عجيبة جداً، وفعلاً هذا يتحقَّق الآن، هذا يتحقَّق الآن! سوف تقول لي وحتى إحياء الموتى؟ ونقول لك ارجع إلى خُطبة الموتى يتكلَّمون، وذكرنا فيها ما توصَّل إليه العلماء الآن، بل ما توصَّلوا إليه من سنوات – من حوالي سبع سنوات -، بعد ثماني ساعات يكون القلب توقَّف، شيئ لا يكاد يُصدَّق، ويُعاد إلى الحياة، وهذه حصلت! وعُد إلى سام بارنيا Sam Parnia وكتاب سام بارنيا Sam Parnia.

إذن وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۩، والقطر هو النحاس. سُبحان الله! الله – عز وجل – أنبع له عيناً، ولكن هذه لا تنبع بالماء، تنبع بماذا؟ بالنحاس المُذاب. أرأيتم عدة المُلك؟ ولذلك النبي سُليمان كان ملكاً، ولم يُوجَد ملك مثله، ترتجف وترتعد فرائص الملوك عند سماع اسمه، مثل مَن؟ ملكة سبأ، ملكة سبأ بلقيس! أليس كذلك؟ خافت وكذا، قالت هذا سوف يذلنا بعد ذلك ويُخضعنا. طبعاً! وبعث لهم وهددهم، قال لهم تعالوا. لماذا؟ لأن هذا مُلك الله – تبارك وتعالى – هو الذي مكَّنه لصحابه، وأعطاه من عُدته أو عُدده وآلاته الشيئ العجيب، الذي لا يُقدَر على مثله في عصره، مَن الذي يقدر عليه؟ إلى اليوم مَن الذي يقدر على أن يُسيل عيناً بالنحاس؟ من غير نار، طالعة كلها نحاس، وخُذ بعد ذلك من هذا النحاس الذائب واصنع ما تشاء طبعاً، من آلات وأسلحة وأشياء وأواني وتماثيل وقدور، ما تشاء، كل ما تُريد، كل ما تُريد!

هذه بعض آلات المُلك، والجن مُسخَّرة له والإنس والوحش والطير، شيئ غريب! لا إله إلا هو، هذا الرب الجليل، حين تقرأ القرآن بهذه الروح يا أخي تحس فعلاً بأن هناك رباً، وهذا مُلكه، يتصرَّف فيه كيف شاء. لا إله إلا الله! أي هذا عبد من عباده، واحد مثلنا هذا، هذا خُلق من ذكر وأُنثى، أبوه داوود، عبد عادي، آتاه الله علماً، وآتاه فضلاً، وكان يعرف من منطق الطير، وآتاه هذا المُلك، وسخَّر له الإنس والجن والطير والوحش، وكذا.. عبد! وبعد ذلك قضى عليه بالموت، وحين كان يغلط كان يُقرِّعه، يقول له انتبه، غلطت، ارجع للصراط المُستقيم. وكذا! وهو دائماً ما يتذلل ويشكر، قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۩، وكذا!

ويتصرَّف هذا الرب في السورة نفسها في الأمم، ليس في الأفراد فقط، في الأمم والجماعات والحضارات، ويرفع ويخفض، ويُحيي ويُميت، لا إله إلا هو! كونه، كل هذا كونه، كله كونه وعالمه، وأنت حين تقرأ القرآن اقرأه بمثل هذه الرؤية وهذا المنظور التصريفي، هذا المنظور التصريفي، هذا المنظور المُلكي والملكوتي، كيف يتصرَّف الملكوت في المُلك؟ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! وفي الوقت عينه هناك أفراد مثل سُليمان، وقد يكونون أطول منه طولاً، وأقوى منه قوةً، وأجمل منه جمالاً، أليس كذلك؟ على أنهم أشباه البهائم، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ۩، لا انتفعوا بنور، لا اهتدوا بهداية، لا عرفوا شيئاً، عاشوا وماتوا كالبهائم، يأكلون ويشربون ويتسافدون، ولم يفهموا شيئاً، مُلكه! لا إله إلا هو، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩، نسأل الله أن يلحظنا بعين عنايته، وأن يجعلنا في كنف رعايته على الدوام، بفضله ومنّه. نعم!

قال وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۩، الله سخَّرهم له، هو وحده لا يستطيع، ولكن الله سخَّرهم رُغماً عنهم، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ۩، أي أمر؟ هو هذا، أن يُطيعوا سُليمان، وأن يُسخَّروا لسُليمان. نعم! هذا ما تُعطيه الآية، وهو أخص من أن يكون أمر الله في الهداية العامة، أخص لأن السياق يُساعِد عليه.

نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ۩، اختلفوا، قالوا هذا العذاب المُتوعَّد به في الدنيا. والأرجح أنه في الآخرة، وهو قول الأكثرين، هو قول الأكثرين لقوله السَّعِيرِ ۩، و: السَّعِيرِ ۩ هي ماذا؟ نار جهنم.

 

۞ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۞

 

يَعْمَلُونَ لَهُ ۩، عليه السلام، مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ۩، وقوله – تبارك وتعالى – مَا يَشَاء ۩ قرينة، جعلت أذكياء علماء التفسير والأصول يقولون هنا التماثيل عامة، تشمل تماثيل لحيوانات، وتماثيل لبشر صالحين، وتماثيل لجمادات، وتماثيل لنبات، وليس فقط تماثيل لنبات وجمادات، من غير أن تكون تماثيل لبشر. ونفس الشيئ أيضاً تَمَاثِيلَ ۩ ممنوعة من الصرفة، انتبه ولا تقل لي تماثيلاً، الله قال ماذا؟ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ ۩. ممنوعة من الصرف، سوف تقول لي لا، المفروض أن مِن ۩ هذه هي مِن ۩ الجارة، من محاريبٍ. لا! مِن مَّحَارِيبَ ۩، هذه صيغة مُنتهى الجموع، أينما ترى صيغة مُنتهى الجموع، مُباشَرةً تمنعها من الصرف، وهي ماذا؟ الأسماء المجموعة وبعد ألفها حرفان. أي مفاعل، مفاعيل، فواعل، فواعيل. أي مساجد، محاريب، قناديل، منائر… إلى آخره! هل هذا واضح؟ حرفان. وَتَمَاثِيلَ ۩.

وانظر إلى القرآن، مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ ۩، هذه مصروفة، كُسِرت بالجر، أرأيت؟ وَجِفَانٍ ۩، ولكن تلك مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ۩، وهي ممنوعة من الصرف، فقالوا لك هذه التماثيل تعم كل ما ذكرناه، تماثيل لكل ما ذُكِر. لماذا إذن؟ لأن يا سيدي النكرة في سياق الإثبات لا تعم. بعضهم قال بعمومها، وهذا قول ضعيف، النكرة في سياق النفي تعم. النكرة في سياق النفي تعم! تُصبِح عامة، ولكن هذه نكرة في سياق ماذا؟ الإثبات. أي تَمَاثِيلَ ۩، يَعْمَلُونَ لَهُ ۩، أليس كذلك؟ لو قال لا يعملون له تماثيل، لكان معنى هذا أن الحديث ليس عن أي نوع من التماثيل، تعم! إلا أن يأتي دليل يُخِّص، هل هذا واضح؟ النكرة في سياق النفي تعم. أكيد! لكن النكرة في سياق الإثبات لا تعم. وأنت تقول تعم. لا! لم نقل تعم لأنها نكرة في سياق الإثبات، قلنا نكرة في سياق الإثبات وتعم بقرينة قوله مَا يَشَاء ۩، قال مَا يَشَاء ۩!

وكان من هدي الأمم السابقة – إخواني وأخواتي – أنهم يُمثِّلون تماثيل للأنبياء والصالحين، يجعلونها في محاريبهم ومساجدهم، أي كنائسهم ومُتعبداتهم، حتى إذا رأوها، نشطوا للعبادة. كما ثبت في الحديث الصحيح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قال كان إذا هلك أو مات فيهم الرجل الصالح، صنعوا له التماثيل، وجعلوها في مساجدهم. هذا كان مُباحاً في شرائعهم، هل هذا واضح؟ ولكنه مُحرَّم في شرعنا، للعلة التي تعرفون، والموضوع أصلاً موضوع بحث فقهي طويل، إلى آخره! هناك المُعلَّل وغير المُعلَّل، لكن هذه قضية أُخرى ولن أدخل فيها.

إذن مِن مَّحَارِيبَ ۩، ما هو المحراب؟ المحراب الآن الكل يعلم أنه هذا المكان الذي يُتعبَّد في المُتعبَّدات، من مساجد وكنائس وغيرها. وعلى كل حال حتى هذا المحراب بهذه الكيفية أخذناه نحن من الكنائس، أي النبي لم يكن له مثل هذا المحراب في قبلة مسجده، لم يكن له هذا! كانوا يعرفون أن هذه القبلة، أي ناحية هذه الجهة، وانتهى الأمر، بعد ذلك المُسلِمون أخذوا هذا الشيئ من مُتعبَّدات الكتابيين، ولا بأس! استحسنوه، لأن هذا يدلهم على القبلة، فالآن هذا المسجد لو كان فارغاً، وأتى غريب أو عابر سبيل، أعجله الأمر ويُريد أن يركع ركعتين قصراً ويمضي، كيف يعرف القبلة؟ ولم تكن هناك ساعات ولم تكن هناك هذه البرامج، المحراب يقول له هذه القبلة، جميل! لكن أصل المحراب في اللُغة هو البيت الرفيع، دون القصر. أي أقل من القصر، البيت المُشرِف الرفيع الباذخ هو ماذ؟ المحراب. هو المحراب!

أبو عُبيدة اللُغوي – رحمة الله عليه – قال المحاريب هي أشراف البيوت. البيوت المُرتفِعة، أرفع من غيرها، وتُسمى المحاريب. وأيضاً المحاريب هي هذه الموضوعة في المُتعبَّدات والمُصليات، وقد أحسن ذلك الشاعر، الذي قال في سيدنا صلاح الدين الأيوبي – رحمة الله عليه -، قال:

جمع الشجاعة والخضوع لربه                       ما أحسن المحراب في المحراب!

وهذا جناس من أجمل ما يكون! هو محراب، ما معنى محراب؟ رجل حرب، أي حرِب، رجل حرب هو، وهو كل يوم في معركة مع الصليبيين وكذا. وكان – ما شاء الله – في النهار في حرب وقتال، وفي الليل ماذا؟ قائماً لله – تبارك وتعالى -. فيقول هذا، وهذا جناس جميل جداً، هذا جناس – أي ما شاء الله – ما أجمله! يقول ماذا؟

جمع الشجاعة والخضوع لربه                       ما أحسن المحراب في المحراب!

وفعلاً جميل أن يكون الإنسان فارساً وقوياً وشجاعاً، وفي الليل يكون ذليلاً خاضعاً لله، ما أجمل هذا! أي والله، تذلل الأقوياء والأشداء لله دليل وبُرهان على قوة الإيمان في صقل النفوس وصهرها وتطويعها لخالقها – لا إله إلا هو -، أليس كذلك؟ لا يغتر بقوته وفروسيته.

مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ۩، وذكروا في هذه التماثيل أشياء، قالوا كانت أيضاً تماثيل لأنبياء وصُلحاء مِمَن كانوا من قبل، وأيضاً لحيوانات، أسود وفهود ونمور، وأشياء… وأشياء أُخرى!

وَجِفَانٍ ۩، جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة، يقولون لك الجفنات. تُجمَع جفنة على جفنات، وهذا الأصل فيها طبعاً، جمع مُؤنَّث سالم، أو جمع تكسير، أي جفان، جمع جفنة، والجفنة هي ماذا؟ القصعة الكبيرة. الجفنة هي القصعة الكبيرة! الله قال لكن هي ليست كالجفان العادية طبعاً، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ۩، جمع جابية. وما هي الجابية؟ الجابية هي الحفيرة، تُحفَر في الأرض – مثل الحوض -، ويُجبى إليها الماء، أي يُجمَّع، ومنه جبي الخراج، والجُباة – يقول لك – الذين يجبون الصدقات والخراج، أي الجمع، الجبي هو ماذا؟ الجمع. يُجبى إليها الماء، أي يُجمَع إليها الماء، ويُجمَّع فيها الماء، فتشرب منها الإبل وغير الإبل، تُسمى ماذا؟ الجوابي. تسمى الجوابي، وهذه إلى الآن تُستخدَم، في بلاد الشام وغيرها يقولون لك الجابية. الجابية! الجابية تتعلَّق بأشياء تُجمَع فيها حتى الحبوب وما إلى ذلكم، تُسمى الجابية أيضاً. وقيل الجابية هذه تكون في الجبال، نُقر كبيرة، نُقر كبيرة منقورة في الجبال، ويُجمَّع فيها أيضاً الماء وغير الماء. تُسمى جابية. الله أعلم! وعلى كل حال الله قال هذه قصاع كبيرة. قد تكون من فخار وقد تكون من نحاس وهو الأشبه.

كَالْجَوَابِ ۩، قال وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۩، نفس الشيئ! القدر، وتعرفون القدر التي يُطبَخ فيها، قال وَقُدُورٍ ۩، عظيمة، رَّاسِيَاتٍ ۩، لا تُحتمَل ولا تُنتقَل، أي لا تُحمَل ولا تُنقَل، لماذا؟ لثقلها. أي القدر ربما يكون طولها – مثلاً – ثلاثة أمتار أو خمسة أمتار في عرض أربعة أمتار، قدر هذه! في ارتفاع اثنين متر أو ثلاثة أمتار، ويُطلَع إليها بسلم، شيئ عجيب! سوف تقول لي أهذا موجود؟ موجود هذا.

أبو بكر بن العربي – الفقيه والعلّامة المُفسِّر، المالكي الكبير – في أحكام القرآن ذكر أنه رأى بعينيه في رباط أبي سعيد – ويبدو أن في المغرب العربي هذا – قدوراً على هذه الهيئة، يُصعَد إليها بسلالم، في رباط أبي سعيد للصوفية! قال كانوا يطبخون فيها. وطبعاً أنت عندك ألف صوفي أو ألف وخمسائة صوفي، وهؤلاء قاعدون في الرباط، ويُريدون أن يأكلوا، فيُطبَخ لهم في مثل هذه القدور. قال يطبخون جميعاً، ويأكلون جميعاً، لا يستأثر أحد على أحد.

عبد الله بن جدعان في الجاهلية – وهذا كان من المعروف عنه أنه يتحمَّل حمالات، ويضمن ضمانات، ويُصلِح بين الناس، ويدفع من كيسه، أي هذا الرجل كان يعمل أعمالاً طيبةً في الجاهلية – كان له قدور راسيات مثل هذه، قدور عظيمة يُطبَخ فيها للضيوف والناس، وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۩.

اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۩، الله! هذه الآية فيها لفتة جميلة، إلى أن حقيقة الشُكر بالعمل، الشُكر ليس يقتصر فقط على ماذا؟ الحمد باللسان. فذلك الحمد والثناء وكذا. لا! ليس باللسان فقط، والأوجه والأشبه أن الشُكر يتضمَّن الأركان الثلاثة: عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الأركان. فالشُكر إقرار وإيمان وإيقان. إيقان القلب بأنه وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، أي نعمة! ليست بــ (شطارتك)، وليست بعلمك، وليست بحذاقتك، من الله، ومن فضله وتيسيره. ثم إقرار اللسان بهذا، تقول وتُثني، تُثني على الله بنعمه عليك، نبوء إليك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا. قال نرجع ونعترف ونُقِر، بأنك صاحب النعم، أنت المُنعِم المُتفضِّل، ونُقِر بأننا لا نشكر دائماً، أحياناً نُخطيء ونغلط ونتجاوز ونبوء بهذه الذنوب، نعترف! لأننا آدميون، ولسنا إبليسيين، والاعتراف يهدم الاقتراف. نحن نعترف، ونسأل الله التوبة النصوح.  هل هذا واضح؟ انظر كيف يُخاطِب النبي ربه، أدب! أدب عالٍ. وبعد ذلك عمل بالأركان، وإليه الإشارة بقول الشاعر – كما أذكر هذا مراراً -:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة                            يدي ولساني والضمير المُحجَّبا

انظر إلى هذا، النعماء تحتاج إلى الشُكر، تقتضي الشُكر.

أفادتكم النعماء مني ثلاثة                            يدي ولساني والضمير المُحجَّبا

معناها هناك الضمير واللسان والأركان أيضاً، ولكن الأهم هو ماذا؟ الأركان. الآن! أرني هذا، أثبِت لي الشُكر بالعمل، مثل واحد أعطاه الله فلوساً، أعطاه مالاً، مُتموِّل، موَّله الله – عز وجل -، موَّله وأثَّله مالاً، فلا ينفع ولا يسوغ أن يكون شُكره باللسان فقط، كأن يقول الحمد لله، الله كريم، الله أعطاني وتفضَّل علىّ بكل ما أملك. وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ تُمسِك؟ تُمسِك وتُوعي وتَخزن وتُغلِق؟ لا، أنت كافر، ليس بالله وإنما بالنعمة، أنت كفور نعمة. وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ۩، هذه ليست كافر بالله، وإنما هو كَفَّارٌ ۩ بالنعمة، إياك أن تكفر بالنعمة، خزنها ووعيها والغلق عليها كفرها، إعطاؤها والرضخ منها والبذل هو شُكرها. وكذلك في كل  شيئ، كالعلم، الله أعطاك علماً وفتح عليك – فتح الله علينا جميعاً، اللهم آمين يا ربي -، الله فتح عليه من فتوحه، وعلَّمك أشياء مُعيَّنة، فلا تستأثر بالعلم، زكاة العلم ماذا؟ تعليمه للناس. اذهب وتعلَّم ثم علِّم الناس، اتعب وأعطهم من غير فلوس، ليس من الضروري أم تأخذ فلوساً، إذا كنت مُحتاجاً، وهم أعطوك وكذا، فأهلاً وسهلاً، ولكن لابد وأن تُعطي العلم لله، زكاة العلم ما هي؟ بذله للناس. علِّم! علِّم واقعد لساعة أو لساعتين أو لثلاث لوجه الله، وأجرك على الله، وهو عظيم وكبير – إن شاء الله تبارك وتعالى -، هذا الشُكر، الشُكر بالعمل، الشُكر بالعمل! وهكذا.

إذن اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، روى العلماء أن عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه وأرضاه – سمع يوماً رجلاً يقول اللهم اجعلني من القليل. قال له يا رجل ما هذا الدعاء؟ أتدعو هكذا؟ أتقول اجعلني من القليل؟ قال له يا أمير المُؤمِنين قال تعالى وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، قال كل الناس أفقه من عمر. والله أنت فهمت ما لم أفهمه – قال له -، أنت كنت تقصد شيئاً ثانياً، وأنا لم أكن أعرف هذا. عمر مُتواضِع، لم يقل له أنت تتفلسف وكذا. عمر مُتواضِع! قال له هذه لم تخطر لي. الله قال وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، يا الله! تُخوِّف@ الآية هذه، الله قال النعمة تستحق شُكراً، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، لا إله إلا الله!

ولذلك يا أخي لكي تكون شكوراً لله بنعمه عليك، أقر بها، ثانياً وإياك أن تستعملها في معصيته. إياك! كل مَن استعمل أي نعمة في معصية الله، فقد كفرها. وكفره إياها مُؤذِن بسلبها منه قريباً، مُباشَرةً ستُسلَب. ستُسلَب! والله كان هناك أُناس عندهم الملايين، جاءت عليهم أيام بعد ذلك باتوا يشحذون العشاء، والله! قصص حقيقية، باتوا يشحذون العشاء.

استمعت قبل ربما فترة ليست بعيدة لداعية سوري، وهو رجل فاضل، أُحِب لكم أن تستمعوا منه أيضاً، وهو الدكتور محمد خير الشعال. رجل طيّب، مُبارَك، مُتواضِع، جميل الخِلقة، جميل المنطق – ما شاء الله عليه -. كثَّر الله في الأمة من أمثال هؤلاء الدُعاة الطيبين المُبارِكين المبرورين، كلامهم كله خير، لا يُوجَد تأليب، لا يُوجَد سب للناس، لا يُوجَد انتقاد للناس، أبداً أبداً أبداً! يُوجَد تحبيب، تحبيب في الدين بصراحة، أنصح لكم أن تسمعوا لهذا الرجل الفاضل، ومثله أيضاً شيخ ثانٍ، إمام المسجد الأموي، اسمه الشيخ فوّاز النمر. من أروع ما يكون، بكّاء، بكّاء، لطيف، خشوع، جميل كلامه، يُذكِّر بالله، وعالم. هؤلاء علماء، علماء! الناس هؤلاء يفهمون العلم على أصوله – ما شاء الله -، كثَّر الله في أمتنا من أمثالهم، وهم كثير – إن شاء الله تعالى -.

فالدكتور الشعال حكى هذه القصة، سنذكرها في المجلس، وهي مُؤثِّرة، أثَّرت في، يقول باختصار إن القصة تتعلَّق برجل مُهندس، وهو رجل فاضل مُستقيم، مُستقيم طاهر مُبارَك، يعمل عند رجل في شركته، وهي شركة كبيرة، وهناك – ما شاء الله – أموال هائلة، وصاحب الشركة يحترمه كثيراً، لأنه مُهندس بارع، وواعد – ما شاء الله -، أي وواضح أن له مُستقبَلاً واعداً، ومُستقيم، ومُهذَّب، وخلوق. هناك دين وعلم وكل شيئ، ولكنه مُقِل في المال، أي أنه لا يزال في البداية، بدأ يبني مُستقبَله هو في هذه الشركة، فكان يحترمه، وقد طمع –  أي الرجل، وعنده الحق -، فبعث أمه إلى منزل هذا – أي صاحب الشركة -، لكي تخطب له ابنته، فأكرمتها وكذا، وقالت لها خيراً. وفي اليوم التالي أول ما جاء هذا المُهندس بعث في أثره صاحب الشركة، وقابله مُتجهِّماً جداً، غضبان! قال له أنت بعثت أمك أمس إلى دارنا؟ قال له نعم يا سيدي. كيف؟ قال له، كيف تجرؤ؟ قال له كيف؟ كيف؟ قال أنا أردت الحلال، أي هذا بالحلال، وأتيت الدار من بابها، أي لم أُخطئ. قال له كيف تقول أنا لم أُخطئ؟ قال له أنت أعمى؟ ألا تعرف مَن أنت ومَن أنا؟ انظر مَن أنت ومَن أنا. أرأيتم الكبرياء؟ أرأيتم كفر النعمة؟ يا رجل أنت أغنيت نفسك؟ أنت الذي أغنيت نفسك؟ هو ظن هذا، مثل قارون! هذه نزعة قارونية، إنها لقارونية، أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۩، صاحب الشركة هذا يظن أنه هو – ما شاء الله – مَن أتى بالعز والغنى والمال إلى نفسه، فكسر بخاطر هذا المسكين، ففخرج من عنده ولم ينبس ببنت شفة، مكسور القلب، مُصفَّر الوجه، أي هذا المسكين – رضيَ الله عنه -.

سُبحان الله، تذهب الأيام وتأتي الأيام، وطبعاً ترك هذه الشركة، وبدأ يشتغل في مشروع بسيط له، ووجد مَن يُشارِكه فيه من أهل الأموال، وصار له شركة، كبرت الشركة، وتفرَّعت الشركة، فصار من أصحاب الأموال، أي المُهندس، صار عنده أموال كثيرة! وفي يوم من الأيام يستأذن عليه أحدهم، يطلب الوظيفة، فيأذن له، وإذا به صاحب الشركة بالأمس، والله العظيم! وهذه قصة واقعية، وأبطالها أحياء يُرزقون، شيئ مُبكٍ.

لا تُهين الفقير… وهي في الأصل لا تُهن، ولكن هذه ضرورة الشعر، من شواهد ابن عقيل في الألفية.

لا تُهين الفقير، علك أن                                تركع يوماً، والدهر قد رفعه.

إياك أن تستكبر، إياك أن تكفر بالنعمة، والله! وطبعاً هناك أُناس عندهم علم أيضاً، إياك أن تستطيل على الناس بعلمك وفصاحتك، كأن تقول أنا عندي علم وفاهم ودارس وكذا. إياك! كل ما عندك من علم وفهم وفصاحة وبيان وكذا من الله – تبارك وتعالى -، ولو شاء سلبكه في لُحيظة، وأنا أعرف وإخواني يعرفون من إخواننا وهم من أبناء هذا المسجد – والله – مَن جُن في لحظة، شيئ مُبكٍ! ووالله ما علمته إيامها إلا من خيرة الناس ومن أوفرهم عقلاً، كان ذا عقل وافر، لا يتكلَّم الكلمة إلا في مكانها.

إذن قال وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، اللهم اجعلنا من هذا القليل.

 

۞ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ۞

 

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ۩، ما معنى قَضَيْنَا ۩؟ حكمنا. والقضاء هو الحُكم، القضاء هو الحُكم! حكمنا، والحُكم نافذ، انتهى، نفذ أمر الله، فَلَمَّا قَضَيْنَا ۩، أرأيتم؟ هذا الملك العظيم، النبي ابن النبي، الملك ابن الملك، المُسلطن، المُملك، المُمول، المُؤثل، مات! هذه هي، والجن والإنس وكل هذا ذهب، انتهى إذن، ذهب!  هذا اختبار، هذا اختبار وهو ناجح طبعاً، هذا نبي عظيم معصوم، نجح في الاختبار.

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ۩، وطبعاً متى مات؟ في رأي جمهرة المُفسِّرين تقريباً مات في الفترة التي كانت تبني له الإنس والجن بيت المقدس. هو الذي بنى المقدس، وطلب من الله – تبارك وتعالى – أن يُمهِله، وألا يُظهِر موته، حتى تفرغ الجن من ماذا؟ من بناء البيت المُقدّس. وهكذا كان.

فالمُهِم فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ ۩، السُرفة، السُرفة أو المعروفة بالأرضة، أرضت الأرضة الخشب، إذا أكلته. هذه سوسة الخشب، يُسمونها هكذا، أو يُسمونها السُرفة باللُغة الفُصحى اسمها السُرفة، سُرفة الخشب، أو سوسة الخشب، أو الأرضة بفتحات، الأرضة تأرض وتقضم وتأكل، وطبعاً هي ليست أرضة واحدة، هناك الكثير منها، طبعاً! هذا اسم كما تعلمون. نعم!

فقال مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۩، قد يقول لي أحدكم هذا ليس غريباً عليه، أي اللفظ هذا. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۩، والنبي قال مَن أحب أن يُنسأ له في أثره. يُنسأ، والنسيء، وربا النسيئة، وربا الفضل. والله نعرف هذه الألفاظ. طبعاً بالضبط، هو هذا! إذن هذا الأصل، هذه اسم الآلة، هذه اسم آلة طبعاً، مثل مطرقة ومثل مبرد، منسأة، اسم آلة، وهي العصا التي يُتوكأ عليها أو تُستخدَم في أغراض كثيرة، اسمها منسأة، لماذا؟ ومُشتَقة طبعاً من نسأ، إذا أخَّر وزجر. لأنه يُزجر بها ماذا؟ طرش الغنم أو المعز أو كذا، وتُؤخَّر! أي يُقال بها ارجعي، ارجعي. لكي ترجع إلى الحيز المطلوب – مثلاً -، فلذلك هي سُميت منسأة، يُزجَر بها، يُؤخَّر بها، يُؤخَّر بها الغنم وغيره، هذا هو!

بعضهم قال منساة. منساة! وفي قراءة منساته. لا! واضح أن الأفصح أن تكون منسأة، لماذا؟ اشتقاقها يدل على أنها مهموزة، أنت تقول لي من نسأ. إذن هناك همز، فلن تكون منساة من نسا، لا! ستكون من نسأ منسأة، وهذا الصحيح، مِنسَأَتَهُ ۩ وهي العصا، كان عنده عصا وكان مُتوكئاً عليها هكذا، ومات – عليه السلام -، تخيَّل! كان قاعداً هكذا وكان يُراقِب ثم مات.

مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۩، كانت هذه الأرضة تعيث في هذه الخشبة، والله أعلم بالمُدة، فهذا ربما كان من شهرين أو من ثلاثة أو من سنة أو من سنتين، وربما كانت تعيش في الخشب لما قطعها، وهي من شجرة الخرنوبة، وورد عن النبي في حديث صححه بعضهم أنها شجرة الخرنوبة، الله أعطاه هذا من ضمن العلوم التي أعطاها إياها، كان يُخاطِب النبات ويفهم منها، يقول لها ما أنتِ؟ تقول له أنا كذا وكذا. لِمَ أنت؟ تقول له أنا لكذا وكذا وكذا. أنا للزينة، أو أنا للثمر، أو أنا للدواء، في هذا. فيأخذها ويحتفظ بها، ويقول لهم سجّلوا، هذه كذا وكذا. ملك عظيم! شيئ عجيب، يقول لهم هذه فيها خاصية الدواء وكذا وكذا، خاصية دواء كذا وكذا. فذات مرة جاء، وقال لها ما أنتِ؟ قالت له أنا الخرنوبة. لِمَ أنتِ؟ قالت له ليس من أجل شيئ، أنا هكذا. قال لها تعالي. قطعها وصنع منها العصا هذه، فيُمكِن أن يكون الأرض كان يأكل في الخرنوبة مُذ قطعها، أي من اليوم الأول، الأرضة كانت تأكل فيها وتأكل فيها، فحدث هذا – كما يُقال – من باب المُوافَقة، في الساعة التي يُريد أن يُظهِر موته فيها كانت هي أتت عليها، وكُسِرت طبعاً مع ثقله، فوقع، فعلم الجن علم اليقين أنه مات، وهذا معنى تَبَيَّنَتِ ۩، أيقنت أنه ميت.

في مُعظَم التفاسير الأثرية على الإطلاق هناك الآتي، وقد أتوا بآثار عن ابن عباس، والحمد لله لم يأتوا بشيئ مرفوع إلى رسول لله، على الأقل الذي وقفت عليه أنها موقوفات، لم يأتوا بشيئ مرفوع إلى رسول لله، وابن عباس – رضوان الله عنهما، الحبر، البحر، سيدنا ابن عباس، ابن سيدنا عم رسول لله – كان معروفاً عنه أنه توسَّع قليلاً في الرواية عن أهل الكتاب. ابن عباس وكعب الأحبار وبعد ذلك حتى أبو هُريرة أيضاً، روى عن أهل الكتاب، وهذا أحياناً يُحدِث بعض المُشكِلات، لماذا؟

يُروى عن ابن عباس أنه مكث هكذا سنة، أي مُتكئاً على عصاه، سنة كاملة! والجن مُسخَّرة، تعمل، تعمل! بعد سنة خر. وهذا مما لا يُقبَل، أنا لم أستطع أن أسيغه في عقلي، لماذا إذن؟ يا سيدي الجن لم تعلم، وتظن أنه كذلك، أين أزواجه؟ ألم يكن عنده أزواج؟ ألم يكن عنده أهل؟ ألم يكن يأوي إلى أهله – عليه السلام – كل ليلة؟ ألم يكن يأوي إلى جواريه؟ ألم يكن عنده مجلس حُكم يومي؟ هذا المجلس مُشار إليه في سورة النمل، لما جلس وقال أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ۩، وحكوا عن مجلس حُكمه، قالوا لك يكون من الصباح ومن الضحوة الشديدة، وإلى مُنتصَف النهار. جميل! عنده مجلس حُكم، لأن هذا يُدير مملكة، هناك مجلس حُكم يومي، وعنده بطانة وهو يستشيرهم ويتكلَّم معهم ويأمرهم يومياً! أليس كذلك؟ فمُستحيل أن يكون مضى عليه سنة كاملة، ولم يتفقده أحده، ولم يعلم أحد بموته، إلا على تأويل شيئ بعيد جداً، أن يُقال ماذا؟ بل علموا ذلك، أما الذين لم يعلموا، فهم الجن. وقد يكون أوصى إلى أزواجه وأهله، وأوصى إلى حواشيه وبطانته، أنني إذا مت – وسأموت قريباً، ولعلي أموت اليوم أو غداً أو بعد غد، أو أياً ما كان -، فأسروا وأخفوا موتي، لتظل الجن مُسخَّرة في العمل، إلى أن تفرغ من بناء البيت المُقدَّس. مُمكِن أن يُقبَل، وأيضاً من الصعب أن يُساغ، لماذا؟ لأن الجن نفسها عهدها به طويل، وهي تعلم أن له مجلس حكم يُومياً، صح! أي مجلساً يومياً للحُكم، وأنه يستريح ويترك كل شيئ ويأوي في الليل إلى مبيته وإلى أهله، تعلم هذا! الجن ليست كائنات غبية، ذكية مثلنا، فبالحري كانت ستتفطن إلى أن في الأمر شيئاً.

الذي يرتاح إليه صدري أن ما حصل حصل في جُزء من النهار، فقط! أي تجد أنه كان جالساً هكذا عند الظهر – مثلاً -، وهم كانوا يعملون، فعلاً كانوا مُسخَّرين في حر الظهيرة أو في نحر الظهيرة، ومات – عليه السلام -، وبقيَ هكذا مُتكئاً على عصاه، ربما عند مغيب الشمس كُسرت العصا، فالجن قالت هذا ميت، ونحن اشتغلنا هذه الساعات الطويلة! أي خمس أو ست ساعات، هذا المعقول، وهذا الذي يُفهَم من ظاهر الآية، أما موضوع سنة أو اثني عشر شهراً وكذا فلا يُقبَل، هذه من خُرافات بني إسرائيل، ويبدو أن سيدنا ابن عباس تأثَّر بها طبعاً، لأن هذا ليس مرفوعاً، أي هذا ليس من كلام رسول الله، قال لك إياه ابن عباس، من أين أتى به؟ النبي لم يقله، فمن أين أتى به؟ واضح أن هذا من خُرافات مَن؟ الإسرائيليين. وهم أولى طبعاً بالحديث عن سُليمان وداوود ومُلكهما وكذا، وعنده سفر كامل في نشيد الأنشاد، أي سُليمان – عليه السلام -، في نشيد الأنشاد! والله – تبارك وتعالى – أعلم.

فالجن حين خر ميتاً تَبَيَّنَتِ ۩، أي علمت علم يقيناً كذب زعم مَن يزعم فيهم علم الغيب، بعض البشر كانوا يقولون لك الجن تعلم الغيب. وهذا موجود إلى الآن على فكرة، إلى الآن هناك أُناس يعتقدون أن الجن والشياطين تعلم ماذا؟ تعلم الغيب. الجن نفسها علمت علماً يقيناً أن هذا الكلام باطل وفارغ، وأن هؤلاء يتكلَّمون كلاماً لا مُحصَّل له ولا حقيقة له، وكأنهم قالوا لو كنا نحن نعلم الغيب ما لبثنا في هذا العذاب المُهين، كنا نشتغل من غير أن نستريح، كنا مُسخَّرين بغير أجر – إلا ربما الطعام والشراب طبعاً، وهذا من الرحمة بهم -، فنحن لا نعلم الغيب، ولو علمنا بموته، لتركنا العمل ولرفعنا أيدينا مما نحن فيه من فورنا. أليس كذلك؟ وهربنا! لأنهم مُسخَّرون له، وليس لغيره، أليس كذلك؟ ليس لرجاله وليس لأزواجه، كان يُمكِن أن يهربوا، فينتهي هذا الأمر ويملكون أنفسهم، والله – تبارك وتعالى – عنده العلم والحُكم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: