إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات:

أخرج الإمام مسلم في صحيحه والإمامان أبو داود والترمذي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – عن ثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – أنه قال “قال رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زويَ لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض – أي الذهب والفضة أو الدينار والدرهم، يعني مُلك كسرى ومُلك قيصر – وإني سألتُ ربي – سبحانه وتعالى – لأمتي ألا يُهلِكها بسنةٍ عامة – أي بقحطٍ وجدب، فالسنة العامة هى القحطُ والجدب، يعني فيهلكوا جوعاً وعطشاً وعُدمى والعياذ بالله – وألا يُسلِّط عليها عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن الله – تبارك وتعالى – قال يا محمدُ إني إذا قضيتُ أمراً فإنه لا يُرَدُ وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أُهلِكهم بسنةٍ عامة وألا أُسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً ويُهلِك بعضهم بعضاً”، وهذا حديثٌ صحيح من جهة الإسناد وصادقت على صحتهِ الوقائعُ عبر التاريخ وفي الواقع.

هل طرح امرؤٌ على نفسه سؤالاً: أي الدواهي والمصائب التي تحيق بأمةٍ من الأمم كُتِبَ لها البقاء؟!

فهذه الأمة بضمانة الله – تبارك وتعالى – أمةٌ باقية، هى في ضمان من أن يُسلَّط عليها عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، فهذا لن يكون – بإذن الله تعالى – ولن يقع، إذن هذه الأمة خالدة، وسيفنى آخرهم إذا أراد الله – تبارك وتعالى – بسببٍ إلهيٍ كوني حين يُسلِّط – سبحانه – الريح التي لا تُبقي نفساً مُؤمِناً، لكن لا يُمكِن أن يُستباحوا من عند آخرهم وأن تُستأصَل شأفتهم على يدِ عدوٍ من غيرهم، فأي الدواهي وأي المصائب التي تحيق بأمةٍ كُتِبَ لها البقاء أعظم؟!

أي هذه الدواهي أعظم؟!

أن يُسلَّط بعضها على بعض، فهى في مأمن أن يُسلَّط عليها غيرها فيستبيحها، ولكن أعظم الدواهي بعد ذلك أن يُسلَّط بعضها على بعض!

أرأيت إن صال أحدهم عليك فإن في الإمكان أن ترده بسببٍ أو بآخر ولكن إن سُلِطَّ جسمك على بعض – إن كانت يدك هى التي تأخذ مأخذاً من وجهك أو من صدرك أو من بطنك أو من سائر أطرافك مثلاً – فماذا تفعل؟!

لن تقطعها لأنك إن فعلت فأنت الخاسر، وهذا ما يحدث لهذه الأمة حين يُسلَّط بعضها على بعض !
من جهةٍ – وهذا وجهٌ من أوجه الازدواج التي نعيشها ولا نتفطن لها أو لا نكاد – نتحدَّث عن أمةٍ عظيمة تعدُ المليار ونصف المليار، ومن جهةٍ أُخرى يبدو أن كثيرين من أبناء هذه الأمة ليسوا من هذه الأمة لأنهم لم يعودوا مسلمين فلم تُصبِح هذه الأمة كثيرة وأصبحت أوزاعاً مُتفرِّقين حيث تفرَّقتهم المحن والفتن والإحن والضغماء والشحناء أيادي سبأ فصاروا طرائق قدداً، وهذه محنةٌ عظيمة جداً عمَّت الأمة وشملتها، فنسأل الله أن يجعل لها منها كاشفة قريباً غير بعيد.

أيها الإخوة الأفاضل وأيتها الإخوات الفاضلات:

لابد أن ننطلق من بعض الأصول حتى نكون على بيّنة، فالإمام الجليل والتابعي الشهير الحسن البصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه –  قال “العاملُ على غير علمٍ كالسائر على غير طريق – ولا يكون سيرٌ على غير طريق إلا أن يكون في الأحلام والتهاويم، فهو يظن أنه سائر وهو أكرمكم الله كدابة الساقية لا يُراوِح إلا مكانه، وهذا حال أيضاً أنفار من هذه الأمة حيث أنهم يظنون أنهم يفعلون ولا يفعلون شيئاً، فهم هائمون وحالمون ولكن إن شاء الله لا يكونون كثيرين – والعاملُ على غير علمٍ ما يُفسِد – أي أن ما يُفسِده – أكثر مما يُصلِح – إذن المسألة لابد أن تتأسَّس على علم وأن تتأصَّل بعلم، والعلم له أهله وله شروطه وله لياقاته وله تعبه وضريبته وثمنه ونصبه، فهو ليس بالتمني ولا بالتشهي ولا بالدعاوى أبداً -، فاطلبوا العلم طلباً لا يضرُ بالعبادة واطلبوا العبادة طلباً لا يضرُ – أي طلبكم العبادةَ لا يضرُ – بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادةً حتى ذهلوا عن العلم – أي  فرَّطوا في العلم وأمعنوا في العبادة مثل الصلاة والصوم وقيام الليل والقرآن والتلاوة والبُكاء، وهذا شيئٌ جيد ولكن إمعانهم في طلب العبادة ألهاهم عن استيفاء حظهم ونصيبهم وقسمهم من العلمِ – فخرجوا – أو قال حتى خرجوا – على أمة محمد – صلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً  – بأسيافهم – يُريد الخوارج – ولو طلبوا العلمَ لم يدلهم على ما فعلوا”، لأن العلم لا يُمكِن أن يُبرِّر لك أن تقتل المسلمين، وفي الأحاديث المشهورة عن رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وصحبه – في صفة ونعت هؤلاء الخوارج أنهم يدعون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإسلام، وهذا شيئٌ عجيب ومُتناقِضات عجيبة، فهذا من تناقضاتهم أيضاً، هم يدعون أهل الأوثان كحال خوارج العصر أو مَن به لوثةٌ خارجية، بالعكس بعض هؤلاء المُلتاثين بلوثات الخوارج يدعون بالنصر – علماً بأننا سمعناهم في التلفزيون Television للأسف الشديد يقولون هذا – لإسرائيل وأمريكا على إخوانهم في الدين لأنهم شيعة، فليكونوا شيعة، أليسوا مُوحِّدين؟!

أليس يجمعنا وإياهم لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله؟!

أليسوا يُصلون إلى قبلتنا خمس مرات في اليوم والليلة؟!

أليسوا يُخرِجون الزكاة ويحجون البيت ويصومون الشهر ويقرأون الكتاب؟!

الله يجمعنا وإياهم وهذا يكفي لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.

لكن هذا المُتحدِّث يراهم كفرة، وطبعاً من الشيعة مَن يرى السُنة وكثيراً منهم – أي يرى كثيراً من أهل السُنة – كفرة، وهذه اللوثة لم يسلم منها أحد الآن للأسف الشديد حيث أن الكل مُلتاثٌ بها شيعةً وسُنة وزيدية وفرق أُخرى، الكل – والعياذ بالله – وكأن المسألة نكائية، ولكن ليس في الحق نكاية، ومن هنا أنا كنتُ وما أزال مُطمئناً إلى مذهبي كسُني – أي إلى مذهب أهل السُنة – لأنني أعرف رأي أو آراء جماهيرهم وجمائهم الغفير، مُطمئن جداً إلى أنه أدنى – إن شاء الله – إلى الحق، لأنهم مُنصِفون ولا يندلعون، وهذا حال  جماهير أهل السُنة، وطبعاً لا عليك مِن بعض مَن ينتمي إلى السُنة والجماعة في هذا العصر أو في ذاك ويُكفِّر مُعظم حتى أهل السُنة، لا علينا من هؤلاء فهم شذّاذ، هؤلاء شذّاذ وقلة منزورة فنسأل الله أن يهديهم من العمى، ولكنني أتكلَّم عن الأئمة والعلماء، عن الشوافع والأحناف والحنابلة والمالكية وعن كتبهم المُعتمَدة وعن الأئمة المُعتمَدين فيهم وإلا مثلاً إن في الأحناف مَن يُمعِنون جداً في التكفير، ومعروف للأسف الشديد أن الأحناف بالذات في كثير من كتب مشائخهم إمعانٌ واضح في التكفير أخذه عليهم سائر المذاهب الإسلامية كالشوافع والمالكية، وابن حجر الهيتمي – رحمة الله عليه – في تُحفة المُحتاج ذكر هذا المأخذ وقال “لسنا كالحنفية – وهذا ليس تعصّباً منه لشافعيته لأن الحنفية اعترفوا بهذا – فإن فيهم تكفيراً كثيراً”، ولكن اعتذر عنهم الزركشي، علماً بأنني لن أذكر اعتذر الزركشي وهو اعتذار طيب هو حقيق بأن يُذكَر لكنني لن أفعل لاختصر الكلام في المقام وسأكتفي بذكر قول أحد مُحقِّقي الأحناف العظام جداً وهو الإمام كمال الدين بن الهُمام – قدَّس الله سره – صاحب فتح القدير وأحد مراجع الفقه الحنفي الذي كان جامعاً بين الصلاح وبين الإمامة في العلم حيث قال “هذا التكفير الكثير إنما هو لمشائخ ليسوا يبلغون درجة الاجتهاد فلا يُعوَّل عليه”، أي يُريد أن يقول ” نحن لا نُعوِّل عليه ونُخالِفهم فيه ونرده عليهم لأنهم يُمعِنون في التكفير بأوهى سبب، وهذا غير مُعتمَد وهو غير مُخرَّج كما قال الزركشي على أصل إمامهم”، لكن أبو حنيفة أصَّل أصلاً عظيماً جداً في هذا الموضوع وهو أن كل مَن ثبت له الإيمان فقد ثبت بيقين طبعاً، كل إنسان يقول “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” ثبت له الإسلام وعقد الدين أمامنا بيقين ثابت أنه مسلم فلا يُخرَج عن هذا الثابت له بيقين إلا بيقين مثله، ليس بالاجتهاديات وليس بالظنون وليس أحسب وأظن ويظهر وفي وجهه سواد وفي قلبه مرض، هذا يُعَد كلاماً فارغاً فأعوذ بالله منه، هذا الطريق قصير جداً جداً جداً إلى جهنم وإلى غضب الله لأن الرسول قال “مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها – وفي حديثٍ آخر فقد حار – أحدهما”، فأحد هؤلاء لابد أن يكون – والعياذ بالله – كافراً، وهذا شيئٌ مُخيف جداً، ولذلك وأنا شافعي في الجُملة ولست أتعزى بهذه الأنتسابات أُخالِف أحد أئمتنا العظام جداً وخاصة في الأصول وهو أبو إسحاق الإسفراييني الذي نقل عنه الشريف الجُرجاني في شرح المواقف للعضد الإيجي قوله “ومَن كفَّرنا من المُخالِفين كفَّرناه وإلا فلا”، فهذا قولٌ عظيم لا نقول بمثله بل نقول بعكسه تماماً، فعلى الضد عنه – أي منه – نقول “ومَن كفَّرنا من المُخالِفين ربما لم نُكفِّره، ومَن لم يُكفِّرنا من المُخالِفين ربما كفَّرناه” لأن التكفير حكمٌ شرعي لا يكون إلا بالدليل الذي يُرضي الله – تبارك وتعالى – وليس بأهوائنا وليس نكايةً فإن كفَّرتني فأنا أُكفِّرك!

طبعاً أبو إسحاق الإسفراييني ومثله لا يقول هذا بالتشهي والهوى – حاشاه – وإنما قاله وأخطأ مُتؤوِّلاً الحديث فقد حار بها أو فقد باء بها أحدهما، ولو دقَّق أيضاً لما سلم له الاستنباط.

عمر كم مرة يتهم بعض الصحابة والبدريين كحاطب بأنه مُنافِق – أي كافر زنديق – والنبي لم يرجع على عمر بشيئ،  لأن عمر قال ذلك مُتؤوِّلاً،ومُعاذ أيضاً اتهم بعض الصحابة من الأنصار بأنهم قد نافقوا ولم يُنافِقوا، بالعكس ولكن ثقلت عليهم صلاته الطويلة جداً في وقت العشاء فاتهمهم بالدغل في مُعتقَدهم، ولم يُرجِع عليه بشيئ لأنه مُجتهدِ مُتؤوِّل وهو يظن هذا، ولذلك التأويل الصحيح أنه يكفر مَن كفَّر المسلم بمعنى مَن كفَّر المسلم الثابت إسلامه عند المُكفِّر، فيُكفَّر لأنه سمّى الإسلام كفراً وذلك حين – مثلاً – يقول “أنا أعلم أن هذا رجل يشهد بشهادة الحق ويلتزمُ أركان الإسلام الخمسة وأركان الإسلام الستة ومع ذلك أقول له كل هذا الذي تعتقده وتلتزمه عندي كفرٌ، أنت كافر”، فيكون المُكفِّر كافراً لأنه سمّى الإسلام والإيمان كفراً، هذا هو وهذا تقريباً لا يحدث، فلا تجد مَن يُكفِّر من المسلمين مسلماً إلا وله تأويله واجتهاده من الشيعة والسُنة والروافض والزيدية والخوارج والمُعتزِلة في القديم والحديث، إذن هوعنده اجتهاد فلا يفرح المُمعِنون في التكفير بأن مَن كفَّرنا فنحن نُكفِّره، بل لا نُكفِّره حتى وإن كفَّرنا، فالخوارج كفَّروا المسلمين المُخالَفين وكفَّروا الصحابة وفي رأسهم أبو الحسن عليٌّ – عليه السلام – ولكن انظروا إلى فقه الخوارج وفقه أبي الحسن، فلم يُكفِّرهم عليّ أبداً، وعليٌّ أحد رواة أحاديث الخوارج، فكما قلت لكم مرةً أو غير مرةٍ: أحاديث الخوارج لو أُخِذَت على علاتها وبظاهرها تقريباً ناطقة بكفر الخوارج وإلا فما معنى قوله “يمرقون من الدين“؟!

هناك فعلاً بعض زلات اللسان التي قد تقع، مثلما قيل لأحدهم “اهجرني في الله”، فقال “هجرتك في ألف الله”، فأفتى أبو زُرعة قائلاً “لا يُكفَّر، لأنه من المُحتمَل أنه يُريد بألف الله ليس ألف ذات إلهية إنما ألف سبب للهجر في الله أو ألف هجرة، وإن كان اللفظ لا يحتمله، ولكن نحن بحمد الله سنجعله يحتمله تحوّطاً للدم المسلم – أي للدم الحرام حتى لا يُقتَل بأن يُقال عنه مُرتَد ثم يُقتَل، ومن هنا نحن نُريد أن نجد له أي مخرج – ولكن لشناعة لفظه يُؤدَّب”، أي يُؤدَّب بأن يُضرَب أو يُجلَد عشر جلدات أو يُوضَع في السجن لمدة تصل إلى يومين أو يدفع غرامة أو غير ذلك لكي يتعلَّم الأدب مع الله حتى لا يقول مرة ثانية “ألف الله”، ولكنهم لم يُكفِّروه وهذا الذي يجب أن ننتبه إليه، أرأيتم كيف كانت الإمامة؟!

شيوخ العصر وبعضهم يُنسَب إلى العصبية وإلى التعصّب والتشدّد قالوا نفس الشيئ، مثل الشيخ ابن العثيمين السعودي – رحمة الله عليه – وهو علّامة كبير حيث سُئل في مَن يسب الرب أو الدين فقال “يُبحَث عن حاله إن قالها في حال غضب ونرفزة وكذا لا يُكفَّر”، فهو لم يُكفِّرهم ومع ذلك تجد مَن يُكفِّر الآخرين ويقول هؤلاء – مثلاً – وهابية، أما شيخهم الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمة الله عليه – قال “ولا أُكفِّرُ إلا بما أجمعوا عليه”، وهذا أصل من أصول ابن عبد الوهاب فلا تكفير إلا بالمُجمَع عليه، أي أمر لم يُجمَع عليه لا نُكفِّر به وهذا مُمتاز جداً لأن هذا الأصل من أعظم ما يكون، إذن ائتني بالإجماع وسوف تجد أن ما أجمعوا عليه واضحٌ جداً كما في كتب الأحناف، يعني مثلاً لا يُخرِج الإنسان الذي ثبت له الإسلام وعقد الإيمان الدين إلا جحودُ ما أدخله فيه، هكذا يقول السادة الأحناف وهذا كلام عظيم هذا وهو أصل أيضاً، فهو لم يدخل الإسلام بالصلاة وبالصوم وبمثل ذلك ولكن الرسول كان يكتفي بالإدخال في الإسلام بشيئٍ واحد فقط يُقال في خمس ثوانٍ وهو أن يقول الشخص الذي يُريد أن يدخل في الإسلام “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله”، ولذلك أبو حامد الغزالي بعد تحقيق دقيق وعميق وتحوّطات كثيرة تحكي جزعه وفزعه وتعظيمه لهذا المقام العظيم اللحج الضيق – مقام تكفير المُوحِّدين من أهل القبلة – جعل مناط التكفير شيئاً واحداً وهو تكذيب النبي، فالنبي قال “لا إله إلا الله” ومن ثم إن كذَّبته في هذا كفرت، النبي قال أنا محمد رسول الله وقال أن إخوانه من النيين والمُرسَلين – رُسل الله وأنبياؤه – وأن الجنة حق والنار حق وإلى آخره، فأن كذبنه في هذا كفرت لأن هذه هى الأشياء الضرورية التي أجمعت الأمة كلها عليها، فكل مَن يُسمّي نفسه مسلماً يقول بهذه الأشياء، وبالتالي مَن كذَّب النبي فيها كلها أو في واحدة منها كفر، ومن هنا قال الغزالي مَن يفعل ذلك فقد كفر، أما فيما عدا ذلك فكل الأمور تحتمل الاجتهاد ولا نُكفِّر بالاجتهاديات، ولذلك الإمام أحمد قال “نحكم بإسلامه تحسيناً للظن بالمسلم” لأن قبله أستاذه الشافعي المعروف عنه والمشهور عنه جداً أنه قال “لا أردُ شهادة أحدٍ من أهل القبلة – فهم مسلمون ولذلك يقبل شهادتهم جميعاً – إلا الخطّابية – والخطّابية هى فرقة غالية من الغُلاة – لأنها ترى الكذب”، إذن هو يقبل شهادتهم جميعاً إلا الخطّابية، فرقة الخطّابية تقول “يجوز الكذب حتى على الرسول”أي يجوز لنا أن نُؤلِّف أحاديث من عندنا وأن نكذب في أي شيئ نُصرةً لمذاهبنا وهذا لا يجوز طبعاً، وبالتالي هؤلاء لا تستطيع أن تعرف باطنهم من ظاهرهم وبالتالي لن تعرف حقيقتهم، فقال “هؤلاء الشهادة لا أقبلها منهم” علماً بأنه لم يُقِرّ بتكفيرهم وإنما ردَّ شهادتهم فقط، أما سائر الفرق مثل الروافض والزيدية والخوارج والمُعتزِلة والقدرية وإلى آخره فيقبل شهادتهم، هذا هو الشافعي وهذا هو نصه بشكل واضح تماماً!

أبو الحسن الأشعري – رحمة الله تعالى عليه – في مقالات الإسلاميين  قال “فإن السلف قد اختلفوا وضلَّل بعضهم بعضاً وأنكر بعضهم على بعض ولكن الإسلام شملهم وعمّهم”، ولذلك جعل الأشاعرة هذه المقولة لأبي الحسن شيخهم الأعظم أصلاً من أصولهم وبالغوا في شرحها كما في شرح المواقف وغيره للشريف الجُرجاني، فمعنى أن أبا الحسن الأشعري – رحمة الله عليه – يقول “فإن السلف قد اختلفوا – سلف هذه الأمة اختلفوا – وضلَّل بعضهم بعضاً وأنكر بعضهم على بعض ولكن الإسلام شملهم وعمّهم” أنهم ظلوا مسلمين، فهم كانوا يرون أنهم مسلمون، وكما قلت القدوة هنا في الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – الذي لم يُكفِّر أحداً وهو الذي يروي مقولة يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ويروي أنهم كلاب جهنم – والعياذ بالله – ويروي مقولة تقتلهم أدنى الطائفتين أو أولى الطائفتين بالحق، والنبي أخبره بأنه سيُقاتِلهم ويقتلهم  ومع ذلك قال العلماء ” لم يُكفِّرهم”، وثبت أنه لم يُكفِّرهم!

الإمام المُتورِّع السلفي الدقيق المُتحرِّج جداً أحمد بن حنبل – رضوان الله تعالى عليه هذا الإمام – كان يقول لعلماء الجهمية – نُفاة الصفات خاصة الخبرية – وقُضاتهم “أنتم تقولون بمقالات لو قلت بها لكفرت ولكنني لا أُكفِّركم”، وهذا شيئ عجيب فهو يتحدَّث عن مقالات هم يقولونها ولو هو قالها لأصبح كافراً على الأقل عند نفسه ولكن مع قولهم بها هو لا يُكفِّركم، وهذا شيئ عجيب وليس من باب المُجامَلات كما قد يتوهم البعض لأن ليس هناك أي مُجامَلات في الحق، فهذه ليست مُجامَلات ولكن هذا تأصيل علمي، هذا تأصيل أئمة وليس تأصيل علماء كعلماء اليوم أو أشباه اليوم مِمَن أُسمّيهم عوام العلماء، حيث يُوجَد عوام ويُوجَد عوام العلماء، فتجد أن الواحد منهم لديه لحية وعمامة وكتب ودكتوراة ولكنه عامي ولا يعرف مباديء حتى العلوم الآلية أحياناً ومع ذلك عنده شهادة كبيرة وهو لا يفهم شيئاً، إذن هؤلاء هم الأئمة وهذا هو تأصيل الأئمة وليس علماء العوام من الذين قالوا  “مَن لم يُكفِّر الكافر فهو كافر”،  هذا كلام فارغ، فمَن قال بهذه القاعدة؟!

هذه القاعدة لا تصح إلا على وجهٍ واحد فقط وهو الكافر الذي نطق وأقرَّ على نفسه وشهد بالكفر وقال “أنا لا أُؤمِن بإلهكم ولا بنبيكم ولا بدينكم ولا بقرآنكم”،  هذا كافر، فحتى أي عامي  وهو من أدنى الناس منزلةً وأقلهم علماً ومعرفةً يستطيع أن يشهد عليه بالكفر وأن يقول “هذا كافر لأنه يُكذِّب الدين”، هذا هو  إذن أما فيما عدا ذلك في المسائل الاجتهادية – كأن تقول هذا أشعري وهذا ماتريدي وهذا مُجسِّم وهذا زيدي وهذا إباضي  وهذا اثنا عشري وهذا رافضي  وهذا مُعتزِلي وهذا قدري وهذا خارجي – فلا تستطيع أن تُكفِّر أحداً لأن الأمر ليس بهذا الابتسار ولا بهذه العجلة، لا تستطيع أن تفعل ذلك ولكن دع الأمر هذا لمَن يُحسِنه وهم يتورَّعون عنه، فأحمد يقول إذن “أنا لا أُكفِّرهم” لأنه لا يقصد الكفر مِمَن يُريد الإيمان أحدٌ إلا أن يشاء الله، ولذلك العلماء قعَّدوا قاعدة – هذه القاعدة وهى عظيمةٌ جداً حيث قالوا “قد يقع المرء في الكفرِ ولا يقع عليه الكفرُ كما قد يقع في البدعةِ ولا تقع عليه البدعةُ” ومعنى هذا الكلام أنه من المُمكِن أن يقول أحد قولاً أو يفعل فعلاً أو يعتقد مُعتقَداً هو في ذاته – أي هذا الفعل أو القول أو المُعتقَد – كفرٌ ولكن صاحبه لا نُسمّيه كافراً، لأنه لا يُحكَم على مُعتقِد أو قائل أو أو فاعل الكفر بالكفرِ إلا بتوفّر شورط وانتفاء موانع، ومن بديهيات علم الأصول أن كل شرط أو سبب بالأحرى يُقابِله المانع، فمثلاً يُوجَد إشكالية العلم حيث أن المرء قد يكون جاهلاً بحقيقة أن ما وقع فيه يُعَد كفراً، فهل هو عالم بأن هذا كفر؟!

قال الله عن الحواريين – عليهم السلام أجمعين – في كتابه إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ نعم يستطيع ربنا – أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ ۩، مثل هذا القول يقوله جاهل وليس عالماً، يقوله شخص جاهل بما يليق بالله وبما يليق به، ولكن على كل حال قول الحواريين هذا له مدخل في التأويل فيُمكِن أن يُؤوَّل، ولكن لو أخذناه بظاهره وكفَّرنا الناس بمقولة “ومَن لم يُكفِّر الكافر فهو كافر ” لكفر الحواريين لأنهم شكوا في قدرة الله وسألوا هل يستطيع الله أن يفعل هذا أم لا يستطيع وذلك في قولهم  هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ  ۩، وهو طبعاً يستطيع.

هناك حديث في صحيح مسلم وعند النسائي يحكي أن أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله تعالى عليها – اتبعت النبي ذات ليلة، فكانت تقفو أثره لأنها تخشى أن يحيف عليها في ليلتها، فأتاه جبريل ونزل عليه وأخبره وعلم النبي بها، فلما أخبرها قالت: يا رسول الله مَهْمَا يكتم الناس يعلمه الله؟!
قال “نعم يا عائشة”، فهى لم تكن تعرف هذا وكانت تظن أن الله لن يرى المرء إذا استخفى في الليل الحندس وفي الظلام لأنه لا يراه إلا في النهار فقط، وهذه كانت عقيدة بدائية جداً جداً جداً في الله، فهى كانت جاهلة بهذا الشيئ ومن هنا علَّمها النبي ولم يقل لها “كفرتِ يا عائشة  وسأُجدِّد العقد عليكِ”، وإنما قال لها “نعم”ولم يُعلِّق، فصلى الله على مُعلِّم الناس الخير الرؤوف الرحيم الواسع، فهو الواسع – والله – فعلاً ومن هنا نسأل الله شيئاً من سعته لنا ولعلمائنا ودُعاتنا، فهو قال لها “نعم” دون تعليق لكن لو كان المسؤول مِمَن يعيش بيننا اليوم لألقى عليك درساً في الإيمان والكفر ولقال لك أن هناك شُبهة في إيمانك وعليك أن تُجدِّد العقد، وهذا غير صحيح فلا يُوجَد أي شُبهة، وإذا كان ربما عندنا شُبهة في هذا الجهل حاجِجنا واقطعنا وعلِّمنا وأقم علينا الحُجة التي يكفر مُنكِرها إذا الأمر تعلَّق بالأصول اللي فيها كفر وإيمان، قال الله وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ۩،هذا هو!
حديث الرجل المُخرَّج في الصحاح – أي في الصحيحين – وغيرهما والمعروف لكم جميعاً إن شاء الله  وجمعاوات ومن هنا لن أذكره بطوله يذكر أن هذا الرجل قال: أي أبٍ كنت لكم يا أبنائي؟!

قالوا “خير أبٍ وأحسنه وأكرمه”، قال “إذا أنا مِتُ فخذوني ثم احرقوني ثم ثم اطحنوني ثم ذُرُّوني في الريح فلئن قدر الله علىّ  لَيُعَذِّبَنِّي عذاباً شديداً”، إذن هو قال “لئن قدر الله علىّ” أي أنه كان يظن أن الله لن يقدر الله عليه، فهو أساء المُعامَلة مع الله وكفر به لأنه نسبه إلى العجز، فهذا تعجيز لله لأنه يعتقد أنه إذا أصبح ذرات تذروها الرياح لن يقدر الله على جمعه كمَن قالوا  أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۚ ۩، أي كأنه يقول سأظل في التراب وفي الماء والله لن يستطيع جمعي ومن ثم سأفلت من العقاب، فهو جاهل – وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩ ولكن الله مثلما تعرفون في الحديث أمر الله البر والبحر وكذا فاجتمع في لحظة أو في ثانية وهذه مُصيبة وقال له: ما حملك على ما صنعت يا عبدي؟!

قال “خشيتك”، قال “وتخشاني، اذهب فقد غفرت لك”

في حديث آخر في الصحيح سأذكره الآن بعد قليل ولكنني أُريد أن أقول أولاً أن  بعض العلماء يُحِبون أن يُكفِّروا الناس، روح أعينهم أن يُكفِّروا الناس، يفرحون كثير عندما يُكفِّرون الناس خاصة عندما يُكفِّرون أمة محمد دون أن نفهم السبب والله، ولكن أنا فاهم أن قلوبهم قلوبهم صغيرة وليس عندهم رحمة لأنهم لم يذوقوا رحمة الله، فأي رحمة هى انعكاس للرحمة الإلهية، ومن هنا أنا أقول لك أن هناك علم رحمة وعلم عذاب وفتوى رحمة وفتوى عذاب وفقه رحمة وفقه عذاب وقول رحمة وقول عذاب ودعوة رحمة ودعوة عذاب ورسالة رحمة ورسالة عذاب، فاللهم اجعلنا من أهل الرحمات عاد قولاً وفعلاً ودعوةً ورسالةً وفقهاً وفتوى، المثل الإنجليزي الرائع يقول “الأفكار الكبيرة تُبدِعها القلوب الكبيرة”، فلم يقل العقول الكبيرة وإنما قال القلوب الكبيرة، فعندما يكون الإنسان  واسعاً وعنده قلب كبير وروح كبيرة فإنه يُفكِّر بطريقة أقرب إلى الحق – بإذن الله تعالى – لأنه تتلمذ على يد محمد وعلى روح محمد ومن ثم هو يفهم جوهر المدرسة النبوية الرسالية، فلماذا تُكفِّر الناس إذن؟!

على كل حال بعض هؤلاء هواهم ومُشتاهم أن يُكفِّروا الناس فقالوا أن هذا الحديث ليس لديهم في مُستنّد، وقالوا أن قول الرجل “لئن قدَّر الله علىّ” لا يعني لئن قدَر من القدرة أو الاستطاعة وإنما لئن قدَّر من التقدير، كأنه يقول إذا أراد الله أن يُضيِّق علىَ  مثلما ضيَّق على يونس فألقاه في بطن الحوت فمِن المُمكِن أن يُعذِّبني، وهذا طبعاً كلام فارغ فقال ابن تيمية ” هؤلاء أبعدوا النُجعة وحرَّفوا الكلم عن مواضعه”، و

وجوابنا عن هذا الكلام الفارغ أنه مُخالِف لكل سياق الحديث، فكل واحد الآن فهم لماذا فعل الرجل هذا، فقال ذُرُّوني في الرياح حتى لا يجمعه الله، فإذا كان المقصود من قوله ” لئن قدَر” هو التقدير والتضييق فلماذا قال “ذُرُّوني في الرياح”، فكان من المُمكِن أن يتركوا كما هو والله سيكون حُراً أيضاً في أن يغفر له أو أن يُضيِّق عليه بالعقوبة، وعلى كل حال  هناك رواية في الصحيح تقول أن الله سأله: لما فعلت؟! 

فقال “أردتُ أن اُضِل ربي”، ومعنى أردتُ أن أُضِل ربي أي حتى لا يستطيع ربي أن يجمعني لأنني أصبحت عدماً، فإذن قدَر من القدرة وليس من التقدير والتضييق، فهذا هو الصحيح إذن، وعلى كل حال الرجل قال قولاً مَن اعتقده بعلمٍ بغير تأويل كافر ولكن لم يُكفَّر ودخل الجنة – إن شاء الله – ومُمكِن يكون قبلنا وقبل المشائخ الذين يُكفِّرون الناس.

أُريد أن أقول الآن أمراً هاماً حتى لا أنساه وهو أن في صحيح البخاري من حديث ابن عمر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – قال صلى الله عليه وآله وسلم “لن يزال المُؤمِن في فُسحةٍ من أمره – أو قال من دينه – ما لم يُصِب دماً حراماً”، أي أن النبي يقول لك أنك بخير لأنه يُريد أن يُبشِّرنا على طريقته فهو البشير النذير، ومن هنا أراد أن يُطمئنا فقال أنت إذا لقيت الله ولم تتقحَّم ورطات الدماء ولم تتخوَّض في الدماء المعصومة من المسلمين وغير المسلمين –  علينا أن ننتبه إلى أن الدماء المعصومة ليست دماء المسلمين وحدها – فأنت بخير – إن شاء الله – حتى وإن كنت أخطأت في أمور أُخرى فمن المُمكِن أن تدخل في رحمة الله الواسعة جداً، قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ  ۩، ولكن جاء بعض المُتحذِلقين من أهل الجهالة فقال “هذا في حق التائبين” وهذا غير صحيح، فنحن نقول له “أنت جاهل وهذا غير صحيح، لأنه لو كان في حق التائب لاستوى أن يكون ذنبه الشرك مع غير الشرك”، فحتى لو أشرك وتاب الله يغفر له، إذن الآية – إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ  ۩ – لا تُحمَل على التائبين، ولكن هى في حق غير التائبين أصالةً وفي حق التائبين بالتبع، لأنه لو كانت في حق التائبين فقط فلا فرق بين الشرك وغيره، فحتى الشرك يُغفَر، لكن قال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ۩، فهنا عمَّ وأطلق ولم  يخص ولم يُخرِج الشرك، لأن الآية محمولة على التائبين، فلو أشرك البعيد وتاب سيُغفَر له، ولو زنى أو قتل أو سرق أو خان أو فعل غير ذلك وتاب سيُغفَر له، الله قال  إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ۩، ففي هذه الآية أطلق وعمَّ تبارك وتعالى فتُحمَل على التائبين، ولكن في الثانية خصَّ وعلَّق بالمشيئة فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ۩، 

أي أنه خصَّ وأتى بالتعليق المُتمثِّل في قوله لِمَن يَشَاء ۩، فهكذا يكون الفقه، هذا هو القرآن وهذا الدين، إذن هنا خصَّ – سبحانه وتعالى – وعلَّق، وهناك عمَّ وأطلق، والمقامان مُختلِفان تماماً!

مُعاذ بن جبل حين أتى الرسول مُباشَرةً – علماً بأنه كان في الشام طبعاً، وهذه ليست هى الرحلة الأخيرة إلى اليمن التي لم ير الرسول بعدها ولكن قبل ذلك – هوى ساجداً لحظة ما رآه، أي أن ها يُعَد سجوداً لرسول الله، فقال له: يا مُعاذ ماذا تفعل؟!

قال “يا رسول الله أتيت الشام ورأيتهم يسجدون لبطارقتهم فقلت في نفسي رسول الله أحق بالسجود له”، فقال “يا معاذُ إنه لا ينبغي السجود إلا لله”، قال شيخ الإسلام ابن تيمية مُخرِّجاً على هذا الحديث “ولذلك إذا رأيت رجلاً يسجد لرجلٍ ظناً منه أن هذا من الدين فلا تُكفِّره”، فهذا هو فقه شيخ الإسلام – رحمة الله عليه – العظيم، أي أنه يُريد أن يقول أن مَن فعل ذلك وهو يعتقد أنه من الأمور الجيدة أو أنه قُربة إلى الله فلا تُكفِّره، فإن كان جاهلاً عليك أن تُعلِّمه لا أن تُكفِّره.

الشيعة يصنعون أشياء فظيعة جداً وهم يعتقدون أنها جيدة وبالتالي من المُمكِن  أن يُؤجَروا عليها، وأيضاً السُنة يصنعون أشياء فظيعة جداً ويعتقدون أنها جيدة جداً وبالتالي من المُمكِن أن يُؤجَروا عليها، وكذلك الحال مع الخوارج والمُعتزِلة وغيرهم، فهذا الدين ميسور جداً جداً جداً!

للأسف أدركنا الوقت ولكن لابد أن أسألكم: أين نحن – أكرمكم الله وعافاكم وأنا معكم إن شاء الله جميعاً وبرَّكم وأطهركم وأعطاكم ونوَلكم – من الأحاديث المُتواتِرة عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في نجاة كل مَن مات عن التوحيد؟!

الأحاديث مُتواتِرة عن هذا، ففي الصحيح من حديث أبي ذر “أتاني جبريلُ فبشَّرني بأن مَن مات مِن أمتكَ على التوحيد وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة”، وفي مسلم “إن الله حرَّم على النارأهل لا إله إلا الله”، قال النبي”مَن مات وهو يشهد لا إله إلا الله مُحرَّم على النار”، والأرجح أن المقصود هو تخليده جمعاً جمعاً بين النصوص، فتخليده يكون مُستحيلاً لكنه إن مات على التوحيد سيكون من أهل الجنة بإذن الله، فحتى وإن دخل النار – والعياذ بالله – لساعات أو لأيام أو لما شاء الله من الوقت – نسأل الله أن يُعافينا وأن يعفو عنا – فهو من أهل الجنة، لكن أبو ذر هيك لم يُعجِبه هذا الوضع فقال: يا رسول الله وإن زنى؟!

قال له “وإن زنى”، فقال: وإن سرق؟!

قال له “وإن سرق”، وفي روايات وإن وإن فققال له وعلى رغم أنف أبي ذر، أي رغماً عنك يا أبا ذر سيدخل الجنةأيضاً، وهذا الكلام ليس من لدن الرسول وإنما  من أرحم الراحمين، فهو مُوحِّد وإن زنى وسرق وبالتالي من المُمكِن أن يغفر الله له ولكن من المُمكِن أيضاً ألا يغفر له لأنه يغفر لمَن يشاء، فما المُشكِلة في هذا إذن؟!

أين أنتم من حديث البطاقة بالله عليكم؟!

صاحب حديث البطاقة هذا قد يكون شيعياً وقد يكون زيدياً وقد يكون سُنياً وقد يكون مُعتزِلياً وقد يكون خارجياً، وصاحب البطاقة هذا لم يعمل عملاً قط، كل أعماله – حاشاكم –  سيئة جداً جداً جداً ولكن عنده بطاقة رجحت بأعماله كلها ودخل الجنة، علماً بأن الحديث في الصحيح والكل مُوافِق عليه، وهذه البطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله ولذلك دخل الجنة، فأين نحن من هذا الحديث إذن؟!

أين نحن من الأحاديث الصحيحة التي وردت في هذا الصدد مثل أخرجوا مِن النار مَن كان في قلبه – أو مَن في قلبه – مثقال حبة من خردل من إيمان؟!
الله أكبر يا أخي، الشيعة والسُنة والزيدية والخوارج والمُعتزِلة ليس عندهم فقط مثقال حبة وإنما عندهم “لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله”، ويُؤمِنون بالقرآن وبالآخرة ويُصلون ويصومون بل ويبكون كثيرا  في رمضان وغير رمضان وخاصة في ليلة القدر ويصنعون أشياء جيدة، فهذا ليس بيعملوا مثقال ذرة بل أعظم، وفي حديث آخر صحيح قال النبي “مثقال بُرّة”، أي أن حبة قمح قد تُخرِج صاحبها من نار جهنم، إذن هو ليس كافراً لأنه لو كان كذلك لما خرج منها، قال الله إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، فالجنة مُحرَّمة على الكافرين ومن هنا قال الله إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩، والأحاديث كثيرة في هذا الصدد فأرجو أن تتمعَّنوا فيها وأن تُمعِنوا النظر فيها.

أخيراً أختم بأصل عجيب جداً جداً جداً أصَّله القرآن والسُنة وقال به الأئمة وهو أنه قد يجتمع في المرء إسلامٌ وإيمان وجاهلية وعصيان وفسق وبعض المُكفِّرات التي بحسب الظاهر تُحمَل على التشديد  مثل النفاق ، وهذه من عقائد أهل السُنة، لكن المُعتزِلة ضد هذا والمُرجئة ضد هذا أيضاً لأنهم لا يتصوَّرون أن الرجل الواحد أو المُكلَّف الواحد رجلاً كان أو امرأةً يجتمع فيه أيش خيرٌ وشر أو جنةٌ ونار أو مدحٌ وذم أو رحمةٌ وسخط، ويقولون هذا مُستحيل، فالمُعتزِلة والخوارج قالوا مَن يدخل النار فوالله لن يخرح منها وسيظل فيها إلى أبد الآبدين ، انتهى خلاص، والمُرجئة قالوا أن المسلم المُؤمِن صاحب الشهادتين من أهل الجنة ومُستحيل أن يدخل النار، أي أنه لن يدخلها أبداً ولو للحظة وهذا غير صحيح لأن من المُمكِن أن يدخل ويخرج بإذن الله تعالى، لكن المُرجئة والمُعتزِلة والخوارج لم يفهموا هذا، لكن أهل السُنة – الحمد لله كما قلت لكم – هم أسرى في قبضة الدليل أو في يد الأدلة، الأدلة تقول أن الله – تبارك وتعالى – قال في حق المُنافِقين يوم أُحد هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ۩، فقال العلماء “كانوا قبل أُحد فيهم إيمانٌ ونفاقٌ مغلوب فصاروا في أُحد وفيهما الإيمان المغلوب والنفاق الغالب”، فالقرآن هو الذي قال هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ  لِلإِيمَانِ ۩ أي أن هناك معركة فالواحد منهم كان مُتردَّداً هذا ولا يُمكِن ببساطة أن نقول أن معنى أنه مُنافِق أنه أصبحاً زنديقاً، هذا ليس شرطاً يا إخواني لأنه قد يكون مُتردِّداً وعند شُبهات فيذهب ويجيء، قال الله مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ  ۩، فالواحد قد لا يعرف شيئاً مثلما قال النبي كالغنم العائرة بين الغنمين، فمن المُمكِن  – إن شاء الله – أن يغلب عليه الإيمان ويهتدي ومن المُمكِن أيضاً أن يغلب النفاق مثلما حدث يوم أُحد.

ولذلك روى الإمام أبو داود في سُننه موقوفاً على حذيفة بن اليمان – علماً بأن الإمام أحمد روى هذا الحديث بنصه مرفوعاً إلى سيدنا رسول الله –  أن رسول الله –  صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم  – قال “القلوبُ أربعة: قلبٌ أغلف فذلك قلبُ الكافر، وقلبٌ مُصفَّح فذلك قلبُ المُنافِق، وقلبٌ فيه مثل السراج يُزهِر فذلك قلب المُؤمِن – اللهم اجعلنا قلوبنا جميعاً على هذا النعت وهذا  الوصف وعلى وفاقه، اللهم آمين – وقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاق”، وانظروا إلى هذا التصنيف النبوي والفقه النبوي الدقيق العجيب، فمن المُمكِن أن تروا شيعياً وعنده بعض المشاكل وعنده بعض المُضلِّلات – يا ستير يا رب – وبعض الأشياء، ومن المُمكِن أن تروا سُنياً وعنده بعض المصائب التي تورَّط فيها، وهذا يحدث في العقائد وفي المسالك وفي الأهواء والبدع، فكل هذا موجود ومُمكِن ولذا النبي قال من المُمكِن أن يُوجَد الإيمان والكفر لكن أهم شيئ هو مَن هو الأقوى ومَن هو الأضعف، ثم قال النبي في بقية الحديث “فمثلُ الإيمان فيه كمثل الشجرة يمدها الماء الطيب، ومثلُ النفاق فيه كمثل القَرحة – علماً بأننا نسمّيها القُرحة بالعامية ولكن هى إسمها القَرحة – يمدها الدم والصديد –  Eiter – فأيهما غلب عليه غلب”، والنبي فهم هذا من قول الله تبارك وتعالى هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ۩، أي حُسِمَت القضية وصاروا مُنافِقين خُلّصاً.

هناك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في هذا الصدد، وهو حديث خصال النفاق الأربعة، وفي رواية أنها شُعب أربعة، علماً بأنه من المُمكِن طبعاً أن يُقال شُعب أربع وأربعةٌ لأن كلاهما صحيح نحوياً، قال رسول الله “فمَن كانت فيه خصلةٌ منهن كان فيه خصلةٌ من النفاق”، أي أنه من المُمكِن أن يكون الرجل مُؤمِناً وفيه خصلة من النفاق أو خصلتان من النفاق أو ثلاثة، لكن الذي فيه   الأربعة الخصال يكون فيه النفاق العملي خالصاً، أي حال كونه خالصاً.

قال الرسول “إنك امرؤٌ فيك جاهلية” لأبي ذر وهو صدّيق عظيم لكن فيه إسلام كثير وفيه أيضاً جاهلية، وهذا شيئ عادي وجميعنا كذلك لأننا لسنا كاملين ولسنا ملائكة, فأرجو أن نُفكِّر في هذه الأشياء جيداً وأن نتمعَّن فيها كثيراً وأن نعلم أن الأرجى للسلامة بل الأسلم – بإذن الله تعالى – أن ندع هذا الأمر لمَن يُحسِنه ولمَن امتحنه الله به مِن قاضٍ أو سواه، فيُوجَد القضاء ويُوجَد القاضي الكبير العلَّامة الذي يذهب إليه الناس لكي يحكم بينهم، فإن كفَّر أحداً من الناس فليس لنا علاقة بهذا، نحن نشتغل بالعمل وتحسين الظن بالمسلمين والدعوة إلى توحيدهم والتأليف بينهم، وأخيراً – إن شاء الله  – وآخراً علينا أن نترك شؤون السياسية أيضاً للسياسة، لأنه يجب علينا أن نتنبه إلى أن هذه السياسة هى التي خلطت علينا الأمور كلها فحقدنا على هؤلاء أو على هذه الطائفة لأنهم والوا العدو وإلى آخره، فتجد الواحد منهم يقول هذا في حين أن من طائفته مَن يوالي العدو أيضاً  ما لهاش علاقة، فهذه سياسة إذن مثلما يُقال على محمود عباس – مثلاً – أنه حبة عين اليهود وأنه كذا وكذا وهو سُني، ويُقال عنه أنه من البهائيين، والطاغية العظيم صدام حسين الطاغية العظيم كان سُنياً، واليوم يُوجَد من أزنام وأزلام العرب من هم سُنة مثل غالبية الحكام العرب الذين يدّعون أن حُب السُنة ذبحهم وأنهم يخافون من التشيع، إذن الموضوع ليس له علاقة بسُنة أو غير سُنة، وإلا عن أي سُنة يتحدَّث هؤلاء الحكما وهم يُحارِبون الإسلام نفسه؟!

هذه هى السياسة إذن، فاتركوا السياسية للسياسة واجعلوا الدين لأهل العلم ولأهل التحقيق ولا تخلطوا هذا بهذا، فالشيعة في العراق – مثلاً – وفي ثورة 19 كانوا هم مَن أجَّجوا الثورة وكانوا يداً واحدة بل كانوا فيها رؤوساً مع رؤوس السُنة على المُحتَل الإنجليزي، والشيعة اليوم وافقوا المُحتَل الأمريكاني، ومنهم مَن يُقاوِم ولكن منهم مَن يوالي أيضاً وكذلك السُنة، إذن كل هذه أمور سياسة ومن ثم يجب أن نُناقش السياسة بالسياسة وأن نترك الدين لأهل العلم الديني، فلا نخلط هذا بهذا ثم نندلع في تكفير بعضنا البعض.

نسأل الله – عز وجل – أن يُصلِح ذات بيننا وأن يُؤلِّف بينا قلوبنا وأن يُلهِمنا رُشدنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.  

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة:

ربما حدَّثناكم عن قصة هذه الحصَّالة اللطيفة المُبارَكة وهى لبُنية صغيرة ربما تُناهِز الخامسة أو السادسة من عمرها من العراق الجريح المُحتَل المكلوم، هذه البُنية من سنة آلت على نفسها إلا أن تجعل مصروفها اليومي مُدخَراً لأخواتها وإخوانها الأيتام والمساكين والمحاويج من أهل فلسطين الجريحة، علماً بأن هذه البُنية عراقية وهذا شيئ عجيب، فهذه الأمة فعلاً بقلب واحد، يُوجَد أطراف مُتعدِّدة وقلبٌ واحد وجهاز عصبي مركزي واحد، وإلا كان أولى أن تقول هذه للعراق، ولكنها يبدو أن حُبها لفلسطين لا ينقص عن حُبها للعراق، وأعتقد أن كل مسلم صادق وكل مسلم شريف يجتاحه مثل هذا الشعور – والله العظيم – أبداً فيُحِب بلاد الإسلام جميعاً، نعم هناك روابط شعورية سببية طبعاً بمراتع الصبا وبمسقط الرأس وهذه أمور طبيعية وبدهية لكن حُبه لبلاد الإسلام على سواء بإذن الله تعالى.

كان من بركة هذه الحصَّالة أن زُيدَ عليها يوم حفل اليتيم العراقي، فسُبحان الله أتت – والله – بأزيد من عشرين ألف يورو، اشترتها امرأةٌ فاضلة وداعية ذكية ، وعلمت بعد ذلك أنها أستاذة في الرياضيات فقلت “هى فعلت هذا لأنها تُحسِن الحساب جداً، فهى حسبت مع الله – تبارك وتعالى – طبعاً”، فهذه هى التجارة مع الله حيث دفعت فيها زُهاء أحد عشر ألفاً ، وتبرَّعت طبعاً بها كلها لأيتام العراق، 

وطبعاً عدد أيتام العراق وصل إلى رقم فظيع أذهلنا وصدمنا، وأنا حقيقة مصدوم – والله العظيم – مُنذ ذلك اليوم، حيث يُوجَد خمسة مليون يتيم في العراق، وهذا الرقم صدمني وأدماني، فوصول الرقم إلى خمسة ملايين من الأيتام يُعَد شيئاً مُحيِّراً ومُحزِناً حقيقةً، فيا ليت كما نفعل مع فلسطين – بارك الله فيكم – أن نفعل مع العراق، وكما قال شيخنا العلَّامة الكُبيسي “هذه أحسن تجارة مع رب العالمين”،فأنت بأربعين يورو في الشهر تستطيع أن تكفل يتيماً لشهر كامل، وأنت أصلاً لا تفعل  شيئاً بالأربعين يورو ولا تشتري بها إلا الكلام الفارغ مثل السجائر التي تُدخِّنها والسيديهات والألعاب الفارغة، لكن إن تكفَّلت يتيماً بأربعين يورو فسوف تُسابِق الرسول – بإذن الله – إلى الجنة، وهذا الكلام ليس من لدنا وليس تهويمات وإنما ورد في الصحيح، قال الرسول في بعض الصيغ كابن منيع وغيره وأبي يعلى “دخلت الجنة فإذا امرأة تُبادِرني”، فقال لها النبي: مَن أنتِ؟!

أي أنها تُبادِر النبي وتُريد أن تدخل الجنة قبل أبي بكر وقبل عمر وقبل الدنيا كلها بل وقبل النبي، ومن هنا سألها: مَن أنتِ؟!

قالت له “أنا امرأة تأيمت على أيتام لي فلم أتزوَّج”، 

ولكن قد يعترض أحدهم  قائلاً  “هذا الحديث يصح في حقها لأنها امرأة أما نحن فرجال فضلاً عن أن هؤلاء أيتامها أما هؤلاء فليسوا أيتامنا”، وأنا أقول لهذا المُعترِض “بالعكس أمرك سيكون – بإذن الله – أشرف وأعلى وأزهر من أمرها، وهذه ليست مُبالَغات لأن هذه المرأة بادرت النبي في دخول الجنة لأنها ضحّت هذه التضحية من أجل أن تكفل أيتامها هى، فكيف الحال سيكون عندما أكفل أنا عدداً من الأيتام وهم ليسوا أيتامي – أي ليسوا أبنائي ولا أبناء أخي وإنما هم أيتام بُعاد في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان – لوجه الله؟!

ما هو جزائي عند الله إذن؟!

أعظم مما تتخيَّلون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم “إذا أردت أن يرق قلبك وتزول قسوته فامسح رأس اليتيم وأدنه منك وأشركه في طعامك يلن قلبك وتبلغ حاجتك”، الله أكبر، ومن هنا قد يقول لي أحدهم أن عنده عندي مريض بالسرطان والمرض مُتقدِّم جداً فأقول له تكفَّل بالأيتام – بإذن الله تعالى – وادع الله فقد تُستجاب – بإذن الله – دعوتك ويشفى هذا المريض مرضاً مُهلِكاً لأن النبي قال”تقدر على حاجتك”، وهكذا إذا أردت أن ينجح ابنك أو إذا أردت أي شيئ، عليك بكفالة الأيتام، فياليت نفعل ذلك اليوم جميعاً، وأنا أعتقد أن الجميع يستطيع أن يفعل هذا وأن عنده القدرة على أن يستغني عن أربعين يورو وفي الشهر، لأن هذا المبلغ يُعَد شيئاً بسيطاً جداً جداً جداً وسيبقى هذا العمل لك إلى الأبد، فنسأل الله أن يُقدِرنا على ذلك، وطبعاً لم أُكمِل أن هذه السيدة التي تُجوِّد الحساب جيداً جداً اتضح فيما بعد – والله العظيم – أنها زوجة الدكتور العلَّامة الكُبيسي، وبالمُناسَبة هنا وقد اقشعر شعر بدني – والله – أُريد أن أذكر شيئاً يجول في صدري وأُحِب أن أذكره على المنبر وهو أن هذا الرجل مُبارَك، وأشهد بالله أننا قد أحببناه في الله – أُقسِم بالله – فهو رجل مُبارَك ونحن نُحِب هذ الطراز من العلماء، فهو ليس – حاشاكم وحاشا علمائنا – دجّالاً ولا قريب من الدجل ولا مُتصنِعاً ولا مُتزخرِفاً، بل هو رجل عجيب جداً، فهل استمعتم في حياتكم إلى عالم يقول أمام الناس وعلى رؤوس الأشهاد: الله يقول وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩ولكن أنا في حياتي ما كظمت غيظي، أحببت أن أكظم غيري ولكنني لم أقدر لأنني رجل عصبي Nervous؟!
وبعدين يقول لنا أيه ؟!

ثم قال “منذ خمسين سنة – أي طول حياته في التكليف وهو عالم كبير – لم أخشع يوماً في صلاتي، أسمع فقط عن الخشوع وأسمعهم يقصون قصصاً تتعلَّق به ولكنني لم أُجرِّبه، فليس عندي هذا الشيئ”، ولكن عنده أشياء أُخرى!

وقال لي الإخوة الذين دعوه – وهذا الذي أبكاني فقلت هؤلاء هم العلماء، هذا هو العالم الحقيقي وليس ذاك الذي يتصنَّع الخشوع والبكاء والكلام رغم عظم مرتبة الخشوع في الدين طبعاً ولكن الله لم يُعطه هذه المرتبة” أبى أن يُدفَع له ثمن الفندق – Hotel – الذي نزل فيه لمدة ستة أيام هو وزوجته، وهذا مبلغ كبير طبعاً، ورفض أن يُدفَع له ثمن تذكرة الطائرة، وحتى ثمن الاحتفال به الذي حضره زُهاء ربما مائة من الدُعاة والعلماء أبى إلا أن يدفعه هو كله، وقال لي الأخ الداعية أنه حين اتصل به في الإمارات – تحديداً في دبي – قال له “إذا تحدَّثت عن أي شيئ يُدفَع فلن ترى وجهي، اترك هذا الكلام”، أي أنه يحتسب خُطواته ويحتسب كلامه ويحتسب سفره، وتأتي زوجته في النهاية وتزايد وتدفع أحد عشر ألف يورو في هذا المزاد، فهذا الرجل لم يأت أبداً من أجل أن يحصل على مال ولا شهرة من الغلابة أمثالنا، بل هو شبع شهرة، فنسأل الله أن يجزيه خير الجزاء – والله العظيم – وأن يُكثِّر من أمثاله في الأمة لأن فيه صدق حقيقي، فهذا هو إذن الصدق الحقيقي في التعامل، وأدعو في هذا المقام أيضاً لأخي الذي تبرَّع لهذا المسجد المسكين، لأن هذا المسجد كان مُداناً تقريباً بستة عشر ألف يورو فجاءنا هذا الأخ وتبرّع تقريباً بأحد عشر ألفاً، فنسأل الله في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة أن يُخلِف على هذا الأخ وأمثاله خيراً مما أنفقوا ومما رضخوا، اللهم بارك لهم فيما آتيتهم، اللهم بارك لهم فيما أعطوا وفيما أبقوا وبارك لهم في صحتهم وصحة أزواجهم وأولادهم، اللهم اعف عنهم وعافهم، اللهم اغفر لنا جميعاً وبارك لنا وبارك علينا وبارك فينا يا رب العالمين واهدنا سُبل السلام وأخرجنا من الظُلمات إلى النور وأصلِح ذات بيننا وألِّف بين قلوبنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.

عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقم الصلاة.

(5/2/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: