إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩  لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

كلُ شيئ من أشياء الطبيعةِ والكون له مسارٌ عتيدٌ لا يحيدُ عنه وهو لا يملكُ من أمر نفسه شيئاً ولذلك الظواهر الطبيعية تتغيا – إن جاز هذا التعبير وهو مجازيٌ إلى أبعد حد – أو تتقصَّد أو تسلك بالحري أسهل السُبل وأيسر الطرق، فليس لديها طموح وليس لديها مُمانَعة، تيار الماء المُنسال إن صادفته عقبةٌ فإنه يحيدُ عنها مُباشَرةً ويأخذ في أيسرِ سبيل إلا هذا الإنسان لأنه ظاهرة فوق طبيعية، يُوجَد جزءٌ طبيعي يخضع للظواهر الطبيعية هذا البدن أو هذا الجسم ولكن المُقوِّم الأعظم له والجزء الأشرف فيه ينتمي إلى ما وراء الطبيعة، ولذلك هذا الإنسان يُعاني دفع ضرائب طموحه وتطلعاته وهو الذي يسير ضد الجاذبية، ليس ضد الجاذبية الأرضية فقط بل ضد جاذبية أهوائه وأمياله النفسانية، فالنفس تنزع إلى شيئ وهو يكمعها ويقمعها ويأخذ فيما هو أشق وفيما هو أطول وفيما هو أصعب، لكن بفضلِ ماذا هذا؟ بفضلِ الأمانة التي حُمِّلها وهى حرية أن يختار، لله  – تبارك وتعالى – أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا – إشارة إلى ابن آدم – وَكَرْهًا ۩، فسائر الموجودات الطبيعية الكونية أسلمت لله وانقادت لأمره – سبحانه وتعالى – كرهاً، أما هو فآثر واختار وأسعده الله بذلك وأصعده أن ينقاد له – سبحانه وتعالى – طوعاً عن اختيار وعن تسويغ وعن تبرير، إنه تحديدٌ – كما قلنا في خُطبةٍ سابقة – ذاتي، وهو الذي أراد أن يُقيِّد نفسه بقيودٍ عرضها الشرعُ فوجدها سائغة وتعمل في مصلحته وتعمل لهدايته وإسعاده، وهذا ما يُعرَف بالتقييد الذاتي وهو لا يتعارض مع الحرية، بل هو جوهر الحرية.

بعض الناس يحسدون أو يغبطون الطواغيت والمُستبِدين الذين أرخى لهم القدر حبلهم على غاربه فهم يأتون ما يشاءون ويذرون ما يشتهون دون حسيبٍ أو رقيب  حتى من أنفسهم لأن الضمير قد مات والرقيب قد اختفى واضمحل فيفعلون ما يشاءون، وفي نهاية المطاف هم ليسوا أحراراً، فلماذا نحسدهم؟ وعلى ماذا نغبطهم؟ إنهم بهائم – بهائم حقيقية – ووحوش مُنفلِتة، مُجرَّد حيوانات هائجة، وهذا الطاغية أول ما يخسر يخسر نفسه وهو خاسر نفسه أصلاً، لا يُمكِن أن يُقال إنه حر، ليست هذه الحرية – علماً بأنني سأشرح هذا بُعيد قليل – وليست هذه الأمانة التي حُمِّلها الإنسان فاحتملها، كلا إنما هذا ضربٌ من السلوك البهيمي الوحشي الفائق كما سمّاه الفيلسوف الشهير أفلاطون Plato الحيوان الأكبر، فالطاغية الأعظم هو الحيوان الأكبر، كلما كان طاغيةً وكلما أوغل في الطُغيان كلما أوغل في الحيوانية، لكن كيف هذا؟ لا يُمكِن أن يُفهَم هذا إلا إذا فهمنا جوهر الحرية، والناس يظنون أن هؤلاء أحرار ويفعلون ما يشاءون ويُحيون ويُميتون، فالنمرود –  لعنة الله عليه – قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ۩، يُحيي مَن يشاء فيتركه في الحياة، ويُميت مَن يشاء فيحكم عليه بالإعدام والإفناء، ويظن أنه يُحيي ويُميت، يأكل ما شاء ويشرب ما شاء ويرفع مَن يشاء ويضع مَن يشاء ويستخف قومه ويلعب بعقولهم ويُشكِّلهم ويصوغهم وفق ما يُريد فلا يُريهم إلا ما يرى وبزعمه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد، وفي الحقيقة هو ليس أكثر من حيوانٍ مُنفلِت.

الفيلسوف الألماني الشهير هيجل Hegel أيضاً تحدَّث عن حال الطبيعة أو ما نُسميه بحال الفطرة أو البدائية، الوضع البدئي أو البدائي للإنسان قبل أن تكون ثقافة وقبل أن تكون مدنية وحضارة وقبل أن يكون مُجتمَع بالمعنى العلمي السسيولوجي للمُجتمَع وقبل أن تكون دولة لأن المُجتمَع في النهاية والدولة إنما يعنيان مزيداً من القيود والرقابة والضبط وإلى حدٍ ما التسيير حتى، فهذا ما يعنيه المُجتمَع وهذا ما تعنيه الدولة، وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau كان يُشيد بهذه الحالة الطبيعية الأولى ولذلك كان إيغال هؤلاء الفلاسفة الرومانسيين في دراسة المُجتمَعات البدائية والإنسان البدائي وأحوال الفطرة الأولى، ولكنهم اعترفوا بطريقة أو بأخرى بأنها أحوال همجية وإنها أحوال الطبيعة المُنفلِتة غير المضبوطة وغير المُقنَنة التي لا يُشرَّع لها، فهيجل Hegel قال “حال الطبيعة مزيجٌ من العنف والهمجية وانفلات الأهواء والنزوات”، أي حال حيوانية، ثم قال “لا يُمكِن إدراك أو وعي الحرية – حرية الذات على المُستوى الفردي وعلى المُستوى الجمعي أو المجموعي – إلا بإدراك القيود التي يسنها المُجتمَع والدولة”، لكن كيف هذا؟ هذا معنى التحديد الذاتي وهذا معنى أن جوهر الحرية هو تحديدٌ ذاتي، وسأُبسِّط هذا في مقامين بجُمل يسيرة إن شاء الله.

أولاً كل نشاط وكل فاعلية إنسانية  لها جانبان ولها مُكوِّنان، شكلٌ ومضمون، وذلك في كل فاعلية إنسانية، فالكتابة – مثلاً – شكل ومضمون، لعبة كرة القدم شكل ومضمون، هذه الخُطبة شكل ومضمون، الحرية شكل ومضمون، الأكل شكل ومضمون، اللباس شكل ومضمون، وكل شيئ شكل ومضمون، فكل نشاط يُبرِزه الإنسان ويتأتى على الإنسان له مُكوِّنان هما شكلٌ ومضمون، والجوهر دائماً يكمن في مضمونه وليس في شكله،  فالكتابة – مثلاً – يتعاطاها بعض الناس، والكتابة إن خلت من مضمون حقيقي  كانت مُجرَّد رصف للجُمل، جُملة تلو جُملة وجُملة عقب جُملة وكلمات تتلو كلمات ،وأحرف تنتظم في كلمات، وفي نهاية المطاف كما يُقال فائضٌ في الألفاظ وفقرٌ في المعاني، كلام كثير تسمعه وفي النهاية تسأل نفسك بما خرجت؟ ثم تقول لم أخرج بشيئ، فلم يقل شيئاً جديداً ولم أفهم شيئاً له قيمة.

وهناك حالة أزرى من هذه الحالة وأوطأ من هذه الحالة، وهى أن يكتب الإنسان كالمغلوب على ذهنه، ككتابة الصبيان، فأول ما يتعلَّم الطفل كتابة الكلمات وليس الأحرف يبدأ يكتب كلمات مثل بابا وقمر وراح وجاء وكمبيوتر Computer ومريخ ونينتندو Nintendo وأي كلام فارغ، فهذه كتابة شكل، لكن أين المضمون؟ لا مضمون، هذه درجات ودركات مُحدَّدة بعلاقة المضمون بالشكل والشكل بالمضمون، والحرية، ولعبة كرة القدم شكل ومضمون، وبعض الناس قد يقذف الكرة برجله كيفا اتفق ويعدو في أثرها، فهذا شكل لكن ليست هذه لعبة كرة القدم، فلعبة كرة القدم لها مضمون مُقنَن بقوانين دقيقة وفنيات مُراعاة على مُستوى عالمي وهذا هو المضمون، أما مُجرَّد التعادي في أثر القوة وضربها كيفما اتفق دونما قانون فهذا الشكل، هذه كرة القدم شكلاً لا معنى له ولا قيمة له إذا أُفرِغَ من مضمونه وأصبح إطاراً بلا صورة، والحرية كذلك شكلٌ ومضمون، علماً بأن كلامنا عن الحريةِ وعن الكره، وعن الحريةِ وعن القهر، فالحرية شكلٌ ومضمون، شكلٌ  يُمكِن أن يُحدَّد بالإمكان – Potentially – والشيئ المُمكِن، أي في إطار كونه مُمكِناً، وإذا نظرنا إلى الحرية من زاوية الإمكان فهى تعني فعل كل شيئ وأي شيئ، يُمكِن لهذا الحر أن يفعل أي شيئ، كأن يقتل وأن يسرق وأن يسطو على أعراض الناس وأن يكفر وأن يُجدِّف وأن يسب النبيين والمُرسَلين وأن يدّعي ما يدّعي وأن يفعل أي شيئ، ولكن لا أحد يقول هذه هى الحرية، فهذا مُستحيل، هذا هو الشكل فقط، أما المضمون فلا يتحدَّد إلا مُقيَّداً ولا يتعيَّن إلا مُقيَّداً ضمن ميدان مُعيَّن وضمن مفاهيم وقيم مُحدَّدة.

الآن – وهذا المقام الثاني في شرح الحرية – إن جاء هذا التقييد ذاتياً من خلالي أنا أو بناءاً على إرادتي ومُبارَكتي وموافقتي ومُساهَمتي ومُشارَكتي فيُقال إنه تحديدٌ ذاتي وهو لا يتعارض مع الحرية سيكون هذا جوهر الحرية، وهذا هو شرح كلمة هيجل Hegel، لكن كيف؟ نحن الآن جماعة – مثلاً – نعيش في الحي الثاني، لاحظنا أن عند تقاطع طرق مُعيَّن تنظيم الإشارات والخطوط الأرضية ليس وافياً بالغرض، إذ وقع في ظرف سنة أو سنتين ربما أربع حوادث دهس، فجاء الناس وقدَّموا عريضة إلى الجهة المسؤولة واتفقوا على أن يُوضَع – مثلاً – جهاز علامات ضوئية جديد في النُقطة الفلانية، فهم أرادوا هذا، بعد ذلك لا يشعر أحد فضلاً عن أن يدّعي أو يصيح أو يتمرّد  أنه حين يرى نفسه ملزوزاً سواء أكان ماشياً على القدمين أم يقود سيارته أم عجلته الآن أحمر لابد أن يقف، فلا يقول هذا تقييد لحريتي وهذا إكراه، بل بالعكس هذا هو المضمون، هذا مضمون الحرية وهذا ما اخترناه ،وذا الذي أردناه بمُشارَكتنا وبمُساهَمتنا وبطلبنا، فنحن الذين اجترحنا هذا المشروع، وهذا لا يتعارض مع حريتنا، كل ما أُبارِكه وكل ما أُساهِم فيه وكل ما أُريده وكل ما يُعرَض علىّ ويتبرَّر لدي عقلياً أقول نعم هذا صحيح وبالتالي أنا أُريد هذا، فهذا لا يتعارض مع الحرية وهذا هو التفسير البسيط جداً لها، فالتفسير الفلسفي الشهير للحرية هو أنها تحديدٌ – أي تقييدٌ – ذاتي، وهذا هو التقييد الذاتي  Self-Determination، وبناء على أن الحرية تقييد ذاتي قال مونتسكيو Montesquieu في روح القوانين الحريةُ هى طاعة القوانين، ولكن أي قوانين؟ هذه ليست القوانين التي يسنها مُستبِدٌ ظالم وطاغيةٌ فائق بالرغم من الناس وضداً عليهم، كلا إنما القوانين التي يسنها على الأقل نوّاب ومُمثِّلو الشعب بإرادة الشعب، فهو الذي أنابهم وهو الذي خوَّلهم وهم يُمثِّلونه، كما هى الحال في الديمقراطية النيابية والتشريعية،  فإذن الحرية يُمكن أن تُعرَّف فعلاً بأنها طاعة القوانين، ولذلك أنا كملي وأنتَ وأنتِ كمليين لا نجد أي تعارضاً بين شعورنا العميق والفاره بالتمتع بحريتنا وبمُمارَستها بطلاقة رغم أننا قُيِّدنا بضوابط الشرع، بالحلال والحرام وبما يجوز وبما لا يجوز وبالقيم المُجتمَعية التي تبرَّرت لدينا وبالأعراف الحسنة، قال الله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩، فما تعارفه الناس وما رآه المسلمون حسناً هو عند الله حسن لحديث ابن مسعود الشهير واختُلِف في وقفه ورفعه، فلا يُقال لنا أنتم مُقيَّدون، فنعم نحن مُقيَّدون ذاتياً حتى وإن كان القيد إلهياً من لدن الله وحتى وإن كان مُفارِقاً مُتعالياً من لدن الله، والأفضل أن يكون مُفارِقاً مُتعالياً، ودائماً نحتاج في إرساء أساس فلسفي أو لدى إرساء أساسٍ فلسفي لأي معنى من هذه المعاني الخطيرة كحقوق الإنسان مثلاً، فنحن نحتاج إلى أصل مُتعالٍ، ومن الصعب جداً فلسفياً أن تُؤسِّس لهذه المعاني بأصول غير مُتعالية، أي بأصول مُحايثة، فعلينا أن ننتبه إلى أن المُحايث لا ينفع ولا يُمكِن أن يقع عليه إجماع ولا به اقتناع، وللكل الحق أن يختلف، وعلى كل حال هذه مسائل أُخرى!

هذه المُقدِّمة أحببتُ أن اُسلِفها بين يدي حديثي عن الجذر الذي أراه حقيقةً جذر مُعظم مُشكِلاتنا السياسية والاجتماعية، وهو جذر كبير جداً غاص مُخيف ونحن في غفلة عنه، وقد علَّمنا علماء الاجتماع والعلوم الإنسانية عموماً أن بنية الفرد تُوشِك أن تكون كبنية المُجتمَع ولكن هذه البنية تُمارِس فعلها وتتظهَّر دون وعي من الأفراد وحتى دون وعي من المُجتمَع، فقلة من المُفكِّرين الكبار هم الذين يُجرِّدون هذه البنية من تعيناتها ويعرفون أن هناك بنية مُعيَّنة حاكمة على الفرد وحاكمة على المُجتمَع ككل، ومن هذه البُنى الحاكمة علينا بنية الطاعة التي هى خضوعٌ وقهر، وليست طاعة بالمعنى المُستحَب، وهذا موضوع خُطبة اليوم وأنا سأُسمّيها نزعة الطاعة أو بكلمة واحدة الطاعوية، فسأقول الطاعوية، أي النظر إلى الطاعة على أنها أم الفضائل وفضيلة الفضائل وأس القيم وجذر الأخلاق والمثل الأعلى للسلوك الطاعة.

 علينا أن ننتبه إلى أن هذه طاعوية وليست طاعة ما أمر الله بها ولا رسوله ولا العقلاء من البشر، هذه يأمر بها المُستبِدون والطواغيت من أصغر طاغوت إلى الطاغوت الأكبر على مُستوى أمة ودولة، ويضحكون علينا ويُضلِّلوننا ببيع مفاهيم مُهترأة ومفاهيم رثة ومفاهيم قبيحة وكريهة وعنيفة جداً ولكن بعنوان جميل إسمه الطاعة، أليس يجب علينا أن نُطيع الله ونُطيع رسوله ونُطيع أولياء الأمر ونُطيع والدينا ونُطيع مشائخنا ونُطيع أساتيذنا؟ بلا شك، فلماذا إذن تشن هذه الحملة الشعواء على الطاعة؟ فرقٌ بين الطاعة والإخضاع وبين الطاعة والقهر وبين الطاعة وطمس شخصية الإنسان واستقلالية الإنسان وفردية الإنسان، وهذا – كما قلت وساُوضِّح هذا بُعيد قليل – تقريباً فيما أرى جذر مُعظم مُشكِلاتنا الاجتماعية والخُلقية والسلوكية والسياسية، فالمرض يبدأ من هنا، لكن كيف ذلك؟

أولاً أتساءل عجباً وعجباً من هذا العجب لا ينتهي كيف يُراد لنا أن نُسلَب ما كرَّمنا به الله؟ الله وهو الله  – لا إله إلا هو – له علينا أعظم الحق لأنه خالقنا ومُبدِعنا ومُحيينا ومُميتنا ورازقنا ومُدبِّر أمرنا، فله علينا كل حق وكل الحق، ومع ذلك آثر أن يُعطينا حريتنا وقال لنا لكم الحق أن تُطيعوني ولديكم المجال والحرية أن تعصوني وكلٌ بحسابه، قال تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ۩، لكن هل أعطانا إمكانية أن نكفر؟ نعم، قال أعطيتكم إمكانية أن تكفروا بي وأن تكفروا حتى بنعمائي، وهذا مُستوى أقل  يقع فيه كثير حتى من المسلمين، ولكنه سمح أن تكفروا به، مثل كفر الشرك والوثنية والثانوية والإلحاد والتجديف والعياذ بالله، فهو أعطانا ذلك، وقال وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ۩، فأمامنا نجدان، أي صراطان أو طريقان، صراطٌ مُستقيم وطريقٌ مُعوَّج – والعياذ بالله – مُلتوٍ، وقال أيضاً فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالنفس لا تستوي ولا معنى لاستوائها إلا بهذا، فإذا أرد أن يتحدَّث عالم النفس عن السوية Normality  ماذا سيقول؟ ما هى السوية في الإنسان؟ السوية لا تتحدَّد بالعنصر الملائكي، أي أن نكون ملائكة مُنزَّهين، فلن نكون أسوياء كبشر، لأننا كبشر لا نستوي إلا ضمن هذا التعارض بين الفجور والتقوى، وتبرز إنسانيتنا من خلال انتخاب طريقنا وآرائنا وقيمنا ومفاهيمنا، فنقول نُريد هذا ولا نُريد هذا، لماذا؟ لكذا وكذا، لذا قال الله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ۩، وقال أيضاً وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، فهى لا تستوي إلا بماذا؟ إلا بالمعنيين كليهما، الفجور والتقوى، أي الفجور بإزاء التقوى والتقوى بإزاء الفجور، فينتخب الإنسان سلوكه ومفاهيمه وعقيدته وطريقه انتخاباً شاقاً ومُرهِقاً، فتجتاجه الشكوك والتشغيبات والريب والتساؤلات والمُجادَلات والسجالات والتطوّر والإثبات والنفي والتناسخ والانسلاخ عبر حياته وهكذا، هذا هو إذن، وهنا تبرز عظمة الإنسان، فهذا مجد الإنسان الذي جعله سيد هذا الكون وخليفة الله في أرضه، هو هذا لكن المُجتمَع والثقافة والأب والأم والأستاذ والمُدرِّس والمُربّي والشيخ وحتى المُثقَّف ربما يُريدون الحاكم طبعاً بلا شك – الحاكم المُتسِّلط المُستبِد – أن يسلبونا هذا وأن يُفهِمونا، فيقولون لا عليكم أن تُفكِّروا قد فكَّرنا عنكم وقد انتخبنا عنكم، فلماذا تُفكِّرون؟ لماذا تدرس أديان أُخرى وفلسفاتٍ وآراء وتُرهِق نفسك؟ ويأتيك مَن يتبجَّح وخاصة من بعض علماء الدين ويقول لماذا هذا اللف والدوران؟ لماذا هذا الطحن والعجن؟ ولا نكاد نرى طحناً ولا عجيناً، نحن سننتخب لكم كل شيئ لأن الطريق واضحة يا جماعة، فاتركوا ولا تقرأوا ولا تتعلَّموا، هذا الحق والباطل هناك وانتهى كل شيئ.

هذه ليست خُطة الله في تكريم الإنسان وفي استخلاف الإنسان، هذه خُطة المُستبِدين، فالذي يقول لك هذا ولو كان أعلم العلماء وأشهر المشائخ هو الخادم رقم واحد للطاغوت حتى وإن أعدمه الطاغوت، فقد يأتي به الطاغوت ويُعلِّقه على مشنقة ولكنه خادم الطاغوت، هذا يُرسي نظاماً ويُؤكِّد بنية مُعيَّنة في المُجتمَع تسحق فردية الإنسان وتميّز الإنسان بحيث لا يعدو أو لا يرى الإنسان نفسه قادراً على أن يرى نفسه ذاتاً مُستقِلة لها خياراتها ولها إمكاناتها ولها مزاياها ولها اختصاصاتها، في حين أن كل واحد فينا ومنا هو كونٌ بحياله وعالمٌ بإزائه، وإلا لماذا خلقنا في الشِكلة وفي الهيئة غير مُتشابِهين؟ ليقول لنا لستم مُتشابِهين في أكثر الأشياء، وقد قال أحد الحكماء الكبار الجامع المُشترَك بيننا أننا مُختلِفون، وهذا صحيح، أكبر مُشترَك بيننا اختلافنا، فأكثر ما يُوجَد فينا الاختلاف، وكلٌ يختلف عن الآخر وإن كان هناك مُشترَكات بلا شك لكن الجامع الأعظم ليس المُشترَك وإنما المُختلِف وفردية الإنسان.

علينا أن ننتبه إلى أن في مُجتمَعاتنا وإلى اليوم ومن أسف لا نجدُ مَن يُحدِّثنا عن أنفسنا، ليس عن أنفسنا كأمة وكجماعة وكشعب وكمجموعة وكحزب وتنظيم، فنحن لا نُريد هذا الآن وقد مللنا من هذا، وقد تكلَّموا عن هذا مليون سنة، فهم يتكلَّمون دائماً عن هذا وفي النهاية فقدنا أنفسنا جماعةً وفقدنا أنفسنا أفراداً، ولكن نُريد ابتداءاً مَن يُحدِّثنا عن أنفسنا أفراداً، أي عني وعنكَ وعنكِ أفراداً، فلابد من فردية الإنسان واستقلالية الإنسان، ما لي وما لك، ما أنا وما أنت، مَن أنا ومَن أنت، هذا الذي نُريده ولكن إلى الآن لا يكاد أحد يُحدِّثنا عن هذه الفردية، فرديتنا ذائبة ومُستهلَكة في المجموع، فهويتنا هوية المجموع وخياراتنا خيارات المجموع، ما نُحِب هو ما يُحِبه المجموع وما نكره أو ينبغي أن يكون كذلك ما يكرهه المجموع، ومصيرنا مصير المجموع ولا وجود لأيٍ منا خارج هذا المجموع، وهذا غير صحيح، والله – تبارك وتعالى – لا يُريد هذا ولم يخلقنا لهذه الخُطة، ولكن هذه خُطة الاستبداد والقهر والإخضاع، فالبنية التي تمخر وتعمل على كل المُستويات هى بنية الإخضاع، وطبعاً هم يُسمّونها الطاعة، فلا يذهبن بكم هذا الخداع إلى حيث يُريد ولا يُضلِّلنكم هذا الخداع عن حقيقة الأمور، ويجب أن تنتبهوا لأنهم يُسمّون السيء بإسم حسن وبعنوان حسن.

أُحِب أن أقول أولاً أن الطاعة في كتاب الله ليست هى الخضوع بأي حالٍ من الأحوال، وكذلك الحال في السُنة، فالطاعة في الكتاب والسُنة والسيرة وسيرة المُهتدين القادة الأبرار من أصحاب رسول الله تُعادِل الانتخاب الحُر، أي ما أُريده أنا وما أُوافِق عليه، ولذلك المادة “طوع”، فالاسم “طاع” والمصدر “إطاعة”، مِن طاع له وطاع معه وطاوعه إذا رضيَ بالإصحاب والانقياد، قال الله فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ۩، وقال أيضاً فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ۩، فما معنى تطوَّع يا أخي؟ كله من طوع  ومن تطوع، أي ألزم نفسه شيئاً ليس لازماً بالأصل، ولكن هو تبرَّع بهذا، هذا هو التطوّع، فكيف نفهم الطاعة على أنها إخضاع؟ كيف تُخفِض رأسك وتُنعِم فتقول نعم وأنت غير مُقتنِع ويُقال هذه هى الطاعة؟ هذه ليست طاعة، هذا إخضاع وهذا قهر وهذا استلاب وسلب ونفي لفردية الإنسان وشخصيته وحقيقته وكيانه ينتهي به إلى واحد وإلى رقم من الأرقام وإلى عضو في القطيع هم أحسن ما يتهيّأ للمُستبِد الظالم، فأمثال هؤلاء مُمتازون جداً، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن البداية ليست من الظالم ومن جهاز الاستخبارات وجهاز الشرطة وما إلى ذلك – هناك عشرات الأجهزة التي من المُستحيل أن نحفظها – وإنما منكَ أنتَ ومني أنا ومنكِ أنتِ، من الأب والأم، فالبداية الرئيسة من البيت، مَن يُربّي أولاده على نموذج الإخضاع الذي نُسمّيه طاعة – انتبهوا حتى لا نضل – هذا أكبر خدّام المُستبِدين والله العظيم، هذا الذي يُرسي دعائم الطُغيان في بلادنا، هو هذا حتى وإن كان شيخاً وعالماً ويحفظ كتاب الله بالقراءات الأربع عشرة، هذا أكبر عون للمُستبِد لأنه يهيئ له المادة الصالحة ويهيئ له الركوبة لكي يركبنا، فعلينا أن ننتبه إلى أن حمير السُلطان ونعال السُلطان هم هؤلاء المساكين، علماً بأن السُلطان لا يُؤمِن بأي ضمير برز إلا ضمير أناه، كما قال محمد عبده مرة في محمد عليّ باشا الكبير تقريباً “هذا الرجل لا يُحِب أي ضمير بارز ولا مُستتِر إلا ضمير الأنا، أناه هو فقط”، وهذا ليس قاصراً على محمد عليّ، فكل المُستبِدين عبر العصور لا يُؤمِنون إلا بأنفسهم، حيث تُوجَد أنا واحدة ويُوجَد فردٌ واحد هو هذا المُستبِد، أما الآخرون فهم دائماً مجموعات وقطُعان، يُوجَد النساء ويُوجَد الرجال ويُوجَد الحرفيون ويُوجَد المُثقَّفون والمشائخ والعلماء وهكذا بالمجموع، ويغضب جداً جداً جداً المُستبِد أياً كان في الشرق أو الغرب إذا برز أي ضمير حتى ولو على مُستوى لاعب كرة، فهو يغضب ويغيظه هذا، لأنه لا يُريد أن يبرز لاعب كرة أمامه، فلماذا يبرز لاعب كرة؟ يقول للاعبي الكرة ككل – لاعبو كرة في فريق مثل الفريق الوطني لكرة القدم – أهلاً وسهلا، ولكن يغيظه أن يبرز لاعب منهم ويهتف له الجماهير بإسمه، هذا يغيظه جداً جداً جداً، فيُدبِّر له تدبيرة ويُدهوِره على الرغم من أنه لاعب كرة ولا علاقة له بالسياسة، لكن هكذا هم، ونحن نُعطيهم هذا، نحن نُعطيهم هذا بدءاً من التربية البيتية الأسرية، تربية الاستلاب والقهر والإخضاع والذل، وهذا يُفسِّر لنا – كما قلت لكم – أشياء لا تخطر على بالكم، فمثلاً لماذا لا يحترم بعضنا بعضاً؟ أنا أقول لكم باختصار نحن العرب غير مُحترَمين، وأنا عربي وهذا يُؤذيني جداً ويجرحني لكن نحن غير مُحترَمين، فنحن لا نحترم بعضنا، وإذا وجدتم شخصاً يحترم الآخرين هذا الاحترام فإن هذا إما أن يكون ذلاً أو تذلالاً أو انتهازيةً أو ملقاً أو خوفاً عبودياً، إذا كان الذي يُؤدَّى له طقس الاحترام شخصٌ مُتسلِّط في أجهزة تنفيذية في الدولة في بلادنا فهذا ليس احتراماً، هذا ذل يبلغ حد العبودية، بل يُمكِن له أن يلحس حتى – أكرمكم الله وأكرمكن – حذاءه ونعله، فهذا عادي جداً بالنسبة له، والمُستبِد طبعاً وصاحب السُلطة الغاشم يرى دائماً أن الناس أقل من نعله، أحد المُستبِدين هنا في أوروبا قيل له – هذه لعبة التمثيلية كما يسموناها لكي يلعبوا عليهم – أن الناس في المجلس التشريعي اختلفوا، فالحزب الفلاني اختلف مع الحزب العلاني، فقال سأُرسِل لهم إحدى فردتي الحذاء لكي تُرجِّح جانباً منهم، فهم لا يُساوون حذاءً، علماً بأن نفس المنطق يُوجَد في الشرق وفي الغرب، فحين تُعطى فرصة للإنسان فأن يتغوَّل ويتألَّه وهو لايسوغ له ذلك، هو كتلة من العقد والفراغات والخواءات، وهو لا يستطيع أن يلعب دور إله أو يلعب دور حيوان كما قلت لكم، فانتبهوا وإياكم أن تظنوا أن المُستبِد يُمكِن أن يُصبِح إلهاً مُصغَّراً، بل هو يُصبِح حيواناً كبيراً، وأفلاطون Plato فهم هذا بذكاء عجيب جداً، فهو لا يُصبِح إلهاً شائهاً وإنما يُصبِح حيواناً فائقاً، أي سوبر Super حيوان، فهو سوبر Super في الحيوانية وليس في فوق الحيوانية، وإنما في الحيوانية نزولاً وليس في التعالي عليها نحو الإنسانية، فهذا هو الذي يجب أن ننتبه إليه، لكن كيف هذا؟ نحن غير مُحترَمين، وإذا وجدت الذي يُحترَم شخصاً عادياً وليس مُستبِداً وليس ذا حول سُلطان فاعلم أن هذا الاحترام له انتهازية، أي نُريد أن ننتهز شيئاً منه مثل ماله أو ربما علمه أو حيثيته وأن نتخذه واسطة لدى واحد مُتسلِّط مُتنفِّذ وإلى آخره، وأنا وجدت للأسف حتى مِمَن ينتمون إلى شخصي الضعيف ويدّعون أنهم من تلاميذي مثل هذا، وهذا حصل أكثر من مرة وغاظني وأحزنني ليس لأجلي وإنما لأجلهم هم، لأجل أنهم يحتجون ويقولون الشيخ أفتانا بهذا، فلا والله العظيم لا أفتيت ولا يُمكِن أن أُفتي بهذا، هناك  فتاوى تستحل ما حرَّم الله، فتاوى فيها أكل لحقوق الناس، ثم يقولون الشيخ أفتى بهذا، فكذبوا وأثِموا – والعياذ بالله – هؤلاء،  والله ما أفتيت بمثل هذا لكنهم يستغلون قربهم مني، ويدّعون أنهم قرباء أو أقرباء من الشيخ ويتتلمذون له من أجل أن يتكلَّموا بإسمه وأن يُبرِّروا سخافاتهم ونذلاتهم، وهذا شيئ غريب، وهو مسلك غير مُحترَم، فكيف يُمكِن لإنسان أن يسلك هذا السلوك؟ لماذا لا يحترم بعضنا بعضاً؟ أنا أحترمك أياً تكن، ما لم تُسيء إلىّ أنت مُحترَم، لم أر منك إلا ما يفرض احترامك علىّ وبالتالي سأحترمك وسأُلقِّبك بأحب الألقاب إليك، وعلينا أن ننتبه إلى أن النبي كان كذلك كما روى أبو عبد الله القرطبي في الجامع، كان يكون للصحابي الإسم والاثنان والثلاثة، ومُعظمهم كانوا كذلك مُتعدِّدي الإسماء، والنبي لم يكن يعلم جُملة أسمائهم، وإنما يعلم بعضها، فربما لقَّب الواحد منهم بلقب لا يرضاه، فقيل له يا رسول الله هذا يُحزِنه، فقال لا أعلم، أنا لا أعلم إلا هذا إسماً له، كأن يكون إسمه – مثلاً –  الأعرج أو الأعمش أو الأحنف وإلى آخره، فأنا أظن هكذا وأُناديه به، فأنزل الله – تبارك وتعالى – قوله وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩، فلا يجوز أن تأتي – مثلاً – لإنسان في مثل سنك وتقول له – مثلاً – يا ولد أو يا بُني، وإلا ما معنى هذا؟ هذه قلة أدب، وقد أتاني مرة رجل بعد خُطبة جُمعية كانت في التقوى وتربية الروح – لعل هذا غرَّه مني فقال الشيخ اليوم مُتروحِن فهيا نسطو عليه ونُنفِّس عن أحقادنا وعن الصغار الداخلي النفسي، وأنا أفهم هذا جيداً سيكولوجياً – وصافحني وهو يقول لي يا بُني بارك الله فيك اتق الله، فقلت له جزاك الله خيراً، فهو يُصلي خلفي ويتعلَّم مني ما لا يتعلَّمه في كتاب من أكثر من سبع عشرة سنة ويقول لي يا بُني، فقلت في نفسي يا قلة الأدب، يا مَن لم يجد مَن يُؤدِّبه، فهذا لم يجد أباً يُؤدِّبه حقاً هذا ولم يجد مُعلِّماً يُعلِّمه أصول الأدب مع الناس، فأنا لا يُمكِن أن أُناديه ولا أن أُنادي حتى ابنه قائلاً يا بُني، فنحن  نُنادي الأطفال الصغار تحبباً يا بُني، وحتى المُراهِقين الصغار نقول للواحد منهم يا أخي، والنبي هو الذي علَّمني هذا، فالنبي  يُنادي عليّاً ويقول له يا أخي، وعليّ كان شاباً دون العشرين ومع ذلك يقول له يا أخي، ويُنادي على مُعاذ بن جبل – مُعاذ مات في زُهاء الثلاثين – ويقول له يا أخي، والله إني لأُحِبك يا أخي.

الله أكبر، فهو طبعاً يقول له يا أخي، فهو يُنادي صحابة شباباً صغاراً بقوله يا أخي، وكذلك الحال مع أخيه أنس بن مالك الطفل الصغير، فالنبي كان يَكنيه وعمره خمس سنوات يَكنيه، علماً بأننا نقول يُكنّيه بالضم وهذا غلط، والصحيح هو يَكنيه بالفتح، وعلى كل حال كان يقول النبي يا أبا عُمير ما فعل النُغير؟ والنُغير تصغير نُّغَر وهو نوع من البلبل، وقد مات لكن الشاهد هنا أن النبي يقول له يا أبا عُمير، فهو يُعطيه شعوراً بذاته احتراماً لشخصيته وهو طفلٌ صغير!

إذن أنا أقول لكم نحن لا نحترم الآخرين لأننا لسنا مُحترَمين، يستحيل على مَن ليس مُحترَماً في داخله أن يحترم الناس، فإن رأيته يحترم فهو خضوع لانتهازية والوصولية أو خضوع للعبودية وليس ثالثاً، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن مثل هذا الذي يخضع خضوع انتهازية هنا وخضوع عبادة وعبودية هناك – والعياذ بالله – يأنف ويستنكف ويستكبر وتخرج منه رائحة عفنة إزاء مَن يراهم دونه أو حتى مثله،فيستكبر عليهم ويقهرهم وينهرهم ويستقبلهم بما لا يسوغ في الأدب لا عُرفاً ولا ديناً ولا عقلاً، فكيف تُخاطِب الناس بهذا الخطاب يا رجل؟ كيف تُخاطِب إخوانك بهذا الخطاب؟ لأنه ليس مُحترَماً، لكنكم قد تقولون الآن هذا لم يُفسِّر لنا كل شيئ، وهذا صحيح طبعاً، فهذا نصف التفسير، لماذا ليس مُحترَماً؟ وبالعكس طبعاً نجد أن المُحترَم في ذاته لا يُمكِن إلا أن يحترم الآخرين، لا يُمكِن إلا أن يكون كذلك، لكن هل تعرفون لماذا؟ باختصار وبكلمة واحدة لأن الإنسان ينظر إلى الآخرين وإلى العالم وإلى الوجود من خلال مرآة نفسه، لا يُمكِن أن أنظر إلى الآخرين من خلال مرآتك أنت، لا يُمكِن لأن هذه ليست عندي، فأنا عندي مرآة واحدة هى مرآتي أنا، كيف بنيتها وكيف كوَّنتها وأنظر، قال أحد الحكماء وأظنه مُطرَّف بن عبد الله بن الشِّخِّيرِ “إذا أردت أن تنظر عيوباً جمة – أي إذا أردت أن ترى مجمعاً للعيوب وكتلة من العيوب وجبل عيوب مُجتمِعة في شخصٍ واحد  – فانظر عيّاباً كبيراً”، أي انظر إلى الذي يعيب الناس ويقول هذا قصير وهذا طويل وهذا سمين وهذا رفيع وهذا أحمر وهذا أزرق وهذا أصفر وهذا يعجب وهذا ما لا يعجب، فهو لا يعجبه أي شيئ في الكون، ومثل هذا لا أمان له ولا يُرضيه أحد، لكن لماذا هو كذلك؟ قال مُطرِّف – على ما أذكر إن شاء الله –  لأنه إنما عاب الخلق بفضل ما فيه من العيوب، فهو يرى نفسه كذّاباً ويظن كل الناس كذّابين، ويرى نفسه ويُوقِن من نفسه الخيانة – خائن لا يُؤتمَن على عِرض ولا على مال ولا على سر – ويظن كل الناس خونة مثله، يرى نفسه مُندلِعاً شهواناً – والعياذ بالله – ويشتهي ما ليس له ولا يستطيع  أن يضع حداً لبطنه ولا حداً لفرجه ويظن أن الناس مثله.

كم أعجبني العامة في حكمتهم، هذا تعلَّمناه في طفولتنا من العامة ومن آبائنا وأمهاتنا، عوام لكن – والله العظيم – عندهم حكمة – وهذا ما علَّمتني إياه الحياة – يفتقر إليها – والله العظيم – بعض كبار العلماء – اُقسِم بالله – وبعض مُؤلِّفي الكتب، فالعامة علَّمونا أن الذي لا يكون عفاً في بطنه لا يكون عفاً في فرجه من رجل وإمرأة، فالرجل الضعيف أمام بطنه ضعيف أمام فرجه، وأنا أقول لكم أن الفضائل لا تتجزأ،فالضعيف في أي خصلة تجدونه ضعيفاً في نظائرها، فالضعيف في شهوة مُعيَّنة يكون ضعيفاً في شهوات أُخرى كثيرة، والقوي أمام شهوة البطن حتماً قويٌ أمام شهوة الفرج، والعكس صحيح طبعاً، وكذلك الحال أمام شهوة اللسان، فقد تجد مَن يتكلَّم في الناس، كلما اشتهى تكلَّم، فإن اشتهي اليوم أن ينعت فلاناً نعته، وإن اشتهي اليوم أن يُفسِّق علاناً فسَّقه، وهذاشيئ غريب يا أخي، وإن اشتهي أن يشهد بالولاية والصلاح جعله من كبار أولياء الله العارفين، كأنه ما شاء الله رب العالمين وكأنه يُوزِّع صكوك الغفران والحرمان على الناس، فيا أخي ما أدراك أنت؟ لا يُزكى على الله أحد، اترك الناس لخالقهم!

إذن “فمَن أراد أن ينظر عيوباً جمة فلينظر إلى عيّابٍ كبير فإنه إنما عاب الناس بفضل ما فيه من العيوب”، أي أنه معيوب بالعامية ومعيب بالفصحى، فهو معيوب مُمزَّق مُخرَّق وليس مُحترَماً في ذاته، ونحن نظر إلى الناس من خلال أنفسنا، فمَن رأيتموه مُحترِماً يحترم الآخرين فاعلموا أنه في ذاته مُحترَم واعلموا أنه نشأ نشأةً سوية طبيعية.

الجزء الثاني من تفسير ظاهرة الاحترام واللا احترام يرجع إلى الطفولة، فتِّش عن الطفل فينا وفتِّش عن طفولتنا، فمفاتيح أسرارنا في طفولتنا، أي في ماضينا هناك وليس الآن، ليس في كلامنا وليس في مظاهرنا التدينية، بل – والله العظيم – في طفولتنا، فمثل هذا الطفل لم يُحترَم، ومن ثم يُصبِح هذا الشخص المسكين الذي لا يحترم الآخرين ولا يحترم نفسه، فهو دائماً بين خوفٍ وغضب، إما أنه خائف من الآخرين أو أنه غاضب عليهم، الله أكبر يا أخي، كيف هذا؟ الناس فيهم خير كثير، والنبي قال مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم، والله العظيم يُتاح للمرء كل فترة وفترة أن يلتقي ببعض عباد الله يحسدهم على أنفسهم فيقول هنياً لهم أنفسهم وهنيأً لهم الكرم والصدق الذي يتمتعون فيه والأريحية والعفوية والطيبة والأخلاق، وهم موجودون بكثرة يا أخي، ولكن بعض الناس لا يرى في الناس إلا عيباً، إما خائفٌ منهم وإما غاضبٌ عليهم، وهذا مُعقَّد طبعاً من الطفولة، فالخوف والغضب هما تمظهران أو تظاهران للإخناع  والإخضاع والقهر طبعاً، والإنسان حين يُضغَط عليه يعيش دائماً خائفاً وغضباناً أيضاً،  لأنه لا يرضى لنفسه هكذا، فقد خلقه الله حُراً ولكن يُراد له أن يعيش مقموعاً مكموعاً مقهوراً منهوراً، أن يكون عبداً مسحوقاً لا شخصية له ولا استقلالية له ولا إرادة ولا مُقوِّم ولا مُشخِّص، وهذا شيئ مُتعِب جداً، فانظروا إذن إليه في طفولته لأنه لم يُحترَم، فهذا الطفل لم يُحترَم طبعاً، وبالتالي مُستحيل أن يكون قد قيل له يا أبا عُمير أو يا أبا محمد أو يا أبا عبد الله، هذا مُستحيل، فهو أول ما يُخطيء يُقال له يا كذا وكذا وكذا وكذا، يا أبا الأذنين ويا أبا العينين ويا أبا كذا وكذا من مثل هذه الألقاب السيئة التي تُعقِّد الطفل والله العظيم، فإذا كان في أذنيه بروز مُعيَّن يُقال له يا أبا الأذنين، وقد يُقال يا أبا العينين ويا أبا الكذا، مثلما يُقال بالعامية “يا أبو رأس ويا أبو بطيخة ويا أبو طنجرة”وما إلى ذلك، فما هذا يا أخي؟ ما هذه الجريمة في حق أولادنا؟ نحن هكذا نخلق الطواغيت، نخلق الخنوع ونخلق التمرّد الفوضوي المُدمِّر، وهذا ما يُفسِّر كل ما في بلادنا، فإما خضوع وخنوع وإما قتل وتفجير، فلا يُوجَد حل وسط، لا تُوجَد عقلانية حتى في التغيير، لأنها مُجتمَعات مقهورة مُخضعَة لم تبرز الفردية فيها والاستقلالية، فلا صدق ولا إبداع ولا حرية، والثلاثة أجمعهم بكلمة واحدة يُمثِّلون الاستقلالية، فالشخص المُستقِل أعطه استقلاليته وأتح له أن يكون مُستقِلاً وسوف يكون حُراً وسوف يكون مُبدِعاً وسوف يكون صادقاً، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن  البداية من هناك، ولذلك النبي كان يمشي في سكك المدينة فإذا رأى طفلاً أو أطفالاً تقرفَص وجلس إليهم، وعلماء التربية اليوم يُعلِّموننا هذا ويقولون يجب أن نفعل هذا مع الأطفال، فهو كان يجلس كالقرفصاء ويبدأ يتكلَّم معهم، فيقول مَن أنتَ يا بُني؟ ابن مَن أنت؟ باركك الله، ما شاء الله، أنت وكذا وكذا، فهو يفعل هذا بكل أدب وتواضع، لا يُوجَد عنده اذهب يا ولد كما يقول البعض.

قبل أشهر يسيرة حدَّثني رجل بلغ منصباً عظيماً جداً في سياسة دولته – مناصب عُليا جداً من أعلى ما يُتصوَّر ولكنه يفتقر المسكين وهو ابن هذه البنية إلى أشياء – قائلاً: أنا رجل ومُتزوَّج ولي كذا وكذا من الأولاد، وضربني عمي على وجهه بكف أمام الناس – عشرات الناس – في الديوان، فأخذته هكذا وقلت له  “تكرم يا عمي” وجلست، فقلت في قلبي تباً لك ولعمك وتباً لمُجتمَعاتنا، فإلى متى هذا؟ ولذلك بنفس المُنطلَق وبنفس المعنى كان النبي يرفض هذا، والنبي ضرب رجلاً بالسواك على بطنه – سواد بن غزية – فقال له أقدني، فقال له هذه بطني، لكي يردها وكأنه يقول له هذا صحيح، فلا يجوز لي وأنا محمد أن أضربك، أنا ضربتك ومن ثم لابد أن أُضرَب، فهذا هو إذن، لكن هذا يقول لي أن عمه ضربه بالكف وهو رجل مُتزوِّج  وبرُتبة وزير، فما هذا؟ أي مُجتمَعات مجنونة هذه؟ أي مُجتمَعات هذه؟ هذه غُلِبَت على عقلها وعلى رُشدها، وبإسم ماذا؟ بإسم الدين، فكل هذا يُحال به على الدين ويُقال الدين يُريد هذا لأن هذا من احترام الكبار ومن بر الوالدين وكبِّر وكبِّر، وهذا خلط للأمور بطريقة عبثية فقدت المعنى والعقل والضوابط، لكن هذا شيئ وهذا شيئ.

على كل حال قبل أيام حدَّثني شخص مُعرِباً عن فرحته الجمة بأن أباه الشيخ المُسِن الذي جاوز السبعين نجح في التعامل مع اللاب توب Laptop – أي مع حاسوب شخصي محمول منقول – وبدأ يدخل على المواقع – Websites – ويبحث عن بعض الأشياء وهو في مُنتهى النشوة، فقلت له صحيح هذا غير مألوف في بلادي – في بلادنا العربية هذا غير مألوف – وغير مأنوس وهو مُثير للدهشة والعجب ويُفرَح به، لكن هنا في الغرب هذا الشيئ أقل من عادي، ففي ألفين وواحد وصل عمر أشهر حارس مرمى ألماني إلى إحدى وثمانين سنة، وهو يلعب حارس مرة كالنسناس ويقفز من هنا إلى هنا، لأن عنده رياضة ولياقة وقوة وقدرة وثقة، وبالتالي يفعل هذا بشكل عادي دون أي مُشكِلة، وهنا يُقدِّمون ويتحصَّلون على الدكتوراه في سن التسعين، وقد رأينا في البي بي سي BBC قبل أشهر سيدة في الخامسة والتسعين قرأت عشرات آلاف الكتب وهى إلى الآن قارئة نهمة، فهى تقرأ في ميادين شتى بشكل عادي، ومألوف جداً هنا في الغرب أن تجد مَن هم في السبعين وفي الثمانين ويُمارِس الواحد منهم هواية جديدة ويكتسب مهارة جديدة، فهذا أمر عادي لكنه لدينا غير مألوف بالمرة، وحُقَّ له أن يكون غير مألوف بالمرة، لكن لماذا؟ لأن حين يكون أحدنا طفلاً بلا شك وبلا ريب يلزمه الأب والأم والإخوة الكبار والعم والخال والجيران بما لا يُريد، فكلهم يُفكِّرون بالنيابة عنا ويُفكِّرون لنا ويرسمون لنا كل شيئ، وإذا دخلنا الروضة أو المدرسة نجد طبعاً أن الأستاذ هو الحاكم بأمره، والطفل المسكين هو المحكوم بالكتاب المُقرَّر، وهذا ليس مُعلِّماً طبعاً، هذا إسمه التعليم النصي أو بحسب باولو فريري Paulo Freire التعليم البنكي، هذه معلومات تُحفَظ كما هى، ولا تُناقَش ولا يُطلَب تبريرها ولا يُجادَل فيها، فالكتاب أشبه بالكتاب المُقدَّس، والمُعلِّم أشبه بالكاهن الذي يُعلِّم الكتاب المُقدَّس، فلا يخرج عن النص بل لا يخرج عن سطر واحد، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن المُدرِّس نفسه مقموع، فالمُدير يقمع المُدرِّس، زالمُدير والمُدرِّسون مقموعون بالمُشرِف التربوي، والمُشرِفون مقموعون برؤوساء إدارات أعلى ثم بوزير التربية والتعليم، وهذا مقموع بالرئيس طبعاً وهكذا، فهذه هى البنية، ولذلك ندخل وكل شيئ مرسوم وله خطوط ومسارات عتيدة مُحدَّدة سلفاً، فلا نقاش ولا حوار ولا جدال، فقط حفظٌ وتكرار!

حدَّثت إخواني قبل أيام أن اللورد كرومر Lord Cromer – المُعتمد البريطاني – في الـ Modern Egypt يقول “علينا أن نحترم خصوصيات الشعب المصري –   حين أنشأوا جامعة القاهرة حدث هذا، فانظروا إلى الخبث الاستعماري وخبث الإنجليز، فهم أخبث الأمم وأذكاها – في الجامعة والمدرسة، فالتعليم والعلم عندهم حفظ وتلقين وينبغي أن يبقى هذا كما هو”، أي يجب أن نعمل على أن يبقى العلم حفظاً وتلقيناً، فلا ينبغي أن يُوجَد أي تفكير أو جدال أو مُساجَلات أو إعادة نظر أو شك أو نقد، فقط الحفظ، مثل قال الله وقال الرسول وقال ابن تيمية والطبراني وقال محمد عبده وقال سيد قطب، فكله قال قال قال، وقال مقول القول وأنا القائل وانتهى كل شيئ، هذا هو فقط، ومن هنا قال “هذه الخصيصة من خصائص الشعب المصري”، ونحن – ما شاء الله – ننتشي جداً بحديث الخصوصية ونقول نحن أمة لدينا خصوصية، فكل أحاديثنا عن الخصوصية، ومن ثم مللنا من هذا، كما أن كل أحاديثنا عن الطاعة،وهذه في نظري نُكتة – والله – وطُرفة من طُرف القرن الواحد والعشرين، وكأننا نحتاج إلى مزيد من الطاعة، نحن مُشبَعون حتى القهر بالطاعة، نُريد مزيداً من رائحة الاستقلالية ورائحة الفردية ورائحة النقد ورائحة أن نكون يا أخي ولو قليلاً، ومع ذلك هم مازالوا يُحدِّثوننا عن الطاعة، وهذه نُكتة – والله – طبعاً،  فهذه نُكتة تربوية ونُكتة تروبية وعلمية وثقافية في حياتنا العربية ما شاء الله.

نعود إلى حديثنا، فحين نخرج إلى الجامعة ليس الوضع أحسن كثيراً، فنفس الشيئ يحدث في الجامعات، فكل شيئ مرسوم لك، وعلى مُستوى الأمة طبعاً ما شاء الله الحاكم بأمره هو يُفكِّر عن الجميع وللجميع، ويا لسخرية الاشتقاق، فهم يقولون لنا كلمة رئيس، مثل رئيس الدولة ورئيس الشركة ورئيس المُؤسَّسة ورئيس كذا ورئيس كذا، ونُحِب هذه الكلمة، فيا للسخرية، وكلمة رئيس من الرأس، فهذا اشتقاقها هو اشتقاقها الذي ينبغي أن ننتبه إليه، فرئيس تأتي من الرأس، وبئس الاشتقاق – والله العظيم – وبئست الكلمة وبئس المضمون، فرئيس من الرأس، والرأس هو أعلى البدن، فالذي يكون رئيساً هو الأعلى، فهو فوق الكل ويجلس فوق الكل، أي أنه ليس واحداً معاهم مثلما قال الله وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ۩، والنبي يقول إنما أنا واحد منكم، سيروا بسير أضعافكم، ويقول وأنا علىّ جمع الحطب، وذلك حين خرج في سفر مع الصحابة، وأدى كل واحد من الصحابة عملاً، فذهب النبي لكي يجمع الحطب، فقالوا يا رسول الله نحن نكفيك، فقال لا، لماذا تكفونني؟ أنا لست كُهنة ولست رجلاً جبَّاراً عنيداً، أنا واحد منكم وأنا أخٌ لكم ولذا أنا علىّ جمع الحطب، وحين أتاه أحدهم ليحمل متاعه قال صاحب الشيئ أولى بحمله، أي أنه قال أنا سوف أحمله، فأنا قادر على أن أحمله ومن ثم لا تحمله عني، فهل هذا جبَّار؟ هذه هى التربية إذن، هذه تربية الشخصية وهذه تربية الاستقلال والفردية وإبراز الفردية.

يأتي النبي  يوماً فيجلس، فيقوم الصحابة فيصير هو جالساً وهم يظلون وقوفاً، فيقول مَن أحب أن يمتثل له الناس قياماً  – هذا هو الامتثال قياماً، أي أن يجلس هو والناس وقوف مثل كسرى وقيصر – فليتبوأ مقعده من النار، علماً بأن ليس المقصود بالقيام أن يأتي رجل مُحترَم فتقوم وتُسلِّم عليه احتراماً له، بل بالعكس هذا من الأدب قوموا لسيدكم، والنووي عنده رسالة في هذا الموضوع، فهذا أدب طبعاً، وبالتالي لا ينبغي أن يأتي لك عالم كبير عمره سبعون أو ثمانون سنة وهو رجل مُجاهِد في حين أنك  ولد صغير ابن عشرين سنة ولا تقوم من مكانك لكي تُسلِّم عليه، فقط تُعطيه يدك وأنت في مكانك جالساً، فهذه قلة أدب ولكنها تحدث بإسم الدين أيضاً، فهذه قلة أدب بإسم الدين، لكن ينبغي أن أقوم له واُصافِحه فإذا جلس جلست معه، فهذا جائز وليس فيه شيئ، ولكن أن يجلس وأن أبقى واقفاً أنا كالصنم فهذه كسروية، والنبي أراد أن نبرأ منها وقال فليتبوأ مقعده من النار. والعياذ بالله.

انظروا إلى العقاب الجماعي في حياتنا، فهذا أكثر ما كرهت في حياتي في البيت وفي المدرسة بالذات، لأن في المدرسة كانت الظاهرة أفقع وآلم وأوجع، يُخطيء ولد واحد – والصف كان فيه زُهاء خمسين تِلميذاً أو تَلميذاً – كأن يكسر شيئاً أو يكتب شيئاً فلابد أن ندل عليه وأن نُصبِح وشاة، في حين أنه لا يتبغي أن نشي، ويُقال مَن فعل هذا؟ فنسكت طبعاً لأننا لا نُحِب أن نقول عن أخينا وزميلنا، فيُقال لنا إذن اخرجوا ويُضرَب الخمسون دون أي مُشكِلة، وأحياناً دون أن يسأل يُضرَب الكل ولا يحق لأحد أن يعترض، وفي البيت نفس الشيئ، فهم يقولون لك الرحمة تخصص والبلاء عام، وهكذا هم يفهمون الدين ومن ثم يقولون لنا نعمكم بالبلاء جميعاً لأن الرحمة تخصص والبلاء عام، وهذا يُؤكِّد أنهم يُعامِلوننا على أننا قطيع، فهناك مجموع إسمه الصف، في حين أنه لا يُوجَد في شيئ إسمه الصف، وإنما يُوجَد خمسون تلميذاً وكل واحد يختلف عن الثاني، فيُوجَد المُؤدَّب ويُوجَد غير المُؤدَّب، ويُوجَد المُتفوِّق ويُوجَد البلي، ويُوجَد الكسلان ويُوجَد النشط، هذا يُوجَد وذاك يُوجَد، فعاملونا كما نحن، لكنكم تُعامِلوننا كصف واحد يجب أن يُعاقَب كله أو أن يُثاب كله، وفي البيت نفس الشيئ، لكن الوضع مُختلِف، فأين هذا من قول الحق وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ أُخْرَىٰ ۚ ۩؟ الله لا يُعطي نفسه هذه الصلوحية أو الصلاحية أن يأخذ الناس جميعاً بذنب واحد أو اثنين، فهو لا يفعل هذا، ولكن إذا عمَّ الخبث هذا شيئ آخر، وهنا لم يعم وإنما هو ذنب واحد أو ذنبان، والله يقول كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، لكنهم يقولون عكس هذا بل وجعلوه نصاً دينياً وحديثاً قدسياً ربانياً، فيُقال بوجود حديث قدسي يقول “إني أنا الله لا إله إلا أنا أغضب فإذا غضبت لعنت وإذا لعنت بلغت لعنتي السابعة من الولد” وهذا – والله – كذب، فأنا أقول لكم أن هذا – والله – كذب ولا تبحثوا عن إسناده، لأن الله يقول وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ  ۩، فعكرمة ابن أبي جهل، وهذه ليس لها علاقة بتلك، وكيف كان أبو عمر بن الخطاب وكيف كان هو؟ هذه ليس علاقة بتلك إذن، لكنهم يقولون أن الله قال أنه  يلعن، فإذا لعن الله أحداً لعنه إلى سابع ولد من ذريته، وهذا كذب، فليس هذا الله، هذا الطاغوت وهذا الحاكم الشرقي والمُستبِد الشرقي وليس الله.

نعود إلى طُغياننا في الجامعة – كما قلنا – ثم بعد ذلك المُستبِد، حيث تمضي بعد ذلك  السنون والعقود ويموت الأب  والمُعلِّم والجد ويبقى طبعاً الحاكم بأمره أو يخلفه ابنه أو حفيده، فأتحرَّر أنا من سُلطة الأب لأن عمري الآن خمسون أو ستون سنة، وقد مات الأب ومات الجد ومات الأستاذ ومع ذلك أجد نفسي عاجزاً وغير قادر على المُبادءة ولا الابتكار ولا أن أكتسب شيئاً جديداً لأنني عاجز طيلة حياتي، فكنت طفلاً عاجزاً وشاباً عاجزاً وكهلاً عاجزاً، المُجتمَع يُفكِّر لي ويُفكِّر عني والكل يأمرني أن أنقاد لما خُطَّ ورُسِم لي وإلا أنا إنسان البعيد رَذل، ففي اللغة الشامية يُسمونه رَذيل، وباللغة المصرية كان يُسمّيها عبد الناصر رَذالة المُثقَّفين، فعبد الناصر ما شاء الله يقول لك هذه رَذالة المُثقَّفين، ولا ندري كيف تكون هذه رَذالة، فوالله ما الرَذل إلا أنت ومَن هم مثلك، فهو لا يُريد أن يرى مُثقَّف يقول له لأ يا عبد الناصر، لأنه الحاكم بأمره، فإذا قال ينبغي على الكل أن يُنعِم له بأن يقول نعم مثل تنابلة السُلطان، ومِن المُثقَّفين مَن دفعوا الثمن سجناً لمدة عشرين وثلاثين سنة وبعضهم على أعواد المشانق، وعلى كل حال عبد الناصر كان يقول رَذالة المُثقَّفين، فهم يُعتبَرون رَذلين وقليلين الأدب كما كان يقول، لكن هل يُوجَد في السياسة شيئ إسمه قلة أدب؟ هذا شأنٌ عام يا حبيبي، هذه ليست أُسرة وأنت رب الأُسرة – كما قلنا – فيها، لكن هم يرون أنها أُسرة، وإذا نظرتم حتى إلى كلمة كلمة مُستبِد سوف تجدون أنها كلمة يونانية الأصل، ففي اليونانية يُقال Despotes،  لكن ما معنى Despotes باليونانية؟ رب الأُسرة، فأصل المُستبِد هو رب الأُسرة، وهذا مُوحٍ وجميل جداً لأن الاستبداد إنما ينجم وينشأ من الأُسرة، فهذا يحدث معنا أنا وأنتِ حين نُخرِج مُستبِدين صغاراً – والعياذ بالله – أو خاضعين كباراً، وكل شخص يُربّى بإنموذج الخضوع والقهر هو مُؤهَّل أن يكون واحداً من اثنين لا ثالث لهما، إما أن يخنع خنوع العبيد وإما أن يتفرعَن ويعلو علو الفراعنة، فأن يكون شخصاً سوياً هذا مُستحيل، لأنه غير قابل لهذا، وهذا غير موجود لديه، لذلك آن الأوان أن نُعيد النظر في مناهجنا التربوية بدءاً من الأُسرة وأن يُكرِّر العلماء والتربوين والفلاسفة والمُفكِّرون والخُطباء والإعلاميون ونحن حتى الآباء والأمهات هذا وأن نُمعِن النظر ونُبديء ونُعيد ونُكرِّر القول في هذه المسائل علنا نُقارِب النموذج القرآني والنموذج المُحمَّدي في التربية لنُخرِج أُناساً أحراراً في أمةً من الأحرار لا أمةً من العبيد.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم  فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

في ظلِ مثل هذه الأنماط والنُظم من التربية تفقد الأشياء دلالاتها ومعانيها لا يغدو شيئٌ له معنى، فالحب – مثلاً – ليس له معنى والصداقة ليس لها معنى والزوجية ليس لها معنى والتربية ليس لها معنى والحلف بالله –  القسم بالله واليمين – ليس له معنى، والشرف كذلك، فكل هذا ليس له معنى،  لماذا إذن؟ لأن هذه الأمور لا يحتاج أن يتوسَّلها وأن يتحدَّث عنها مثل هذا الطاغية، فالطاغية لا يتحدَّث عن صداقة أو عن محبة أو عن وفاء ولا يحتاج إلى أن يُقسِم بالله، لا يتحدَّث عن هذا لأنه مُتألِّه صغير، هو حاكم بأمره، ومَن سوى الطاغية يفعلون هذا؟ هم يفعلونه كعبيد خضوع أو خُضعان والعياذ بالله، ولذلك يقولون هذا وهم لا يُريدون معناه لأنهم لم يعرفوا معناه أصلاً، وهذا الموضوع مُعقَّد ولكن سأضرب لكم مثلاً واحداً، لماذا يُمكِن أن تنفصم علاقاتنا بسرعة لمحية؟ لماذا يُوجَد لدينا لمحية الانفصام؟ أنا شخصياً شهدت انفصام علاقات صداقة من إخوة عمرها عشرين سنة بسبب أسباب تافهة جداً، وهذه ليست صداقة طبعاً، فالصداقة لا تنفصم أبداً بسبب تافه أو حتى بسبب جليل لمرة واحدة، ولكن حدث هذا لأنها علاقة استعباد، فأحدهما خاضع والثاني مخضوع له، هذه هى المسألة إذن، وطبعاً يُمكِن للسيد أن يستغني عن عبده، ويحق للعبد أن يهرب من سيده وهو يطوق إلى هذا – يطوق إلى لحظة الهروب – طبعاً، ولذلك صداقتنا لمحية، ويُمكِن أن تنقلب في لحظة عين إلى عداوة لأنها ليست صداقة مُتكافئة، وعلينا أن ننتبه إلى أن زوجيتنا كذلك طبعاً، فحتى إذا طلَّقها أو طلَّقته أفشى أسرارها، وهذا يحدث وسمعنا من هذا الكثير، فهى قد تُفشي أسراره وتفضحه على الملأ، لكن أين الزوجية؟ أين الوفاء؟ أين التزمم؟ أين العشرة؟ أين تقوى الله؟ هذا شيئ غير مفهوم والله العظيم، وكذلك الحال مع اليمين، فيُقسِم لك الواحد خمسين يميناً مُغلَّظة مُوثَّقة ثم يستبين أن البعيد كان كذّاباً وأنه فعل هذا من أجل عشرين أو ثلاثين يورو، وهذا شيئ لا يُصدَّق، لذا  كل شيئ ليس له معنى، ومن هنا أقول لكم أن الشخص المقهور والشخص الخاضع والشخص العبد لا قيمة لشرفه ولا لكلمته ولا ليمينه ولا لصداقته ولا لعلاقته، فأنشئوا أحراراً وسوف ترون كل شيئ يعود ويأخذ معناه ودلالته ومن ثم تطيب الحياة وتجمل.

أختم أيضاً بجُملة أُخرى وهى ماذا يفعل المُستبِد بحُرٍ أو حُرين؟ إما في أقبية السجون وغيابات الزنازين وإما على أعواد المشانق، وهذا ما حصل ويحصل إلى اليوم طبعاً، ولكن ماذا عساه أن يفعل بعشرة ملايين حُر أو بعشرين مليون حُر؟ والسؤال بالأحرى ما عساهم هم أن يفعلون به؟ فهم يدقون رأسه، ولذلك يوم نُربّي جيلاً – انتبهوا لأن  البداية عندنا، فلا تُفكِّروا طويلاً وكثيراً، لأننا فقط نهجو الحكّام ونحن غالطون – علينا أن نبدأ من الأُسرة، فأجيالنا ميؤوسٌ منها الآن وبالتالي انتهت ولا فائدة، وكما يُقال لن يُصلِح العطّار ما أفسد الدهر، ولكن يدب أن نبدأ بداية صديقة مع أجيال جديدة، فيوم تخرج أجيال حُرة مُستقِلة تشعر بذاتها وبذاتيتها وبكرامتها ويصل عددهم إلى عشرين أو ثلاثين مليون حُر لن يكون السؤال ما عساه أن يفعل  الطاغية معهم ولكن ما عساهم هم أن يفعلوا به وبأمثاله، سيطير في لمحة عين – والله العظيم – ولن يكون له مجال أن يعيش هذا المُستبِد المُتألِّه، وهذا هو الحل!

يقول عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة فيما أخرجه مسلم فالتفتُ إلى عبد الله بن عمرو  – علماً بأن الحديث طويل وهذا في آخره – بن العاص وقلت له فها هو ابن عمك مُعاوية بن أبي سُفيان – هذا في مسلم – يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وأن يقتل بعضنا بعضاً، والله – عزَّ وجلَّ – يقول لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ  إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۩، فسكت عبد الله ساعة ثم قال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله.

طبعاً لا طاعة لأحد أياً كان – خليفة أو أمير المُؤمِنين أو شيخ أو أب أو أم أو مُدرِّس –  في معصية الله، قال الله وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ  ۩، وأخيراً النبي قال ليس هذا فقط بل قال أن الطاعة تكون حتى فيما يُستطاع، فلا يُمكِن أن تُكلِّفني أن أتنازل عن حقوقي وعن شخصيتي لأكون مُطيعاً حتى لأبي وأمي، فالطاعة تكون فيما يُستطاع، أي فيما أستطيعه كبشر وكإنسان، ولذلك روى مسلم وروى البخاري عن جرير بن عبد الله أنه قال بايعت النبي – صلى الله عليه وسلم – على السمع والطاعة فلقنني –  النبي قال له انتبه، فهو يشترط له تيسيراً عليه – فيما استطعت والنصحِ لكل مسلم، أي وعلى النصح لكل مسلم، وروى الترمذي في جامعه عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أنه قال كان – صلى الله عليه وسلم – يُبايعنا على السمع والطاعة ويقول فيما استطعتم، هذا هو إذن، فلا يُوجَد قهر ولا يُوجَد كره –  يُقابِل الطاعة الكره – أيضاً، لأن كل ما كان فيه إكراه – انتبهوا وخذوا هذا من الآي القرآني – لا يسوغ أن نُسمّيه طاعة، إنما نُسمّيه إكراهاً وإخضاعاً.

(11/6/2010)

كل شيء من أشياء الطبيعة والكون له مسار عتيد لا يحيد عنه، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولذلك الظواهر الطبيعية تتغيا – إن جاز هذا التعبير- وهو مجازي إلى أبعد حد، أو تتقصد أو تسلك بالحري أسهل السبل، وأيسر الطرق، ليس لديها طموح، ليس لديها ممانعة. فتيار الماء المنساب إن صادفته عقبة فإنه يحيد عنها مباشرة، ويأخذ بأيسر سبيل، إلاَّ هذا الإنسان، إنه ظاهرة فوق طبيعية، فيه جزء طبيعي يخضع للظواهر الطبيعية هذا الجسم، ولكن المقوم الأعظم له، والجزء الأشرف فيه ينتمي إلى ما وراء الطبيعة، لذلك هذا الإنسان يعاني دفع ضرائب طموحه وتطلعاته، وهو الذي يسير ضد الجاذبية، ليست ضد الجاذبية الأرضية فقط، بل ضد جاذبية أهوائه وأمياله النفسانية، النفس تنزع إلى شيء وهو يقمعها، ويأخذ فيما هو أشق، وفيما هو أطول، وفيما هو أصعب بفضل الأمانة التي حُملها، حرية أن يختار.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: