إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ۩ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ۩ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بالقطع لم يسمح الإسلام بـ ولم يسع إلى تأسيس حكمٍ ديني ثيوقراطي – كما يُقال – يستمد فيه الحاكم المُتألِّه سُلطته من السماء فلا راد لأمره ولا مُعقِّب لحكمه، قطعاً هذا لم يُنظَّر له ولم يحدث على هذا الوجه المنعوت في تاريخنا الإسلامي على ما اعتراه من فتراتِ إظلامٍ وكبو، لكن هل سمح الإسلام بـ وهل سعى إلى تأسيس حكمٍ فرديٍ مُطلَق؟ بمعنى يستبد فيه الحاكم برأيه ويصدر عن هواه ورغائبه وأمياله دونما العود والرجوع إلى رأي الأمة في قليلٍ أو كثير لأنه الحاكم بأمره وكفى، فهذا هو الحكم الفردي وليس الحكم الديني المُتألِّه، هذا الحكم الفردي المُطلَق الأوتوقراطي كما قلنا في الخُطبة السابقة، ومن أسف ومما يقبض الصدر ويُوحِش النفس أن من فقهاء المسلمين وعلمائهم وإلى يومنا هذا مَن لا يزال يُردِّد مقولاتٍ واجتهاداتٍ وآراء تصبُ في هذا الاتجاه وتسمح بتدعيمِ وتعزيزِ وتأسيس من قبل حكمٍ فردي، فهؤلاء يرون أنه لا وزن للأغلبية، فالأغلبية والأكثرية مذمومة في كتاب الله ولم تُذكَر إلا في معرض الذم، قال الله وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ۩، وقال الله أيضاً وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ۩، إلى نظائر هاتين الآيتين وهى كثيرة في كتاب الله، فالأكثرية في حد ذاتها مذمومة عبر التاريخ وعبر القرآن الكريم، يزرون  على العامة وينعتونهم بالرعاع أو الطغام والرعاع، فلماذا نعود إليهم؟ لماذا يعود إليهم الحاكم المُلهَم الرشيد المُستبِد بالأمر؟ ما مِن حاجة أن يُعاد إليهم وأن يُرجَع إليهم، وكأن هؤلاء غفلوا عن ما في كتاب الله من نحو قوله وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ۩، منَّ عليهم بماذا؟ بالكثرة، أنه كثَّرهم، فالكثرة بحد ذاتها ليست مناطاً لمدحٍ أو ذم، قد تُمدَح وقد تُذَم ولكن باعتبارات خارجة عنها، حين تكون كثرةً تواطأت على الحق هى ممدوحة ولا جرم، وقد ورد عنه عليه الصلاة وأفضل السلام إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإن اختلف الناس فعليك بالسواد الأعظم، فالكثرة ممدوحة هنا لهذا الاعتبار، ومن لطيف الاستنباط وعجيب الفهم ما روُى عن الإمام الجليل ابن عرفة التونسي – رحمة الله تعالى عليه – من مُفاوَضته ومُباحَثته لشيخه محمد بن عبد السلام –  ليس ابن عبد السلام السلمي شيخ الإمام القرافي وإنما هذا قاضي الجماعة بتونس مُتوفى في أول النصف الثاني من القرن التاسع، رحمة الله عليهم أجمعين – المالكي قاضي الجماعة، فقد فاوضه في مسألة وتلطَّف ابن عرفة في الاستنباط جداً من قوله تبارك وتعالى قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ ۩، فهذه الآية درج الذين يزرون على رأي الأكثرية ورأي الأغلبية ودرجوا على الاحتجاج بها، ابن عرفة رأى أنها تشهد للأكثرية ولا تشهد على الأكثرية، كيف؟ تشهد للأكثرية لأن الله يقول وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ ۩، فإذن الكثرة بحد ذاتها مأتى الإعجاب ومناط الإدهاش والمُوافَقة لكن الذم أتاها من حيث ماذا؟ من حيثية أخرى وهى الخبث، إذا كانت الكثرة خبيثة فلا، لا اعتبار بها، لو لم تكن خبيثة وكانت طيبة إذن تُعتبَر، وهذا من لطيف الاستنباط، فرضيَ الله عن العلامة التونسي الإمام ابن عرفة وقد كان جديراً وقميناً بمثل هذا الغوص على أسرار المعاني، وأيضاً غفل هؤلاء أو أغفلوا عن عمدٍ أن القرآن الكريم في مواضع كثيرة ذكر أن الذين كانوا يتصدرون لمُنازَعة الأنبياء والمُشاغَبة على رسالتهم، يتصدرون ويتبوأون المقام الأول في مُعادَاتهم ومُحاوَلة إفشال خُططهم الهدائية، هم الملأ القلة والنُخبة الذين كانوا يسوقون الكثرة من ورائهم إلى العار والنار، العار في الدنيا والنار في الآخرة، ففرعون كان له ملأ وكان يستفتهم أحياناً، تقول الآية الكريمة قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ۩، فالله يقول إذن قَالَ الْمَلَأُ ۩ وهكذا، وهذه قلة وهى مذمومة، وليست مذمومها لكونها قلةً وإنما لأنها تواطأت على باطل، وهذا هو التفكير السليم، فإذا أردنا أن نقول أن الاعتبار بمُجرَّد القلة والكثرة  – فقط بالمُجرَّد – في أمة الحق فنعم الكثرة لها اعتبار، وهذا في أمة الحق وفي أمة لا تجتمع على ضلالة وفي أمة لبت نداء ربها، ولذلك وجدنا العلماء – علماء الحديث – يُرجِّحون بكثرة الرواة، أليس كذلك؟ وهذا الفارق بين المشهور والعزيز والمُتواتِر والآحاد، أي كثرة الرواة وهم أهل صدق، فهذا مُرجِّح من المُرجِّحات، والفقهاء والأصوليون يُرجِّحون بالكثرة في أبواب شتى، في علم القضاء – في القضاء – يُرجَّح بالكثرة أيضاً، فالكثرة لها اعتبارها، من أين لهم أن الكثرة مذمومة على إطلاقها؟ هذا التفكير خارج عن أساس المنهج العلمي، هذا غير صحيح، المنهج لا يقضي بمثل هذه النتائج، من أجل ماذا؟ من أجل فقط أن نُبرِّر لحاكم مُتألِّه ولحاكم مُستنبِد يُريد أن ينفرد وربما يكون مُلتاثاً بلوثة جنون العظمة Paranoid، فقد يكون مُصاب بالبارانويا Paranoia، وهذا الرجل يرى نفسه وكيل السماء في الأرض وأنه الذي اقتعد على عرش الحكمة، هو أبوها وأمها ومنبعها ومصدرها، فهو يصدر عنها في كل أمره، كله وجله وكثيره وقليله، لكن كلا هذا غير صحيح وهذا لا يجوز، وعلى كل حال لا نُريد أن نُطوِّل في نقاش أمثال هؤلاء ونعود إلى الشورى فقد يقول قائل كيف ذهبوا هذا المذهب وسوغوا هذا الرأي والقرآن يأمر بالشورى؟ ويأمر مَن؟ سيد الأمة بل سيد العالمين، قال الله  وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ۩، فكيف؟ للأسف موضوع الشورى وما يتعلَّق به من أفكار وأطروحات وآراء واجتهادات لا يزال مائعاً مُشتبِهاً غامضاً في مخيال وفي أذهان المسلمين إلى اليوم، والسبب – الأسباب كثيرة ولكن هذا السبب الرئيس – هو هذا الاختلاف أو هذا النحو من الاختلاف الذي وقع بين العلماء ولا يزال سارياً بينهم، فهناك مَن يقول لك الشورى ليست واجبة، ومَن يقول بأنها واجبة فهى مُعلِمة وليست مُلزِمة، وحتى هذا مَن قال بأنها واجبة ولكنها مُعلِمة فقط لكنها ليست مُلزِمة قال لا تُلزِم المُستشير أن يأخذ برأي الأغلبية، أي برأي أغلبية مَن يستشيرهم، وهذا أمر عجيب، فإذن ما فائدة هذه الشورى؟ قالوا جاءت أو جاء الأمر بها تطييباً للنفوس فقط، أي حتى تطيب نفوسهم، وكأنها تطيب بمُشاوَرتهم ثم مُخالَفتهم، وهذا شيئٌ عجيب، لا شيئ يُوحِش النفس أكثر من هذا، فالأفضل ألا تستشيرني، أما أن تستشيرني وأستفرغ جهدي ووسعي وأقدح زناد الرأي والفكر في استخلاص ما أراه أقرب إلى الصواب والسداد والرشاد – وأنا مجموعة من الناس فقد أكون عشرة أو عشرين أو مائة أو غير ذلك – ثم بعد ذلك تمضي على رأيك وتُغفِل رأينا فهذا يُوحِش نفوسنا، ومع ذلك قيل هذا تطييب للنفوس، وهذا الملحظ بالذات – الذي أنا بصدد عرضه – هو الذي لاحظه الإمام الحنفي الجليل أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص، وهو مُجتهَد مذهب معروف حيث قال هذا إيحاش للنفوس، هذا ليس تطييباً للنفوس، وقد أصاب رضيَ الله تعالى عنه، لكن هذا الكلام هكذا يُصفَّط، هو كلام مُصفَّط في الكتب ويُقال على المنابر وتُخدَع به الناس ويُخدَع به العامة على رأيهم، علماً بأن هذا أحد أسباب ذلك النفَس غير المرضي – لا أُحِب أن أصفه بأكثر من هذا – الذي لا يزال أيضاً سارياً في بعض النُخبة – إن وُجِدَت نُخبة – الآن، وهو نفَس الإزراء على العامة واستحقار العامة كما قلنا غير مرة، فهذا موجود في الأمة عبر التاريخ، وللأسف – قد أشرت إلى هذا قبل أسابيع – هذا موجود حتى في علماني الأمة، فما رأيكم؟ النهضويون في هذه الأمة – وكانوا في الجملة علمانيين أو أقرب إلى العلمانية والليبرالية – كانوا يجفون العامة ويتنكرون لها، خير الدين باشا التونسي في كتابه الشهير رأى أن العامة بلغتنا عصرنا غير مُؤهَّلة للديمقراطية وغير مُؤهَّلة للمُشارَكة في الحكم وعلينا أن نستبعدها، وقرَّر هذا بشكل واضح، والإصلاحيون – وهم إسلاميون مثل الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومَن لف لفهم – بشكل عام أيضاً أزروا على العامة، المجال العثمانية تكتب سؤالاً فحواه أيهما أولى: أن تُبذَل الحرية للأمة أولاً أم تُربى ثم تُعطى هذه الأمة حريتها؟ ويكتب الإمام محمد عبده مفتي مصر – رحمة الله تعالى عليه – المُتوفى سنة ألف وتسعمائة وخمسة ميلادية جواباً، وهذا الجواب أتى فيه مَن لهذه الأمة بمُستبدٍ عادل؟ فهو يتحدَّث عن المُستبِد العادل، ويقول مَن لهذه الأمة بمُستبدٍ عادل؟ وهذا المُستبِد العادل في أوروبا يُسمى المُستبِد المُستنير، مثل بطرس الأكبر Peter the Great، وكاترين Katharina وفردريك Fredrick وإلى آخر هؤلاء، ومع ذلك يُقال المُستبِد المُستنير أو المُستبِد العادل، ويقول الإمام محمد عبده مَن لهذه الأمة بمُستبدٍ عادل؟ يعمل ويقضي بمُقتضى العدل في خمس عشرة سنة ما لا يعمله أو ما لم يعمله العقل، أي العلم والرأي والشورى والذكاء والكفايات والقدرات أو القدرة في الامة من خلال أبناء الأمة الكبار وأصحاب الكفايات المقدورة، لكن هذا يستغرق خمسمائة سنة وقال  نستطيع أن نحرق المراحل بالاستبداد العادل، فكيف يحدث هذا بالاستبداد؟ هذا أمر عجيب، مازلنا نُنظِّر للاستبداد ومازلنا نُراهِن على المُستبِدين أيضاً إن يكونوا عادلين، نعم قد يكون هذا لكن – كما قلنا – مرة كل ألف سنة، وبعد ذلك في تسعمائة وتسعين سنة نعيش في الغلب وفي الغشم وفي العبط وفي الظلم، نعيش مُداسين – من داس يدوس – أو مَدوسين بالأحذية والنعال، وهذا شيئ غريب، فهل يُراهَن على هذا؟ لا يُمكِن أن يُراهّن على مثل هذا المُستبِد العادل، وصحيح من أين لنا بمُستبِد عادل؟ هذا صعب أن يلده الزمان، لأن الإنسان إذا استغنى – كما قلنا – طغى، وهذا شر طبعاً،وأسوأ ما ورثه اللاحقون عن هذه الأمة – ونحن من اللاحقين – وعن السالفين السابقين هو هذا الاستبداد وتبريره، فالاستبداد هو الداء الدوي وهو الداء العياء، لقد
أصبح داءاً عياءاً – تقريباً – لا دواء له، وهذا أمر عجيب، ألف وثلاثمائة سنة ولم يُداو ولم نُشف من هذا المرض ولا نزال، يبدو أن أحمد شوقي – رحمة الله تعالى عليه – كان مُتعجِّلاً حين قال:

زمان الفرد يا فرعـــون ولَّى                  ودالت دولـــة المتجبرين.

 وأصبحت الرعاة بكل أرض                  على حكم الرعية نازلين.

إذا عنى والتفت إلى بلادنا فقد تعجَّل، لم يول زمان الفرد، فما زال زمان الفرد يا شوقي إلى اليوم، رحمة الله على أمير الشعراء فقد تعجَّل الرجل ويبدو أنه استخفه نوع من الحماس التغييري، في الربع الأول من القرن العشرين اكتسبت مصر دستوراً من أحسن الدساتير، وهذا الدستور كان تقريباً – وهذا عيبه الوحيد – منحة من الملك، زعم أن دستور ثلاثة وعشرين منحة، وهو من أفضل الدساتير وأقومها، فقد ضمن الحريات وحاط الحقوق للأفراد والجماعات، وطبعاً تُجوِز في أشياء، ويحصل هذا دائماً في أحسن النظم ولكن كان من بركات هذا الدستور أنه قيَّد اليد الطويلة للملكية العابثة في أموال الأمة، ويوم أراد الملك أن يُصلِّح باخرته الشخصية على حساب الأمة من الميزانية العامة بحكم الدستور وقفه البرلمان، فتوقف واضطَرَّ أن يُصلِّحها من ماله الخاص، لم يعد بالدستور مال الأمة سيباً – أي سائباً – لكل مَن هب ودب،وطبعاً هذه الأمة غبرت عليها قرون، فليست أموالها فقط كانت شيئاً سائباً بل أرواحها وكراماتها وأعراضها ودينها كان سائباً، دينها يُعتمَد ويُعاد تأويله وتفسيره لتبرير الجرائم، وهكذا ضاعت الأندلس وضاعت البلاد وتفرَّقنا أيادي سبأ وتقسَّمتنا الأعداء ، وأمسكوا بخناق هذه الأمة يذوقونها ألوان وتلاوين العذاب والمرائر، فكم لقيت هذه الأمة من ألاقي في الداخل والخارج باسم الاستبداد، لأن الاستبداد أعظم فساد، ولو درستم هذا المُصطلَح وهذا المفهوم – مفهوم الفساد – سوف تقريباً ترونه في مواضع كثيرة في كتاب الله – تبارك وتعالى – يأتي مُتظاهِراً كنتيجة وكثمرة للاستبداد، ففرعون كان رأس المُفسِدين، لماذا؟ لأنه كان رأس المُستبِدين، قال الله آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين ۩، فقد فصِّل لنا يا رب العالمين في فساد هذا الطاغية اللعين الأرعن الخفيف الذي فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩ وقال إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ۩، إذن الله يقول عَلَا ۩، فكيف يكون العلو؟ بالاستبداد، عنوان وجوهر العلو الاستبداد، ولذا قال  مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ۩، فهذا هو، وهذا معنى قول الله عَلَا فِي الْأَرْضِ ۩، فهو لا يرى إلا نفسه فقط، وكما قال محمد عبده نفسه في قضية المُستبِد العادل المُستبِد لا يُطيق في الوطن وضمن الشعب ضميراً لا بارزاً ولا مُستتِراً، فهو يقول أنا وفقط المُتكلِم، أي ضمير آخر بارز أو مُستتِر غير مسموح به – ليس نحوياً – سياسياً، وهؤلاء المُستبِدون يا ليت لو قد كان اقتصر شؤمهم ولؤمهم وكوارثهم في دائرة حكمهم الضيقة لخف المُصاب ولهان بعض شيئ، ولكنهم يفسِدون الأذواق والموازين والقيم المُجتمَعية العامة في المُجتمَع، فيذبل الولاء للحق ويذبل الولاء للوطن ويزدهر الولاء للشخص الحاكم بأمره ويتراجع الإخلاص والجسارة والشجاعة والجرأة وحس النقد والمُناصَحة والتقويم ويتقدَّم الملق والنفاق والدهان وحرق البخاخير وتتراجع الكفايات بل تُقبَر أو تُقتَل أو تُسجَن أو تُهجَّر، ستون في المائة من العقول المُهاجِرة في العالم من المسلمين، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن بلاد المسلمين ليست بلاداً طيبة.

 وكلُّ امرىءٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ               وَكُلُّ مَكانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيّبُ.

بلادنا ليست طيبة، بلادنا طاردة للكفايات والمهارات والقدر، فلماذا إذن؟ لأن المزاج الاستبدادي ليس لدى الحاكم بل لدى الشعوب التي أفسدها هؤلاء الذين طالت عهودهم – عهود الشعوب – بحكم أمثالهم من الصغار والتافهين والمحقورين من محقوري القدرات والإمكانات، فهم يزعمون أنهم أوحد أهل عصورهم، لكن هكذا هو الحال للأسف الشديد، ستون في المائة من العقول المُهاجِرة في العالم من المسلمين لأن بلادنا بلاد ليست جاذبة بل بلاد طاردة، ولأن الحاكم – كما قلت لكم – يغار كما تغار الضرة من ضرائرها فلا يحتمل أن تمتليء العيون إعجاباً بغيره، فهو يقول أنا وفقط، وإذا قلنا وماذا عن هذا الفيزيائي مثلاً؟ هل نُعجَب به؟ فإنه يقول لأ، وإذا قلنا ماذا عن الكروي الذي يلعب كرة قدم؟ هل نُعجَب به؟ فإنه يرفض هذا ويقول أنا وفقط، وهذا شيئ غريب، ولذلك الذين يتقدَّمون مَن هم؟ السرَّاقون، ففي هذه الدول لا يتقدَّم ولا يرتفِع إلا سرَّاق وإلا تافه أو حارق بخاخير أو كذَّاب أو مُزوِّر أو مُزيِّف فيُمسِك عليه الحاكم ألف ممسك لكي يذله ويفضحه ولكي يستعبده وينتعله طبعاً، فلا يتقدَّم أصحاب الكفايات المُجرَّدة الحقيقية الذين تسمح لهم كفاياتهم أن يقولوا  في اللحظة المُناسِبة للحاكم لا لست على صواب فتراجع، هذا غير مسموح لهؤلاء، وهؤلاء يُقتَلون في المهد، فالتربية المُجتمَعية تقتلهم في المهد لكن انتبهوا – انتبهوا تماماً – إلى أننا كشعوب أيضاً نُعاقِب الناجحين، والآن على وجه الأرض لا توجد أمة تشكو من الحسد المُجتمَعي كالأمة العربية، لم تُطوِّر أمة أدبيات في جلد ذاتها – وتستحق هذا الجلد –  وتعيير أنفسها بالحسد والنفاسة غير الشريفة كالأمة العربية اليوم، وهذا حق طبعاً، لأن لا توجد  أمة على وجه الأرض الآن تحقر وتحقد وتغضب على الناجحين والمُبرِّزين كالأمة العربية، فهل تعرفون لماذا؟ أفسد المُستبِدون أمزجتها، هذه أمة تراخت عليها الأيام وغبرت عليها السنون – أستغفر الله – بل القرون وهى محكومة بهؤلاء الأذلين من الحكام من أهل الصغار والحقار والكذب والبذاء، وفقدت هذه الأمة الموازين، فقدت حس الوزن والنقد وحس التقدير ولا تعرف هذا، ولذلك انتبهوا لأن هذه خطيرة أيضاً، والآن هذه الأمة رقم واحد – والله أعلم من غير دراسات واستقراءات – رقم واحد في تصدر الرعنة والحمقى والفشلة والعاجزين أمورها، مرة بإسم الدين  ومرة بإسم الإصلاح ومرة بإسم السياسة ومرة بإسم المُجتمَع ومرة بإسم الطائفة ومرة بإسم كذا وكذا وكذا، وهذا أمر عجيب ومن ثم تستغرب وتقول كيف يتصدر هؤلاء؟ كيف يأخذ هؤلاء المنابر؟ كيف يُسمَح لهم أن يتكلموا وأن يطبعوا وأن يشقوا الأمة وهم حمقى وفشلة وعجزة؟ لأن الأمة فقدت حس الوزن، فهذه الأمة المسكينة لا تعرف هذا، هذه أمة محكومة لقرون بالمُستبِدين الذين أفسدوا حسها، ولذلك من السهل جداً أن يُعطى كل أحد لقب المُصلِح العظيم أو الوطني الكبير أو الزعيم الأوحد أو العلَّامة الأوحد، فهذا يحصل بسهولة لدينا ولا نعرف هذا، وفي الحقيقة هو مجنون وأحمق وبنصف عقل وبنصف ضمير وببربع وطنية، وهذا شيئ غريب ومع ذلك تُوزَّع هذه الألقاب هكذا، فهذه الأمة المسكينة فقدت هذا ولا تعرف شيئاً ولذا هى حائرة بائرة خائبة وخاسرة بهذا السبب، أي بسبب السكوت على الاستبداد ومناخ الاستبداد، كما أن الديمقراطية والحرية مناخ الاستبداد أيضاً، وهذا المناخ ليس وضعاً يقتصر على الحاكم وبطانته بل يعم الأمة ويُعيد تطبيعها معه ومع مبادئه، فهذا الاستبداد له مباديء لأنه شيئ لعنة بل هو أسوأ اللعنات، وهذا هو الفساد الذي حذَّرنا منه كتاب الله حين قال إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً – انتبهوا إلى أنه شق الأمة، فكل حاكم مُستبِد لا يُمكِن أن يعمل على توحيد أمته وشعبه، بل بالعكس  يضرب الأسافين في الشعب الواحد وفي الوطن الواحد، من أجل أنه يعلم أنه إذا فرَّقهم أضعَّفهم، وإذا أضعَّفهم سطا بهم، لكن إذا اجتمعوا هدَّدوه، ما هو إلا أن ينقدح أمامهم الرأي الحق فيثوروا عليه فيقلبوه قلبة واحدة  في ليلة واحدة فيذهب مع أمس الدابر ولذلك يشق صفهم –  يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ۩، فهذا هو الفساد، إذن الاستبداد هو جذر الفساد، وإذا أردت أن تتحدث عن جذر الفساد في أمةٍ ما فابحث عن الاستبداد، إن وُجِد فهذا هو السبب الأول وهذا جذر الفساد، ولذلك الله – تبارك وتعالى – وعد الحكام الصالحين والمُتنفِّذين الطيبين فقال تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا ۩ وقال عن فرعون إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا ۩، فانتبه إلى القرآن الكريم لأنه كتاب عجيب، وعلى كل حال الله يقول تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩، وهنا مُدخَلية واضحة للتقوى في ماذا؟ في تسيير شأن الأمة العام في اقتصادها واجتماعها وسياستها، فهى ليست تقوى فقط في إرخاء الذقون ولبس النقاب والحجاب والإصطفاف في الصلاة وهذا كله مطلوب لكن ليس هذا فقط، بل يجب أن تكون في الحكم ونظام الحكم وثقافة الحكم السائدة في الأمة الموصولة بين الأجيال وليست مقطوعة الصلة بها، والآن يُحدِّثونك عن فقه – تعجب لهذا الفقه – يستوعب الألوف من الصحائف والمئات من الساعات، والأوقات تتسع – ما شاء الله – لأن وقت الأمة هدر أيضاً، وعقائر تنشق وحناجر تُبَح ومعارك تشتجر ويُقدَح أوارها بين الأمة في المساجد وفي الشواع وفي الجامعات لكن على ماذا؟ على طول اللحية وطول الجلباب وحجاب أو نقاب وكيف ننزل في الصلاة وكيف نقف في الصلاة، وهذا شيئ غريب جداً، فإذا كلمتهم في شأن الأمة العام قالوا لك هذه سياسة ولا نتدخل فيها، قلنا لهم ورب الكعبة والذي سمك السماوات – لا إله إلا هو – بغير عمد ما تتحدثون فيه هو السياسة الملعونة بعينها، فالساسة المُستبِدون من قديم لعبوا بكم هذه اللعبة، أرادوكم أن تستغرقوا الأوقات والأعمار والجهود والأمم في هذه الصغائر، وإن تكن من الدين إلا أنها صغائر، فهذه ليست كبائر وليست عظائم، هذه لا تفتح بلاداً ولا تُوحِّد أمةً ولا تبني حضارة، تكلم في هذه المسائل مليون سنة ولن تُفلِح أن تبني سفينة فضاء ولن تُفلِح أبداً بعد ذلك أن تُطلِق صاروخاً إلى الملأ الأعلى وإلى الفضاء بمثل هذه المسائل، ومع ذلك قالوا لك هذه سياسة، ونحن نقول لهم الذي ترونه سياسة هو في رأينا ومن رأينا جوهر الفقه الحقيقي، ولذلك أنا تلوت عليكم في صدر هذه الحُطبة آيات كريمات تعرفونها جميعاً وجمعاوات من سورة الشورى، لكن ألا يلفتكم أن سورة كاملة تُسمى بهذا الإسم – أي الشورى – الكريم؟ هذا أمر عجيب، فلماذا إذن؟ انتبهوا إلى أن هذه السورة – سورة  الشورى – ليست مدنية وإنما مكية، فهى ليست في المدينة حيث ثمة دولة وسياسة خارجية وداخلية ويهود ومُنافِقون وحروب، فهذه كانت في مكة، لكن هل الله يتحدث عن الشورى في مكة؟ نعم يتحدَّث عنها في مكة، وهذا معناه أن هذه الشورى ليست فقط حتى في شأن السياسة والاقتصاد وإنما في كل شأن يجمع الأمة، فكل ما هو مُشترَك  بين الأمة في شأن من شؤونها تلزم فيه الشورى، لكن كيف هذا؟ نقرأ الآية الكريمة التي تقول في بدايتها وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ ۩ فهذا أمر عجيب، والمطلع مُوحيٍ ومُدهِش ولافت، هل هذا من مُقتضيات الإيمان والاستجابة لله؟ نعم، ما هذه النظرية؟ وما هذا القرآن العظيم؟هذا معناه أن الدين الكهنوتي والدين التهويمي والدين الانعزالي الانسحابي ضاع مع هذه الآية، ضاع تماماً لأن الله قال هذا غير مقبول، فهذه الدروشة وهذا الهبل بإسم الدين مرفوض في القرآن، فهذا هبلكم أنتم وهذه دروشتكم أنتم، هذه ليست خُطة الله في بناء أمة وليست منهج القرآن في إخراج أمة لتكون خير أمة أُخرِجت للناس ليس بالدعايات وبالإعلانات والمانشيتات وإنما بمثل هذه البنى الحقيقية، وعلى كل حال الله قال وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۩ فهل قال بعد ذلك وآتوا الزكاة؟ لم يقل وآتوا الزكاة وإنما قال وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۩ ثم مُباشَرةً عقَّبها أو وسَّط وقال وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ۩ ثم أتى بالزكاة فقال  وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۩، صحيح لم تكن الزكاة المفروضة بالأنصباء المُقدرَّة قد شُرِّعَت لكن الحديث هنا عما يشملها، فالنفقة في العموم وفي الإطلاق، الأئمة ومنهم الجصاص مرة أخرى – رحمة الله عليه – لفتوا انتباهنا إلى أن الله – تبارك وتعالى – قصد إلى أن يلفتنا إلى مثابة الشورى العالية ومُقامِها الرفيع بتوسيط ذكرها بين ركنين مُهِمين، فهما أهم أركان الإسلام بعد شهادة التوحيد وهما الصلاة والزكاة، فقال الشورى تأتي بين الصلاة والزكاة، يا الله، وكما تأتي الصلاة والزكاة استجابةً لله – تبارك وتعالى – واستعلاناً بالإيمان به تأتي الشورى أيضاً، وهذا أمرٌ عجيب، فما دخل الشورى في الإيمان؟ طبعاً لأن الشورى نفيٌ لكل استبداد، وكل استبداد بما هو ومن حيث أتى هو تألهٌ بمعنى ما، واحد أحد – لا إله إلا هو – الذي له الصلاحية والحق المُطلَق الكامل غير المُقيَّد وغير المشروط وغير المخصوص بأن يفعل وحده وبأن يقول وحده وبأن يُشرِّع وحده وألا يتراجع عن قولٍ لأنه صاحب العلم الكامل المُطلَق، فالله وحده له هذا لكن فيما عدا الله وما عدا الله حتى الأنبياء يُخطِئون ويُصيبون، ولذلك حين استشار النبي في قضية أُسارى بدر خطَّأه الله، قال الله عَفَا اللَّهُ عَنكَ ۩ وعفا الله عنه، وقال الله أيضاً لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ ۩، وغفر الله له ولأصحابه، لكن النبي أخذ برأي الشورى، والله قال هذا غلط لكن لا تُوجَد مُشكِلة، فالنبي أخذ برأي الأغلبية وهو النبي، وهذا أمر عجيب، على أن زمان الأنبياء والنبوة قد انتهى، فزمان المعصومين الذين يسندهم وحيٌ من السماء ويعضدهم قولٌ من الملأ الأعلى ولى وغبر وانتهى، أكبر العباقر وأشمخ وأبذخ الأذكياء والحكماء بعد الأنبياء – وقد انتهى عهد النبوة – مُعرَّضون للصواب وللخطأ، فلا يسوغ أبداً بأي وجه من الوجوه أن يستبدوا بأمر الأمة وأن يقودوها حيث أرادوا وكيفما أرادوا، هذا لا يسوغ لأنكم لستم أنبياء يُوحى إليكم، والأعجب من هذا أن حتى الأنبياء أُمِروا في هذا الصدد أو بهذا الصدد أن يستشيروا، وهذا المفروض يكون موضوع خُطبة اليوم.

نعود إلى الآية الكريمة التي تقول  تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩، فهذه الآية لأجل ما علم أنها تتحدث عن الشأن العام وشأن الحكم بالذات اتخذها خامس الراشدين ابن عبد العزيز – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – نقش خاتمه، فعمر بن عبد العزيز كان له خاتم، وعلى سُنة المسلمين كانوا ينقشون خواتمهم، فنقش الخاتم بالآية التي تقول  تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩، وأول ما استُخلِف ابن عبد العزيز جمع جماعة من العلماء وأخبرهم أنه ينتهي إلى رأيهم ولا يُخالِف رأيهم، فهو قال لهم أنا شوري، أنا مثل جدي عمر – جدي لأمي – ومثل رسول الله، فالرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُمِر بهذا، لكن الآن الشورى انتهى حالها إلى وضعٍ بئيس قابض قاتم،  فيأتي إمام جليل – وهو رجل صالح – من أولياء الله فيما قرأنا عنه – رحمة الله عليه – لكن هذا لا يشفع له خطأه في التنظير والتفكير وهو أبو بكر الطرطوشي صاحب سراج الملوك – كتاب كبير في علم السياسة وتدبير الشأن العام – ويقول ما قال في المُقدَّمة، وفي هذا إشارة إلى هذا الشرخ والانكسار والانحطاط الفكري الذي أصابنا والذي ابتُلينا به، فهذا وباء اجتاحنا، حيث ذكر أن هذا الكتاب إنما وضعه ودبَّجه من أجل أن يستغني به الحكيم عن مُصاحَبة الحكماء والملك عن مُشاوَرة الوزراء، أي اقرأ الكتاب ولا تستشير، والكتاب عُرِف من عنوانه ومن ثم لا نحتاجه، هذا الرجل المسكين – طبعاً رحمة الله تعالى على هذا العالم الصالح والفقيه الجليل المالكي – قال هذا، لأن هكذا أوحت البيئة والتاريخ والسنون والاوضاع والثقافة الفقهية والسياسية السلطانية، فهى أوحت إليه بأن الشورى مسألة نظرية ويُمكِن أن تُحصَّل بقراءة كتاب وليست مسألة عملية حية نابضة مُتحرِّكة تنزيلية في الواقع، ولم يعرف أنها تطبيقية وأن المرء يحتاج بها إلى استمزاج أكبر قدر من الآراء – آراء أصحاب الكفايات والخبرة والاختصاص، طبعاً كلٌ في اختصاصه – أيضاً، قال تعالى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ – هذه الآية نص في الشورى، فأنا أعتبر هذه الآية التي يغفلها كثيرون من النصوص الواضحة في وجوب الشورى، وقد احتج بها غير فقيه في القديم والحديث – إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، وقال تعالى وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ – أي في الحرب أو السلم –  أَذَاعُوا بِهِ ۖ  – المذاييع ونشرة الأخبار والقيل والقال، فتُصبِح الأمة في حيص بيص وتحتار، لكن الله قال هذا لا ينبغي، فلابد من وجود مُؤسَّسات واختصاصات ووزارات لهذه الأشياء، وكل وزير يُدلي بالـ  Brief أو ما يُعرَف بالبيان المُختَصر في المسألة ولست أنا أو أنت – وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ ۩ ليس الفقهاء وإنما أهل الاختصاص، فإذا شاعت إشاعة – مثلاً – في ميدان الاقتصاد فإن وزير الاقتصاد هو الذي يتكلَّم إذا كان يفهم هذا، وكذلك الحال إذا شاعت إشاعة في ميدان السياسة والحرب فإن وزير الدفاع هو الذي يتكلَّم هنا، وفي شأن العلاقة مع الدول الخارجية يتكلَّم وزير الخارجية، لأن ما علاقتك أنت بهذا؟ وكذلك الحالفي شأن التربية والتعليم فإن وزير التعليم هو الذي يتكلَّم وهكذا، وهذا معنى قول الله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ  ۩، فهؤلاء الذين لديهم الاقتدار على أن يستنبطوا وهم من أهل الاختصاص والكفايات المُجرَّبة والمقدورة يجب أن نسألهم في شؤونهم ويجب أن نعود إليهم ويجب أن نستشيرهم، ولذلك قال الله  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، وهذا في كل شأن، وفي الشأن الديني نسأل أهل الدين، فانتبهوا إلى أن حتى في قضية النبؤة بمحمد – هل نُبيء بمحمد في الكتب السابقة – يجب أن نسأل أهل الذكر، ومَن هم أهل الذكر؟ اليهود والنصارى، ثقات الحاخامين والرابيين وثقات الأحبار والقسس من النصارى، فالثقات الذين لا يكذبون  نسألهم هل ذُكِر محمد في كتاباتكم أو في كتبكم؟ هل هو مذكور لديكم؟ فالله قال اسألوهم أيضاً، وهذا هو القرآن في جامعيته، لأنه هو النُسخة النهائية ولذلك يتصف بالجامعية، ومن هنا قال الله فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، على أن القرآن حين سمى هذه السورة المكية بإسم الشورى أشار إلى أمرٍ عجب، فهو قال وَأَمْرُهُمْ ۩، أي أضاف الأمر إلى مَن؟ إلى الأمة وإلى الجماعة، فإذن هذا أمرنا نحن، فهذا معقول ومقبول وعادل ومنطقي وعقلاني لأننا ندفع الدم والعرق والروح والمال، لكن أنتم تقبلوننا بلغة غير مُهذَّبة قليلاً بقرةً حلوباً وبلغة اقتصادية كدافعي ضرائب، فأنتم تقبلوننا وتُحِبوننا كجمهور وكرعاع دافعي ضرائب وبقرة حلوباً، وتُحِبوننا كوقود للمعارك وتُحِبوننا كمُشغِّلين للمصانع والمعامل في البر والبحر وتقولون أهلاً وسهلاً بهذا، لكن لا تُحِبوننا ناخبين مُشارِكين حين نُدلي بصوتنا في أمرنا ونحن الذين ندفع العرق والدم والروح والمال، فهذا غير معقول بالمرة، لذا الله قال وَأَمْرُهُمْ ۩، فهذا أمري، وهو شركة بيننا – بين الأمة حكاماً ومحكومين – أيضاً، فإذن العدل والمنطق والنصفة تقول ينبغي أن يكون شورى بينهم، فانتبهوا إذن إلى القرآن الكريم الذي عنده نظريات آلهية مُتماِلة، وحتى في الإطار الأسري الضيق قال أن الولد للأب أو للأم، أي للاثنين معاً، فهو ولد للأب وللأم، قال الله وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ۩، فهو ولد لوالدين وليس لوالد واحد، لكن موضوع النسبة وأنه ابن فلان هذا شيئ آخر، لكن هو لمَن؟ هو لوالديه، فإذن هو شركة بين الاثنين، والله قال  ما دام أنه شركة فإن الشؤون التي تمسه تكون موضع شورى مُباشَرةً، فانظروا إلى دقة القرآن الكريم، هذا تنظير دقيق جداً لأنه شغل رباني، ومن ثم قال الله أيضاً فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا ۩، لكن ما معنى فِصَالا؟ أي يُريد الأبوان – الوالدان – أن يفطما الطفل قبل أن يستكمل سنتي الرضاعة – وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ – لأسباب مُعينة، هم يُريدون أن يكتفوا – مثلاً – بسنة ونصف فقط، فقال الله لا مُشكِلة لكن يتشاور الوالدان، لماذا يا الله والأم هى التي تُرضِع وتتعب وتسهر؟ الله قال الولد شركة بينهما، وما دام شركة فلابد من الشورى، فكل شركة وشراكة تقتضي الشورى والتشاور، ومن ثم قال في سورة البقرة فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ – هذه كلمة تشاور، إذن رجعنا للشورى لأن التشاور تعني الشورى – فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۩، فما أعظم هذا القرآن وما أكرم هذا القرآن، وكذلك الحال إذا دبت المشاكل بين أحد وزوجته حيث قال الله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ۩، وهذا أمرٌ ضمنيٌ بالشورى، لأن هذان حكمان وليسا حكماً واحداً، لو كان حكماً سوف يقضي الحكم برأي وينتهى كل شيئ، لكن الله قال لابد من الحكمين  لكي تكون شورى، فهذا يُدلي برأيه وهذا يُدلي برأيه تصطدم الآراء بل وربما تتفق، فإن اتفقت فهو أللِّبَأ وابن طاب، وإن لم تتفق فلابد من المُداوَلة والمُفاوَضة والاشتيوار، إذن هذا أمر ضمني بالتشاور، والله أمر
أمر النبي أن يُخيِّر أزواجه – رضوان الله تعالى عنهن جمعاوات – قائلاً يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً۩ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ۩، وبدأ النبي بعائشة – رضوان الله عليها – وقال يا عائشة الله أمرني أن أُخيِّركن وتلا عليها الآيتين ثم قال وإني لا أُحِب أن تعجلي، اذهبي فاستشيري – النبي يقول استشيري، فهذا الشأن يحتاج إلى الشورى فانظري ماذا يقول أبوكِ وأمكِ وما إلى ذلك – أبويكي، فقالت يا رسول الله أفيك أستشير أبوي؟ فإني قد اخترت الله ورسوله والدار الآخرة، رضيَ الله عن أمنا عائشة، فقد اختارت وقالت أن هذا الكلام لا يحتاج إلى شورى لكن النبي كان يُدرِّبها على هذا، فهذا هو الرسول – عليه السلام – إذن، ويوم أفك الأفاكون وائتفكوا هذا الإفك العظيم في حق المُطهَّرة الصديقة بنت الصديق ماذا فعل النبي وهو النبي؟ هو أكمل عباد الله عقلاً وأسدهم وأصوبهم رأياً ومع ذلك استشار اثنين من شباب الصحابة، وأحدهما أصغر من الآخر، فقد  استشار عليّاً – عليه السلام – واستشار أسامة بن زيد، ولعله كان في الرابعة عشرة أو نحوها، لكنه استشار وقال هل أُبقي أم أُطلِّق؟ الناس تتحدث فماذا أفعل؟ وهذا أمر عجيب، هل تستشير يا رسول الله في هذا الشأن شديد الخصوصية والحراجة؟ نعم يستشير، وهل تستشير شاباً صغيراً وشاباً أكبر؟ نعم يفعل هذا، فإذن هذا هو النبي، ولذا يقول أبو هريرة – رضوان الله عليه – ما رأيت أحداً أكثر مشورةً – أي استشارة – لأصحابه من رسول الله، وهذا صحيح وسنختم – إن شاء الله – بنماذج من شوراه، بعضها معروفة وبعضها يعرفها الخاصة لكننا سنختم بها الخُطبة –  إن شاء الله تعالى  – على كل حال إن يسَّر الله ومد.

إذن النبي كان يستشير في كل شيئ، ماذا قال النبي في الشأن الأسري – أحوال  شخصية – أيضاً؟ قال آمروا النساء في بناتهن، أي خذوا رأي النساء في زواج بناتهن، لا ينبغي أن يقول أحدهم أنا الأب وأنا الذي أُزوِّج وبيدي عصمة النكاح الآن فإذا تزوجها ربما تصير إليه، ويُوجَد خلاف بين الصحابة عن الذي بيده عقدة النكاح أو عصمة النكاح، وعلى كل حال النبي قال يجب قبل ذلك أن تستشير الأم، وهذا معنى قوله آمروا النساء في بناتهن، لكن قد يقول لي أحدكم وماذا عن البنت المسكينة؟وأنا أقول له لا تعجل علينا يا أخي، فالنبي قال البكر تُستأذَن – وهى بكر صغيرة، أي لم تُجرِّب الزواج من قبل فتُستأذَن – وإذنها صماتها، وذلك لأنها تستحي، كأن يُقال لها يا بنتي جاء فلان ابن فلان لكي يخطبك، فهو يُريد أن يتزوجك، هل أنتِ موافقة؟ فتستحي وتسكت وما إلى ذلك، وهذا يعني أنها وافقت، فنحن نفهم من هذا أنها وافقت وقد تدخل الغرفة الثانية ويحمر وجهها وما إلى ذلك، وهذا معنى قول الرسول وإذنها صماتها، ثم استتلى قائلاً والأيم تُستأمَر، أي أن المُطلَّقة أو الأرملة التي تزوجت قبل ذلك تُستأمَر، لكن ما معنى تُستأمَر؟ هى سوف تصرح وتقول نعم أنا أُريده لأنها عينها قوية وقد جرَّبت الرجال من قبل، فتقول هذا أُريده أو ذاك لا أُريده لأنه تعبان وحالته سيئة، فإذن البكر تُستأذَن والأيم  تُستأمَر في هذه الشؤون، هذا هو القرآن وهذه هى الشورى في كتاب الله تبارك وتعالى، ونأتي إلى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وآله ومَن والاه – لكي نرى ونقف على نماذج كريمة من استشاراته لأصحابه وأخذه برأيهم، فلم يثبت مرة أنه استشارهم ثم خالفهم حتى لا يقول أحدهم أنها مُعلِمة وليست مُلزِمة، فهذا غير صحيح ومن ثم لا تُفسِّر لي أنت هذا لأن النبي هو الذي يُفسِّر لي، فالنبي ما شاورهم مرة إلا ونزل على رأيهم، ما رأيك؟ وهذا يحدث دائماً سواءأصابوا أم أخطأوا لأنه هذا رأي الأغلبية، وكما قال الحافظ: 

رَأْي الجَمَاعَةِ لا تَشْقى البِـلاد به           رَغْم َالخِلافِ وَرَأْي الفْردِ يُشْقِيهـا.

هذا سنقف عليه لكن في الخُطبة الثانية، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

قبل أن أسرد هذه النماذج على عجل أُحِب أن أُنبِّه فقط إلى أن هناك نُكتة كالخفية في قوله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ۩، ولعل عدم التفطن والتنبه إلى هذه النُكتة هو الذي حمل جماهير العلماء – للأسف – من القدماء على أن يقولوا ما قالوا، وهذا في حتى الذين قالوا في حكم الشورى بأنها واجبة على رسول الله، فهناك مسألتان الآن، هل الرسول يُندَب إليه ويُستحَب أن يُشاوِر ولا يجب أن يُشاوِ؟ طبعاً في ماذا يُشاوِر؟فيما ليس فيه نص وفيما ليس فيه وحي، إذا يُوجَد وحي فإن الكل مأمور، سواء الرسول وغير الرسول، فلا كلام هنا ولا اجتهاد ولا شورى، ومن ثم من المُمكِن  أن لا اجتهاد ولا شورى في معرض النص، إذا وُجِدَ نص إلهي ينتهى كل شيئ والكل يتراجع، إذا لم يُوجَد نص إلهي فإن النبي يجتهد والصحابة يجتهدون ويحصل التفاوض والاشتوار والتفاوض والمُحاوَرة والأخذ والرد طبعاً، لكن هناك مَن قال -المسألة الثانية – أن إذا قيل لا يُمكِن أن يمضي النبي على ما يُريد، سواءٌ أخذ برأيه أو خالف عن رأيهم وأخذ برأيه فهو له ذلك، قال تعالى فَإِذَا عَزَمْتَ ۩، لكن هذا غير صحيح، بالعكس حتى سياق الآية لا يُوحي بهذا، تقول الآية وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ ۩ أي للتفريع، فالعزيمة فُرِّعَت على ماذا؟ وعن ماذا؟ عن الشورى، كأنه يقول له هذا العزم الكامل لا يحصل إلا بعد الاشتوار، لأن بين الرأيين رأي كما يقول المثل العربي، والذي يلوح لك يخفى علىّ، والذي يلوح لي ربما خفى عليك وإن كنت الرسول لأنه من شؤون الدنيا وتدبير الحرب والسلم، وهذه مسائل مُتسِعة جداً، لا يحيط بها إلا رب الناس – لا إله إلا هو – فقط، وربما يتطرق الخلل والنقص إلى رأي الرائي – أياً كان هذا الرائي – في شؤون الدنيا، كيف لا وهو القائل فيما صح عنه أنتم أعلم بأمور دنياكم؟ فهذه أمور دنيوية، وفيها صحيح وأصح  وسديد وأسد وفيها خير وأخير وشر وأشر، وليس العاقل الذي يُميِّز الخير من الشر والشر من الخير، بل الذي يُميِّز خير الخيرين وشر الشرين، فهو يعرف المراتب – كما قلنا – ويُميِّز خير الخيرين وشر الشرين، ويعرف المُهِم والأهم والصائب والأصوب والحسن والأحسن، قال الله  وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ ۩، وقال الله أيضاً الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ – اللهم اجعلنا منهم –  وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ۩، ونعود لكي نقول لم يلتفتوا إلى إلى أن أمرهم أمر دنيوي، فلو كان أمراً دينياً ما وُجِد مساغٌ للاشتوار فيه، ففي أمور الدين النصية لا مجال للشورى، لكن هذا أمر دنيوي، وقد يقول لي أحدكم هل أمر السياسة بشكل عام وغير السياسة من شؤون الجماعة أمر دنيوي؟ نعم أمر دنيوي، لكن الذي يحصل الآن في بلادنا العربية للأسف الشديد – تعرفون أنني لا أُحِب أن أُسمي – ليس هذا، لأن – كما قلت لكم – هذه المفاهيم غامضة ومائعة ومُلتبِّسة في أذهان حتى بعض العلماء والدعاة والمُفكِّرين، للأسف تُمارَس السياسة بإسم الدين وعلى أنها دين ومن ثم الناس ما عادت تعرف شيئاً، ولذلك نخوض انتخابات فيُشَق المُجتمَع ويُشَق حتى بإسم الدين، فكيف هذا؟ كيف ينشق المُجتمَع بإسم الدين؟ هو قد ينشق حزبياً وليس لدينا مُشكِلة في هذا، وقد ينشق ويختلف سياسياً ويُقال أن هذا الاختلاف بشكل عام يُعَد جيداً وليس عندنا أي مُشكِلة مع هذا أيضاً لأنه يحصل في أحسن المُجتمَعات، لكن حين ينشق دينياً فإن هذه تكون مُشكِلة كبيرة، وهذا ما يحدث بإسم السياسة التي مُورِسَت بإسم الدين، بدليل أنه يتم وضع الأيدي على مساجد بأعيانها فلا يدخلها إلا فئات مُحدَّدة – هذا ممنوع على غيرهم  -ولا يخطب فيها إلا خطباء مُعيَّنون، فما معنى هذا؟ هذا يعني شق المُجتمَع دينياً، كعُقبى من عُقبى ماذا السياسة، فهنا يُوجَد خطأ ما لكن هذا يحتاج إلى خُطبة بحيالها لكي نُفصِّل القول فيه ونقول كيف حصل هذا وكيف يحصل هذا وما هو تقويمنا لهذا الحاصل، فهذا خطير جداً جداً جداً ولكنه يحصل والناس لا تتنبه له، كأنه وضع طبيعي، وهو وضع غير طبيعي بالمرة، هذا شيئ جداً جداً جداً جداً سياسةً وديناً، ففي الميدان السياسي هو سيئ وفي المجال الديني هو أسوأ، فانتبهوا إلى هذا جيداً، ولذلك الله قال هذا أمر دنيوي في قوله وَأَمْرُهُمْ ۩، فلو التفت العلماء الذين قالوا ليس من الواجب على الرسول أن يستشير والذين قالوا أنه مندوب وغير واجب أن يتبع رأي الأغلبية إلى أن هذا الأمر دنيويلهان عليهم أن يقولوا لأ، يجب عليه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يصدر عن رأي الأكثرية، فهذا لا ينقصه وليس فيه غضاضة عليه ولا على مقامه الشريف المُنير – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – لأنه شأن من شؤون الدنيا التي قال فيها أنتم أعلم بأمور دنياكم، فلا ينقصني أنك  تفهم في الطب أحسن مني مثلاً، والنبي كان بيتطبب وكان يعرف أن هذا الطبيب يعرف في الطب أحسن منه، والنبي استوصف وأخذ برأي عشرات الأطباء، وكذلك الحال في السياسة والعسكرية وأنتم تعرفون كل هذه القضايا، ففي معركة بدر استشار مرتين، لما نجت القافلة استشار النبي وقال هل نخرج لقتالهم أم لا؟ لأنهم أزمعوا القتال، وأشار أبو بكر وعمر والمقداد أن نخرج إليهم، فهو قال أشيروا علىّ أيها الناس ومن ثم قال أبو بكر وعمر والمقداد هذا، فهو قال أشيروا علىّ أيها الناس والأنصار فهموا الرسالة، أي كأنك تُريدنا يا رسول الله، وأنتم تعرفون ماذا قال السعد وماذا قال أبو الهيثم بن التيهان إلى آخره، وقد قال المقداد يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) وإلى آخره، فإذن هنا استشار في القتال وقال أشيروا علىّ وأخذ برأي المُهاجِرين وبرأي الأنصار، فلما رأى الأغلبية دون نكير ودون خلاف على الخروج والقتال خرج للقتال، وكان فيه البركة والنصر في يوم الفرقان بحمد الله تعالى، ولما وضعت الحرب أوزارها وسيق منهم أكثر من سبعين أسيراً استشار النبي أصحابه في هذا وقال ماذا نفعل في هؤلاء الأسارى؟ هل نقوم بالمُفادَاة أم القتل؟ عمر وسعد بن معاذ قالا القتل، أي اقتلهم، فأنا أقتل حتى أخي وليس عندي مُشكِلة في هذا، وعليّ يقتل فلان، وأنت تقتل العباس أو كذا كما قال، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمُشرِكين، لكن أبو بكر وجُملة الصحابة – الجمهور – قالوا لا نقتلهم، نأخذ منهم الفدية أحسن،فمال النبي إلى الرأي الآخر، أي إلى رأي مَن؟ الأغلبية، ونزل القرآن يُخطِّيء هذا الموقف، فالنبي أخذ برأي الأغلبية وقد كانت على على خطأ، لكن لا بأس وعفا الله عنها وقال لا مُشكِلة في هذا، وفي أحد قبل الخروج استشار جمهور أصحابه مُهاجِرين وأنصاراً، فكان رأي الأشياخ وهو فيهم – عليه السلام – ورأيه من رأي الأشياخ –  مُعظم الأشياخ إلا قلة – أن نعتصم بالمدينة، فمدينتنا نعرفهم وأهل مكة أدرى بشعابها ومن ثم نبقى فيها، فإن أتوا تلقَّفناهم فتكون الهزيمة بإذن الله تعالى، وهذا الرأي فيه حكمة، والنبي وافق رأيهم، لكن رأي الشباب – مُعظم الشباب – وفيهم قلة من الشيوخ كان العكس، فقالوا هل نحن نجبن عنهم؟ هل نخاف منهم؟ نخرج إليهم، نحن نبرز إليهم، لكن انتبهوا إلى أن الأكثرية هى التي كانت ترى الخروج، فخرج النبي ولبس اللأْمَةُ – عدة الحرب – لكن بعد ذلك تأثَّموا وقالوا يا رسول الله كأننا أكرهناك فلا تخرج وأقم، فقال ما كان لنبيٍ إذا لبس لأْمَتَه – أي أخذ عدة الحرب – أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، لماذا؟ لأن فسخ العزم ليس أمراً جيداً، والقرآن قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۩، فإذا عزمت امض، يا الله، ما هذا الدين العظيم؟ وهكذا فهمه الصحابة ولذلك كانوا أمة قوية لا ينثني لها عزم ولا يتخوَّلها شك ولا ريب ولا سأم، لكن نحن اليوم أمة خواَّرة ضعيفة، ترى الواحد فينا يعزم ويفسخ عزمه ألف مرة وليس مرة واحدة ويقول أنا أُريد ثم يقول أنا لا أريد، ويقول أنا سوف أذهب ثم يقول أنا لن أذهب، فما هذا؟ هذا بسبب عدم وجود تربية قرآنية حقيقية، لكن النبي قال أنا أخذت عدة الحرب ولا أستطيع أن أضعها حتى يحكم الله، وكانت الهزيمة كما تعرفون في أحد، والعجيب أن بعد معركة أحد نزل قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ ۩، لكن قد يقول لي أحدكم كيف يشاورهم في الأمر وقد شاورهم؟ ماذا يُصبِح يش بيصير معنى الآية؟ معنى الآية واظب وداوم واستمر على مُشاوَرتهم كما فعلت قبل الواقعة وقبل الغزوة، فمثل ما فعلت افعل بعد ذلك دائماً، فالله يقول له هذه خُطة وهذا مبدأ سياسي تدبيري، فلابد من الشورى، لماذا؟ لأن الجماعة إن أخطأ رأيها في مرة أصاب في ألف، والعكس في رأي الفرد، فإن أصاب في مرة أخطأ في ألف، فرق بين عقل واحد وعقل ألف، وفرق بين عقل واحد وعقل مائة، فرق كبير طبعاً مع حفظ شرط الاختصاص والكفاءة – كما قلنا – والكفاية والتأهيل وهكذا.

إذن استشارهم في أحد، وفي الخندق حدث نفس الشيئ، لما تحزَّبت الأحزاب وتألَّبوا وضاق الأمر على المسلمين جداً كما تعرفون –  وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ۩ – بعث النبي إلى قادة غطفان وفاوضهم فيما بينه وبينهم دون إشهاد ولا إمضاء عزيمة، فلم يكن هناك أي إشهاد ولم يُوقِّع النبي ولم يكتب حتى الحروف الأولى أبداً، وإنما قال لهم نعطيكم ثلث ثمار المدينة على أن تعودوا، فهو يُريد أن يشق مُعسكَر الأحزاب، وهذا تدبير سياسي منه، لكن هل هذا الأمر هو أمر النبي أم أمر المدينة وأهل المدينة؟ أمر أهل المدينة لأن هذه ثمار المدينة وليست حتى ثمار المُهاجِرين، فلا يُوجَد موضع هنا أصلاً لأبي بكر وعمر وعليّ وعثمان، هذا الكلام يخص الأنصار لأن هذه ثمارهم، فهذه ثمار أشجارهم وعرق جبينهم، فعبث إلى السيدين – سيد الأوس والخزرج – أو إلى السعدين – سعد بن عبادة وسعد بن معاذ – وقال لهما أنا اتفقت معهم على كذا كذا كذا، فقالوا يا رسول الله أهذا أمرٌ تُحِبه – أي هل أنت تُحِب هذا – أو  أمرٌ تصنعه لنا أو أمرٌ أمرك الله به – أي وحي فينتهي كل شيئ – فلا معدى لنا عنه؟ قال هذا أمر ما أمرني الله به ولا أنا أحبه لي وإنما أمر أصنعه لكم، أي من أجلكم أنتم، إني قد رأيت الناس قد تألَّبوا عليكم وأرادوا أن يرموكم عن قوسٍ واحدة فأحببتُ أن أُنفِّس عنكم وأُخفِّف عنكم، وذلك من خلال أن نشق هذا المُعسكَر، فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله نحن كنا في الجاهلية لا نخضع لهم ولا نسكين أصلاً فهل نخضع في الإسلام؟ والله لا نُعطيهم شيئاً من ثمرتنا إلا بثمنه أو قرى – قرى الضيف – وليس لهم عندنا إلا السيف فليجهدوا علينا جهدهم، فقال أنت وذاك، إذن هذه شورى أم ليست شورى؟ هذه شورى لأنه أخذ برأي المعنيين ورجع عن رأييه.

 بعد الأحزاب – أنتم تعرفون كيف نقضت قريظة العهد وخانت وتألَّبت والعياذ بالله منهم – كان النبي في بيته يغتسل وإذا بجبريل يقول له يا أخي يا محمد أراك قد وضعت عدة الحرب، إن الله يأمرك أن تخرج إلى قريظة، سر إلى قريظة مُباشَرةً، فسار إليهم وكان ما كان، فهذا بأمر الله، والذين قالوا ليست واجبة وأنها مُعلِمة أيضاً لكنها ليست مُلزِمة قالوا هذا لأنه خرج إلى قريظة دون أن يستشير، لكن نحن نقول لهم هذاعن أمر الله وليس عن رأيه ولذا خرج دون أن يستشير.

في هوازن – حنين – بعد فتح مكة بأسبوعين كانت الدبرة والدولة على هوازن طبعاً وأسر النبي منهم مَن أسر فجاءوه مُعتذِرين تائبين وأعربوا عن نيتهم في الدخول في الدين، فقال النبي – وقد قام ودعى بأصحابه –  يا أيها الناس إن إخوانكم هؤلاء – أي هوازن – قد جاءوا تائبين مُنيبين وإني قد رأيت – هذا رأيي أنا وليس أمراً إلهياً، هذا رأيي وهو تدبير سياسي مني كرئيس دولة وزعيم أمة – أن أسمح لهم بسبيهم – أي أُريد أن أرد عليهم سباياهم وأسراهم -، فمَن شاء منكم ومَن طاب منم نفساً أن يفعل ذلك فليفعل، ومَن أراد أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فهو يُريد أن يقول نُطلِق كلنا الأسرى، ولكن بعضكم تابت نفسه فيُطلِقهم بلا عوض، وبعضكم يُطلِقهم ويطلب العوض المثيل لأن لم تطب نفسه فيقول نُطلِقهم دون  مُشكِلة على أن تُعطينا مثلهم في أول ما  يُفيء الله عليك ومن ثم فعلنا به ذلك، فقالوا يا رسول الله طيبنا نفساً، أي نفوسنا كلها طيبة فاعتق الأسرى وأعد السبايا، فقال لإني لا أعلم مَن أذن منكم مِمَن لم يأذن، أي أنكم تتحدَّثون وقد يصل عددكم إلى عشرة – مثلاً – أو عشرين أو غير ذلك ولا أعرف ما هو رأي بقية الناس، وانظر الآن إلى احترام النبي للأمة واحترامه لإرادة الأمة، فهو يفعل هذا وهو نبي ويقول أُريد أن أعرف بقية الآراء، ومن هنا قال فليذهب عرفاؤكم – ما هو العريف؟ رئيس مجموعة أو طائفة يتعرَّف أمرهم ليُعرِّف مَن فوقه بهذا الأمر ولذلك يُسمونه العريف – وليروا رأي الناس، فذهب العرفاء واستنتجوا الآراء بعد أن سألوا الناس عن رأيهم فيما قال النبي وعادوا وقالوا يا رسول الله لقد طيبوا أنفسهم وعفوا، أي أنهم لا يُريدون ذلك، فقال فهو ذلك والحمد لله، إذن هذه شورى كريمة، ولما خرج في الحديبية إلى بيت الله يُريد أن يطوَّف به وكان بذي الحليفة بعث عيناً من عيونه – جاسوساً – فعاد العين وقال له يا رسول الله قريش قد  جمعت لك وقد جمعت الأحابيش وهم مانعوك وصادوك ومُقاتِلوك، فقال النبي لأصحابه ما ترون؟ هل نُخالِفهم إلى أهلهم وذراريهم، أي في دورهم وبيوتهم؟ فقال أبو بكر قال يا رسول الله إنك لم تخرج تُريد قتل أحد ولا حرب أحدٍ وإنما خرجت تعمد إلى هذا البيت – تتعبد الله –  فامض إلى ما خرجت له، فإن صدوك وقاتلوك قاتلناهم حتى يفتح الله بيننا، فقال نأخذ برأيه على إسم الله كما يُقال ولا مُشكِلة في هذا، والظاهر أن بقية الصحابة كانوا على رأي مَن؟ على رأي أبي بكر لأن لم يُذكَر أي اعتراض، فأخذ إذن بهذا الرأي، وهناك أشياء كثيرة في الحديبية حصلت أيضاً وقد رأينا كيف شاور، وقد شاور أم سلمة أيضاً، ومع ذلك قال  الآخرون النبي في الحديبية لم يأخذ برأي الصحابة وأمضى العقد ووقَّع على البنود، ومن الصحابة من يأبى وينفر ومنهم الفاروق عمر – رضوان الله عليه – وقال ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فلم نُعطي الدنية في ديننا؟ لكننا نقول لهم لا حُجة في هذا، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا الصلح وقع عن أمر السماء وليس عن اجتهاد رسول الله، والدليل أمران هنا، فنحن لدينا قرينة ودليل، القرينة ما اتفق للقصواء حين امتنعت فقال النبي مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، فهذا أمر إلهي والله يُريد شيئاً هنا فإذن نقعد ونرى ماذا سيحدث، ثم أنه ماذا قال النبي لعمر؟ قال له يا عمر إني عبد الله ورسوله وهو ناصري ولن أعصيه، وهذه الصيغة – أي قوله ولن أعصيه – تُؤكِّد أن الأمر عن وحي السماء، ولذلك تراجع عمر وندم بعد ذلك ندماً شديداً إلى أن لقى الله، لأنه تعرض للرسول في هذا الموقف ثم عرف أن هذا عن وحي معناها، فالمسألة ليست تتعلَّق بالتدبير السياسي وإنما بالوحي.

في تبوك – غزوة تبوك والعسرة – ماذا حصل؟ نزل بالناس جوعٌ شديد وجهدٌ عظيم، فأتوه وقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا أن ننحر نواضحنا – هذه النوق التي نضع عليها الماء ونركبها كركوبة – حتى نأكل وندهن، أي أننا تعبنا وجُهِدنا، فقال افعلوا، فأتاه عمر وقال يا رسول الله لو قد فعلوا لقل الظهر – أي لو ذبحوا النواضح سوف تكون الركوبة عندنا قليلة، فكيف نرجع نحن من حدود الشام إلى بلادنا إذن؟ هذا صعب – ولكن أرى يا رسول الله –  قال له هذا  رأيي أنا وهذه جهة نظري – أن تدعوهم بفضل أزوادهم – الزائد من أكلهم – فتدعوا الله أن يُبارِك فيه فلعل الله أن يفعل، فانظروا الآن إلى الإيمان، هنا القضايا الإيمانية تظهر، ففعل النبي وأخذ برأي عمر، والظاهر أنه لا مُعارَضة لرأي عمر، وعلى كل حال هذه مسائل كثيرة جداً جداً، وحتى حين أنزل الله قوله – وهذه مسألة تشريعية ولكن فيها تطبيق وتنزيل – فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ۩ قال لعليّ بن أبي طالب يا عليّ ما ترى؟ ما مقدار الصدقة؟ هل تكون ديناراً مثلاً؟ قال شعيرة يا رسول الله، قال إنك لزهيد، فأنزل الله أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩، وقال عليّ – عليه السلام – فبي خفَّف الله عن هذه الأمة، أي أن هذه من بركاتي، علماً بأن نظائرها كثيرة في التشريع ولكن ضاق الوقت فنكتفي بهذا القدر ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا الدين وأن يُفقِّهنا فيه وأن يُرشِدنا إلى أرشد أمرنا.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا فقهاً وعلماً ورشداً، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا.

 اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرة ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

اللهم إنا نسألك ونتبهل إليك ونضرع بإسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا الجُلة أن تجمع شمل المُسلِمين وأن تلم شعثهم وأن تُوحِّد صفوفهم وأن تُؤلِّف بين قلوبهم وأن تصرف عنهم وتقيهم الفتن ما ظهر منها وما بطن بلطفك الخفي يا لطيف، يا عزيز، يا خبير، يا رب العالمين.

اللهم أرفع البلوة واكشفها عن إخواننا في سوريا وفي كل بلاد المُسلِمين يا رب العالمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(1/2/2013)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: