إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

رجالُ فكر كثيرون حول العالم من المسلمين للأسف ومن غير المسلمين يُصرِّحون بأنه في اليوم الذي نرى فيه علماء الإسلام يُقرِّرون أن هذا الدين جاء لرفاهية الإنسان ورفع مُستواه وإسعاده دنيوياً فقد أفلس هذا الدين وأعلن استنفاذه لأغراضه، وعجبتُ أشد العجب لهذه الدعاوى التي لا أدري ما مُستنَدها وكيف تيسّر لهؤلاء الذين أطلقوها أن يُطلِقوها بمثل هذا الاستسهال والاستخفاف، وبديهٌ أن الباحث لابد أن يكون مُلتصِقاً بموضوعه من ناحية منهجية – لابد أن يكون مُلتصِقاً التصاقاً حقيقياً – وهذا لا يُجافي الموضوعية لأن الالتصاق في هذا المقام يعني الخبرة والدراية الواسعتين، فإن لم يكن له خبرةٌ ولا دراية  بهذا التراث – بتراث هذا الدين العظيم وهذه الشريعة السمحة – فكيف يجوز له أن يتقوَّل عليها وأن يغلط عليها بمثل هذا الغلط الفاحش؟!
ولكن من جهةٍ أُخرى عُدت إلينا فوجدتُ أننا كمسلمين اتجاهات في الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً، اتجاهات ومسالك لدى كثيرين من أبناء هذه الأمة، علماء وصلّاح وعارفين، وللأسف تُعينُ وتُساعِدُ على إطلاق مثل هذه الدعاوى الفارغة، فلو تساءلنا على ما وعدتكم في آخر الخُطبة السابقة: ما هى طبيعة العلاقة الحاكمة بين الديني والدنيوي؟ للأسف سنجد أن هاته الاتجاهات التي أشرت إليها آنافاً تُؤكِّد أن العلاقة عرضية، فالديني يقع في عرض الدنيوي أو الدنيوي يقع في عرض الديني، ومن هنا فهى علاقة تزاحم وتعارض، فمَن أراد أن يُصلِح آخرته ودينه لابد حتماً أن يضر بدنياه، وهذا يُنسَب إلى رسول الله، مَن أراد الآخرة أضر بدنياه ومَن أراد الدنيا واستصلاحها وإنماءها وتطييبها ومُبارَكتها فهو لا مناص مُضطَرٌ إلى أن يُخرِّب آخرته، فهذه العلاقة عرضية لأن واضح أن العلاقة وفق هذا الفهم وبحسب هذا المنظور أنها علاقة عرضية، علاقة تعارض لا تآزر وعلاقة تشاكس لا تعاضد، فيتقلَّص هذا وينبسط هذا وينقبض هذا فينبسط ضديده أو ضده، ولهذه العلاقة ولهذا المنظور تمثيلاتٌ تمثيلاتٌ كثيرة كما يقول رجال الفكر في أدبياتنا الإسلامية، من هذه التمثيلات ومن أبلغها على الإطلاق قولهم كالذي في كتب أبي حامد وأبي طالب المكي وغيرهما أن العلاقة بين الدنيا والآخرة كالعلاقة بين المشرق والمغرب، كلما اتجهت مُمعِناً تُجاه المشرقِ فإنك تبتعد عن المغرب ، وكلما أخذت في اتجاه المغرب فإنك تتباعد من المشرق ولا مناص، فها هو هكذا، هذه الدنيا وهذه الآخرة، فالعلاقة بينهما كعلاقة المشرق بالمغرب، وهذا التمثيل مشهور جداً في أدبياتنا الإسلامية وخاصة في الأدبيات العرفانية وحتى في الفقهية للأسف، وموجود أيضاً في اتجاهات التفسير وهو كثيرٌ جداً بل وهو السائد للأسف الشديد، فهو السائد في عقلية عوام وخواص المسلمين تقريباً وخاصة في عصور الانحطاط المُتأخِّرة هذه، وهناك تمثيلٌ آخر يُفيد بأن الدنيا والآخرة ضرتان رضا إحداهما يهيج سُخط الأخرى، لأنهما ضرتان فلا ترضيان معاً ولا يُمكِن إرضاؤهما جميعاً، وهناك تمثيلٌ ثالث يُفيد بأن الدنيا والآخرة إناءان، حجمٌ محدودٌ مُعيَّن من الماء يملأ أحدهما، فكلما أفرغت من هذا وملأت هذا فرغ هذا وصار هذا أقرب إلى الملء، لكن لا يُمكِن أن تملأ الاثنين، فاختر أن تملأ وعاء الدنيا أو خزانة الدنيا أو خزائن الآخرة، لكن مُحال تستطيع أن تملأ الخزانتين أو الإنائين معاً، وهذا غريب جداً، فهل هذا صحيح؟!

طبعاً لو سألنا الناس الآن كما نقول بالمعيار الذي أسميته قبل سنين معيار التبادر عن الدين والدنيا أو سنقول لهم بالأحرى عن العبادة – وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ۩ – فإن أول ما يتبادر إليهم وفق هذا المعيار – معيار التبادر – مُباشَرةً عن عبادة الله هو الصلاة والصوم والزكاة والحج والعمرة وذكر الله والقرآن وقيام الليل والبكاء من خشية الله، فهذه هى فقط العبادة لديهم، لكن لا يُمكِن أن يخطر على بال أحدهم تبادراً أي وفقاً لمعيار التبادر غير ذلك، وهذا المعيار حسّاس وخطير جداً في نظري في معرفة أو في قياس وسبر درجة تغلغل مفهوم مُعيَّن في الحس العام لدى أمة أو شعب، فهذا هو الذي يتبادر وهو واضح جداً، فلا يُمكِن أن نُكابِر على ذلكم، ولذلك بعض كبار العلماء للأسف الشديد كانوا يُردِّدون عبارة أو لفظة “ليس من عمل الآخرة، ليس من زاد الآخرة”، أبو حامد الغزالي – قدَّس الله سره – مثلاً للأسف في رسائله الفارسية – له رسائل فارسية – يستنصحه أحد تلاميذه ويسأله ماذا يدرس من العلوم والمعارف، لأن هناك الطبيعيات وهناك الرياضيات وهناك الحيل والميكانيكا  وهناك الآداب والأشعار وهناك علوم الدين على اختلاف تصانيفها وألوانها وإلى آخره، فيذكر له كمُقدَّمة نظرية عامة أن كل العلوم مُفيدة وشريفة ولكن ينصحه بعلوم الآخرة، لأن علوم الدنيا لا تفيد، فلا تقل لي رياضيات وفيزياء وكيمياء وموسيقى وأدب وفن وفلك، فهذا كلام فارغ لأنه ليس من عمل الآخرة، وهذا شيئ غريب، إذن كيف ستقوم دنيانا؟ كيف يُقال إذن الإسلام حضارة والإسلام مدنية والإسلام دين ودنيا؟ كيف يُقال هذا؟

لا ندري، ولذلك – علماً بأن هذا جاء وصلاً مع الخُطبة السابقة – بعض كبار علماء المسلمين بدءاً من الإمام المُجدِّد الذي يُقال عنه المُجدِّد للألف الثاني الفاروقي السرهندي – رحمة الله تعالى عليه – مع ثُلة آخرين من علماء الهند أفتوا جميعاً بتحريم علوم دنيوية كالرياضيات والفلك والطبيعة، وقالوا هذا ممنوع لأنها تُلهي عن الآخرة ولأنها ليست من زاد الآخرة فينبغي أن تُحرَّم، وكما قلت لكم تماماً هم حرَّموها كما حرَّموا المطبعة ثلاثمائة سنة، فالفقهاء لم يُسوِّغوا أن تدخل المطبعة إلى بلادنا ثلاثمائة سنة، وهذا جانب مُظلِم في تاريخنا العلمي ولا يزال يمتد – وهذا موضوع الخُطبة السابقة – إلى اليوم، فهذا لا يزال مُمتدَاً بطريقةٍ أو بأخرى إلى اليوم للأسف عند بعض الإسلاميين، فأنا وجدت كثيراً من كلامنا نحن معاشر الإسلاميين مُجرَّد دعاوى فارغة ومانشيتات وكليشيهات محفوظة – والله العظيم – ليس لها أي رصيد، وأنا أقول هذا بمرارة وبحزن فهم يتحدَّثون عن أن الإسلام دين ودنيا وأن الإسلام كذا كذا ثم بعد ذلك لا تجدهم ساهموا بشيئ له وزن وقدر في إعلاء ثقافة الجماهير، فيأتون إلى المنابر وإلى المُحاضَرات وإلى الفضائيات ويقولون المقول ويُكرِّرون المُكرَّر ويعيدون المُعاد، أي أن نفس الشيئ يتكرَّر الآن، فهناك أشياء بسيطة أصبحت طفولية ويعرفها كل الناس لكن هم يتحدَّثون عنها وكأن الأمة من ستين أو من سبعين سنة لا تزال أو كُتِب عليها وقُدِّر عليها أن تزال في رياض أطفال أو في الروضة Kindergarten، فيقول لك – مثلاً – بعض هؤلاء البُله حدِّثني يا أخي عن أحكام الطهارة، ونحن نقول له طهارة ماذا يا أخي؟ هل أنت تتحدَّث عن أطفال؟ اذهب والتحق بروضة أطفال – Kindergarten – لتتعلَّم أحكام الطهارة، فلا يُمكِن أن تكون طبيباً و مُهندِساً ابن عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة وتطلب مَن يُحدِّثك عن أحكام الطهارة، كان ينبغي أن تتعلَّم هذا في بيتك وأنت طفل صغير ابن أربع سنوات، هذا شيئ غريب يا أخي.
أين مُساهَمة هؤلاء الإسلاميين في الترجمة؟ الأمة العربية لا تكاد تُترجِم حقيقةً، كنسبة لا يُوجَد لديها أي نسبة مُساهَمة أبداً، فاليونان تُترجِم أكثر منها وتركيا تُترجِم أكثر منها، فتركيا تستهلك الكتاب والورق أربعة أضعف العالم العربي قاطبةً، ولذلك أصبحت مُتقدِّمة، الدخل القومي لها في ألفين وعشرة تريليون دولار، أي ألف مليار أو ألف بليون، وكنا نحتقر تركيا إلى وقت قريب ونقول أنهم أتراك وأن عقليتها مُغلَقة، لكن سنرى أي العقول مُغلَقة: عقلنا أو عقل إخواننا الأتراك.

للأسف الشديد اليونان تُترجِم أربعة أضعاف العرب، إسبانيا عشرات أضعاف أضعاف العرب، وهذه دول غير مُتقدِّمة لأنها هى لا تُعتبَر ولا تُعَد في عداد الدول المُتقدِّمة، فنحن لا نُناظِر أنفسنا ولا نُقايس مع ألمانيا – Deutschland – أو مع بريطانيا العُظمى أو مع فرنسا، وإنما مع اليونان ومع تركيا ومع إسبانيا، فإذن نحن دون المُؤخَرة، نحن دون الصفر، أي بالسالب، ويبدو أن هذا ليس عجيباً، فهذا منطقي جداً لأن الغرور والانتفاخ والفضائية تأتي من الجهل، العالم فقط الداري العارف هو المُتواضِع لأنه يعرف حدود الأشياء، أما الجاهل فهو مُنتفِخ ومُنتفِج ويحسب أن ورمه سمناً كما قال أبو الطيب طيَّب الله ثراه، فهذا ليس سمناً، هذا ورم سرطاني، ومع ذلك يعتقد كل عربي تقريباً أنه أفضل العالمين وأنه أذكى الناس وأنه يستطيع أن يُعلِّم الشرق والغرب فهو ليس مُحتاجاً إلى أن يستمع إلى أحد من الشرق والغرب بالذات المُدنَّس الكافر، ويقول لماذا أتعلَّم وأنا مُؤهَّل أن أُعلِّم الدُنى والعالمين؟ في حين أنه لا يعرف شيئاً حتى وإن كان مُثقَّفاً للأسف الشديد، فهذه أمة لا تقرأ ولا شغل لها الآن إلا التزييد بطريقة أو بأُخرى!

قرأت للمرحوم العلّامة اللبناني عمر فروخ – رحمة الله عليه – الذي قضى حياته في العلم والأدب والفكر والفلسفة ومات – رحمة الله عليه – بعد أن نيَّف على التسعين عن أكثر من مائة وخمسين مُؤلَّفاً – في كتاب من أواخر مُؤلَّفاته يقول فيه “وأجدُ أمتي أكثر الأمم زُهداً في العلم والفكر والمعرفة حول العالم”، فقلت “صدق الرجل الخبير طبعاً الذي طوَّف بالعالم وتعلَّم في بريطانيا وفي فرنسا وفي ألمانيا على يد جوزيف هاس Joseph Haas  ومات عن تركة تزيد عن مائة وخمسين مُؤلَّفاً وبعضها في مُجلَّدات عظيمة”، فهو قال “أمتنا لا تقرأ، وجدت أمتي أزهد الأمم في العلم والفكر والمعرفة، فلا تكاد تُقيم وزناً”، وهذا صحيح، فالكبير والصغير يُقدِّس مقولة “ما قلَّ ودلَّ” لأننا لا نُريد أن نُتعِب أدمغتنا، ولكن ما كثرَ وأملَّ من الأكل والشرب وقزقزة اللب والأحاديث الفارغة ومجالس التلفزيون Television والفيديو Video وكرة القدم في أمة تعبانة في جميع مُستوياتها لا نكتفي منه، فكفى هزلاً، فنحن أمة مهزولة وأمة ضعيفة، ومع ذلك هى لا تُريد أن تتمرَّر بمُواجَهة الحقائق المُرة، في حين أن مُواجَهة الحقائق جزء من تلقي الدواء الذي في طبعه المرار والكراهة، لكن لابد أن نواجه هذه الحقائق.

على كل حال أعود وأقول أن للأسف هذا ما حدث في تاريخ فترة الانحطاط أو في أحقاب الانحطاط من حياة هذه الأمة، ولعل هذه الحقبة أكثرها انحطاطاً على جميع المُستويات، لكن هل صحيحٌ أن الدنيا والآخرة ضرتان لا تلتقيان ولا تصطلحان وهما دائماً مُتخاصِمتان مُتدابِرتان ومُتشانئتان؟ هل صحيح هذا؟ 

أعود إلى كتاب ربي – والله – وأجد العكس تماماً، أجد الله – تبارك وتعالى – في هذه المسألة بالذات يُكثِّفها ويُركِّزها بشكلٍ إلهي، وأقول إلهي لأن الله هو القائل والمُتكِّلم.

 قال الله فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ۩، فهذا الذي ينزع هذا المنزع ويُفرِغ عن مثل هذا المنطق هو الشخص الكافر الغافل الذي لا وعي له، فيظن أن العلاقة بين الدنيا والآخرة علاقة عرضية ولذلك هو يُريد النقد ولا يُريد النسيئة، حيث غلب على ظنه وعلى اعتقاده أنه إن أراد أن يطلب الدنيا ضاعت الآخرة فلتضع الآخرة إذن لأنه لا يُريدها، علماً بأن الكثير من أبناء المسلمين هكذا، فليس للواحد منهم من الإسلام إلا قوله “لا إله إلا الله”، فهو لا يُبالي حتى بعذاب الله ولا بوعيده بل ويقول بالعامية “بيعين الله وبزيادة دبوستين كمان”، إذن فليذهب في نار جهنم لأنه يستهزيء والعياذ بالله، فضلاً عن أنه يفعل كل ما يُريد مما حل أو حرم، فلا يلوي على شيئ كأنه ليس مسلماً للأسف الشديد، لأنه يعتقد أنه من الصعب إن لم يكن من المُستحيل الجمع بين الدنيا والآخرة، وهو لا يُريد أن يكون شيخاً أو مُتديناً أبله غافلاً مُغفَّلاً على شاكلة فلان الذي يعيش بين الناس فقيراً محقوراً مزرياً عليه فيقبل الصدقات وما إلى ذلك، وقد كان أسلافنا الصالحون يربأون بالعالم أن يكون واعظ القوم أول النهار وسائلهم آخره، ولكن هذا أصبح نمطاً للتمعيش بالدين، فتجد الواحد منهم أصبح عاطلاً أو فارغ أشغال كما يُقال بالعامية، فعنده خمسمائة مقولة وخمسمائة معلومة تعلَّمها في الطفولة ولا يزال يستبقي طفولة المُستمِعين والمُخاطَبين بها إلى اليوم، فهو يجعلهم يعيشون في روضة – Kindergarten -بإسم الدين وبإسم تعلّمه، وهم يهزون رؤوسهم وهو يتمعيش بهذا، لذلك هذا الشخص الذي يرفض الآخرة لا يُريد أن يكون على شاكله هذا الأبله المُتدين، ويقول لك “لا أُريد هذا، فأنا أُصلي إذا اتسع وقتي للصلاة أحياناً، وارتاد المساجد والجوامع يوم الجُمعة أحياناً، ولكن العمل عبادة، قال الله وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ  ۩”،  فهو ينسى العبادة كلها والآخرة، ويظل يتفلسف هكذا لأنه يظن كالكّفار أن العلاقة عرضية، فهو مِمَن قال فيهم الله وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۩ سواء من مسلم أو كافر، فهو لا يُريد آخرة ولا يُفكِّر فيها، وعلمه ومبلغ همه والأمد الأقصى في علمه وعرفانه الدنيا كما قال الله يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ۩، فهذا هو أمده الأقصى، وهذا هو مبلغ علمه ووكد همه، الدنيا فقط ولا شيئ بعد الدنيا.

لكن الله – تبارك وتعالى – طرح الأنموذج المُقابِل المُضاد فقال وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً –  وبدأ بحسن الدنيا، لأن حسنة الآخرة مُسبَّبة عنها وذلك لأن العلاقة طولية، فكل علاقة سببية هى علاقة طولية، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى أن حسنة الأخرة مُسبَّبة عن حسنة الدنيا – وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩

سيأتيك أحد فلاسفة الفشل وتبرير الفشل والقعود والعجز والزرية القاتلة الجمودية وليست الجامدة فقط لكي يقول لك أن ما  حسنة الدنيا هى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والصوم فقط، وهذا غير صحيح، فهذا من حسنات الدنيا بلا شك ولكن من أعظم حسنات الدنيا أيضاً المال والنجاح الدنيوي والحيثيات، فهذا من حسنات الله ومن إحسان الله أيضاً، قيل لقارون وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ  ۩، فهل كان قارون صاحب صلاة؟ هذا هو قارون والله أحسن الله، فلله عليه حسناتٌ ضخام وحسناتٌ جزيلة، فهل كان يُصلي قارون؟ لم يكن يُصلي، هل كان مُستهتَراً بذكر الله؟ لم يكن من أهل الذكر أصلاً، ومات مخسوفاً به بُعيد قليل ولكنهم خاطبوه قائلين وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ  ۩، فإحسان الله إليه بالذات في هذه الحالة تعيَّن بماذا؟ بالماديات وبالنقود وبالمال وبالكنوز التي تنوء مفاتحها بالعصبة أولي القوة، أي أن يحملوها.

هذا هو، فهذه حسنة إذن، وكان من أكثر ما يُواظِب عليه مولانا رسول الله –  صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وجزاه الله عنا خير الجزاء لأنه المُعلِّم الأكبر لكن نحن أفسدنا تركته وأفسدنا تراثه بأفكارنا وزُهدياتنا الفارغة بل وبفشلنا وبعجزنا أيضاً وبمُبرِّراتنا ومُسوِّغاتنا، فهذا ذنبنا نحن وليس ذنبه هو – الدعاء الذي كان يدعو به كثيراً ويقول فيه “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”، وكان يُعلِّمنا أن ندعو الله ونحن نتوضأ لكل صلاة – فأنت تتهيّأ لأجل العبادات وهى الصلاة – وأن نقول “اللهم اغفر لي ذنبي ووسِّع لي في داري وبارك لي في رزقي”، أي أنني أُريد دنيا وسيعة، أُريد داراً وسيعة تكون كثيرة المرافق وأُريد مركباً هنيأً لا دابة قطوف، وأريد أيضاً رزقاً مدراراً ونعمةً سابغة وافرة أهنأ بها ويهنأ بها مَن حولي ومَن يمت إلىّ بسببٍ أو بآخر، فهكذا علَّمنا النبي.
قال “من علامات السعادة المركب الهنيء والدار الوسيعة والمرأة الصالحة”، ولي خُطبة أسميتها الحق في السعادة عن هذا الموضوع، وهذه لا يُمكِن أن يفهمها مسيحي تقليدي – مثلاً – أو زاهد مسلم أو مُتقشِّف أو مُستصوِف مسلم أو مُتفقِّر هندي هندوسي أو بوذي، فلا يُمكِن أن يفهم ما علاقة الدين بالحق أو بتقرير الحق في السعادة، لكن هو هكذا الدين لم يأت إلا ليُسعِدك، الدين جاء لإسعادك ولإنصافك ولخدمتك، فالدين لنا يا إخواني، ولذلك دائماً كنت أقول أن الدين من السماء ولكنه ليس للسماء، الدين من السماء ولكنه للأرض، ولذلك هدفه الأول العتيد ومقصده الأضخم والأكبر خدمة الإنسانية، قال الله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۩،فالضلال والشقاء ليس في الآخرة فقط وإنما في الدنيا أيضاً، ولكن لا ضلال – بإذن الله – مع الله، لأن الإنسان سينطلق من تصوّر كوني ومن رؤية كونية مُنظَّمة ومُنمَّقة فتتسق مع  الفطرة ومع العقل ومع الضمير والوجدان وبالتالي يكون المرء مُرتاحاً،وحدَّثتكم غير مرة أن السبب الأكبر في إسلام روجيه جارودي Roger Garaudy هو أنه وجد هذه الرؤية المُتزِنة المُعتدِلة فقط في الإسلام، فلم يجدها في المذهب الكاثوليكي أو المذهب البروتستانتي أو في الشيوعية أو في الوجودية أو لدى البوذيين والهنادكة والجينيين والطاويين والكونفوشيوسيين، لم يجدها إلا في الإسلام، والرجل ما شاء الله درس الحضارات والأديان وهو صاحب مشروع عالمي في هذا الباب، أي أنه خبير من درجة أولى، ولذلك قال ” وجدت أحسن تصور للعالم وأحسن  Weltanschauung أو  Big Picture  أو World View  فقط في الإسلام، لأن فيه اعتدال عجيب وغريب”، وبالتالي تجد إنسانيتك وتجد نفسك لأنك لا تجد أي تنازع أو أي تخاصم، ومن ثم تجد وحدتك، فتتوحّد الذات الإنسانية عقلاً أو ذهناً ووجدناً وضميراً، نفساً وروحاً، بدناً ونفساً، فرداً وجماعةً، دنيا وأُخرى، أرضاً وسماءً، فالأبعاد كلها تلتقي في وحدة واحدة هى هذا المسلم الحنيف الذي أسلم وجهه لله، تقول الآية الكريمة قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، ولذلك هذا الإبراهيمي – نسبة إلى إبراهيم الذي قال هذا – يسعى ليحيا ويحيا في الدنيا حياةً كريمة طيبة، قال الله وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ –  فأين حدث ذلك؟ –  فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۩، وأنا نبَّهت في أكثر من خُطبة على أمر ينبغي الانتباه إليه، وهو أن الأجر والثواب أو الأثوبة والأجزية لا تكون فقط في الآخرة، فالقرآن أكَّد في عشرات الآيات – علماً بأن  لي خُطبة بحيالها فقط عن هذا الموضوع – أن الأجزية والأثوبة والأجور تكون في الدنيا أيضاً كما تكون في الآخرة، وهذا يُجيب عن تحدٍ  كبير للعقلانيين الذين يُنادون الآن باستبدال المعنوية، فيستبدلون المعنوية بالأديان وبالدين بما فيها الإسلام ويقولون “مذهب المعنوية يُجيب عن سؤال وعن اختبار الآن وهنا وليس عن هناك وبعد الآن، فأنا اُريد الآن وهنا ولا أُحِب أن أعيش حياتي ثم أكتشف أو يُكتشَف أو يكتشف حتى ضمير الكون بعد موتي أنني عشت مخدوعاً في قفص حديدي من الأوامر والنواهي والمُحرَّمات بإسم الدين ثم مت مخدوعاً كما عشت، لا أُريد هذا، وإنما أُريد أن أختبر هذا الدين وهذا التصوّر المزعوم أنه إلهي لحياتي ولإرشادي هنا والآن، فهل يُمكِن هذا؟” طبعاً يُمكِن هذا، والقرآن يقول أن الإسلام يُختبَر هنا والآن، قال الله وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً – أي في الدنيا – وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۩، وهذه الآية قبل أيام خطر لي من معناها شيئٌ عجبٌ، فهذه الآية وجدتها أعظم آية – هذا ما وجدته وقد يكون وجداناً خاطئاً، لكن على كل حال هكذا وجدتها كما لاح لي – في تقرير وثوقية وصدقية وحقية العقل الإنساني، فالعقل ليس كما يظن بعض علماء الدين بما فيهم المسلمون، فهم يظنونه ذا رُتبة مُتأخِّرة وضعيف المُنة والقوة ولا يُوثَق به وقد يُختلَط عليه، لكن هو ليس كذلك، بالعكس هو قويٌ جداً وهو الأساس الذي عرفنا به صدق النبي وصدق دعواه وصدق رسالته، فهو أساسٌ متين ولا يُمكِن تجاوزه، ولذا الله يقول أن مَن عميَ في الدنيا – وطبعاً ليس عمى الباصرة أو الجارحة – يكون بسبب أن عقله قصَّر به، فعقله لم يدله على الخير ولم يُوقفه على حقية الحق وعلى صدقية الصدق، تقول الآية الكريمة وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۩، ولذلك هذا الشخص عميَ وغبيت عليه الحقائق، فهو عميَ في ذاته وغبيت عليه الحقائق ولذا عاش ومات هالكاً أعمى، ومن هنا الله يقول أنه في الآخرة سيُبعَث أعمى لأنه لن يفهم، وهذا شيئ عجيب، فكيف لن يفهم والجنة والنار أمامه والصراط منصوب على متن جهنم؟!

لن يفهم شيئاً وسيدخل جهنم ليصلاها – والعياذ بالله – ولن يفهم حتى أنه في جهنم، تقول الآية الكريمة وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ۩ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ۩، فسوف يقول أبو لهب وأبو جهل وأمثال هؤلاء: أين عمَّار؟ أين سلمان؟ أين صهيب؟ أين بلال؟ أين كل هؤلاء؟ لماذا لم يدخلوا معنا؟إلى الآن لم يفهموا ولن يفهموا، وهذا هو معنى الآية، فالذي عطَّل عقله في الدنيا لن يستفيد منه في الآخرة، والذي أقام عمود العقل في الدنيا هو الذي سيُبعَث بصيراً يقظاناً صاحياً يوم القيامة، هذا هو العقل، فهل رأيتم ديناً يُقيم للعقل مثل هذه المثابة ويرفع له مثل هذا العمود من الشرف الباذخ؟!

هذا هو الإسلام، تقول الآية الكريمة وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ۩، ولكن قد تقولون ولكن الله بالإزاء يقول أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ  ۩، وهذا صحيح لأنهم سيسمعون وسيُبصِرون، وهذا هو القرآن وهذه هى دقة القرآن، لأن الذين أنكروا وجحدو وتنكّبوا صنفان من الناس، فهناك صنفٌ كابر – والعياذ بالله – بعدما ظهر له الحق، وهناك صنفٌ لم يفهم أصلاً لأنه لم يستخدم عقله، وهذا الصنف يغلب على الأتباع وعلى المُقلِّدين، ولذلك لا شفاعة لهم يوم القيامة، فلا يُمكِن أن يُقبَل منه أن يقول “يا رب أن كنت مُقلِّداً، أنا قلَّدت الكبراء، قلَّدت رئيس الحزب أو قلَّدت الحاخام عندي أو قلَّدت رجل الدين أو قلَّدت الشيخ ولم أستخدم عقلي” لأن الله سوف يقول له “ليس لك عذر، أنت لست بهيمة ولست حيواناً، وأنا لم آمرك أن تستعير عقول غيرك، أنا كلَّفتك بعقلك أنت، ولو قد ذهب عقلك سقط عنك التكليف”، لأن الله إذا سلب ما وهب فقد أسقط ما أوجب، هكذا حتى العوام تتحفَّظ هذه القاعدة، فلا تقل لي “أنا كنت مُقلِّداً” واذهب إلى جهنم من أقصر طريق، ولذلك مثل هذا عاش أعمى وسوف يُبعَث أعمى المسكين، ولكن الذين رأوا الحقائق وجحدوها كالذين رأوا عيسى في المهد يتكلَّم صبياً – قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ۩ – ومع ذلك جحدوا وكابروا هؤلاء يوم القيامة يُبعَثون وهم يعرفون الحقائق لأنهم يعرفون أنهم كذَّبوا بها، فقال الله في حقهم أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ ۩، وهذا شيئ عجيب، مَن تأمَّل هذا الكتاب العجيب سوف يجد أن لا كتاب مثله على الإطلاق، فمرة يقول أعمى وسيُبعَث أعمى، ومرة يقول سوف يُبعَث بصيراً وذلك في قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ۩، فما معنى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ۩؟!

 قل ما أبصرهم وما أسمعهم، أي ما أبصرهم بالحقائق وما أسمعهم لها  يوم القيامة!

قال الله يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۩، فهذا هو الفرق بين مَن كابر وبين مَن عطَّل، لذلك علينا أن ننتبه لأن هذه الرسالة مُخيفة جداً وخطيرة حتى للمسلمين، فلا تُعطِّلوا عقولكم لا بإسم المشائخ ولا بإسم الطوائف ولا بإسم المذاهب ولا بإسم الوعاظ ولا بإسم العلماء، قال صلى الله عليه وسلم “استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك وأفتوك وأفتوك”، فالنبي هو الذي علَّمنا هذا، أراد ألا تنشأ مُؤسَّسة دينية كالمؤسَّسة الكنسية الكاثوليكية في العصور الوسطى فتغتال عقولنا وتستنزف وعينا وكل ما ألقوه إلينا هززنا برؤوسنا أن نعم، فهذا لا يجوز، لذا قال “استفت قلبك” لأن عندك عقل ولب وفؤاد، استفت وانظر وسوف تهتدي إن كنت صادقاً وإن كنت مُستهدياً بالله، فالهداية من ربي – لا إله إلا هو – وهو الذي سيهديك سواء السبيل، لذا نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل وأن يُنوِّرنا بمعرفة الطريق، فقد نهج الطريق ووضحت المعالم ولكن إِنَّا لِلّهِ ۩.

ونعود إلى ما كنا فيه، إذن القرآن يقول فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ۩، ومن حسنة الدنيا المال، فكيف لا تكون العلاقة علاقة طولية لا تعارض فيها وتكون عرضية مُتعارِضة والله – تبارك وتعالى – سمى المال وسمى الرزق خيراً؟!

الله سمى المال خيراً ولم يُسمه شراً أو شيطاناً أبداً، فقال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ۩، فماذا كُتِب عليه؟!

 الوصية وهى نائب فاعل، أي كُتِب عليه الوصية عند الموت إذا كان ترك مالاً، ولكنه لم يقل مالاً وإنما قال خَيْرًا ۩،  فسمى الله المال خيراً.

 إذن المال خير وليس شراً أبداً، فالمال في ذاته لا يكون شراً، وإنما هو خير وبلاغ إلى مرضاة الله وبلاغ إلى تحسين وتطييب وتزيين الدنيا بالإذن العام من رب العالمين، قال الله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ  ۩، فالله يستنكر ويسأل سؤالاً استنكارياً وهو مَن الذي حرَّم هذه الأشياء؟ قال الله لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ۩، وهكذا لا تُحرِّم لأن هذه الطيبات أباح وتطييب الحياة الإنسانية فاعلموا أن هذا الدين أفلس واستنفذ أغراضه”، وهذا كذب وقاح وعقدة نقص وتقليد للغربيين، فهكذا هو دينهم وهم أحرار، لكن ديننا ليس كذلك، فلا تكذب على ديني، عليك أن تتعلَّم أولاً الدين.

وأعجبني من عالم الاجتماع الدكتور الطاهر لبيب أنه علَّق مرة على سعد الدين إبراهيم بأدب قائلاً “قبل أن يتكلَّم في التراث لابد أن يعرف ما هو التراث”، وهو قال هذا  بكل احترام وبطريقة علمية، فلا ينبغي أن تتكلَّم فيما لا تُحسِن، فلا يُمكِن أن تكون معلوماتك معلومات شخص في روضة أطفال – Kindergarten – ولكنك تتكلَّم عن التراث وكأنك جامعي أو أكاديمي، فهذا لا يليق ولا يصح يا أخي، احترم نفسك، كما أنت لا تسمح لأحد أن يتكلَّم بمُستوى روضة الأطفال – Kindergarten – في تخصصك وهو علم الاجتماع أو السوسيولوجيا Sociology لا تفعل هذا أنت، لكن هكذا فعل سعد الدين إبراهيم، فهكذا بإسم الفكر وبإسم الاجتهاد يتكلَّمون في هذا الدين وينبذون تراثنا وديننا، ونحن لا نرى – والله – فلاحاً إلا في هذا الدين، ومن هنا نُريد حداثة وتحديثاً وتنمية ولكن ضمن المنظور العام لهذا الدين العظيم حتى تكون حداثة وتنمية وحضارة وتمديناً – بإذن الله تعالى – وتحديثاً، تحديثاً إنسانياً وليس حيوانياً، وتحديثاً جامعاً وحدوياً وليس تمزيقياً تشعيعياً كالذي يحصل هنا ومن ثم تمزَّق الإنسان، أصبح الإنسان مُمزَّقاً وهو الآن يدفع الثمن بعد أن غاب عن نفسه مع أنه يطلبها ويطلب متعها،  ولكن غاب عنها وضل ضلالاً بعيداً المسكين، لذلك نحن لا نُريد أن نُكرِّر هذه التجربة بكل هذه الأخطاء، فهى فيها أخطاء ولكن فيها جوانب إيجابية أيضاً، فعلينا أن نحترم الجوانب الإيجابية وأن نُحذِّر ونحذر الجوانب السلبية والجوانب المُخيفة المُدمِّرة.

 لكن في نهاية المطاف هناك مَن يتقدَّمون للحديث بإسم الإسلام وهم لا يدرونه وهم لا يعرفونه، في حين أنه لا يوجد دين حث على العلم والمعرفة من حيث أتى – كل العلم وكل المعرفة –  كالإسلام،  علماً بأن هذا الجزء ذكرناه في خُطبة الجمعة السابقة، تقول الآية الكريمة وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، فلم يقل العلم وإنما قال  عِلْمًا ۩ بالمُطلَق، فأي علم نافع نحن مأمورون بالازدياد به، قال النبي “مَن سلك سبيل يلتمس به علماً”، فلم يقل العلم وإنما قال علماً، ولو قال “العلم” لقلنا أكيد أن الألف واللام أكيد عهدية فيُقصَد بها العلم الشرعي المذكور ربما أو المعهود لدينا لسبب أو لآخر، لكنه لم يقل هذا وإنما قال علماً، وذلك في قوله “مَن سلك سبيلاً يلتمس به علماً سهَّل الله به سبيلاً إلى الجنة”، وهذه بُشرى لطلّاب العلم يا أخي، فهناك أجور عظيمة جداً جداً جداً بل هى أعظم من الصلاة ومن الصوم ولكن لا تُغني عنهما طبعاً، فلابد أن نُصلي وأن نصوم ولكن أعظم منهما أجراً لأنها تُساهِم في رفع المُعاناة والآلام والتباريح عن الناس، وهذا من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله، ومن هنا تأتي أهمية علم الاجتماع وعلم الأخلاق والآداب والسلوكات  Manners لنعرف كيف نتعاطى مع بعضنا بعضاً وكيف يحترم بعضنا بعضاً وكيف يُحِب بعضنا بعضاً وكيف يتواصل بعضنا مع بعض ومع أرحامه ومع أصدقائه ومع جيرانه ومع إخوانه ومع أهل حيه وكيف يتضامن مع الآخرين وكيف يُغيث ويُساعِد الآخرين، فهذا أعظم من الصلاة ومن الصوم ومن الصدقة، وفي الحديث الصحيح قال النبي: ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة و الصيام و الصدقة؟ فقالوا “بلى يا رسول الله”، فهل يُوجَد شيئ أفضل من هذا؟ لكن قبل أن نُكمِل الحديث لابد أن ننتبه إلى أن هذا أفضل ولكنه لا يُغني عنهم، ومعنى أنه أفضل أنه قُربات وأنه عبادة يُتقرَّب بها إلى الله، فالعبادة ليست هى الصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، وهذا عكس ما في الذهنية العامة اليوم، ومن هنا قالوا “بلى  يا رسول الله”، فقال “إصلاح ذات البين – أي أن تُصلِح بين اثنين، فهذا أحسن من الصلاة والصوم والصدقة، ويجب أن تتودَّد أنت أيضاً للناس وتتحبَّب للناس وتُصلِح ما بينك وبين الخلق وما بينك وبين عباد الله، وليس أن تُفجِّر نفسك في عباد الله أو أن تُكفِّر عباد الله أو أن تقتل عباد الله أو أن تُحرِّش عباد الله بعضهم على بعض، كأن تُحرِّش الأبناء على الآباء والبنات على الأمهات والآباء بإسم الدين والدعوة، فلا كان الدين ولا كانت الدعوة بمثل هذا الغباء وبمثل هذه الحماقة – فإن فساد ذات البين هى الحالقة”، وفي رواية زادها الترمذي “لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”، فلا يبقى لك لا صلاة ولا صدقة ولا صيام، ولذلك النبي دمدَم وثرَّب وأبرق وأرعد من تهاجر المسلمين، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه مالك والبخاري وغيرهم “وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث”، ولأبي داود في حديثٍ آخر قال “ومَن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار”، فلا يُمكِن أن تسير الأمور وفقاً لهواك فتهجر أخاك وإلا سوف تذهب إلى جهنم!

علينا أن ننتبه إذن إلى عظم هذا الدين، فهذا الدين يُنشيء حياة مُتواصِلة رحيمة طيبة كريمة، علماً بأنه لا يُوجَد عندنا مفهوم الخلاص الفردي، فلا يُمكِن أن أقعد في زاوية أو في قنة جبل أو في صومعة وأتعبَّد الله ليل نهار ثم أدخل الجنة ركضاً ركضاً، لا يُوجَد مثل هذا الكلام في دين يُنشيء حضارة ومُجتمَعاً، وبالتالي ممنوع أن تعتزل كما قال النبي، فهذا هو الأصل إلا في حالات نادرة جداً مثل الفتن والحروب الأهلية، أما في غير ذلك مَن تعرب بالإسلام فقد كفر، فلا تعرب في الإسلام، كأن يعود الإنسان إلى البادية فيعيش كالحيوانات الأوابد، أي أنه يُصبِح وحشاً آبداً، فهذا هو معنى التعرب وهذا ممنوع، لذا التعرب في الإسلام كفر، ولكن ليس كفراً بالله طبعاً وإنما هو كفر بالنعمة، أي بنعمة الحضارة والمدينة، وهذا هو معنى مَن تعرب في الإسلام فقد كفر.

هذا دين عجيب، فرغماً عنك لابد أن تعيش في مُجتمَع وفي مدنية، وأن تعيش مُتواصِلاً رحيماً براً كريماً، وأن تكون مُتواصِلاً أحسن تواصل مع الناس بالصدق والبر والتقوى والإحسان والتراحم، لذا قال النبي “ومَن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار”، وعند أبي داود أيضاً “ومَن هجر مسلماً سنة كان كسفك دمه”، لكن قد تحدث مشاكل أحياناً بيننا أو سوء فهم والتباسات ونزغات شيطانية فيأتي أحد هؤلاء المُتخاصِمين إلى إخوانه أو أخيه فيتنَّصل – أي يعتذر له – من ذنبه، ومن ثم على الآخر أن يقبل اعتذاره، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الحاكم وصحَّح إسناده “ومَن أتاه أخوه يتنصَّل من ذنبه فليقبل مُحِقاً كان أخوه أو مُبطِلاً – أي حتى ولو كان هو المُخطيء والبادئ ومن المعروف أن الباديء أظلم لكنه جاءك مُعتذِراً عليك أن تقبل – فإن لم يقبل فلا يردن علىّ الحوض يوم القيامة”.

  يُوجَد بعض الناس يقبل اعتذارك – والله العظيم – حتى ولو قتلت أباه، فهنيأً له بهذا القلب الطيب، لكن بعض الناس يبقى رافعاً رأسه شامخاً بأنفه الذليل – لأن كل مَن خالف الله فهو ذليل  والعياذ بالله – فيرفض الاعتذار ويُريد من مجلس الأمن أن ينعقد لحل مُشكِلته مع فلان، لكنه لن ينعقد يا أخي ولن ترد على محمد الحوض يوم القيامة بل  سوف تُطرَد، فعليك أن تكون مُتواضِعاً في نفسك وعليك أن تكون مُتسامِحاً، قال النبي: ألا أُخبِركم بشراركم؟ فقالوا “بلى يا رسول الله” قال كذا وكذا ثم قال: ألا أُخبِركم بشرٍ منهم؟ فقالوا “بلى” فقال “الذين لا يُقيلون عثرة – أي أنه لا يُسامِحك لو أخطأت مرة في حقه أو في حق غيره بل ويفضحك في العالمين ولا يستر عليك، لكن يجب على الإنسان إذا عثر أخيه أن يُسامِحه وأن يستر عليه – ولا يقبلون معذرة ولا يغتفرون ذنباً”، فهؤلاء هم شرار أمة محمد، وإلا كيف يكون المُجتمَع السليم مع قلوب ونفوس مُلتاثة سوداء مثل نفوس الحيات والعقارب والبوم والغربان؟ ما هذه الكهوف المُظلِمة؟ 

 المسلم قلبه أبيض من الثلج وأطهر من ماء الغمام، قهو مُؤمِن يرجو الله ومُتصِل بالله لذا هو طيب حنون، فهذا هو الدين وهذا هو التواصل في الدين، ولذا قال النبي “تبسمك في وجه أخيك صدقة”، وهذا شيئ غريب، لكن النبي قال أنها صدقة تُكتَب في ميزان حسناتك، فمن المُمكِن أن أتواصل مع الناس وأطلب ودهم وأحظى بودهم وأؤجَر أيضاً لأن هذه صدقة!

روى الإمام البيهقي حديثاً رائعاً ذكرناه قبل بضعة أشهر ولكن لا بأس أن نذكره مرة ثانياً فقد قال الله وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ۩، نفعنا الله وإياكم بالقرآن والذكر الحكيم وسثنة سيد المُرسَلين، وهذا الحديث عن أبي ذر – رضيَ الله عنه وأرضاه –  قال فيه: قلت يا رسول الله دلني على عمل يُدخِلني الجنة ويُباعِدني من النار، فقال  إيمانٌ بالله، قلت يا رسول الله ومع الإيمان عمل؟ قال نعم، ترضخ مما أتاك الله، أي تُنفِق لأن الصدقة برهان، فجيب أن تُعطي لأن الإيمان ليس كلاماً فقط، تقول الآية الكريمة اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ ۩، فلم يقل اشكروا وإنما قال اعْمَلُوا ۩، فالشكر يحتاج إلى العمل، والشكر لا يكون بالكلام فقط كأن تقول لك الحمد والمنة، فهذا لا يكفي لأن الشكر يكون بثلاثة أشياء من أهمها الجوارح: 

أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ منّي ثَلاثةً                  يَدِي ولِسَاني والضَّميرَ المُحَجَّبا 

لذا قال الله اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ ۩ وقال النبي ترضخ مما أتاك الله، فقال أبو ذر: قلت يا رسول الله فإن لم يكن معه ما يرضخ؟ أي أنه فقير وغلبان وليس لديه ما يُنفِق، فقال يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر فإنه له صدقة، فقال أبو ذر قلت إن كان لا يستطيع أن يأمر؟ أي أنه غلبان وضعيف ومسكين وليس لديه حيثية أو لسان ليتكلَّم به لأنه أخرس ربما أو عيي حصور، فقال – صلى الله عليه وسلم – فليُعِن الأخرق، أي أنك إذا لم تستطع أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المُنكَر فأعن الأخرق، ولكن مَن الأخرق؟

الأخرق الذي لا صنعة له، فهو إنسان جاهل وليس بيده صنعة، فإذا كان لديك صنعة لأنك تلقيت تعليماً صناعياً – مثلاً – عليك أن تُعلِّم الناس، فإذا كنت خيّاطاً علِّم الخياطة لمَن حولك، وكذلك الحال إذا كنت حدّاداً أو غير ذلك، فعليك أن تُساعِد الأخرق المُحتاج بصنعتك.

قال أبو ذر: قلت يا رسول الله إن كان لا يُحسِنُ يصنعُ؟ أي ليس لديه صنعة لأنه هو أخرق أيضاً ومن ثم لا يُمكِن أن يُعين شخصاً أخرقاً، فقال النبي ينصر مظلوماً أو قال يُعين مظلوماً.

قال أبو ذر: فقلت يا رسول الله إن كان ضعيفاً ولا يستطيع أن يُعين مظلوماً؟ فقال يا أبا ذر أما تُريد أن تذر لصاحبك من خير؟ أي أن النبي يستعجب مِن أن يكون هناك مَن لا يُحسِن شيئاً لأنه على الحديدة كما نقول، لكن أبو ذر كان يقول ذلك لكي يتعلَّم ولكي نتعلِّم نحن، وبالفعل تعلَّمنا علماً مُبارَكاً.
قال النبي: فإن لم يستطع أن ينصر أو يُعين مظلوماً فليكف شره عن الناس فإنه له صدقة، أي لا تضر الناس لا بعينك ولا بيدك ولا بلسانك ولا بأي شيئ، اسكت وكف شرك عن الناس، فهذا هو أقل شيئ، وهذا في باب التروك ولن يُكلِّفك شيئاً.

قال أبو ذر: قلت يا رسول الله وإن فعل ذلك – أي إذا عمل بهذه الخصال- دخل الجنة؟ فقال ما مِن عبدٍ مُؤمِنٍ يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده فأدخلته الجنة.

الله أكبر، فواحدة من هذه الخصال تُدخِل الجنة، فكيف لو أحد جمع كل هذه الخصال معاً فكان – مثلاً – يُعطي ويأمر ويُعين ويُساعِد؟!

في حديث ابن ماجه النبي قال في صفة العبد الصالح أنه مفتاحٌ للخير، مغلاقٌ للشر كما رواه ابن ماجه، فهذا هو المُؤمِن، وقال النبي أيضاً المُؤمِن كالغيث أينما وقع نفع، وقال المُؤمِن كالنحلة لا تأكل إلا طيباً ولا تقع إلا على طيب ولا تُعطي إلا طيباً، فالنبي شبَّه المُؤمِن بالنحلة لأنها طيبة طاهرة مُبارَكة، فتقع على الطيب وتأكل الطيب وتُعطي الطيب، وهكذا هو المُؤمِن، فلا يُوجَد فيه أي جانب مُظلِم، وإذا وُجِدَ هذا الجانب المُظلِم فإنه ليس من الإيمان وليس من الدين، وإنما من شيئ آخر مثل العادات والتقاليد والأعراف والعصبيات والجهل، ولكن هذا الجانب ليس من الدين.

روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال “بين رجل كان يمشي إذ أبصر غُصن شوك بطريق – في سبيل – الناس –  فأخذه – عند مسلم قال لأُنحينه عن طريق الناس، أي أن عنده عزيمة فقال أنه يستطيع أن يخدم الناس بأن يزيح غصن الشوك أخذه ويضعه في الزبالة أو في أي مكان – فغفر الله له، فشكر له – زاد مسلم – وأُدخِل الجنة”، أي أنه دخل الجنة بسبب غصن شوك، فكيف الحال مع طبيب يتعلَّم الطب والجراحة ويرحم مرضاه ويُساعِد مَن لا يستطيع؟!

والله أعرف طبيباً – أُقسِم بالله – لدينا هناك في مُعسكَرات النُصيرات من أفضل ما يكون، فكل مَن في المُعسكَر – مائة ألف نسمة أو أكثر – يدعون له ويقولون كثَّر الله من أمثاله، شيئ غريب وعجيب هذا الدكتور، فهو طبيب أطفال عجب لأنه فاتح بابه على مدار الأربع والعشرين ساعة للناس، ويقول مَن يستطيع أن يدفع فليفعل على قدر ما يستطيع، ومَن لا يستطيع أن يدفع فلا عليه بل ويُعطيه الدواء مجاناً، لأن  عنده صيدلية فيُعطي الدواء منها للمُحتاجين وفقاً للحالة المرضية، ومن هنا فتح الله  عليه وبنى عمارة وعنده أولاد وبارك الله له في كل ما أتاه، وهذا هو معنى قول النبي “أَنْفِقْ  يُنفَق عليه”، ومعنى قوله “أَنْفِقْ بِلالُ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا”، فهذا الطبيب بهذا التُقى – والله –  أحسن – وأنا مُتأكِّد وأقسِم بالله – من ألف عابد وعالم من أمثالنا، فنحن صنعتنا الكلام، لكن هذا يرفع مُعاناة الناس ويرفع آلامهم ويرفع تباريحهم، وهذا ما يحتاجه الناس يومياً، فهم لا يحتاجون الكلام والخُطب، وإنما يحتاجون أشياء حقيقية لرفع مُعاناة ومرائر الحياة.

وكيف الحال إذن مع الغني الذي يرضخ من مال الله؟ لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا لا ينطبق على مَن يحسب الزكاة ويشغل نفسه خلال الاثني عشر شهراً حتى مجيء رمضان بالزكاة حتى لا يُخرِج مالاً زائداً، فعن أي زكاة تتحدَّث إذن؟ ألست من الأبرار؟ إذا أردت أن تكون من المُقرَّبين لا ينبغي أن تكون كذلك، فأنت لست من الأبرار أصلاً لكي تكون من المُقرَّبين، قال الله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ – ليس البر أن تُصلي فقط – وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ – علينا أن ننتبه إلى أن ليست الزكاة هى المقصودة هنا، هذا شيئ آخر ثاني غير الزكاة، فلا تُشغِل نفسك خلال الاثني عشر شهراً بالزكاة، لأن الزكاة سوف تأتي رغماً عنك وهى منوطة ومعصوبة بجبينك ومن ثم لابد أن تُعطيها، فهناك شيئ آخر غير الزكاة يجعلك من الأبرار وإلا فلست منهم – عَلَىٰ حُبِّهِ – علماً بأن هذه هى أطول خصلة فصَّلتها آية البر في البقرة – ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا – جعلني الله وإياكم منهم – وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۩.

الله قال هذا هو الصدق وتلكم هى التقوى، فالتقوى ليست فقط الصلاة وإنما هى كل هذه الأشياء، وكذلك البر ليس هو الصلاة فقط وإنما كل هذه الأشياء، فهذا هو البر وهذه هى التقوى، ومن التقوى أيضاً فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩، أي أن تستقيم مع عدوك وتفي بالعهود مع العدو القالي المُبغِض، فالله قال هذا من التقوى، فلا يُوجَد أي امتياز للدنيوي من الديني هنا كما قد يدّعي البعض، فهما أصبحا شيئاً واحداً محكوماً بأمر الله في فضاء الدين وبأكسجين الدين إن جاز التعبير، ولذا يُصبِح الدين مثل الهواء الذي نتنسمه ليل نهار ونحن نائمون ونحن قاعدون دون أن نشعر، فهكذا هو الدين، فليس للدين أزمان مخصوصةوأمكان مخصوصة وخُطب مخصوصة مثل أن يكون هناك خُطبة عن ليلة السابع والعشرين من رجب والإسراء والمعراج وأول رمضان والصيام، فعملوا للدين مُؤسَّسة وبرامج مُؤقَّتة، وهذا غير صحيح، فالدين ينبغي أن يكون مُتواصِلاً على مدى الأربع والعشرين ساعة، فطالما أنت في المُهلة فأنت مُتدين وتتعبَّد الله، ولذلك رحمة الله على روح شيخ الإسلام ابن تيمية وقدَّس الله روح الطاهرة حين سُئل عن معنى العبادة فقدَّم أروع تعريفاً للعبادة وذلك حين قال “العبادة إسمٌ جامعٌ لكل ما يُحِبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً”، أي أعمال القلوب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح والأقوال أيضاً، فهذه هى العبادة، ومن ثم أي شيئ أحبه الله فهو عبادة يُتقرَّب بها إلى الله، قال عليه السلام “إن الله يُحِب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقِنه”، إذن يُوجَد أجر طبعاً، فكل ما أحبه الله جزى عليه الأجر والثواب الجزيل، فمَن صنع منبراً مثل هذا وأتقنه له أجر، والله أعلم كم هذا الأجر لأنه قد يكون أجراً عظيماً جداً جداً جداً، فلا ندري.

قال الرسول “إن الله يُحِب إذا عمل أحدكم عملاً- أي عمل – أن يُتقِنه”، إذن أتقِن عملك، لكن الآن الأمة الإسلامية أقل الأمم إتقاناً لأعمالها، ولذا كان الشيخ محمد الغزالي يشكو قائلاً: لماذا تخرج الصنعة من تحت يد الصانع الغربي – يُسميه الكافر غير المسلم – على أحسن مُواصَفاتها، وتخرج من تحت يد المسلم شوهاء؟!

دائماً تخرج الصنعة شوهاء في شغل العرب والمسلمين، فدائماً الصنعة تعبانة، وهذا إن كانوا يصنعون أصلاً، فحتى إبر الخياطات والسجادات يستوردونها، السجاجيد في المملكة السعودية مكتوب عليها صُنِعَ في الصين Made In China ، والحمد لله الآن مكتوب صُنِعَ في تركيا Made In Turkey  وهذا جيد نوعاً ما لأنها تُعَد دولة إسلامية، لكن نحن لا نصنع شيئاً، عندنا المليارات ولا نصنع أي شيئ، وإن صنعنا تخرج الصنعة شوهاء وخرقاء وبشعة والعياذ بالله.

قال النبي “إن الله كتب الإحسان على كل شيئ”، ومعنى قوله كتب أن هناك أجراً طبعاً، قال الله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ۩ وقال أيضاً كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ  ۩

فضلاً عن أنه قال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ۩، وكل المكتوبات فيها أجر إذا بخعت لها، والإحسان مكتوب – إن الله كتب الإحسان على كل شيئ – كما قال رسول الله، لكن ما معنى الإحسان؟!

الإحسان هو التجويد، فيجب عليك أن تُجوِّد وأن تُتقِن كل شيئ، فإذا ارتديت أي ملابس عليك أن ترتديها بطريقة جيدة وأن تكوي القيمص جيداً، وإذا أردت أن تُطلِق لحية عليك أن تُهذِّبها وأنت تجعلها جميلة فلا تكون مثل الـ Caricature، وإذا أردت أن تُطلِق شعرك عليك أن تسرِّحه وأن تدهنه، لأن النبي كان يوصي بهذا – والله العظيم – في كل شيئ، وكذلك إذا أردت أن تسوق السيارة عليك أن تلتزم بالضوابط والآدب وأن تسوق أحسن سياقة وأن تُنظِّف سيارتك، فهذا ينطبق على كل شيئ، قال النبي “فإذا قتلتم فأحسِنوا القتلة”، وضرب أمثالاُ بشيئين عجيبين جداً، فقال لك إذا أردت أن تُجهِز على عدوك الكافر في سوح المعارك – أي في ساحة المعركة – وتُريد أن تُجهِز عليه عليك أن تفعل هذا بطريقة مُمتازة وأن تُتقِنه، فاقتله قتلة مُمتازة ورحيمة وفيها مظهر حضاري، فلا يُوجَد  تمثيل أو في تجديع أو تقطيع أبداً حتى ولو كانت قتلة عدو كافر، وأحسن ميتة الآن – مثلاً – هى أن تُعطيه رصاصة في الرأس دون أن يراك بدون أي انتقام وينتهي كل شيئ، ثم قال النبي “وإذا ذبحتم – كأن تذبح دجاجةً أو خروفاً أو جملاً أو غير ذلك – فأحسِنوا الذبحة، وليُحِد أحدكم شفرته وليُرِح ذبحته”، فما هذا الدين العظيم؟!

ولذلك – والله – أشعر بالأسى كما تشعرون وأشعر بالحزن كما تشعرون وتشعرن الآن بشعوراً عميقاً يُفيد بأننا نكاد نكون برءاء من ديننا – والله العظيم – لأننا لم نستبق منه إلا الشعائر والطقوس والزخارف والعنوانات، فتركنا جوهره وتركنا لبه وتركنا حقائقه وأخذنا بعرضياته وتركنا ذاتياته، فنسأل الله أن يُعيدنا إليه عوداً حميداً وأن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل إنه ولي ذلك والقادر عليه.  

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

هناك نُقطتان قبل أن نُغادِر هذا المقام الكريم:

قال الله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۩، فلو صدر المسلم في تعاطيه المُباحات وليس المندوبات لأن المندوبات فيها أجر ولكن حتى المُباحات من أكل وشرب وإتيان أهله وسوى ذلك مُستحضَراً الإذن الإلهي العام فيرى نفسه مُتعبّداً لله  بهذا الإذن فهو مأجورٌ سواء استحضر نيةً خاصة أو لم يستحضر نيةً خاصة، وهذا شيئ عجيب، لكن هكذا قد يعيش المُؤمِن – بإذن الله – المُلتزِم بأمر الله، فحتى في حدود إباحة المُباح قد يعيش في عبادة وقربة مُتصِلة، ثم يأتي يوم القيامة وعنده جبال من الحسنات ليس من أعمال القربات أي بالمعنى الخاص كالصلاة والصوم والصدقة وإنما من المُباحات.

قال النبي “وفي بضع أحدكم صدقة”، علماً بأننا ذكرناه هذا في آخر الخُطبة السابقة، أي أن الرجل يأتي أهله ويُؤجَر أيضاً ولو من غير نية، وهذا شيئ غريب، لكن هذا هو معنى قول النبي “وفي بضع حدكم صدقة”، وهو القائل أيضاً “ما مِن مسلمٍ يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه إنسانٌ أو طيرٌ أو بهيمة إلا كان له به أجر”، وفي رواية “كُتِب له به صدقة”، والنبي لم يقل “يزرع زرعاً أو يغرس غرساً ليأكل منه طيرٌ إو إنسان أو بهيمة”، وإنما قال “يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ إو إنسان أو بهيمة”، فهو ليس عنده هذه النية، لأنه غرس ليغرس وليزرع ولينتفع دنيوياً لكن النبي قال قد يحصل اتفاقاً فيأكل من الزرع طير أو إنسان أو بهيمة – لأن كل مَن غرس وكل مَن زرع لابد أن يأتي طيرٌ أو بهيمة أو بعض بني آدم لكي يأكلوا من زرعه – فيكون له صدقة، وهذا شيئ عجيب،  فهذه مُباحات من المُمكِن أن استثمر بها مالي ومع ذلك أوُجَر فيها إن شاء الله تبارك وتعالى.

النُقطة الثانية هى أن أخي الفاضل المُهندِس هودري – بارك الله فيه – أخبرني أن الشمس – علماً بأنه كتب هذا في كتابه في الجزء الثاني الذي قمنا بتوزيعه هنا – تتعامد على مكة وعلى الكعبة مرتين في السنة، وقال لي – بارك الله فيه – أن المرة الثانية سوف تكون في السادس عشر من شهر يوليو الجاري يوليو، واليوم يُوافِق التاسع من شهر يوليو، أي أن موعد التعامد اقترب ومن المُمكِن أن يكون في الجمعة المُقبِلة تقريباً، وذلك حين تتعامد على الكعبة في مكة المُشرَّفة – شرَّفها الله وصانها – في تمام الساعة الثانية عشرة وسبع وعشرين دقيقة بتوقيت مكة طبعاً المُكرَّمة،  وهذا التوقيت يُوافِق الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة لدينا هنا في النمسا، فلو أتينا في هذه اللحظة ووضعنا شاخصاً – أي عمود أو قلم أو قضيب حديد أو أي شيئ – بشكل عمودي في الأرض فإنه سيُقلي له ظلة أو سيُلقي بظله، وسوف يكون عكس الظل هو اتجاه الكعبة بدقة شديدة جداً، فلا نحتاج لا إلى بوصلة تفقد مغنطتها ولا إلى غير ذلك.

 إذن ضعوا في يوم السادس عشر من الشهر السابع – من المُمكِن أن يكون يوم الجمعة تقريباً – في الساعة الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة قلماً رصاصاً أو عموداً طويلاً أو أي شيئ ثم انظروا إلى الظل في تمام الساعة الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة، لأن عكس الظل هو اتجاه الكعبة، فلو – مثلاً – كان الظل في جهة اليمين فسوف يكون عكسه مُباشَرةً في الجهة الثانية – أي في الشمال – هو مكان الكعبة واتجاه مكة بدقة شديدة، فبارك الله فيه على هذه المعلومة التي يستطيع أن يستفيد منها كل مسلم في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية بالذات، لكن في الجزء الجنوبي لا يُمكِن هذا لوجود أحكام أُخرى.

(9/7/2010)

http://fb.me/Dr.IbrahimAdnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: