إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ۩ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  ۩ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ  ۩ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ۩ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا  ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا  ۩ وقال أيضاً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ  ۩، فعالميةُ القرآن وعالميةُ الرسالة أمرٌ مُقرَّرٌ لدى كل مسلمٍ ومسلمة ولا يُداخِله ارتياب ولا يشوبه شوب شك على أن ثمة شُبهةً كلاسيكية – كما يُقال – دأب نفرٌ من المُستشرِقين على تردادها، ومن أسفٍ في هذه الأيام التي رخص فيها الكلام والتي يختلطُ فيها الحابلُ بالنابل والتي يُرافَع فيها منبر لكل مَن هب ودب – إنها أيام رخص الكلمة – صرنا نرى من بين أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا مَن تروعه البداءات والبداهات، فإذا وقع على شيئٍ من ذلكم لأول مرة حسبه جديداً الجدة كلها فطار به كل مطار وجعل مُنتشياً نشوة المُشاغِب على الحقائق لا نشوة الظافر بها والمُبشِّر بها والداعي إليها يُردِّد مُشاغِباً أن القرآن الكريم من المُحال ومن البعيد أن يكون عالمياً، فكيف يكون عالمياً وهو مُنخرِط تماماً في قضايا شديدة الخصوصية ليست تعني حتى أي واحد من المسلمين فضلاً عن أن تعني غير المسلمين؟ فما شأن المسلم وما شأن غير المسلم بما جرى بين محمد وبين أزواجه؟ هذه مُشاغَبات عائلية ومشاكل عائلية، فهذه قالت شيئاً وهذه نبأت به والنبي يغضب ويُحرِّم على نفسه، فما شأننا بهذا؟ هذه القضايا شديدة الخصوصية وغارقة في الخصوصية – في خصوصية عائلية أسرية – فلماذا يُقيم القرآن منها قصةً ويُنزِّل سورةً بحيالها حول هذه القضية؟ إنها سورة التحريم، كذلكم الخلافات العائلية التي نشبت بين محمد – صلى  الله على محمد، علماً بأننا نذكره الآن بعنوان محمد من باب الحيدة العلمية، فنحن نُقرِّر الشُبهة كما هى وبالتالي لا نقول الرسول أو النبي من باب فقط الحيدة والموضوعية العلمية إن كانت مُمكِنة أصلاً – وبين عمه عبد العزى أبي عتبة بن عبد المطلب المعروف بأبي لهب، فهذه خلافات عائلية لأن الرجل أبى أن يُؤمِن برسالة ابن أخيه وراغمه غير مرة وكذَّبه وحرَّض عليه وألَّب، ويبدو أن النبي غضب فجعل يُغلِظُ له ويُبكِّت عليه ويُسجِّل عليه بأمور تُشَن عليه وعلى زوجه، ويقول بعض هؤلاء “هذا أشبه بما يحدث في حواري العرب اليوم”، كأنه يقول له أنت كذا وزوجتك وأولادك ونساؤك، أي أن هذه تصفية حسابات في مسألة بسيطة جداً جداً جداً ومع ذلك تنزل سورة – سورة المسد – تقول تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩، فما شأننا بأبي لهب هذا؟

هكذا يقولون وهكذا يصوغون هذه الشُبهة، ومن أسفٍ – للمرة الثانية – أن أولئكم النفر من المُستشرِقين الذين أشرت إليهم ونوَّهت بما يُوردونه من شُبهة ومن تشغيب يتكلَّمون بقدرٍ مُتماسِك من الاحترام ويُحاوِلون أن يصوغوا وأن يُفرِغوا شُبهتهم في قالب علمي مُحترَم، أما هؤلاء – وأسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق – الذين هم من أبنائنا ومن إخواننا وبناتنا وأخواتنا فيتحدَّثون بأسلوبٍ وبطريقة لا ينقصها القحة والبذاء والتساخف والتراقع، فيتحدَّثون باستخفاف شديد، وهذا ما يُعرَف حتى في المضمار العلمي بالخفة الفكرية، فالمُفكِّر والباحث والمُناقِش لا يتسم بالخفة ويكون جاداً ورصيناً، إذا كان لديك ثمة شُبهات اطرحها بأدب لكن أن تتحدَّث باستخفاف ورقاعة تؤذي هؤلاء أو أولئكم من الناس خاصة في ما يتعلَّق بمُقدَّسهم فهذا أمر يجفوه الذوق العلمي ويبعد البعد كله عن منطق البحث النزيه، ولكن بدون هذه المُقدِّمات أو من وراء – لأننا قدَّمناها – هذه المُقدِّمات لابد أن نخوض مُستعينين بالله – تبارك وتعالى – وبما مُنحناه من عقلٍ ينبغي أن يكون مُتماسِكاً ومُحترَماً – كما قلنا – في الجواب عن هذه الشُبهات والتشغيبات، ولنبدأ بسورة التحريم، فهذه السورة فيما يرى كبار المُفسِّرين قديماً وحديثاً نزلت على خلفية نزاع أسري بسيط في أسرة رسول الله – العائلة المُصغَّرة – لكن ما هو هذا النزاع؟!

هناك أقوال، وأشهرها اثنان، ما ثبت في الصحيح أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أكل عسلاً عند إحدى أزواجه – أي عند إحدى زوجاته واختُلِفَ فيها هل هى زينب بنت جحش أو أم سلمة أو حفصة بنت عمر – رضى الله عنهن وأرضاهن أجمعين – أو سودة بنت زمعة، لكن الصحيحُ والأصح أنها  زينب بنت جحش رضوان الله تعالى عليها – فتواطأت عائشة وحفصة – رضى الله عنهما – على أن أيتهما دخل النبي أولاً قالت له أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير، والمغافير هو صمغ شجر معروف بالعُرْفُط وهو من أشجار العِضاه – والعِضاه جمع عِضاهة، وهى الشجر الذي يكون له شوك كبيراً كان أو صغيراً – المعروفة في جزيرة العرب، وهذا العِضاه  كانت تحمله أم جميل وتضعه في طريق رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه – بالليل لأنها تطلب أذاه، فهذا العُرْفُط من العِضاه ومن هذا الشجر البري الصحرواي الذي له شوك وله رائحة مُختمِرة، والنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يكره أن يجد منه أحدٌ ريحاً تُكرَه، فكان – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه – أطيب الناس ريحاً وفماً، فإذن اتفقتا وتواطأتا على أن أيتهما دخل عليها أولاً تقول له أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير، فاتفق أن دخل على حفصةَ أولاً فقالت له أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير، فقال بل عسلاً عند فلانة ولن أعود له –  فحرَّمه على نفسه عندما قال لن أعود له، والظاهر أنه آل على نفسه ألا يعود له، أي إلى شربه عند فلانة وليس في العموم، فبعيد جداً ما فهمه الإمام الزمخشري على ثقوب فهمه وحُسن درايته بأساليب القرآن ومغازيه ومراميه فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها وهو صاحب الكشَّاف ولكن للأسف لكل جوادٍ كبوة وهذه من كبوات جار الله رحمة الله تعالى عليه، لأن جار الله محمود الزمخشري في الكشَّاف ظن أن النبي حرَّم هذا حتى على أمته، وهذا الكلام باطل ولم يقل به أحد من المُفسِّرين، فهذا من كبوات الزمخشري رحمة الله عليه وغفر الله لنا وله، على كل حال هو حرَّمه على نفسه عند فلانة فقال – واكتمي هذا الأمر، فالنبي استكتمها وأخبرها ألا تُخبِر عائشة لأنه كان لا يُحِب أن يُغضِب عائشة لقربها من قلبه – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – وشدة غيرتها – أي لما يعلم من شدة غيرتها – لكن للأسف أخبرت حفصة عائشة، فالنبي استكتمها وأسر إليها بهذا الحديث لكنها للأسف خانت أمانة رسول الله لأن هذه خيانة والنبي علَّم  – علَّمهن وعلَّمنا جميعاً – أنه إذا تحدَّث أو إذا حدَّث الرجل أخاه بحديثٍ فالتفت فهى أمانة، وهذا دون أن يستحلفك ودون أن يستكمك ودون أن يستوثقك، فقط مُجرَّد أنه يلتفت افهم أن هذه أمانة فممنوع أن تُخبِر بها أحداً من الناس، ولكن أين هذه الآداب؟ هذه آداب المُتروحِنين وآداب عباد الله الخيرة – اللهم اجعلنا منهم – وآداب الرجال والنساء أيضاً ذوو الشخصيات وذوات الشخصيات القوية الرصينة، وهذه هى التربية الحقيقية والبطولة فينتهي كل شيئ دون أن يستحلفك أحد، ثم أمة محمد كلها تدري من غد أو بعد ساعة للأسف الشديد، وعلى كل حال هى أخبرت السيدة عائشة، فهذه هى خيانة حفصة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – وهى أنها أخبرت بسر رسول الله أنه أكل عند زينب، فقالت لعائشة هذا لأنها هى في حزب عائشة طبعاً ضد حزب أم سلمة ومَن في حزب أم سلمة رضيَ الله عنهن وأرضاهن جمعاوات، علماً بأن هذا ثابت في الصحيح!

في مُدونة ابن القاسم – رحمة الله تعالى عليه – يروي عن الإمام مالك – رحمة الله تعالى عليه – بسنده عن زيد بن أسلم – وواضح أن الخبر مُرسَل فزيد بن أسلم ليس من الصحابة ومن التابعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – حرَّم  أم إبراهيم مارية  – مارية القبطية رضوان الله عليها – على نفسه وقال والله لا أقربها ولا أطؤها، فأنزل الله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ  ۩، وتفصيل هذه الحكاية وتفصيل هذا الخبر المُقتضَب عند الإمام أبي الحسن الدارقطني – رحمة الله تعالى عليه – بإسناده عن عبد الله بن عباسٍ عن عمر بن الخطاب – رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين – حيث قال غابت حفصة – أي تغيّبت – في بيت أبيها فدخل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – على مارية في بيت حفصة – أي أتى أهله ولكن في بيت حفصة وليس في بيت مارية وهذا من حقه على كل حال – فجاءت حفصة فوجدته فقالت له يا رسول الله ما فعلت هذا بي من بين نسائك إلا لهواني عليك، أي لماذا أنا يحدث معي هذا؟ لماذا في بيتي؟ هذا يؤذيني ويؤذي مشاعري، وطبعاً هى تتأذى كامرأة، فقال لها عليه الصلاة وأفضل السلام هى حرامٌ علىّ إن قربتها، أي لن أقربها بعد اليوم، وإلا تُصبِح مُحرَّمة علىّ واكتمي علىّ ولا تُخبري عائشة، فاخبرتها فأنزل الله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ  ۩، وغضب النبي لأنها استكتمها فخانتِ أمانته وسره، فآل على نفسه – من الألية وهى الحلف، قال الله وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ ۩، فآل هنا بمعنى حلف – وحلف وأقسم ألا يقرب أهله شهراً كاملاً، وهذه إحدى الروايات المشهورة في حلفه – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا يقرب أهله، وفي الصحيح أنه شاع بين الناس أنه طلَّق أزواجه وهذا غير صحيح، لكن هو في الحقيقة حلف ألا يقربهن شهراً وهذا ليس من الإلاء، على كل حال هذا المشهور وهناك فروقات دقيقة، لكن هو حلف فنزلت السورة، أي سورة التحريم، فهذه هى الخلفية لهذه السورة – أي التي نزلت عليها هذه السورةُ – الكريمة، لكن للأسف هذا النفر من المُستشرِقين ومَن لف لفهم يزعمون عكس ذلك لأنهم لا يُؤمِنون، وكيف لهم أن يُؤمِنوا ولم يُرزَقوا التوفيق وحُسن النظر واللطف الإلهي بأن هذا القرآن من عند الله؟ لا يُمكِن أن يكون من عند رسول الله، لكن هم لا يحذقون العربية كحال مُعظم العرب اليوم لا يحذقون العربية ولا يُفرِّقون، فمن المُحال أن يُفرِّقوا على سنن أهل البيان والفصاحة والبلاغة بين النظم الإلهي وبين نظم بشري، بل ربما راق في أعينهم ولأذواقهم بعض الشعر وبعض السجع والنثر أكثر مما يروق القرآن الكريم، وهذا لفساد الذائقة وغلبت الشقاوة اللغوية عليهم، فكيف يفهم هذا المُستشرِقون؟ هم يزعمون أنه من نظم محمد ومن تأليف محمد، فهو يتخذه ذريعةً ليستجيب وليلبي حاجاته النفسية والاجتماعية، فإذا وقع في مأزق يكون حله هو أن تنزل آيات لأن الآيات تُعطيه الحل مُباشَرة أمام الناس ويدّعي أن الله يقول هذا، فهكذا يفهم المُستشرِقون ومن ثم سوف لنعرض بكلمة على سبيل العجل للجواب عن هذا التشبيه الباطل الزائف:

أولاً لم يدر هؤلاء المُشترِقون – لأن درايتهم ضئيلة ومُتواضِعة – بتفاصيل تراثنا الإسلامي، لا يدرون – وهذا تقريباً يتواتر في كل هذه الأحداث وهذا شيئ غريب – أن هذه الآيات تنزل دائماً في كل حالة بعد أن تكون المُشكِلة قد حُلَت، وهذه هى الحكمة الإلهية، بمعنى أن سورة التحريم هى سورة مُتأخِّرة نزولاً، والراجح أنها نزلت بعد المائدة، والمائدة من أواخر السور نزولاً – سورة العقود – فلماذا نزلت بعد المائدة؟لقوله عز من قائل قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ  ۩، وتحلة الأيمان مُقرَّة في سورة المائدة، قال فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، فالأظهر أن سورة التحريم نزلت بعد المائدة – والله تبارك وتعالى أعلم – لذا هى مُتأخِّرة نزولاً، وعلى كل حال لا يعلم هؤلاء ومَن لف لفهم وتقيل طريقتهم أن سورة التحريم نزلت بعد أن انقضى الشهر الذي آل النبي فيه على نفسه قربان أهله، فقد انقضى الشهر وبالتالي هو لا يُريد حلاً، وإنما جاءت السورة لكي تُسجِّل عتباً إلهياً واضحاً وتُقرِّر جُملة مباديء لا يحتاجها النبي فقط بل تحتاجها الأمة ويحتاجها البشر، فاليوم الأمة تحتاجها أيضاً حاجةً شديدة، لكن كيف هذا؟!

أول شيئ لو كانت سورة التحريم من إفك محمد ومن نظمه – صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيرا – لكان ينبغي ألا تُستهَل بما استُهِلَت به، فكان ينبغي أن تُحذَف هذه الآية الأولى لأن الحل يكمن في الآية الثانية والتي تقول قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ بمعنى أن الله يقول له يا أيها النبي إن فرضنا لك تحلة يمينك، فأنت حلفت ولكن نحن نقول لك تحلَل بدون أي مُشكِلة، لكن النبي لم يفعل هذا لأن هذا ليس من كلامه، هذا كلام رب النبي الذي قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ  – هذا عتبٌ شديد واستهلال مُخيف – تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ  وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، وذكر المغفرة والرحمة هنا مُشعِر بماذا؟بمُقارَفة ما لا يليق،
وطبعاً لن نفتح الآن مبحثاً لعصمة النبوة في القرآن الكريم  لأن اعتقادي – علماً بأنني نوَّهت بهذا قبل سنين – أن عصمة الأنبياء قرآنياً – العصمة القرآنية – غير العصمة المُقرَّرة في كتب علم الكلام، وكلما أردت أن أُقنِع نفسي بغير هذا أجد البون واسعاً وبعيداً بين هذا وهذا، فيبدو أن العلماء أصروا على وضع نظرية ليست تلتئم بما في كتاب الله من عصمة الأنبياء، وهذه مسألة أخرى لا أريد أن أشغلكم بها اليوم، لكن على كل حال الله يقول له وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ كما قال له في النساء وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، فقوله وَاسْتَغْفِرِ ۩ مُشعِر بشكل واضح بمُقارَفة بعض ما لا يليق ، إذن لا يجوز لمَن؟ ليس لي أو لكَ ،وليس للشافعي ولأبي حنيفة وجعفر الصادق وزيد وإنما للنبي ذاته  – صلى الله على محمد وآل محمد – وللرسول نفسه عينه، لا يجوز له أن يُحرِّم – ليس على أمته بل على نفسه أيضاً – شيئاً أحله الله لأن التشريع من حق رب العالمين وليس من حق الأنبياء، فالنبي لا يُسمّى مُشرِعاً إلا على جهة المجاز، فيُقال عنه المُشرِّع – صلى الله عليه وسلم – وصاحب الشرع وصاحب الشريعة  مجازاً، وإلا هو مأمورٌ بما أُمِرنا به في الجُملة ، فهو مُبلِّغ تشريع وناقل تشريع عن رب العالمين، تقول الآية الكريمة أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ  ۩، لأنه الخالق – لا إله إلا هو – فله أن يأمر وينهى، وليس لأحد أن يُشرِّع في هذه القضايا من لدن نفسه، فمَن أنت لكي تفعل هذا ولماذا؟ كيف لبشر أن يُشرِّع لبشر؟ هذا لا يجوز، ولكن رب البشر يُشرِّع للبشر، فليس هذا حتى لمحمد، ومن هنا هذا العتب وهذه اللهجة بادية الشدة، قال الله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ  ۩- كان النبي في غنية عن هذا لو أنه هو الذي نظم القرآن، وإلا لماذا يقول هذا؟ فإذن هذه الآية موضعها بالذات في استهلال السورة وفي صدر السورة وفي مطلع السورة في حد ذاته رسالة واضحة لكل مَن عقل وأنصف أن هذه السورة ليست من وضع محمد، فمُحال أن تكون من وضع محمد –  تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩.

الذين يُتابِعون ربما اليوم بعض البرامج المشهورة عالمياً مثل برنامج الأمريكية أوبرا Oprah الأشهر عالمياً يظنون أن حديث المشاهير وحديث العلية من القوم عن مشاكلهم  بل عن فضائحهم وعن مخازيهم وعن حماقاتهم كان أيضاً أمراً مأنوساً على نحوٍ مثل هذا أو قريبٍ منه أيام رسول الله وهذا غير صحيح، فهذا الظن في غير موضعه لأن العربي يأنف جداً من أن يطلع الناس على خصوصياته العائلية وخاصة ما يتعلَّق بعلاقته بزوجه وأهله، يأنف من هذا جداً ولذلك مثل هذه السورة مُحرِجة جداً للنبي، تماماً كما استشعر الحرج في قضية زيد وزينب حتى عتب الله عليه بعتاباً شديداً لا يقل عن هذا شدة فقال له وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ ۩، فهذا مُحرِج جداً جداً لأن ليس من شأن العربي – كما نقول بالعامية اليوم – أن ينشر غسيله فيقول حدث معي ومع زوجتي،  هذا من شأن حمقى الناس اليوم عرباً وغير عرب، لكن بعض العرب والمسلمين هكذا حمقى، يجلس الواحد منهم وهو يفحج رجليه ثم يتحدَّث عن مشاكله مع زوجته، وبالتالي نحن نقول له أنت أحمق، لا تُحدِّث الناس بهذه الخصوصيات واستر على نفسك، هذه خصوصيات، فما علاقة الناس بها؟ أو هى الحمقاء التي تخرج تنشر غسيلها وبالتالي الناس يعرفون دقائق ما يجرى في البيت المستور بين الأربعة جدران، هذا لا يجوز، ولذلك روى أبو داود وغير أبي داود – رحمة الله تعالى عليه – قول النبي “لا يُسأل الرجل فيما ضرب أهله”، فإذا حصلت مُشكِلة بسيطة والرجل ربما مد يده على أهله لا ينبغي أن نسأل أو أن نتدخل فنقول لماذا ضربت أهلك، ما علاقتنا بهذه الخصوصيات ونحن لسنا قضاة؟ إذا تظلَّمت هى بالضرر وادّعت الضرر – أنه وقع عليه ضرر – فالآن لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ ۩، فتذكر هذا للقاضي ولكن لا تذكره لي أو لك أو للعالمين على قارعة الطريق.

فإذن ربما يتأثَّر بعض هؤلاء الناس بأمثال برامج  أوبرا Oprah وبالتالي لابد أن نقول أن هذا لم يكن مأنوساً ولم يكن معروفاً أيام رسول الله، فالعربي يأنف الأنف كله من هذا، ولكن هذا ليس قرآناً من وضع رجل عربي إسمه محمد، هذا قرآن رب العالمين ورسالة للعالمين وتعليم لمحمد ثم لمَن وراء محمد ومَن بلغ، أي ومَن بلغه هذا الكتاب.

إذن هذا أول درس، وهو درس مُهِم جداً جداً جداً، وطبعاً هناك فرقٌ كبير بين أن تُصاغ وأن تُفرَغ المباديء والقيم والمُقرَّرات في شكل مُجرَّد مثل المواد قانونية على هيئة فقرة – Paragraph – مُرقَّمة وبين أن تُخرَج وتُفرَغ في هذا الشكل الدرامي، لأن هذه قصة تُشعِرك أنك أمام حكاية ومشاهد تمثيلية واضحة، حيث وقعت مشاكل بين النبي وزوجته وقال لها كذا لكنها بلَّغت كذا، وهكذا يُوجَد هنا صور تروع الإنسان وتُدغدِغ خياله وأيضاً تُرهِف فهمه وانتباهه وتُحدِث له نوع من اليقظة الفكرية والذهنية، وهذا الشيئ مُهِم جداً، وهذا بعض سر إعجاز القرآن وروعته
يا إخواني، فهذا ليس كتاباً علمياً أو كتاباً قانونياً يحتوي على مواد مُرقَّمة، لكنه  يصوغ هاته الأمور هذا الصوغ الدرامي عن عمد وعن تقصد فلا تكاد تُنسى بعد ذلك وتُؤثِّر باعتبار آخر، فما هو؟! 

حين يُجرَّد من هذه الأشياء مواد قانونية بحيالها وتبقى هكذا جافة غير رطيبة يكون تأثيرها محدوداً جداً في النفس بخلاف ما إذا ارتبطت بمثل هذه الحكاية أو الأقصوصة المُتعلِّقة بسيد البشر وليست بشخص عادي، ولذا أنا أقول لكم كل شخص يعشق النبل ويعشق العظمة والتبريز والعبقرية والإبداع  يُحِب أن يعرف دقائق حيوات هؤلاء العباقرة المُبدِعين، فلا يوجد عبقري ولا يوجد مُبرِّز إلا وهو مأخوذ وكلف بمُطالَعة سير العباقرة، هذا مُستحيل، لذلك هو يُحِب أن يُطالِع سير العباقرة ومجرياتهم والذي اتفق لهم سواء في أسرهم أو مع المُجتمَع أو مع أنفسهم واعترافاتهم وما إلى ذلك، هو يُحِب هذا جداً ويحدوه شيئ مُشابِه أنه هو أيضاً عبقري، لذلك الإنسان العاشق للنبل وللعظمة وللتبريز يهتم بهذا، وطبعاً مجريات ومُتفقات العباقرة غير مجريات الطغام العامة من الناس، لأنه لا يعنينا ماذا اتفق لإنسان عادي، بل بالعكس هذا يسوءنا جداً ويُثقِل علينا، فلا تتحدَّث لي عن تفاصيل حياتك لأن هذا لا يعنيني، ولكن حين تكون عبقرياً وتكون شخصية عامة اهتم بهذا، فهنا يُوجَد درس وحكمة من وراء كل شيئ لأن تفاعل العبقري وتفاعل الشخص النبيل الكبير مع الأحداث والوقائع مثل تفاعله مع الأفكار والمباديء حيث أنه يأتي دائماً وله طابع خاص يُتعلَّم منه، والقضية الآن تتعلَّق بسيد البشر عليه الصلاة وأفضل السلام.

لعلي حدَّثتكم مرة عن قصة شاعر الهند وفيلسوفها الكبير أيضاً في القرن العشرين المُنصرِم رابندراناث طاغور  Rabindranath Tagore – من أعظم الشخصيات الفكرية على الإطلاق في القرن المُنصرِم – الذي أجاب عن سؤال يتعلَّق بالديانة الهندوسية ويُفيد بأن رغم تسامحها المُطلَق إلا أنها لم تصل للعالمية، وهذا صحيح، فمن ناحية مبدئية نظرية أكثر دين مُتسامِح مع كل الأديان والمذاهب والطوائف والأفكار والفلسفات هو الدين الهندوسي، فالديانة الهندوسية ترى أن جميع هذه الأشياء وجميع الأفكار والأديان والعقائد والمِلل والنِحل هى طرق مُختلِفة إلى غاية واحدة وهى الحقيقة المُطلَقة لأن عندها تسامح غير طبيعي، ومع ذلك الديانة الهندوسية خلافاً للبوذية – والبوذية لا تُقارَن بها بهذا الاعتبار – لم تُصب حظاً من النجاح خارج حدودها الجغرافية، فهى ليست ديانة تبشيرية مع أنها تقبل بهذا دون أي مُشكِلة، ولكن هذا لم يحدث ولم يتأثَّر بها العالمون خارج شبه القارة الهندية، فلماذا إذن؟ وهذا السؤال الذي سُئله هذا الفيلسوف والشاعر الكبير – طاغور Tagore – يُعتبَر فعلاً سؤالاً ذكياً جداً جداً جداً، علماً بأن العلَّامة سليمان الندوي – رحمة الله تعالى عليه – صاحب الكتاب الأروع في سيرة رسول الله أو الأكثر تحقيقاً كان في سفينة وكان حاضراً وقت الحوار ولذا هو الذي نقله، حيث أنه قال “أنا كنت حاضراً واستمعت إلى هذا السؤال المُذهِل الكبير، وأجاب الفيلسوف الشاعر من فوره قائلاً لأن هذه الديانات تفتقر إلى شخصيات من لحم ودم حية تجسَّدت فيها مبادؤها  كما حدث في الإسلام والمسيحية مثلاً”، ومحمد فعل هذا في الإسلام، قال الله لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً  ۩، إذن محمد مُهِم جداً، ولذلك سيرة رسول الله – سيرة محمد – وخطوطها العريضة وتفاصيل تفاصيلها موجودة في كتاب الله، ولذلك أكثر من عالم أكَّدوا على هذا، فمثلاً محمد عزت دروزة الفلسطيني و جعفر السبحاني الشيعي الإمامي الشهير والعلَّامة الكبير وغير هؤلاء استخرجوا سيرة شبه مُتكامِلة من كتاب الله وألَّفوا فيها مُجلَّدات، فخرجوا علينا بسيرة لرسول الله من كتاب الله ومن غير روايات وأخبار أخرى وإنما من كتاب الله فقط، علماً بأن القرآن يتعمَّد هذا ويتعمَّد ألا يُفرِد الأحداث السياسية والعسكرية فقط بالتسجيل بل الأحداث العائلية والشخصية والمُغرِقة في الخصوصية حتى يُقيم لنا قدوة حقيقية، فنحن كمسلمين نجد ونتلمَّس  آثار وفوائد وثمار هذه القدوة وهذه الأسوة دائماً ويقوم لنا عزاءٌ فنقول “رسول الله حدث هذا معه، رسول الله غاضبه أزواجه أو بعض أزواجه، فنحن أحرى أن نُغاضَب، هذا شيئ طبيعي وبالتالي سوف نتحمَّله”، فإذن نحن نستفيد من هذا، وهذا درسٌ ثانٍ.

إذن حتى نُحوصِل ونُركِّز علينا أن ننتبه إلى أن هذه السورة لم تنزل قبل أن ينقضي الشهر ذريعةً لكي تكون استجابةً لحاجات رسول الله النفسية أبداً، ولكن متى نزلت؟ بعد أن انقضى الشهر، وهذا يُبطِل ظن هؤلاء وتخرّص هؤلاء المُتخرِّصين، تماماً مثلما اتفق في قضية زيد وزينب رضى الله تعالى عنهما، فمتى نزلت الآيات المُختَّصة بالقضية وبالحكاية من سورة الأحزاب؟ بعد أن طلَّق زيد زينب، ثم أمر رب العالمين مُصطفاه أن يتزوَّج زينب، ومَن يقرأ الآيات ويقرأ الأحاديث يعلم هذا علم اليقين، قال الله فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا  ۩، أي أن القضية كانت مُنتهية، فلم يتنزَّل القرآن والقضية على النار – كما نقول – لكي يوحي إلى زيد “يا زيد طلِّق زوجتك لأن الله يُريدني أن أتزوجها” وبالتالي يُقال “هذا تأليف محمد ليُلبي حاجته النفسية”، فهذا لم يحدث أبداً، فزيد طلَّق ثم نزلت الآية، علماً بأن النبي كان إلى آخر لحظة يقول له “لا تُطلِّق زوجك”، وهذا ذُكِرَ في الآية الكريمة التي تقول وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ۩ وإلى آخره، فإذن الآية تقول أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ۩، فلماذا؟ لأن النبي يشعر بحرج ولا يُريد هذا، ولكن الله أراد أمراً آخر غير ما أراد النبي، وعتب عليه لأنه أرجأ الأمر وكتمه بين أضالعه الشريفة عليه الصلاة وأفضل السلام.

إذن متى نزلت آيات زيد وزينب؟ بعد أن فُرِغَ من الأمر، فإذن هذا تكذيبٌ أيضاً للمُستشرِقين وتكذيبٌ لهؤلاء المُتقوِلين الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتكلَّمون لا عن علمٍ بل عن خرصٍ وتظنٍ وعن جهل وتقحم، فلابد أن نكون فاهمين لهذه الأشياء!

نعود إلى دروس سورة التحريم وهى دروس كثيرة، لكن من أبلغ هذه الدروس – هذا الدرس على الأمة المحمدية أن تُبديء النظر فيه وُتعيده – الدرس الذي لابد أن تحذقه الأمة جيداً، وهو الدرس الذي يقول أن المسئولية الفردية أمام الله مُقرَّرة ولا نزاع في هذا، قال الله كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ۩ وقال أيضاً كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، وهذا ينطبق على الكل، فحتى زوجة النبي وحتى ابنه وحتى ابنته من صلبه مسئولة عن نفسها، فلن يُغني عنها من الله أن أباها النبي إن أساءت، قال رسول الله “يا فاطمة بنت محمد اعملي لنفسك، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً”، وقلنا لكم مرة وأنتم على ذُكرِ من هذا وتعلمونه جميعاً وجمعاوات أن القرآن يتحدَّث عن نبيٍ وأبيه ولم ولن ينفع أباه، وهو مَن؟ آزر أبو إبراهيم، لأنه كفر وانتهى كل شيئ ومن ثم ذهب في نار جهنم وكان من الأشقياء، وهذا شيئ عجيب، والقرآن يتحدث أيضاً – عن نبيٍ وعمه – والعم صنو الأب – ومع ذلك لن ينفعه، والمقصود بالعم هنا هو أبو لهب، ولنا الآن جولة عن أبي لهب في الجزء الثاني من الخُطبة وليس في الخُطبة الثانية وإنما في الجزء الثاني، تقول الآية الكريمة  مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ۩ وما نسب أيضاً، فحتى نسبه لن يُغني عنه من الله شيئاً، فهو مضروبٌ مثلاً وبئس المثل في كتاب الله، فهذا الشقي وهو عم النبي وأخو أبيه وشقيق أبيه أصبح مضرباً للمثل، وبالتالي لن ينفعه أن عنده صلة نسب مع النبي، والقرآن أيضاً يتحدَّث عن نبيٍ وابنه الصلبي – الذي خرج من صلبه – وهو نوح وابنه، والله يقول لنوح عن ابنه فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۩، فلا شفاعة في الكفار حتى ولو لابني إن كافراً، انتهى كل شيئ لأن المسئولية فردية، وكذلك تحدَّث القرآن عن نبيٍ وأزواجه أو عن أنبياء وأزواجهم، مثل حديثه عن نوح وزوجه وعن لوط وزوجه، وبهما ضُرِبَ المثل في كتاب الله في سورة التحريم، قال الله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا  فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا لم يُغن نوح شيخ الأنبياء ولا لوط عليهما السلام – مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَستدخل زوجتا نبيين النار – مَعَ الدَّاخِلِينَ ۩،  فلن تستفيدا شيئاً من كونهما من أقرب الناسِ عُلقةً ولُحمةً بهذين النبيين الكريمين، فهذه زوجة نبي ولن ينفعها هذا لأن لا يُوجَد عند الله أي اعتبار لزوجة أو لابن أو لأب أو لعم أو لأم لأن المسئولية فردية وهذا شيئ عظيم، فهذا هو الوضوح الأخلاقي في كتاب الله وهذا هو العدل الرباني في كتاب الله، وأنا أقول لكم وأُعيدها ربما للمرة الألف أن هذا هو الدرس الذي لا تُريد أمة محمد الآن أن تفهمه، فعندما لا نتحدَّث عن عم النبي ولا عن أبيه ولا عن أخيه ولا عن ابنه  وإنما نتحدَّث عن أُناس بُعاد عن النبي مثل بعض أصحابه وأتباعه الذين أساءوا يُقال “قطع الله لسانك، سبقت لهم من الله الحُسنى، لا تتكلَّم بكلمة عليهم”، فما هذا الكلام الفارغ؟ من أين لكم هذا؟ من أين أتيتم به؟ يأتون بأحاديث وبكلام فارغ لم يصح ومن ثم  يضرب الوضوح الأخلاقي القرآني في مقتل ويضرب مبدأ العدالة الإلهية في مقتل هذا، فالقرآن يقول لا شفاعة لا في أم ولا في أب ولا في غير ذلك لكنهم يقولون أن الشفاعة موجود للصاحب، فيفعل هذا الصاحب ما يُريد ويسكر ويقتل ويسفك الدماء ويغدر ويفعل ما يفعل ومع ذلك هذا مغفور له، وهذا غير صحيح، فمن أتيتم بهذا؟ يستحيل أن تجدوا في كتاب الله آية واحدة تُفهَم على وجهها دون أن تعبثوا بمعناها تشهد لكم بهذا الفهم السقيم الساقط، هذا فهم سقيم وساقط ولكنه جُعِل مذهباً، فهذا مذهبنا نحن للأسف الشديد، هذا المذهب جاء بطريقة مُعيَّنة للأسف الشديد فقط من باب المُنكافة والكياد السياسي والملي والطائفي، لكن نحن لا نُؤمِن بهذا لأن الحقيقة أجل من كل هذه الأشياء وأشرف من كل هذه الاعتبارات، ولا اعتبار لأيٍ من هاته الاعتبارات لأن الاعتبار لكتاب الله، فهذا هو الدرس الأخلاقي البليغ، ولذلك هذا المثل ضُرِبَ أصالةً لمَن؟ مَن المقصود به؟ العين على مَن أصالة؟على عائشة وحفصة – رضيَ الله عنهما – لأن الله يقول لهما انتبها ولا تقولا  نحن زوجتا رسول الله أو أنا ابنة الصديق وأنا بنت الفاروق، فلن يُغنيا هذا واحدة منكما عند الله شيئاً إن أصرت على هذه المُخالَفات، قال الله  وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ  ۩، كأنه يقول لستا إذن إن تظاهرتما عليه من صالحي المُؤمِنين والمُؤمِنات، وهذا شيئ مُخيف، وقال الله أيضاً  عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ هذا تهديد من رواء وراء ولكن بعبارة أيضاً فيها صراحة – أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فلستن أحسن نساء العالمين –  مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً  ۩، لذا – كما قلت – هذه سورة مُخيفة مُزلزِلة، ولكن تجلى فيها الوضوح الأخلاقي لكتاب الله والعدل الرباني، فهو رب العالمين وليس رب الصحابة ورب الأنبياء فقط، وإنما هو رب الصحابة والأنبياء ورب العالمين جميعاً لا إله إلا هو، وهذا الذي يجعلنا نستوثق إلى درجة اليقين المُطلَق بأن هذا الكلام من عند الله، فهذا القرآن لو صيغ كما يُريد اليوم أهل السُنة والجماعة وكما يُريد الشيعة وكما يُريد الزيدية وكما يُريد هذه الطوائف والملل لكفرنا به، ولن نُؤمِن به إذن، وسوف نقول ما هذا القرآن؟ هذا القرآن مُتحيِّز، هذا القرآن طوائفي، هذا القرآن ذو اعتبارات مُعيَّنة وبالتالي لن نُؤمِن به، لكن هذا لم يحدث، فهذا القرآن هو كما هو، وهذه هى سورة التحريم إذن، فالمسألة ليست مسألة خصوصيات وأنها سورة مُغرِقة في الخصوصية، لكن هذا تعليم للنبي ولأهله ولأصحابه وللعالم من خلال إطار درامي مُؤثِّر جداً كما قلنا.

 أحد هؤلاء المُعترِضين – هداني الله وإياه – يستنكر أننا نقول بعالمية القرآن قائلاً أين هذه العالمية؟ أين العالمية في الحديث عن قصة زينب وحفصة وعائشة ومغافير وغير مغافير؟ لكن نحن نقول له بالله عليك ما معيار العالمية عندك؟ هل تفهم ما هى العالمية؟ هذا هو الذي يُؤذينا، وهو أن يتحدَّث الناس بإسم الأدب وبإسم العلم وبإسم التحليل وهم ليسوا على شيئ من دراية، ولذلك هم يستنكرون أن القرآن يُعتبَر كتاباً عالمياً ويقولون كيف له أن يتحدَّث عن قضايا من هذا القبيل ثم يقول لك أنا كتاب عالمي ؟ لكن هذا غير صحيح، فنحن قرأن الآداب – أي ما تيسَّر منها – ونعرف جيداً ما نقول، والذي يقرأ – مثلاً – خريف البطريرك  لغابرييل غارسيا ماركيز  Gabriel García Márquez – الأديب الكولومبي الكبير والحائز على  جائزة نوبل Nobel – يعرف هذا، فأنا قرأتها وكانت ثقيلة على قلبي ولم تلذ لي كثيراً، ولكن هذه الرواية – خريف البطريرك – مُغرِقة حتى الثمالة في المحلية الكولومبية، فهى مليئة بالخُرافات والأساطير والتصورات الغريبة العجائبية التي تعكس البيئة الكولومبية في عمق أعماقها، لكن بعد ذلك علمت أن هذه الرواية تُعتبَّر من روائع وعيون الأدب العالمي Weltliteratur كما يقول جوته Goethe، فلماذا إذن؟

وطبعاً اقرأ أدب هوجو Hugo وأدب ديكنز Dickens أو أي أدب تُريد مثل الأدب الياباني والأدب الصيني والأدب الهندي والأدب الأمريكلاتيني والأدب الأمريكي والأدب الأوروبي عموماً والآداب العلمية فكل شيئ منها مُغرِق في محليته ولكنه أدب عالمي، لكن لماذا؟!
جوته Goethe في القرن التاسع عشر – صاحب فاوست  Faust وآلام فرتر Die Leiden des jungen Werthers – تحيَّز كثيراً لمُصطلَح الأدب العالمي مع أنه الألمان سبقوا الفرنسيين في الحديث عنه، فأول مَن تحدَّث عن الأدب العالمي هم الألمان وليس الفرنسيين كما يُعتقَد، ولكن نظرية الأدب العالمي تكاملت مع الفرنسيين لأنهم عُنوا بها كثيراً، وجوته Goethe شرع فيها وخطى فيها خُطوات وتكلَّم فيها بكلام مُحكَم ولكن عليه بعض المُؤخَذات وهذا موضوع آخر في النقد الأدبي، لكن جاء الفرنسيون وكمَّلوا حيث وقف الألمان، ثم بدأ الألمان يلحقون بهم من جديد، وهذا باختصار ما حدث وهو أمر معروف، لكن الأدب العالمي ما هو معيار عالميته؟ بما أن هذا أدب ياباني، لماذا يُسمى بالياباني؟ لأن من الواضح أنه مُغرِق في اليابانية، وكذلك الحال مع الأدب فرنسي ومع الأدب الإنجليزي ومع الأدب البريطاني ومع الأدب أمريكي ومع الأدب الأدب الأمريكلاتيني وإلى آخره، فكيف يُصبِح أدب ما أدباً عالمياً؟

أنا أقول لكم لماذا، لأن من خلف الطابع المحلي والقومي للأدب يبرز الطابع العالمي الذي يُلامِس المُشترَك الإنساني، فالأدب العربي قد يكون أدباً قومياً وهو مع قوميته يُعتبَر محلياً أيضاً، مثل الأدب المصري والعراقي والشامي وإلى آخره، فالأدب رغم طابعه القومي أو المحلي يُمكِن أن يرتقي إلى العالمية إذا استطاع أن يعبر هذه الجدران المحلية والإقليمية ليُتاخِم ويُلامِس المُشترَك الإنساني، وكل الأدباء وكل العباقرة – عباقرة الفن والأدب والشعر – الكبار يفعلون هذا باقتدار ومن هنا عالميتهم باختصار، لذلك شاعر مسلم مُتروحِّن مُتصوِّف مثل جلال الدين الرومي أصبح رقم واحد عالمياً، فلماذا إذن؟ هذا مسلم صوفي لكنه رقم واحد عالمياً والكل يعرفه، فكل العالم يعرف مَن هو الرومي، وقبل أيام – وهذا من سخريات وضعنا الثقافي والله – كنت أقرأ دراسة كتبها بعض الكتاب وكان يقول فيها “وكما قال روني”، فقلت “روني مَن؟ أنا لا أعرف غربياً مشهوراً إسمه روني” ولكن فبحثت كثيراً ثم بحثت عن الأصل وعلمت أن المقصود هو جلال الدين الرومي، فهو الذي قال “أنت لست مُجرَّد قطرة في مُحيط، أنت المُحيط في قطرة”، ففي الأصل كُتِبَ “رومي” لكن حدث خطأ طباعي – Druckfehler – فتحوَّلت الكلمة إلى روني، فقال هذا الأديب العربي والمُفكِّر العربي الآن “وكما قال روني” رغم أن الله لم يخلق روني هذا، لكن هذا يدل على  الثقافة واسعة – ما شاء الله – والتحقيق وادّعاء العلم، فلا تتحدَّث عن مَن لا تعرف، كان عليك أن تبحث عن روني ومن ثم كنت ستجد أن لا يُوجَد أي شيئ إسمه روني وأن الصحيح هو رومي كما يُقال في اللغات الأجنبية، فهم يقولون “رومي  Rumi” ورومي هو جلال الدين الرومي الذي يعرفه العالم كله، لكن لماذا يعرفونه؟ لأنه يتحدَّث بألفاظ ومضمونات إسلامية ولكن أعماقها ومغازيها ودلالاتها ورسائلها الروحية الفكرية العاطفية الفلسفية تُتاخِم المُشترَك الإنساني، شئت أم أبيت هذا هو، فإذن القرآن فعل هذا أم لم يفعل؟ ولذلك بعض كبار النقاد – نقاد الأدب وخاصة الأدب المُقارَن – قالوا “من معايير عالمية الأدب وعالمية الفكر أن يُحدِث أثراً في الآخرين وأن يُحدِث أثراً في العالم”، فهل القرآن أحدث أم لم يُحدِث؟ رغماً عنا أحدث،  وكل العالم يعرف هذه المخطوطة أو الكتاب المُقدَّس Scripture، الهند والصين واليابان وأمريكا وكل العالم يعرف هذا وخاصة هنا في الغرب، وترجموه أكثر من ترجمة بداية من القرن الثالث عشر إلى ترجمات لاتينية ثم إنجليزية وألمانية وهكذا إلى الآن، ونحن تحدَّثنا عن جوته Goethe صاحب الأدب العالمي ومن ثم لابد أن نقول أن جوته Goethe تحدَّث عن القرآن في كتابه الشهير – وهو كتاب في الأدب العالمي – الديوان الشرقي للشاعر الغربي – ترجَمه المرحوم عبد الرحمن بدوي بإسم الديوان الشرقي للمُؤلِّف الغربي والصحيح هو أن إسمه  الديوان الشرقي للشاعر الغربي – أجل حديث وأنقاه وأذكاه فحديثه عن القرآن كان أذكى من حديث مُعظم المسلمين، قال يقولون القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ لكنني  لست أدري – هذه القضية يا مسلمون من مُعتزِلة وزيدية ومن أهل السُنة والإمامية وإلى آخره تتحدَّثون عن خلق القرآن وتتساءلون هل هو مخلوق أم غير مخلوق – وهذا لا يعنيني – أي لست أدري إن كان مخلوقاً أو غير مخلوق – ولكن الذي أدريه أنه كتاب العالم”، إذن هو قال أن هذا القرآن هو كتاب العالم لأن لا مثيل له، والذي قال هذا هو جوته Goethe صاحب فاوست  Faust وليس أي رجل آخر، وجوته Goethe هو أديب وفيلسوف وشاعر وعالم بمعنى العلم التجريبي ولذا هو يعلم ما يقول، فهو قال أن هذا القرآن هو كتاب العالم فضلاً عن أنه مدح محمداً بعبارات أيضاً فائقة، فجزاه الله خيراً.

فإذن جوته Goethe يقول هذا ومع ذلك تجد مَن يستنكر حديثنا عن العالمية ويقول أين هذه العالمية؟ سوف نرى الآن رغم أن الوقت للأسف أزف لكننا سوف نأتي إلى سورة المسد لنُوضِّح هذا، قال الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ۩، أي أنه يُكرِّر الدعاء بالتب والتباب والخسران والهلاك، وأبو لهب هوعم النبي –  شقيق والده –  وهو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم الذي كان يُكنى بأبي عُتبة باسم ابنه الأكبر “عتبة “وأيضاً قيل مِن كُناه “أبو لهب” لأنه عُرِف بها في الجاهلية لوضائته وإشراق وجهه، فوجهه كان أبيضاً مُشرباً بحُمرة كأنه يتلهَّب لأنه كان جميلاً جداً ووضيئاً، وبنو هاشم عموماً كانوا معروفين بالجمال وبالفصاحة وبالقوة، وهذا عم النبي أيضاً، وقيل القرآن كناه بذلك، فالله أعلم أي ذلك هو الحق والأصح، على كل حال قال الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ۩، فلماذا قال يَدَا ۩؟ لماذا خسرت يداه؟ هذا عطف دعاء على دعاء، فقال لك هو تب وتب كله، فعطف تبه وتبابه – أي تباب كله على تباب بعضه – من باب الإغلاظ له والتشنيع – مزيد التشنيع – والتسجيل عليه، فخيَّبه الله البعيد، وأنتم تعرفون القصة، قال الله مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ  ۩ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩،  وكلنا نعرف أن بالذات هذه السورة القصيرة والبسيطة في الست الأواخر من كتاب الله تضمنت علماً – أي برهاناً قاطعاً – من أعلام النبوة، ففيها برهان على أن محمداً نبيٌ رسولٌ من عند الله، أبو لهب كان من أحرص الناس حرصاً على الإطلاق على أن يُكذِّب ابن أخيه لكي يظهر مُحمَد في نهاية المطاف – أستغفر الله العظيم – كما لو كان كاذباً، فكان من أحرص الناس على هذا، وسبب نزول السورة أنه لبَّى مرةً نداء ابن أخيه عندما قال النبي يا قوم، يا قوم، هلموا،هلموا، فجاء وبدأ النبي يدعوهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى، فقال ألهذا جمعتنا؟ تباً لك سائر اليوم، وجعل يرميه بأحجار كانت في يده – وفي بعض الروايات حتى أدمى سايه وعرقبيه الشريفين، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – فأنزل الله –  جَزَاءً وِفَاقًا ۩ لأنه يقول لنبينا ولخيرتنا تباً لك سائر اليوم – تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ۩، فهاتان اليدان اللتان كانتا ترميان بالأحجار على أشرف البشر الأطهار لذلك قال الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۩ أي تب كله وخسر – مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ۩ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩، وهذا جناس تام، فالله تحدَّث عن أبي لهب وقال عن النار أنها ذات لهب، وهذا جناسٌ تام لأن هذا له معنى وهذا له معنى، فهذا فيه تجنيس وفيه أيضاً مزيد تقرير للمُناسَبة بين إسمه وبين صليه جهنم – والعياذ بالله – لأنه كافر عنيد ومات في كفره، وهذامن إبداع القرآن الكريم في هذه السورة الجميلة جداً.

قال الله  سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ  ۩ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ  ۩، قراءة الجمهور لكلمة حمالةُ بالضم، فقالوا حمالةُ الحطبِ على الصفة، فهذه صفة لامرأته، لكن لماذا امرأتهُ مرفوعة في قوله وَامْرَأَتُهُ ۩؟ هذه الواو هى واو العطف، وهذا الإسم فاعل وهو معطوف على الضمير المُستتِر في قوله سَيَصْلَى  ۩، فهذا ضمير مُستتِر لأن المُراد سيصلى هو، بمعنى أن وَامْرَأَتُهُ ۩ ستصلى مثلما سيصلى هو  نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ۩ لكن في رواية حفص عن عاصم نحن نقول “حمالةَ” بالنصب على أنه حال، فهذا حال في الدنيا أو في الآخرة، أما “حمالةُ” بالضم هى صفة في الدنيا وفي الآخرة لأنها كانت تحمل الحطب في الدنيا ومن ثم القرآن يقول أنها ستحمله في جهنم، ولكن ستحمله لمَن؟ لكي يُوقَد به على زوجها، فكفى به خزياً وناهيكم به خزياً – والعياذ بالله – أن تُجعَل سبباً لتعذيب أعز الناس عليها وأن يُعذَّب هو بأحب الناس إليه، ولكن مَن امرأته هذه؟ هى أروى بنت أمية بن حربٍ أخت أبي سفيان وعمة مُعاوية، فهذه هى زوجة أبي لهب التي قال الله عنها  فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْهى كانت من الذوات ومن عوالي العائلات فكانت تُقلِّد جيدها، علماً بأن الجيد هو العنق ثم غلب استعماله في موضع القلادة من عنق المرأة، فهذا هو التطور اللغوي لكلمة جيد – مَسَدٍ ۩،علماً بأن المسد هو الليف، وكان العرب في مكة يفتلون الحبال القوية من ليف اليمين وهو أشد الليف فتأتي قوية جداً، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا التسجيل بهذه الفظاعة، فالله يقول أنها ستُعوَّض وتُبدَل من قلادتها الذهبية وربما الكريمة بحبل من ليف تُجَر به جراً، وتحمل الحطب لكي تُلهِب به النار على زوجها أبي لهب.

هذه هى القصة إذن، لكن هم يقولون أن هذه السورة بمثابة تصفية لحسابات عائلية بين النبي وبين أبي لهب وزوجة أبي لهب الذين فعلوا كذا وكذا، وهذا غير صحيح، هذه خفة فكرية، فالسورة بذاتها تُقرِّر المبدأ عينه وهو أن كونك عماً لرسول الله لا يعني أنك مُميَّزاً، ومَن هو رسول الله؟ مَن هو محمد بن عبد الله؟ هو أبر الناس وأوصلهم لرحمه، فالنبي وصل قريشاً كلها وعلَّم أصحابه أن تعطفهم أرحامهم على ذوي قراباتهم، فالإمام عليّ كم مرة يهوي بسيفه على أحدهم ثم ينثني عنه ويقول أن السبب في هذا “عطفتني عليه رحمي”، أي أنه تذكر قرابته فتركه لله، فالنبي هو الذي علَّمهم، والنبي كان يستاء أن يُصيب قريشاً شيئٌ من سوء لأنهم أهله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال “دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا“، ومعنى أنه قال “غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا” أي أن لكم رحمُ ومن ثم سأفي وأقضي حقها كفرتم أو آمنتم، فحتى لو كفرتم لن أُضيِّع حق صلة أرحامكم، وهذا يدل على عظمة أخلاق النبي، ولذلك النبي لم يكن ليسره أبداً أن ينُدِّد ولا أن يُشهِّر بعمه أخي أبيه، ولكن هذا القرآن الذي كان يقول له شئت أم أبيت عمك هذا في جهنم لأنه كفر فلا يُوجَد لدينا أي واسطات، قال الله إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء  ۩، وهذا هو درس هذه السورة، وعلى كل حال تأكَّدوا من أن النبي – كما قلت لكم – كان يقول لقرابته سواء آمنتم أو كفرتم سأقضي حق قرابتكم، وهذا هو معنى قوله غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا”، وهذا ليس كافياً في المقام ومن ثم يُوجَد سؤال: لماذا بالذات أبو لهب؟ لماذا عبد العزى بالذات؟ لماذا أبو لهب وليس أبا جهل مثلاً؟ لماذا لم يكن أبا جهل هذا الشخص الذي شُنِّعَ عليه وسُجِّلَ عليه بالكفر والتلهب وصلي النار غداً؟ أبو جهل هو فرعون محمد وهو أشد كفار قريش وسدنة الوثنية على رسول الله، فأبو جهل هو الذي كان كذلك وليس عم النبي – عليه السلام – ومع ذلك لم يُقل عنه هذا، فلماذا لم يُذكَر أبو جهل وذُكِرَ عم النبي؟

هذا هو السؤال، وهذه هدية مُتواضِعة أهديها إلى هذا الأخ وأمثاله الذين يشغبون على كتاب الله بخفة فكرية ويتحدَّثون بنوع من الرقاعة – للأسف الشديد – والبذاء، وبفضل الله هذا موجود الآن ومُتاح على النت Internet أيضاً، وأنا كنت سعيداً جداً بأنه يُوجَد على النت Internet  كتاب بالإنجليزية – علماً بأن الطبعة الأولى كانت في سنة ألف وتسعمائة وأربعين وهى المُتاحة فقط، والحمد لله أنها مُتاحة – بعنوان محمد في الكتب المُقدَّسة العالمية Muhammad in World Scriptures، لكن مَن الذي ألَّفه؟ الذي ألَّفه هو العلّامة الهندي الكبير عبد الحق فديارتي  Abdul Haq Vidyarthi رحمة الله تعالى عليه، وهذا الكتاب تتبَّع بالمناقيش واستخلص بالمناقيش بدقة ورهافة الإشارات المُصرِّحة المُنبِّئة برسول الله وبعثته في الكتب المُقدَّسة حول العالم، وذلك في كتب الهنادكة وفي كتب المجوس الزرادشتيين وفي كتب طبعاً أهل الكتاب، وأتى فيه بالعجب العاجب، فسبحان مَن أقدره على هذا، ويُمكِن لكم أن تُنزِّلوا الكتاب بي دي أف PDF مجاناً بشكل كامل، وهو في زُهاء خمسمائة صفحة والطبعة الأولى – كما قلت لكم – كانت في ألف وتسعمائة وأربعين، وعلى كل حال هو أتى فيه بشيئ مُذهِل مُحيِّر، لكن كيف هذا؟

 زند آفستا Zend-Avesta هى الكتاب المُقدَّس للمجوس، ولعلنا – إن شاء الله – نُعطيكم خُلاصة هذا الكتاب في شكل خُطبة بإذن الله لكي نعرف ماذا قالت الفيدانات – مثلاً – عن رسول الله، علماً بأن الفيدانات – Vedas – جمع الفيدا، أي فيدانات الهندوس الذين ذكرناهم اليوم، ولكن الآن سنتحدَّث عن الزند آفستا Zend-Avesta  وهو كتاب الرزدشتيين المُقدَّس، فهذا الكتاب تحدَّث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً واضحاً ومُذهِلاً، ولكن ماذا سماه؟ سماه سوشا ياند، فماذا تعني سوشا ياند إذن؟ سوشا ياند تعني بالفارسية القديمة رحمة للعالمين، ونحن لدينا الآية الكريمة تقول وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  ۩، لكن قد يقول لي أحدٌ أن هذا مُجرَّد اتفاق، وهذا غير صحيح لأنه ذكر أيضاً مبعث هذا النبي، وذكر أن هذا النبي سوف يُبعَث وسوف يتألَّب عليه قومه، ومن قومه رجلٌ يفعل الشر – هكذا بالضبط بالفارسية القديمة قالوا هناك رجلٌ يفعل الشر من قراباته –  يُدعى بالفارسية القديمة أنجرا مارينيو ومعناها “أبو لهب”، وهذا شيئ – والله العظيم – لا يكاد يُصدَّق، ولذلك الله قال   وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ۩، وقال أيضاً وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ – ما من نبي بعثه الله إلا استوثق منه وأخذ عليه العهد والميثاق أنه إذا بعث محمداً وهو حي يجب عليه أن يُؤمِن به وأن ينصره هو وأتباعه، وهذا تفسير الإمام عليّ عليه السلام وتفسير ابن عباس –  قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ۩، هذا في سورة آل عمران – عليهم السلام – وهذا شيئ غريب. 

إذن فهمتم الآن لماذا ذكر الله أبا لهب بالذات؟ هل فهمتم لماذا ذكر أبا لهب ولم يذكر أبا سفيان أو أبا جهل؟ هل عرفتم الآن لماذا أبو لهب بالذات؟ هذه الإشارة في الزند آفستا Zend-Avesta وهو كتاب المجوس – علماً بأن المجوس ذُكِروا مرة واحدة في كتاب الله، وهذه المرة كانت في سورة الحج – ذكرت أن قريباً من قراباته سوف يكون فعَّالاً للشر وأنه سوف يتصدى له وأن إسمه – كما قلنا – هو أنجرا مارينيو، وهذه الكلمة معناها بالضبط “أبو لهب“، فإذن الله ذكر هذه النُقطة حتى تكون علماً من أعلام النبوة.

نرجو أن يُمتِّعنا الله بالإنصاف وعشق الحقيقة واستمساك العقل والذهن حتى تُزايلنا هذه الخفة الفكرية في التعرض لكتاب الله ولرسول الله الذي هو خيرة خلق الله.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

(2/11/2012)

http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: