بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إخواني وأخواتي:

صلاة العيد سُنة مؤكَّدة وكيفيتها لمن لا يعلم هى ركعتان، نُكبِّر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام سبع تكبيرات، ويمكن أن يتلو المصلي بين كل تكبيرتين المُعقبِات، أي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وتُرفَع الأيدي سنةً عند بعض الأئمة بين التكبيرات ونتلوا بعد ذلك الفاتحة وسورة ونركع ونسجد كالمعتاد ثم نقوم ونكبر سوى تكبيرة القيام خمس تكبيرات ثم سورة بعد الفاتحة وهكذا تنتهي الصلاة إذ تعقبها خطبة العيد، استقيموا واعتدلوا يرحمني ويرحمكم الله.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه ومولاه، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر كلمة يصدح بها الحجيج ويُردِّدها المعيدون في هذا اليوم الأغر المُبارك الأزهر ويتواصون بتردادها بعد صلواتهم المفروضات إلى عصر ثالث أيام التشريق، فهل وعينا أيها المسلمون والمسلمات معناها؟ وهل أدركنا مرماها ومغزاها؟

الله أكبر شعار يتردد حول الدُنا في هذه الساعات المُبارَكات والليالي المُنيرات في عيد المسلمين الأكبر، فهذا عيدنا الأكبر وليس عيد الفطر، عيدنا الأكبر لأنه تذكرة بتولي وانصرام العهود البائدة الغابرة التي كان يُضحى فيها الإنسان، فلم يعد ثمة مساغ لتضحية الإنسان لأي سبب من الأسباب، وفي رأس تلكم الأسباب السبب الديني، فقد كان ينبغي أن يُضحي الخليل – عليه الصلاة وأفضل السلام – ابنه اسماعيل مرضاةً لله وازدلافاً إلى قرباه، وعند هذه المرحلة تأذنت السماء برحمتها أن قد انتهى هذا العهد مرةً وإلى الأبد، فإذا لم يكن سائغاً ولا جائزاً أن يُضحى الإنسان من أجل الله ومن أجل السماء فهل يمكن أن يُضحى من أجل أي هدف آخر سواه بإسم السياسة أو بإسم الوطن أو بإسم الدين أو بإسم الحزب أو الفئة أو الطائفة أو المذهب أو سائر العصبيات؟

أحسب أن هذا هو الدرس الأكبر والمعنى الأكبر الذي ينبغي على أمتنا – نسأل الله لها الرحمة الواسعة العميمة وهى أحوج ما تكون إليها في أيامها الكالحات هذه إذ يأكل بعضها بعضاً ويعدو بعضها على بعض بغير رحمةٍ أو توانٍ – أن تفطن إليه، وهو أن الإنسان لا ينبغي أن يُضحى من أجل أي شيئٍ من الأشياء، فالإنسان هو غاية الله ومقصود الله، فمن أجله ولأجله سخر الله تبارك وتعالى الكون وما حواه – أي من أجل هذا الإنسان – وبالتالي لا يمكن أن يُعبَد وأن يُسخَّر هذا الإنسان من أجل غرضٍ آخر، فحتى الأديان إنما جاءت خدمةً للإنسان كما نطق السيد الجليل عيسى بن مريم – عليهما السلام – وذلك حين قال “إنما جُعِلَ السبت للانسان ولم يُجعَل الإنسان للسبت”، فحتى السبت الذي له حرمة وقدسية مُقرَرة في ناموس موسى وصادق عليه عيسى من بعد – عليهما الصلوات والتسليمات – إذا تعارض مع مصلحة الإنسان تُقدَم مصلحة الإنسان، ولذلك طب عيسى وعالج وأسعف وأغاث في الثبوت غير مرة مُعلِناً أن السبت إنما جُعِلَ للإنسان وليس العكس.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لو وعينا، الله أكبر لو فهمنا وأدركنا، الله أكبر لو كيَّفنا أنفسنا مع هذا الدين العظيم المظلوم بأيدينا وفي بلادنا وأوطاننا وليس العكس.

نتكلَّم كثيراً ويتكلَّم غيرنا ونتساءل مُحتارين ويحتار غيرنا ويتهوك: لم صرنا إلى ما صرنا إليه، وهى حالة يفرح بها العدو ويتقرح لها كبد الحبيب الولي؟ يعزو بعضهم الأمر إلى سوء الفهم، بينما ينزع آخرون منزع اتهام النية بالسوء والمُغالطة، وثالث ورابع وخامس وسادس وهكذا، وقد يمكن أن يؤشر إلى سببٍ جامع يمكن أن نفهم به كيف صار الدين الذي هو رسالة رحمة وتوادد وقربة ومحبة هاتفاً بالدم وسكيناً تذبح وقنبلةً تتفجر في القريب قبل البعيد، كيف يمكن أن يحدث هذا وكيف صار هذا؟

السبب بكلمة جامعة يمثل في بعض المسلمين وهم أسباب هذا البلاء وهم كثيرون، ولكن بعضهم سببيته سافرة فاقعة وبعضهم سببيته لا يُتفَطن إليها إلا من وراء وراء، أي الذين يزرعون والذين يحصدون، فالعين دائماً مع الذين يحصدون بمناجيلهم ويقطفون الرؤوس، لكن العين تغبى وتعمى عن الذين بذروا هذا البذار، وهو بذار التحاقد والتكاره والتلاعن والتذابح، وأعني من العلماء والمشائخ الذين سيَّسوا الدين ولم يفلحوا في تديين السياسية لأن الأمر كما يبدو أكبر منهم وأكبر من طاقاتهم، ففشلوا مرات ومرات ولا يزالون يفشلون ويُفشِلون، فالسبب الجامع أن من المسلمين – كما قلت من هؤلاء وهؤلاء، من هذا الفريق وذاك الفريق – من أراد تطويع الإسلام لأغياظه – إن جاز الجمع ولأحقاده – وهو جائز – ولغرائزه، غرائز التشفي والانتقام وغرائز الكراهية ونبذ الأخر وإقصائه وإلغائه، غرائز الحصرية والأنانية التي تمثل في نحن وبس ونحن وفقط، وهذه النحن وبس والنحن وفقط دائماً تُختَزل وتُخفَض لتنتهي في آخر اللعنة – أعني المشوار لأنه مشوار لعنة – إلى أنا وبس.

الآن نحن ننظر نظر نُكرٍ وعجب إلى ما يجري بين الشيعة والسُنة في العراق وفي اليمن وفي كل مكان، وهاتان ساحتان الأعين مُفتَحة عليهم الآن وتعلمون لماذا، لكن لا ندري أنه في يوم من الأيام – بعيد إلى حد ما، في القرون الوسطى – كان أهل السُنة يلعن بعضهم بعضاً، أما في الزمن القريب فرأينا كيف يذبح الشيعة بعضهم بعضاً، في العراق يُوجَد شيعة يذبح بعضهم بعضاً بسبب – كما قلت لكم – السياسة وتسييس الدين، فيُضحى بالدين من أجل السياسة ومن أجل الأجندات ومن أجل الزعامات ومن أجل المصالح والحسابات، وهذا جرى أيضاً مع أهل السُنة ويجري في الوقت القريب، فنجد القاعدة وغير القاعدة، مثل داعش التي تقتل أيضاً أهل السُنة، فهذا لا يتوقَّف على الشيعة فقط أو على غير المسلمين، ومن هنا كان أهل السُنة كنتاج منطقي ومعقول تماماً نتاج معقول لثقافة التعصب والحصرية يلعن بعضهم بعضاً إلى حد التكفير، ولعلكم سمعتم بقصة الفتوى الحنفية المُدهِشة التي لا يُقضى منها العجب والتي تقول بعدم جواز تزوج الحنفي من الشافعية، لكن مَن هم الأحناف أو الحنفية؟ ومَن هم الشافعية؟ أليسوا من أهل السُنة والجماعة؟ هما أكثر أهل السُنة والجماعة عديداً، إذا أخذنا المذاهب الأربعة سوف نجد أن أوسعها انتشاراً وأكثرها أتباعاً الحنفية والشافعية ثم بعد ذلك المالكية في المرتبة الثالثة وأخيراً الحنابلة، فكيف لا يجوز أن يتزوج الحنفي من شافعية؟ ومع ذلك يقولون هذا هو الفقه، هذا فقه العلم وفقه الإمامة في الدين، لكن لا ندري عن أي دين يتحدَّثون، أنتم تعلمون والجواب عندكم.

قالوا لأن الشافعية تُعلِّق وتستثني في إيمانها وفقاً لمذهب الشافعية، فتقول أنا مؤمنة إن شاء الله، فقالوا إذن هذه ينتفي عنها الإيمان ولم يقبلوا لها تأويلاً، فأفتوا بعدم جواز تزوج الحنفي من الشافعية لأن إيمانها مُردَد في قيد الترديد بقيد التعليق وهو قولها إن شاء الله، ثم جاء بعض السادة الحنفية فيسَّر وهوَّن – هذا أوسع نُضحةً وأوسع عطناً – وقال يجوز – طبعاً مع إغضاء شديد – أن يتزوج الحنفي بشافعية معاملةً لها معاملة الكتابية، أي أننا سوف نعتبرها يهودية أو نصرانية، فإذا جاز أن يتزوج كحنفي من يهودية أو نصررانية فيجوز بالقياس أن يتزوج من شافعية، وهذا شيئ غريب، وطبعاً لا أود أن أعيد حديثي عن مذابح الشافعية والحنفية في الري وغير الري، وقد حدثتكم في خطبة “دماء رخيصة” عن أن هذا حدث في تاريخنا وتكرَّر في آواخر القرن الخامس الهجري، حيث ينزع قاضي الحنفية أبو عبد الله محمد البلاساغوني إمامة جامع دمشق من الشافعية ويُسلِّمها لحنفي ويفتي فتواه التي حفظها الزمان قائلاً “لو كان الأمر إلىّ لضربت الجزية على الشافعية”، أي ليدفع الشافعي الجزية كما يدفعها اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي والوثني، وهذا شيئ غريب ولكنه حدث ويحدث.

لكن في المُقابِل هل كان أبو حنيفة- الإمام الأعظم النعمان بن ثابت – عصبياً ومُتعصِباً طائفياً وأفراقياً حين نصر ثورة إمام أهل البيت زيد بن عليّ – عليه السلام – وغامر بحياته؟ في نهاية المطاف هو دفع حياته ثمناً لهذه المواقف الشريفة الحقانية ومات في سجنه يُقال مسموماً والله أعلم بحقيقة الحال، فهل كان أبو حنيفة – الإمام الأعظم – عصبياً ومُتعصِباً وفئوياً وطائفياً حين نصر ثورة إمام أهل البيت زيد بن علي عليه السلام؟ فهذا سُني وهذا إمام أهل البيت ولكنه نصر بفتواه وبجمع الأموال من تحت تحت، فكان يجمع الأموال ويساعد ويشجع على جمع الأموال مظاهرةً ومناصرةً لثورة النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن المُثنى وأخيه إبراهيم، فهل كان أبو حنيفة طائفياً؟ هل كان أبو حنيفة سُنياً مُتعصِباً ومُحترِقاً ومجنوناً؟ نقول هذا للشيعة قبل أن نقوله للسُنة، فهذا يُقال لإخوتنا الشيعة لأن ليس معنى أنني سُنياً أنني بالضرورة عدواً لأهل البيت، فمعظم أهل السُنة على الإطلاق محبون وعاشقون إلى حد الوله لأهل البيت عليهم السلام، وطائفة النواصب ليس لها أي وجود حقيقي كطائفة، نعم يمكن أن تجد أنفاراً منزورين محقورين – ولهم وعليهم الحقار كل الحقار إلى يوم الدين – هنا وهناك يبغضون أهل البيت ولكن لا يُصرِّحون تصريحاً واضحاً، فبإسم الاجتهاد والعلم والتأويل والفهم الفارغ تند منهم كلمات وتظهر عبارات تشي بكره باطن أو بشيئ أشبه بالكره لأهل البيت، وهؤلاء عليهم من الله ما يستحقون، أما أن تكون الطائفة الآن تنتسب إلى أهل السُنة ولها كيان طائفة وجسد طائفة وهوية طائفة إسمها النواصب فلا والله، هذا كذب لأن هذا غير موجود، ونشهد الله على ذلك، فأقول هذا للشيعة أولاً ثم أقوله للسُنة ثانياً لأن هؤلاء هم أئمتنا، فهل كان الإمام الشافعي طائفياً أو حصرياً مُحترِقاً يوم كان يجاهر بحبه المشبوب لأهل البيت حتى عُرِفَ بذلك؟ الإمام الشافعي عُرِفَ عند الخاص والعام وعند أصحاب السلطات وعند السلطان نفسه بذلك، وكاد يدفع رقبته وقد دفعها جماعة قبله في مجلس واحد – عشرة على الأقل قُتِلوا وقُطِفَت رؤوسهم – إلا أن الله لطف بالإمام الجليل لسرٍ يعلمه ولأمرٍ يبلغه لا إله إلا هو، ولكنه كان يُصرح بالحب المشبوب لأهل البيت، ولن أتلوا أبيات الشافعي المعروفة للجميع أيضاً.

هل كان الإمام أحمد بن حنبل طائفياً أو عصبياً أو ضيقاً أو حصرياً يوم آوى إليه جماعة من العلويين وأُسنِدَت إليه تهمة مُناصَرة علويين مُخالِفين للمتوكل العباسي الذي تعرض له أدبيات أهل السُنة والجماعة على أنه ناصر السُنة والجماعة؟ وصحيح المتوكل هو الذي أنصف أحمد من المُعتزِلة وهو الذي ظلم المُعتزِلة ومعهم الشيعة ونصر السُنة لكن مع ذلك كان الإمام أحمد يؤوي إليه جماعة من ثوار العلويين حباً وإيماناً بأهل البيت عليهم السلام.

هؤلاء أئمتنا وهذا هو تاريخنا لكن هذا لا يعجب كثيراً – وهؤلاء أئمة كبار بلا شك -لكن الذي يعجب ويثير العجب أنه حتى في القرن العشرين المُنصرِم إلى وقت قريب جداً كان يعتصم الشيعي بأخيه السُني والعكس، وربما بعض الشهود لا يزالون أحياءً الآن، فهم في التسعين أو في العقد العاشر من أعمارهم ولكنهم شاهدوا وعايشوا وسمعوا ورأوا كيف يعتصم الشيعي بأخيه السُني وكيف يلوذ السُني بأخيه الشيعي ليسيرا جميعاً في طريقٍ واحد ضد عدو مُشترَك بدينٍ مُشترَك، فأنا مسلم وهو أخي المسلم، والكل يعرف هذا ويُقرِّر هذا، ودعك الآن من هذا الفكر المُنفَلِت بإسم كذا وبإسم كذا الذي لا يُقر لأحد بإسلام، وبالتالي علينا أن ننتبه – كما قلت لكم – إلى أن هذه العصبية المجنونة في نهاية المطاف تُخفَض وتُختَزَل إلى أنا وبس، فانتبه وإياك أن تقول أنا مُتعصِب لسُنيتي فقط ضد الشيعة أو ما يسمون اليوم بالروافض لأن في نهاية المطاف سينتهي بك الأمر إلى أن تتعصب لنفسك وربما لبضع مئات أو عشرات حولك فقط، وهذا ما يحدث من عقود في عالم الإسلام ولكننا لا نتبنه إليه ولا نفهم دلالته ولا نرصد خطره لأننا نلعب، نحن نلعب بالنار التي تجلب علينا العار والدمار، ولا أحد يحسدنا على ما نحن فيه اليوم، فنحن اليوم أوائل – إي بالله أوائل، وذلك في الأمة العربية بالذات وربما الإسلامية – إلا ما نذر لأن هناك استثناءات في الجهل والتخلف وانتهاك حقوق الإنسان والعنف والفوضى، فنحن الدول الاولى في العالم لكن في هذه المجالات، فبئست الأولية لأننا لا نرصد الخطر ولا نتحرَّك ولا ندق الناقوس، فدائماً نعبث ونلعب ومن يريد أن يعالج الملفات لا يعالجها بتحنان وبحرص وافر وبتقوى لله الرقيب العلي الأعلى لا إله إلا هو، وهذه ملفات لابد أن تُعالَج حين تُعالَج بتحنان وحرص وافرين لأنها تعم الأمة ولا تخص أحداً من الأمة بل تعم الأمة كل الأمة، وبالتالي هى تتعلَّق بمستقبل الدين ذاته، فينبغي أن تُعالَج بأكبر قدر من الحب والحنان والحرص وليس بالحقد.

أعود إلى المعنى حتى لا يفلت مني، فنحن لا نُكيِّف أنفسنا مع هذا الإسلام العظيم، وإنما طوَّعناه لغرائزنا ولأحقادنا ولأغياظنا – إن جاز الجمع – أو غيوظنا ثم زعمنا أن هذا هو الدين وهذه هى الفتوى، فهل تعرفون أشبهنا مَن؟ أشبهنا أولائكم الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، وهناك معنى لا أدري إن كنت ذكرته مرةً أم لا، وهو معنى جليل وجسيم وثقيل وازنٍ، أي له وزن عظيم، لكن ما هو هذا المعنى؟ هذا المعنى يتعلَّق بهداية محمد بذاته وليس إذا جاءك للشيخ الفلاني والعالم الفلاني والمرجعية الفلانية وإنما إذا جاءك محمد بن عبد الله نفسه ختام الأنبياء والمُرسَلين بلحمه وشحمه ليهديك وأنت تنتظر منه ديناً يفوض ويعطيك وكالة بالتنفيس عن غيظك وبتصفية عداواتك وبانهاء حساباتك فلن تهتدي وستكفر، فأنت تنتظر الهداية كما انتظرها أولئكم القوم الذي يقولون بأنه سيُبعَث نبي آخر الزمان وسنكون تبعاً له ونقتلكم معه قتل عادٍ وإرم، فيهددون أعداءهم وأخصامهم في المدينة وما حولها بهذا، ولكن ليس الدين لهذا، فلا يمكن أن يكون الدين لتصفية خصومات، لكن لما أخذوا الدين بهذا المنطق وبهذه الروحية هل كفروا أم آمنوا؟ كفروا، ونحن اليوم نسير في الطريق ذاته، فنحن لا نريد إسلاماً يُكيِّف غرائزنا و يُهذِّب غرائزنا ويضبط الحيواني المُتوحِش فينا، نريد إسلاماً نطوِّعه ليلبي غرائزنا ثم نقول هذا بإسم الدين وهذا هو الدين ولذلك عندنا خصومات عديدة، لكن قد يقول لي أحدكم ما هو نوع هذه الخصومات؟ وأنا بدوري أقول له جذر هذه الخصومات – كما أقول دائماً ولن أتوانى عن هذا – سياسي.

للأسف هذه ليست خطبة جمعة فينبغي أن أوجز وأختصر فيها، ولذلك أريد أن أبلغ المعنى الذي أردته والذي زورته في نفسي بأقرب عبارة إن شاء الله ومن أقصر طريق، فأنا أحب جميع الطوائف ولست ضد طائفة من الطوائف بل بالعكس أنا أحترم الطوائف وأحترم وجود الطوائف لأن وجود الطوائف ظاهرة صحية وصحيحة وحضارية وجميل جداً، لذلك أنا أقول لكم أن أجمل ما في الشرق أن هذا الشرق عبر مئات السنين احتوى اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والمندائيين والعرب والكُرد والأتراك والتركمان وسائر الأعراق والأجناس والمسلمين والمسلمين السُنة والمسلمين الشيعة والمسلمين الخوارج والمسلمين الإباضية والمسلمين الزيدية وهكذا، فهذا هو شرقنا، وهذا أجمل ما فيه، هذه مفخرة لهذا الشرق، لكن الآن أردوها أن تكون ملعنة ومسلبة لأن فكرهم ملعون ولأن عقلهم منقوص ولأنهم لا ينتمون إلى هذا التراث ولا إلى هذا التاريخ بل ولا إلى روح هذه المنطقة، فهؤلاء أغراب وهؤلاء نبت شيطاني – إي والله – وشجرة ليس لها قرار في الأرض، ويوشك أن تذهب بإذن الله إلى غير عودة بقدرة الله وعزة الله، فيجب أن نفهم هذا جيداً، لأن الذين يُراهِنون على بقاء هذه النباتات الشيطانية يُراهِنون على العدم، فهو رهان عدمي وعلى شيئ معدوم أصلاً ومحكوم عليه بالعدم والفناء وبالتالي لن يبقى هذا الجنون.

إذن هذه الطوائف هى أجمل ما في الشرق، وطبعاً ليس بالضرورة أن تكون هذه الطوائف دينية، فالطوائف قد تكون عرقية وأجناسية وإثنية وقد تكون دينية، وقد تكون دينية أفراقية كالشيعة والسُنة أو دينية مذهبية كالجعفرية والحنفية والشافعية والمالكية، ففي الاصطلاح العلمي السوسيولوجي كل هذه طوائف، فحتى الأحزاب السياسية يمكن أن تُعَد من الطوائف أيضاً، فلسنا ضد الطوائف لأننا نحن نحب استبقاء هذه الطوائف، ولكن نحن ضد الطائفية، وعلينا أن ننتبه إلى أننا إذا تكلَّمنا – ونحن الآن نتكلَّم – في عيد المسلمين الأكبر وهو عيد التضحية – العيد الأضحى – فأول ما ينبغي أن نُضحي هو الطائفية، فإن لم نُضحي طائفيتنا سنظل في التيه ولن نرى نوراً في آلاخر النفق أبداً، ولكن كيف هذا؟ قد يقول لي أحدكم كيف نضحي الطائفية وتبقى الطوائف؟ يُمكِن هذا طبعاً، فتبقى الطوائف لأن الطوائف دائماً مُتعايشة، والطوائف لا تعني بالضرورة – لا تعني بالمرة – الطائفية، ولكن هل تعرفون ما هى الطائفية أولاً؟

الطائفية تكون حين تنزع الطائفة أياً كانت إلى أن تلعن الطائفة الاخري و تعمل على نبذها، وربما تنزع كل طائفة إلى هذا وهنا تأتي اللعنة، فهذه تنزع وهذه تنزع وهذه تنزع ومن ثم تُصاب جميعاً هذه الطوائف بالمرض ذاته، وحين تُصاب طائفة واحدة بهذا المرض يختل أمن الوطن وتهتز الأوطان والبلدان وتنذر الأمور بعاصفة هوجاء قد تجتث الأخضر واليابس، فكيف إذا أُصيبت كل الطوائف أو معظم الطوائف أو الطوائف الكبرى بهذا المرض العضال – والعياذ بالله – أو الذي كاد يكون عُضالاً وعياءً وأنتم تفهمون ما الذي يحدث الآن؟ إذن الطائفية تكون حين تنزع الطائفة أو كل طائفة أو بعض الطوائف إلى أن تلعن الطائفة الاخري و تعمل على نبذها وإقصائها وإن أمكن إفنائها وإعدامها، وهذا هو المنطق الطائفي، فإذن الطائفية تأتي حين تقول الطائفة – كما قلت في صدر الخطبة – أنا وبس، فهذه هى الطائفية، لكن ليست الطائفية أن أكون شيعياً لأن من حقي أن أكون شيعياً وليست الطائفية أن أكون سُنياً لأن هذا من حقي، وليست الطائفية أن أكون إباضياً أو أن أكون غير ذلك، فهذه ليست هى الطائفية، بل هذا شيئ جميل أن نكون كذلك ونحن كنا كذلك وسنظل.

محمد مهدي الجواهري
محمد مهدي الجواهري
خليل مردم بك
خليل مردم بك

إلى وقتٍ قريب كان يُوجَد شاعر العراق الأكبر اليساري محمد مهدي الجواهري – صحيح هو من أصول شيعية لكنه عربي صميم وإن غمز عروبته ساطع الحصري، فساطع الحصري هو أبو القومية العربية لكنه تركي المحتد أصلاً، أما الجواهريفهو عربي أصيل، ومعروفة عروبة الجواهري فالأمر لا يقتصر فقط على شعره فكان معروفاً أيضاً بنسبه – طَيَبَ الله ذكره وثراه الذي كان يقول في قصيدته:

وقد خبروني أن في الشرق وحدةً                   كنائسه تدعوا فتبكي الجوامع

فلم قال هذا؟ في أي ظرف قال هذا؟ وهل كان ما قال حقيقةً أم مجازاً؟ كان حقيقة، فإلى وقتٍ قريب كانت هذه حقيقة، وهذا جواهري العراق، أما جواهري الشام فهو خليل مردم بك – رحمة الله تعالى عليه – الذي كان رئيساً للمجمع العربي اللغوي الدمشقي، فماذا كان يقول خليل مردم بك؟ يقول في هذه القصيدة التي سُميت بمطلعها:

أمده الدمع حتى غاض جائده                           فمن بأدمع عينيه يرافده

ثم يقول:

ترى الحنيفي يوم الروع مبتدراً                 إلى المسيحي في البلوى يساعدهُ

خلى حماه ليحمي عرض صاحبه                   وصال خشية أن تؤتَى مواردهُ

فمن صاحبه؟ صاحبه هو المسيحي، فخليل مردم بك يقول أن المسلم ترك حماه ليحمي عرض أخيه وجاره ووطنه وابن وطنه المسيحي، وهذا شيئ عجيب!

ثم يقول:

الحمد لله أني في حمى وطن                               تحمي كنائسه فيه مساجده

ذاك جواهري العراق وهذا جواهري الشام، فإلى وقت قريب جداً كان الوضع كذلك، وهذا شيئ عجيب، فما الذي دهانا؟ هل غدونا نمشي إلى الخلف؟ فعلاً نحن نمشي إلى الخلف، فالأمة المسلمة اليوم تتقدَّم إلى الخلف وتعود إلى القهقهرة، ومن هنا هذا الانحدار المُخيف وغير المنطقي وغير المعقول، فهى تتخلف في كل شيئ، هذه الأمة تتخلف حتى في فهم ما يجمع وما يؤلف وما يوادد، ولذلك أنا أقول لكم أن الهوية الأوسع دائماً هى لأوطان، ومن هنا قد يتهمني أحد قائلاً “هذا زنديق ونحن حذرناكم منه” ولكنني لست زنديقاً، أنا رجل أتكلمَّ بإسم الوقائع وبإسم الحقائق وبإسم العقل البسيط وبإسم الحس المُشترَك المنطقي السليم، فالوطن هو أوسع هوية، وليس معنى أن الوطن أوسع هويةً من الدين أن الوطن أفضل من الدين، قلم يقل بهذا أحد أبداً ولكنه فقط أوسع، فمَن يستطيع أن ينازعني الآن أن الإنسانية أوسع من هوية الدين؟ طبعاً الإنسانية أوسع لأن فيها المُتدين وغير المُتدين لأنها تجمع الاثنين، والإنسانية تجمع اليهودي والنصراني والمسلم والبوذي والهندوسي و الماركسي والمُلحِد، فإذن هل الإنسانية أوسع من الأديان؟ قطعاً أوسع من الأديان، وكذلك الأوطان أوسع من الأديان، فالهوية الوطنية أوسع من الدين لأن في الوطن الواحد يعيش المسلم واليهودي والمسحي والصابئي وتعيش كل الطوائف وكل المذاهب في الوطن، وإلى وقتٍ قريب تعلَّم العرب أن يطوِّروا هوية وطنية بل طوَّروا مفاهيم وطنية وأدبيات كالتي تسمعون وطنية من شعر ونثر وقصائد وخطب وبيانات وكتابات وسياقات وخطابات وطنية، أما اليوم بإسم الدين كل هذا يُداس وكل هذا يُطمَر وحين يُتكَلم يُضحَك على الناس، لقد جرى تجريف العقل المسلم، ولذا أنا أقول لكم أن عقلنا المسلم أو الإسلامي جرى تجريفه، فهو عقل مُجرَف وبالتالي لا يستطيع أن يميز بين كوعه وبوعه، لأن بإسم الدين جرى تجريفه، فعبر خمسين سنة كان يُجرَّف هذا العقل، علماً بأن الحد الأدنى من المحاكمات المنطقية أكثرنا لا يتوفر عليه ولا يستطيع أن يُدرِكها ومن ثم فهو – كما يُقال بالعامية – يغرق في شبر ماء لأنه جرى تجريف عقلنا، فما الذي يضيرنا حين يُقال لنا لوطن هو الهوية الاجمع وهو الهوية الأوسع لنعتصم بهذه الهوية حتى يمكن أن نتعايش؟ هل يظن الشيعة أنهم حين يعلون من المنطق الطائفي يمكن أن يستقر لهم وبهم حال؟ هذا يستحيل، فسوف تخرج لهم ألف قاعدة وداعش، وهل يظن الدواعش والقاعدة أو السُنة عموماً وهى أوسع وأكثر اعتدالاً مليون مرة من داعش والقاعدة بلا شك أنهم حين يعلون من المنطق الطائفي سيستقر لهم وبهم حال؟ هذا مستحيل، فسوف يخرج لهم دواعش الشيعة وقواعد الشيعة أيضاً وغير الشيعة.

إذن هذا هو، والمثل الروسي يقول “في أوقات الأزمات تطفو كل القاذورات على السطح”، وهذا صحيح، ففي أوقات الأزمات كل القذورات تطفو على السطح، لكن السؤال الآن: ما هو المُولِد الأكبر للأزمات؟

ليس الدين وليس حتى الطائفية الدينية، فالمُولِد الأكبر للأزمات هو فشل السياسة، فالسياسة حين تفشل يحدث هذا، ونحن نعيش في دول فاشلة وسياساتها فاشلة، فهذه الدول العربية والمسلمة من يوم يومها كما يُقال وهى تعمل وتحسن العمل على استغلال اللعبة الطائفية، فتقول اضرب هذا بهذا وذاك بذلك ومن ثم يستقر لك الأمر والسلطان، علماً بأن أول من لعب هذا بدهاء ماكر عجيب هو مُعاوية بن أبي سفيان وهذا شيئ عجيب، فهو لعب لعبة الطائفية بشكل غير مسبوق، ومَن حب أن يفهم ويتعمَّق ليعد إلى كتاب عباس العقاد “معاوية في الميزان”، فعباس العقاد أطال النفس جداً وحاول أن يفهمنا كيف لعب معاوية بهذه اللعبة الطائفية، وهو أول مَن سماها كذلك، وإلى اليوم متى يُدرك السُني وأخوه الشيعي بل متى يدرك المسلمون ومتى يدرك أبناء هذه الأوطان أن لعبة الطائفية – والله العظيم الذي لا إله إلا هو -ليست لعبتهم هم؟ فلعبة الطائفية ليست لعبة المقهورين وليست لعبة المحكومين وبالتالي هى ليست لعبتنا، فهى لعبة القاهرين والحاكمين سواء أكانوا الاستعماريين أم الاستعباديين، أي الاستعباد الداخلي والاستعمار الخارجي، ألم يلعب الاستعمار لعبة الطائفية؟ بلى لعبها أيضاً كأحسن ما يكون اللعب، وذلك بين العرب وبين البربر وبين المذاهب والطوائف والأفراق، ونذكركم مرة ثانية بمصطلح إدوارد هيث Edward Heath وهو مُصطلَح “الأيدي النظيفة” الذي تحدَّث عنه في سنة ألف وتسعمائة وواحد وستين أو ألف وتسعمائة واثنين وستين، حيث قال “ينبغي على بريطانيا أن تنحسب لأنها لن تعود تتورط عسكرياً في الشرق الإسلامي، وعليها أن تلعب لعبة الأيدي النظيفة التي مُلخَّصها خلق عدة إسلامات”، وبالتالي علينا أن ننتبه جداً، فهو يقول “خلق عدة إسلامات” وهذا شيئ عجيب، فالقرآن يعلمنا أن دين آدم هو دين محمد وبالضرورة هو دين ما بين ذلك من الأنبياء والنبوات، فدين آدم هو دين إبراهيم وشيت ونوح ودين أبناء إبراهيم ودين أبناء يعقوب والأسباط، تقول الآية الكريمة نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۩، فالإسلام دين واحد

إدوارد هيث Edward Heath
إدوارد هيث Edward Heath

لكن بريطانيا العظمى أم الخبائث في عالم الاستعمار والاحتلال أرادته أن يكون ماذا؟ أرادته أن يكون إسلامات، ومن هنا يقول إدوارد هيث Edward Heath “لابد من إسلامات متصارِعة فتصفي الحسابات فيما بين بعضها البعض ونحن نقطف الثمار على المرتاح”، ولا تزال هذه اللعبة الملعونة تُزكى نيرانها ويشتد أوارها للأسف في العقود الأخيرة، وطبعاً هنا أعتب – ومن حقي أن أعتب ولا أحد يستطيع أن يقفني – على علماء الدين ومشائخ الدين الذين يلعبون هذه اللعبة، وأنا – والله – استبشرت بشرى عظيمة – أقسم بالله – بغلق بعض القنوات الدينية، فمن أكثر ما أفرحني هو غلق هذه القنوات ولكن هذا ليس كرهاً مني في الدين أبداً وأنا ابن هذا الدين، وإنما كرهاً مني في الطائفية وكرهاً مني في اللعب بإسم الدين وكرهاً مني في العبث بالأوطان بإسم الدين وكرهاً مني في تسليط المسلم على المسيحي والمسيحي على المسلم بإسم الدين وتسليط الشيعي على السُني والسُني على الشيعي بإسم الدين، فلتغلق إذن مرة وإلى الأبد، لا كانت هذه القنوات الملعونة، نحن نُريد قناة دينية ونُريد ديناً بمعنى الدين، دين يكيِّف غرائزنا نحن ونحن نتكيّف معه، لا أن يتكيّف هو مع غرائزنا، فهذا الدين يُهذِّبنا لأن هذا الدين نحن سوف نرتقي إلى مستواه ولن ننحط به إلى وهدتنا، فإذا وُجِدَت قنوات على هذا النحو فأهلاً وسهلاً بها والكل سيباركها، كل صادق اللهجة وصالح النية سيباركها، فهو سيُبارِك هذه القنوات التي تُجمِّه وليس القنوات التي تُفرِّق، لأن هذه القنوات لعنة وكارثة.

“لابد من إسلامات متصارِعة فتصفي الحسابات فيما بين بعضها البعض ونحن نقطف الثمار على المرتاح”
إدوارد هيث رئيس وزراء بريطانيا (1970 – 1974)

إذن لعبة الطائفية هى لعبة الاستعمار الخارجي والاستعباد الداخلي، فهل تنسون كنيسة القديسين؟ هل تنسون كيف فجرتها وزارة داخلية حبيب العادلي؟ وطبعاً حدث هذا لكي يفهم إخوتنا الأقباط المسيحيون أن المسلمين يفعلون هذا وأن المسلمون هم الذين فعلوا هذا، وهذا لم يحدث أبداً، فالداخلية هى التي فعلت هذا وبالتالي كانت فضيحة بجلاجل، لكن هذه هى اللعبة الطائفية.

والفضيحة الأكبر من هذه الفضيحة هى أننا من سنوات ونحن نسمع مُفكرِين ومشائخ وقادة فكر إسلامي يخرجون على الفضائيات العربية الإسلامية ويحرضون على الأقباط وعلى النصارى وعلى الشيعة، إذن هؤلاء شاءوا أم أبوا أذناب لحبيب العادلي وأمثال حبيب العادلي دون أن يدروا بل ولعل بعضهم ممن يدري، ولعله موظف براتب، ومن ثم هذا لعنة، فهذا الجهل والغباء المُرَكب الذي عندنا لعنة، وذلك لأنه – كما قلت لكم – تم تجريف عقلنا، فنحن مُجرَفون وليس عندنا قدرة على التفكير السليم.

إذن ليفهم كل أبناء الطوائف – ولا أقول الطائفيين – أن لعبة الطائفية هى لعبة غيرهم وأنها لعبة قاهرهم ولعبة لاعنهم ،ولعبة مُستبِدهم – أي المُستبِد بهم – وليست لعبتهم، فإذن مَن يستفيد مِن اللعبة الطائفية؟ الاستعمار مرة والاستعباد دائماً وهناك فريق ثالث من ناشدي الزعامات وطالبي السلطة والمغانم، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى هذا، ومن ثم فأنا أحذر إخواني السُنة كما أحذر إخواني الشيعة – والله العظيم – من الزعماء الطائفيين وأقول لهم كونوا على ثقة مائة في المائة أن هذا الزعيم الكذوب وهذا الزعيم الخؤون والأثَّام في حق الوطن وفي حق الدين هو كذوب وخوان وأثَّام في حقكم أنتم طائفته ولذلك هو يركبكم ويركب ظهر هذه الطائفة، ومركبها ميسور في البداية لكنه لا يلبث أن يعود عثوراً والعياذ بالله من المركب العثور، لكن من أجل ماذا يركب ظهر الطائفة؟ من أجل مصالحه ومن أجل مغانمه طبعاً، مثل حب الزعامة وحب السلطة وحب المزايا، وهذا شيئ مخيف وقاتل ولكنه يُوجَد في البشر بشكل عام وفي أمتنا بشكل خاص، فإياك أن تُصدِّقه لأنه يرفع الطائفة ويتكلَّم بإسم الآيات وبإسم الأحاديث وبإسم الأئمة وبإسم العلم، هذا كله كذب وهؤلاء الزعماء كذبة.

إذن نختم بعبارة نُحوصِل بها درس اليوم – أي درس هذه الخطبة في هذا المقام الكريم – وهو أن اللعبة الطائفية هى عرض لمرض، وهذا المرض هو فشل الدولة، فالدولة فشلت في العالم الإسلامي وبالذات في العرب أن تكون دولة الأمة وأن تكون دولة مواطنيها – كما قلت – بغض النظر عن أديانهم وعن مذاهبهم وعن فرقهم وعن إثنياتهم وأجناسهم وعن لغاتهم، وهذا هو معنى الدولة الحديثة الآن، لكن الدولة في عالم العُرب والمسلمين لم تنجح أن تكون كذلك، فهى دائماً إما دولة موبوءة بالطائفية المُقنَعة وإما دولة تلعب بلعبة الطائفية لتستمر في الاستعباد ولتستمر في الهيمنة، فطبعاً للأسف الشديد انفجرت لدينا هذه الطائفية والذي ساعدها على ذلك -كما قلت – هو تجريف العقل المسلم وغباء دعاة الإسلام في العصر الحديث، ولا أقول غباء كل الدعاة وإنما أقول غباء الكثيرين منهم، فيشهد الله أن كثيرين من هؤلاء لديهم غباء مُنقطِع النظير، غباء شديد يوشك أن يصل إلى حد العمالة لأعداء الأمة ولأخصام الأمة، ومن ثم هذا مع هذا تحالف ضد مصالحها، فكيف يكون الحل إذن؟

عليكم أن تنتبهوا الآن لأن هذه رسالتي لإخواني في العراق ولإخواني اليوم في اليمن، لأن بعد سيطرة الإخوة الحوثيين على صنعاء طبعاً بدأت تتوارد علىّ رسائل كثيرة مسموعة ومقرؤة تقول “رجاءً تكلَّم”، وأنا أتكلم – دائماً أتكلَّم – ولم أسكت يوماً، لكن ليس بالضرورة أن أتكلَّم في كل حالة بحيالها وبالتفصيل المُمِل، لأنني أرى أن الكلام العام هو ما يفيد، وأسأل الله ألا أتكلَّم في ما لا يعنيني، لكن باختصار أقول للجميع – لجميع من وبئوا بمنطق الطائفيةأو بالمنطق الطائفي – أن هذا المنطق لن يكون حلاً وإنما سيكون مُولِّداً لمشاكل مُتجدِّدة إلى الأبد، ومن ثم – والله العظيم -الكل سيخسر معه، والله لن يستريح أحد ولن يستقر أحد.

قد تقول لي فما الحل إذن؟ الحل لا يُوجَد ما هو أسهل منه ولا ما هو أوضح منه، ولذلك أنا أعجب من هذا الإصرار على العمى، كيف نعمى ونصر على أن نعمى؟ وعلى كل حال الحل هو أن نعود إلى جذر المشكلة، وجذر المشكلة هو فشل الدولة في أن تكون دولة أمة وأن تكون دولة مواطنيها، فإذن الحل يكمن هنا، وبالتالي علينا أن نتخفف وأن نتحلل من المنطق الطائفي ونعود فنراهن على منطق دولة الأمة، فخن نريد دولة أمة ولتذهب الطائفية إلى الجحيم ولتبقى الطوائف مُعزَزة مُكرَمة، فنحن لا نريد محاصصة طائفية.

هل تعتقدون أن أحداً في أوروبا هنا – أوروبا التي صنعت هذا وترعاه – أو في الغرب الديمقراطي عموماً مثل كندا واستراليا وأمريكا ينظر إلى لبنان مثلاً على أنها دولة مقبولة أو نموذجية؟ هذه دولة طوائف لأنها محكومة بالمنطق الطائفي وبالمحاصصة وهذا شيئ عجيب، فرئيس الدولة ماروني ورئيس الوزراء الحكومة سُني ورئيس البرلمان شيعي،وهى دائماً هكذا بغض النظر عن أي شيئ، فهذه ليست دولة حقيقية لأن الدول لا تُبنى هكذا ولا تكون هكذا، ثم جرى شيئ شبيه من هذا في العراق ويُراد له أن يُستدام وأن يستمر، فالتنافس لا يتم على أساس البرامج المُقدَمة والخطب –   برامج سياسية تخدم الأمة وتخدم الهوية الجامعة – وإنما على أساس طائفي، لذلك لأن هذا الرجل من الطائفة الفلانية فإنه يتسلَّم المنصب حتى وإن كان غير كُفء، وهذا شيئ غريب، أما الكُفء فيتم نبذه ولعنه ورفضه لأنه من خارج الطائفة، وبالتالي تخسر الدولة، ولكن الواحد منهم هؤلاء لا يهمه أن تخسر الدولة ويقول لا علىّ من الدولة لأنني لا أُفكِّر على مستوى دولة، وهذا طبعاً واضح، فهو يُفكِّر على مستوى تاطائفة، وبالتالي سيخسر إذن كطائفة ولن يستقر الأمر، فإياكم وهذا البله وهذا العته، إياكم!

وطبعاً مشكلة الطائفية الآن التي يجب أن ننتبه إليها هى أن لكل طائفة في العالم العربي – ولنكن صرحاء – عدد من الأحلاف الخارجية، فهذه الطوائف تستقوي بحلفائها ولكن أنا أقول لكم متى كان هؤلاء الحلفاء الخارجون الخارجيون يُفكرون فعلاً بصدق في مصلحة بلادكم أحسن مما تفكرون أنتم؟ هذا مستحيل وإن جمعكم وإياهم مذهب أو جمعكم عرق وإثنية، هذا مستحيل لأن – والله – الكل يستغلكم ويصفون حساباتهم في أرضكم وفي بلادكم وفي ميادينكم، ومن ثم عليكم أن تتنبهوا إلى هذا، كونوا أذكياء وغلِّبوا الهوية الجامعة وهى هوية الوطن على كل العناوين وتخلَّصوا مرةً وإلى الأبد من اللعنة الطائفية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.


 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسلمياً كثيراً.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر،إذا أبدى المرء عن شيئ من حب للنجوم وللكواكب الدرية من أهل البيت كأبي الحسن وكالحسين وكالحسن – عليهم السلام – أو الزهراء مباشرةً يُتَهم كما أُتَهم ولا أزال بأنه رافضي أو مُتشيع رافضي، ولذا أنا أقول لكم أن هذا لا يجوز إلا على مَن أكلت الطائفية عقولهم وإلا على مَن جرفت الطائفية وعيهم واستنزفته، لكن لماذا؟ الإخوة العراقيون في بغداد يعلمون مَن الذي كان مسئولاً عن موكب عاشوراء الذي يخص إخوانا الشيعة، فمَن الذي كان مسئولاً عنه؟ الذي كان مسئولاً عن هذا عائلة يهودية وليس عائلة سنية أو شيعية، وإنما عائلة يهودية من آل حردون، ولذلك كان يُسمى الموكب بموكب حردون أو بموكب آل حردون، فأين الطائفية هنا؟ لماذا لم تعمل لطائفية ولماذا لم تنجح؟ ما الذي جمع هذا اليهودي من هذه العائلة اليهودية بإخوانه؟ والجواب حاضر في السؤال وهو أنهم إخوانه في الدين، فهذا مسلم شيعي وهذا يهودي – قرائي أو غير قرائي – ولكن الذي جمعهم كإخوة هوالوطن، فهو أخوه في الوطن وأنت أخي في الوطن، فهكذا هو الوطن صدره واسع ومليء بالمحبة والحنان الفيّاض، فهذا هو الوطن إذن، ولذلك أنا أقول لكم أن الوطن الذي يُجاهَد ويُناضَل من أجله ويُضحَى على ترابه هو مثل هذا الوطن، أي وطن الطوائف المُتطيفة، لكن وطن الطائفية هذا ليس وطناً لأنه سوف يُصبِح لعنة وسوف يقترع الناس عليه بأقدامهم حين يُهاجرونه إلى الغرب بل إلى الشمال والجنوب أو إلى أي بلد من بلاد الله ليخرجوا من لعنته، فيَكُف أن يكون وطناً ويبقى أرضاً ملعونة لطائفة مجنونة، فليبقى كذلك وليسعهم الجنون واللعن واللعان.

إذن آل حردون هم المسؤولون عن موكب عاشوراء، وعاشوراء يحضرها نساء مسيحيات ومندائيات ويبكين مع البواكي المسلمات، فما الذي أبكاهن؟ ليت شعري هل الذي أبكاهم هو الدين؟ لم يُبكِهم الدين أبداً، لكن الذي أبكاهم هو الوطن، فنحن أخوة في وطن واحد، وهذا يُذكرنا بالمسحراتي الفلسطيني المسيحي الذي يسحر إخوانه المسلمين من بضع سنين، فما الذي جمعهم؟ الذي جمعهم هو الوطن.

ولذلك أنا أقول لكم ما أحوجنا إلى أن ننعش مفهوم الوطن وذاكرة الوطن وإلى أن نعيد بناء وترتيب وبلورة هوية الوطن، فهذا هو الحل والحل الوحيد.

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

14 -10 – 2014
مسجد الشورى – فيينا

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • صح لسانك يا د/ إبراهيم فهمك للدين عميق ولسانك على الحق طريق وأسلوبك للاقناع بليغ
    الآ لله الدين خالص
    واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
    صدق الله العظيم

%d مدونون معجبون بهذه: