سليم الحاج قاسم
سليم الحاج قاسم

إذا كان طروء أيّ تغيير في الإطار العام لمبحثٍ ما، يؤدّي ضرورةً إلى اختلافٍ في المعجم الاِصطلاحي لبعض المدلولات، فإنّ ما يمكن للجمع بين لفظَيْ ” المجتمع المدني” و ” الإسلام ” أن يخلّفه من غموض قد يصل حتّى إلى درجة التناقض، حتّم علينا – في بداية هذه الدراسة النقديّة – إنشاء مدخل مفهوميّ من شأنه تحديد العلاقة القائمة بين هذين المصطلحين داخل منظومة الدّين، من وجهة نظر إسلامية على وجه الخصوص.

إنّ التعريف الغربيّ الأوليّ لِمصطلح ” المجتمع المدني ” يكشف غرابةَ هذا الهيكل الاِجتماعي عن الإسلام سواءً بوصفه ديانة أو منظومة سياسيّة. تعرّف منظمة الأمم المتحدة للتربية و العلم و الثقافة ( اليونسكو ) المجتمع المدني على أنه: “التنظيم الذاتي للمجتمع خارج الإطار الحكومي و التجاري” [1] أي أنّه عموم الهيئات أو المجموعات المنظّمة المستقلّة تماما عن الدولة. غير أنّ هذا التعريف يخفي بين طيّاته مسألة غاية في الأهميّة، تمثّل نقطة الاِرتكاز في المفهوم الغربي. إنّ تأكيد جلّ التعريفات المعتمدة في الغرب على استقلالية الهياكل المكوّنة للمجتمع المدني عن الدولة، ليس – في واقع الحال- سوى إشارة إلى أنّ هذه الهياكل تمثّل قوّة مقابلةً لسلطة الحكومة، أي معارضة لها، تسعى إلى إحلال نوع من ” التوازن السلطوي ” داخل البلاد، يمنع الحاكم أو مجموعة الحاكمين من الاِنفراد المطلق بالحكم، و يضمن للمحكوم إمكانيةً للمشاركة في تحديد مصائره. غير أنّه – و بالرغم من دقّة التعريف – تستحيل مجموعة من الأسئلة الإشكالية قائمة بين حنايا هذا المبحث. ألا يبقى المجتمع المدني الذي عُرّف باستقلاليته عن الدولة، رهين النموذج السياسيّ المتّبع في بلد ما ؟ هل يبقى هذا التعريف ساري المفعول في ظلّ دولة ثيوقراطيّة ؟ و فيما تكمن حدود و آفاق اشتغال المجتمع المدني تحت دولة الإسلام ؟

نعتبرُ أوّلا، أنّ المرجعيّة الأولى عند التطرّق لبحث مماثلٍ هي النصوص و الوقائع التاريخية الثابتة خاصّة في عهد النبيّ صلى الله عليه و سلّم، في المدينة. إنّ مبدأ الحاكميّة الإلهيّة في الإسلام، يخرج طاعة الحاكم من دائرة السياسة، إلى الرؤية الدينيّة، شريطة امتثال هذا الأخير بدوره للمنهاج الرّباني الذي تحدّده النصوص أو الممارسة النبويّة التطبيقية لها.

ذلك أنّ توفّر أولى شروط التعامل بين الحاكم و المحكوم، و المتعلّق أساسا بالطرف الأوّل، و هو الحكم بالعدل كما تبيّن الآية الكريمة: « إنّ الله يأمركم أن تُؤدّوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.[2] »، يفرض توفّر ثاني هذه الشروط، و المتعلّق بالطرف الثاني، و هو الطاعة كما تبيّن الآية: « يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرّسول و أولي الأمر منكم.[3] ». من مثل هذا المنطلقِ، يظلّ وجود مجتمع مدنيّ ما، رهين تواجد مجموعات منظّمة تربط بين عناصرها أواصر مغايرة للعلاقة التي تربط بين أفراد المجتمع. أواصر إضافيّة تجعل من هذا الهيكل قوّة من شأنها الضغط على سلطة الدولة و حدّها. بناء عليه، يصعب تصوّر مجتمع مدنيٍّ – حسب المفهوم الغربيّ- في الإسلام، ذلك أنّ الاِنتماء داخل الدولة الإسلامية لا يكون سوى للدّين و للهياكل التي تدخل تحت إطاره، فلا تتحوّل بأيّ شكل من الأشكال إلى قوّة مقابلة للدولة، من ذلك الأسرة، أو العشيرة. لقد بقي الاِنتماء، كما يقول الدكتور صبري محمّد خليل ” اِنتماءً تكوينيّا لا تكليفيّا ” [4].

أمّا لو ساءلْنا المبحث من داخل منظومة العلاقات الإسلاميّة ذاتها، فاِنّه يمكن استشفاف كينونة مجتمع مدنيّ مسلم له خصوصيّاته و مقوّماته المغايرة لتلك التي تخصّ الغرب. إنّ أوّل و أهمّ الفروق بين العالَميْن ( الغربي و الإسلامي )، هو التوجّه العام لـِ” سلطة ” المجتمع المدني. هذه الأخيرة، ليست موجّهة، في الإسلام، ضدّ سلطة الحكومة، كما لا تسعى لخلق توازن سياسيِّ ما، و لكنّها سلطة موازية للدولة، شبه مساندة لها. و تتمثّل مهامّها الأساسيّة – كما يبيّن مارتين فيلاجوس   – في توفير الخدمات العموميّة المعيشيّة و تنظيم جزء من العلاقات الاِجتماعيّة [5]. بذلك ينتفي أيّ شكلِ من أشكال التصادم بين المجتمع المدني و الدولة، صفة من أهم صفات الدولة اللاهوتيّة. كما يرجع هذا التباين ألمفهومي، إلى مبدأين أساسيّين: أوّلهما سعي الإسلام لجعل المسلمين كتلة واحدة لا يفرّق بين عناصرها أيّ انتماء، من ذلك قوله تعالى: « و أن هذه أمّتكم أمّة واحدة و أنا ربكم فاتّقون »[6] ،و ثانيهما، تركيزه – بعد فكرة الاِنتماء إلى الدين –  على التجمّع التكوينيِّ. من ذلك أن موسى عليه السلام اشترط القرابة التكوينيّة في الشخص الذي سيسانده في مواجهة فرعون، ألا وهي قرابة الأهليّة التي خصّصها و عمّقها أكثر بحصرها في واحدة من أمْتَن العلاقات التكوينيّة، و هي الأخوّة: « واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري »[7]. هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية، فقد اعتمد الإسلام في تكوينه للاِنتماءات، من غير الخروج عن البوتقة العامة ( الدين ) و دون اللجوء إلى معارضتها، على مبدأٍ أغفله التوجّه الغربيّ و هو مبدأ ” وحدة المهمّة “. لقد راهن الإسلام على الفعل المشترك بين مجموعة معيّنه من الأفراد، لخلق مجموعات منظّمة تربط بين عناصرها علاقة جديدة إضافة إلى العلاقة الدينيّة، ألا وهي الاِشتراك في المهمّة.

تجد ” نظريّة ” وحدة المهمّة مرجعيّتها في القرآن ذاته، إذ يقول عز و جلّ: « فلوْلا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين و لِينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون »[8]. و قوله:« و لْتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون »[9]. إنّ استخدام ” من ” التبعيضيّة في كلتا الآيتينِ يُميّز و يُخرج فريقا من المسلمين من صلب الجماعة الشاملة المنطوية تحت راية الدّين لِيُخصّصهم، ثم يعلّل القرآن هذا التخصيص بحجّة المهمّة المشتركة كالتفقّه في الدّين أو الدعوة إلى الخير . اِنّه يجمع بين أفراد هذين الفرقتين بوحدة العمل. اِنّه يشكّل منهم مجموعات مدنية ( لِأنّها متميّزة عن الدولة ) لا تخرج عن إطار الدين و لكن تتميّز عنه. إنّ هذه المجموعات تكوّن المجتمع المدنيّ المسلم. هنا، تلتقي هذه النظريّة الإسلامية كما تطرّقنا إليها مع  النظريّة الهيجليّة ( نسبة الى “هيجل” ) في المجتمع المدني. ذلك أن هيجل قد تناول مفهوم  المجتمع المدني استنادا إلى منهجه المثالي الجدلي القائم على اعتبار التاريخ مسرحا لتطور الفكر الإنسانيّ المطلق  عبر مراحل ، و اعتبار الدولة أرقي تجسيد لهذا الفكر [10]. لذلك فاٍنّ الدولة تستوعب المجتمع المدني في داخلها كنفيٍ جدليٍّ لها ، وكمرحلة من مراحل تطورها. إنّ وجه المقاربة بين النظريّتين يكمن أوّلا في أنّ هيجل نفى البعد التصادميّ مع الدولة و اعتبر أن المجتمع المدني هو بمثابة نتاج لها. و ثانيا، في أنّ الإسلام قد راهن هو الآخر على نوعيّة مجتمع تسعى إلى الاِشتغال في الخير بمعزل عن الدولة و دون الرجوع لها بالنّظر. خاصّة و أنّ الدعوة إلى ذلك قد خرجت من دائرة التخصيص، إلى الأمة كاملة: « كنتم خير أمّة أُخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله »[11]. أليس في ذلك تعميم لسلطة المجتمع المدني؟ أليس هذا شكلا من أشكال التأسيس ” للمجتمع المدنيّ – الدولة “. المجتمع المدنيّ الذي يمثّل المرحلة الأكثر رقيّا في التطوّر الفكريّ الإنسانيّ، الأكثر نضجا من الدولة ذاتها.

للختم بإمكانيّة نقدٍ لما جاء في الفكر الغربيّ بخصوص هذا الهيكل الذي صار رمزا من رموز الحداثة السياسيّة، تجدر الإشارة الى أنّ مبدأ الاِستقلاليّة الذي سبق ذكره لا يخرج – في حقيقة الحال – من دائرة النسبيّة، ذلك أنّ معارضته للدولة ليست سوى شكلِ من أشكال المنافسة السياسيّة خاصة و أن ذلك لا يتمّ سوى في نطاق عام من الحرّيات و إمكانات التحرّك السياسيّ . إمكانات تحدّدها الدولة ذاتها. أي أنّه يمكن لهذا المجتمع أن يمثّل هو ذاته، إمّا بطريقة مباشرة إمّا غير مباشرة، نتاجا لما سطّرته الدولة من سياسة داخليّة عامة. و بذلك يتحوّل هذا المجتمع المدنيّ الى “مجتمع الدولة المدني”، أي أنه يضحي مجرّد تَمظْهُرٍ مغاير لها، كما يحصل في العديد من الدول المتخلّفة سياسيّا.     

المراجع: 

[1] – اليونسكو – المؤتمر العالمي للتعليم ، داكار 2002 – مداخلة السيدة مونيك فويلو ، رئيسة لجنة الجمعيات المستقلّة.

[2] – النساء 58.                          

[3]- النساء 59.

[4]- مفهوم المجتمع المدني بين الفلسفة الغربية و الفكر الإسلامي – الدكتور صبري محمّد خليل.

[5] – الإسلام و المجتمع المدني – مارتين فيلاجوس – مؤسسة البحث و الجدل السياسي. 

[6] – المؤمنون 53.                      

[7] – طه 29، 30، 31.                                      

[8] – التوبة 122.

[9] – آل عمران 104 .

 [10] – أنظر كتاب: المجتمع المدني أو الوهم الهلامي – جوزاف اِيفون تاريو – منشورات مكتبة بول ايميل بولي ، جامعة الكيبيك _ كندا.

[11] – آل عمران 110 .

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • أشعر أحيانآ أن المصطلحات و الإصطلاحات تفعل أمرين أحلاهما مر.. فهي تضيق واسعآ و تثير الخلافات، ذلك أن الإصطلاحات خطيرة لدى استعمالها لأن لها مدلولات شمولية و واسعة، فمصطلح واحد بكلمة واحدة يدل على نظام كامل متكامل، مثلآ كلمة ديمقراطية هي كلمة واحدة و لكنها تحمل في طياتها نظام متكامل و مباديء سياسية و اقتصادية و اجتماعية و غيرها.. و كما قال الله تعالى (ولا تقولو راعنا بل قولو انظرنا)، مشيرآ إلى أهمية المصطلحات، لا أشعر بالراحة عند وجود الكثير من المصطلحات الواسعة الدلالات في حوار ما فلا أدري أوافق عليه أم لا، كم أحب استخدام الكلمات أحادية المعاني بسيطة المدلولات. الإسلام هو أسلوب حياة و هو بمثابة عجلة القيادة التي يستخدمها الإنسان لتوجيه مساره، فلا حرام إلا ما حرمه الله و الأصل هو قبول كل ما لم يحرمه الله مهما كان مصدره، فلا أرفض شيئآ لمجرد أنه (غير إسلامي)، لا يوجد ما هو غير إسلامي إلا ما حرمه الله، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، الدولة تسير شئون البلاد الإقتصادية بالإستعانة بالإقتصاديين، و السياسة بالسياسيين و الجفرافيا بالجغرافيين.. و هكذا.. و كل أولئك يعيشون في مجتمع مسلم يديرون دفة أعمالهم و واجباتهم بما أحل الله من القيم، و في المجتمع الواحد هنالك غير المسلمين و لكنهم أيضآ يعيشون في نفس المجتمع و تقود المجتمع قيم تتيح للجميع فرصة الحياة في هذا المجتمع، إن تعارض شيء مع ما أحله الله تأتي الفئة التي تدعو إلى الله لتصحيح المسار.. أرجو أن يتسع صدركم لتعليقي
    و اقبلو الإحترام
    ريما الخطيب
    11-مايو-2016

%d مدونون معجبون بهذه: