السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمان الرحيم
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) (الاعراف)
صدق الله العظيم
وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط الحمد لله ربّ العالمين , يا ربي لك الحمد حمدا طيبا مباركا فيه يوافي نعمك ويكافئ مزيدك واشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّدا عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله الطيّبين المباركين وصحابته الميامين واتباع باحسان وسلم تسليما كثيرا فيما أخرج الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الصغير من حديث انس رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ” يا معاذ ألا أعلّمك دعاء لو كان عليك مثل جبل احد دينا أدّاه الله عنك ؟قل يا معاذ اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطهما من تشاء وتنزعهما ممن تشاء اقبض عني الدّين وأغنني غنى يغنيني عمّن سواك ((أو كما قال عليه الصلاة وأفضل السلام))” رحمان الدّنيا والآخرة هو الله لا اله إلاّ سواه وكما قال يحيى بن معاذ الرّازي الله الذي يستغرق عفوه الذنوب فكيف رضوانه ورضوانه يستغرق الآمال ( أي يحققها من عند اخرها) فكيف حبّه وحبّه يدهش العقول فكيف ودّه ((سيجعل الرحمان لهم ودّا) وودّ يغني عمّا سواه فكيف لطفه لا اله إلاّ الله . الهي أنت الذي تهب الكثير وتجبر قلبا كسيرا وتغفر الزّلاّت وتقول هل من تائب مستغفر أو سائل أقضي له الحاجات. إخواني وأخواتي أرى من الخير لنا ولديننا الحنيف أن نتفطّن مبكّرا إلى مسألة على غاية من الأهميّة ففي ظلّ رياح الحريّة التي تعصف من أربعة جوانب المعمور سيغدو أمر الدّين كلّه رهنا للحريّة الشخصيّة والتّفضيل الشّخصي وستتلاشى لغة الإكراه وستبطل لغة الإلجام ولذلك كلّ فهم للدّين وكل صياغة لخطاب دينيّ إذا لم تلبّ شرط الرّحمانيّة فإنّها ترشّح لمزيد الازورار عن الدّين وطيّ الكشح واللّيت عنه فحقّيّة الحقّ وحدها وبمُجرّدها لا تكفي لتجذب الناس إليه جذبا فإنّ أيّ قدر من القسوة والشّدّة يلابس عرض هذا الحقّ فكيف لو لابست هذه القسوة والشّدّة مضمون الحقّ ؟ فالخط؟أ ليس في الصّياغة ليس في البيان بل الخطأ؟ في الفهم والإدراك في المضمونات وليس في العنوان لكن ايّ قدر من القسوة والشّدّة إذا لابس عرض الدين والدعاية له والتبشير به البيان الديني بجهته الصّياغية فإنّها أيضا ترشّح للازورار عن الدّين والدّليل على ذلك قول الحق تعالى ” فبم رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك ” والمبشّر هنا هو رسول الحق أجمل عباد الله و أذكاهم وألطفهم وهو إلى ذلك رسول من لدن رب العالمين غير أن الله عز وجل هو الذي يقرر هذه الحقيقة :لو دعوتهم بغلظة وجفاء لانفضّوا من حولك . فهل يصوغ بعد هذا لأي عالم أو شيخ أن يقول هو الحقّ ليس به خفاء نحن نصكّ به النّاس صكّ الجنّة نجبههم به دونما إشفاق فمن رضي وتابع فهو, ومن فرّ وازورّ فإلى حيث ألقت أم قشعمي .نقرأ على أمثال هذا الداعية السّلام ونقول له ليس ذلك ولا إليك ولا لأحد من الناس ولعلك يا عبد الله إذ تشفي غيظك أو غليلك في هؤلاء الشّاردين فتفحش القول وتغلظ اللهجة لعلك بذلك تكون ادني إلى غضب الله منه إلى مرضاته تبارك وتعالى ولذلك لا بدّ مرّة أخرى أن يلبي كل فهم لكل صياغة شرط الرّحمانية . إذا كانت رسالة عيسى عليه الصّلاة والسّلام رسالة محبة فإنّ رسالة محمّد صلى الله عليه واله وأصحابه وسلم رسالة رحمة فالنّصارى يلهجون كثيرا “الله محبّة” وينبغي على المسلمون آن يدأبوا و يتمرّسوا وان يدمنوا قول:” الله رحمة” وان يتجموا ذلك عمليّا . لكن هناك سؤال يثور في هذا المقام من تلقائه : رسالة محبة بإزاء رسالة رحمة وهما لا تتعارضان بل تتكاملان فأيّهما أرجى و أرجح الرّحمة أو المحبّة ؟ وأسارع كمسلم يؤمن بمنطلقاته القرآنيّة والنّبوية إلى تسجيل هذا التّقرير ” الرّحمة أرجح وأنجى من المحبّة ” ولو استفتي الناس في العالم بم تريدون إن تعاملوا بخطة المحبة أو خطة الرحمة ؟لكان جواب الحكماء المستبصرين سيسارعون إلى اختيار الرّحمة .لان المحبة أضيق نطاقا وأكثر حصريّة فالمرء لا يستطيع كل من هب ودبّ لا يستطيع أن يحب أعداءه والسيد المسيح بشر بالعظة الجميلة المتلألأة المتألقة موعظة الجبل والتي سجلها الحواري “متّى” في إنجيله ,قال:” سمعت انه قيل تحبّ قريبك وتبغض عدوّك وإماّ انأ فأقول لكم أحبوا ادعاءكم… أحسنوا إلى من أساء إليكم وصلّوا من أجل الذين طردوكم ” هي موعظة عظيمة لكن شواهد الواقع وشواهد التاريخ تؤكد أن الإنسان يحتاج إلى قلب في سعة المحيط الهندي أو الأطلسي لكي يحب أعداءه ومعظم الناس لا يقدر على هذا لكنه يقدر على رحمة عدوّه أما أن يحبه فهذا أمر ليس في طوق كل البشر بل هو في طوق المسيح عليه السلام وأمثال الذين قاربوه وقليل ما هم لكن أن يكلف عموم البشر بحبّ أعداءهم فهذا تكليف ثقيل وباهظ وعزيز المنال غير أن التكليف بالرّحمة ممكن جدا . ويحضرنا في هذا المقام مقال قرأته “لجورج اورويل” يقول :”قبل أن اعرف الفقراء والمساكين والمذلّين كتبت عنهم كثيرا وتعاطفت معهم وانحزت إليهم وأحببتهم على الورق لكن حين نزلت إلى الواقع وزرت بعضهم ورأيت هؤلاء بأشكالهم بقذى عيونهم بروائحهم الكريهة بأسنانهم الصّدئة المقلعة بأفكارهم السّاذجة بسلوكياتهم القبيحة النابية غير المتمدّنة ,لم استطع أن استشعر ميلا إليهم ولم استطع أن أحبهم إلا على الورق وانأ مستعد أن افعل لأجلهم كلّ شيء إلاّ أن أكّلّف بأن أحبّهم” ومن الذي يكلفك بحبّ الناس جميعا؟ لكن نحن مكلّفون برحمة الناس جميعا حتى الأعداء,ولكن بعض الناس لا يكاد يستسيغ هذا القول ظنّا منه أن هذه اللغة ليست لغة المسلمين فقد دأب على سماع لغة القسوة والشّدّة والإرهاق والجريمة. ولم يتآنس بلغة الرّحمة متسائلا عن صدى رحمة الأعداء في الإسلام . في حين أن هذه الرحمة مبثوثة في كتاب الله وهي كثيرة جدا .فقد قال الله تبارك وتعالى “وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ” والإنفاق هنا مطلق ولا يخصّ فئة بعينها والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنفق وأمر بالإنفاق على كفّار مكّة وهو في ذروة معاداتهم له وقد أصابهم القحط وإصابتهم السنة الجدباء فحصبتهم حصبا حتى أكلوا “العلهز” (جلود مطحونة مع الدّمّ) فلم يشمت بهم الرّسول صلّى الله عليه واله وصحبه وسلم بل أمر بإغاثتهم وتسيير مونة كثيرة إليهم كما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار,هذا هو رسول الله. وهنا الإنفاق مطلق يشمل كل إنسان مؤمنا وكافرا . “والعافين عن الناس” ولفظة النّاس يراد بها التعميم دون التّخصيص وهي كما يزعم بعض علماء الدّلالة أعمّ لفظة في المعجم الاجتماعي في كتاب الله وهي فعلا كذلك إنها لفظة مغرقة في العمومية. وقد علمن القرآن من خلال قوله : حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّا بعد وإماّ فداء حتى تضع الحرب أوزارها “إلى أن يحزم الأمير أمره بين التسريح أو الفدية فلهم أن يطعَموا ويحسن اليم(ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا ) ولمّا قرأ هبة الله بن سلامة احد علماء الناسخ والمنسوخ كتابه “الناسخ والمنسوخ” أخطأ في موضع: ………………. لا تكلّف أن تحبّ عدوّك لكنك مدعوّ إلى أن ترحمه , قال الانجليزي توماس بيينم: إنّ الإيمان بإله قاس يخلق إنسانا قاسيا” وقال ويلد يورند في “قصّة الحضارة ” لا شيء يوضح مفهوم الإنسان عن نفسه قدر ما توضّحه عقيدته في إلاهه ” كيف تنظر إلى الاهك هل هو رحيم ودود رفيق يتحبب إلى عباده أم انه اله قاس شديد معذّب منتقم. ولا شىء يؤذي المسلم الدّارس قدرما يؤذيه ما يشيع الآن من أفكار في الأوساط الغربية حتى على السنة كبار العلماء ومنهم من حصل على جائزة نوبل ,يرسلها إرسال المسلّمات ويحكم على الإسلام بجرة قلم ويقول إن اله المسلمين اله قاس .هل هذه حقيقة ؟هل الله كما تعرف إلى عباده في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الكريم اله قاس فعلا؟ إن هذا لهو الإفك المبين.إنّ الله تبارك وتعالى كما تعرّف إلى عباده جميعا في كتابه في كلمات السماء الأخيرة التي لا مبدّل لها ولا ناسخ لها في القرآن الأعزّ هو الرحمان الرحيم والأدلة كثيرة . هل أن اله المسلمين اله عذاب آم اله رحمة وهل أنّ شرع المسلمين شرع عذاب آم شرع رحمة وهل أنّ نبي المسلمين نبيّ عذاب أم نبي رحمة؟ يكفينا أن نعلم انه في مقابل كل أية يذكر فيها العذاب ترد سبع عشرة آية تذكر فيها الرحمة والعفو والمغفرة والصفح والكرم الإلهي .فالنسبة إذن 1/17 لذلك نلفت انتباهكم إخواني وأخواتي إلى انه يجب على الواعظين الداعين والمذكرين وعلماء الدين أن يبنوا خطّتهم الوعظيّة التّذكيرية التربويّة التّزكويّة للمسلمين بحيث تتناغم وتتصادى مع القران الكريم فإذا تكلّم الواعظ عن عذاب الله وانتقامه مرّة في خطبة لا ببدّ ان بردفها بـ17 خطبة يتكلم فيها عن عفو الله وصفحه وجماله هذه هي الخطة القرآنية في حين بعض الوعّاظ يسلك نهجا معاكسا تماما لهذه الخطّة و في تاريخ المسلمين نوعان من التصوّف والعرفان نوعان من الدّلالة على الله : تصوّر أو دلالة الخوف وارج حان ابي حامد الغزّالي كان تصوفه تصوّف خوف تصوّف يقطع القلوب وأحيانا يُيئس الإنسان من رحمة الله تبارك وتعالى ويبعثه على القنوط من رحمته , كقوله انه لو وُضع الم شعرة ممّا يجد الميّت ويكابد عند الاحتضار على أهل السماوات والأرض لماتوا بإذن الله وهذا عذاب هائل حاشى لله ان يعذب عبده بهذه الطّريقة العجيبة جدا ثم يقول في هذا الخبر المكذوب:”وان بعد الموت لخمسين ألف هول الموت أهون منه ” .كأن الله خلقنا كي ينتقم منا ويريعنا ويفزعنا حاشى لله . وهناك نمط أخر من التصوّف هو عنوان المحبة مثل تصوف جلال الدين الرومي وهو تصوف يمد الإنسان بقوّة جبّارة هائلة تمكنه من الانتصار على شهواته ونوازعه الحيوانية تمكنه من السيطرة على الوحش الرابض بداخله وحش الانتقام والشهوة والجهل والحمق,ولا وجود لقوة يمكن ان تضاهي المحبة في التأثير وفي إعادة جوهر الإنسان .فقد يحب الإنسان وطنه ويكون شخصا ضعيفا مسنّا ,بمحبّته تلك يمكن أن يواجه إمبراطورية, تقضي على الملايين من المعتدين وتحصدهم حصدا ولا قوة لأحد على إخافته وهزمه وأكثر شيء يمكن أن تروّعه به هو الموت وهو أيضا لا يخاف الموت في حب الوطن ,هذا حب الوطن فكيف بحب البشر لبشر وكيف بحب البشر لرب البشر لا اله إلا هو .فعلينا ان نحبّ الله حقا على الأقل سبعة عشر ضعف ما نخشاه . والله تبارك وتعالى يقول في سورة الحجر “نبِّئ عبادي إني انأ الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ” والأمر بالتبليغ لكافة العباد مؤمنهم وكافرهم ولا يخصّ فئة بعينها. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في مجموع الفتاوى : لقد جعل الله الرحمة من ضمن أسمائه التي يوصف بها (الرحمان الرحيم) وجعل العذاب من ضمن مفعولاته (عذابي ).لذلك رجّح جماعة من العلماء ومنهم تلميذه ابن قيّم أنّ اسم الرّحمان يسمى به الله ويوصف به “قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمان ” ” الرّحمان علّم القران” وهنا وردت الصفة اسما لله أمّا في ” بسم الله الرحمان “وردت صفة لله لان وظيفتها النحويّ نعت لله(منعوت),فالرّحمان كما يقول ابن قيّم صفة للذّات ليس من صفات الأفعال المتعلق بالقدرة والمشيئة .ان الله تبارك وتعالى منبع كل رحمة في الوجود نحن مخلوقون برحمة الله نحن فيض رحمته ” الرحمان علم القران خلق الإنسان” فمخلوقيّتنا للرحمن تبارك وتعالى انها فيض رحمة الله إننا نتائج ومجلى لهذه الرحمة . وفي الحديث الصحيح الذي خرّجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة يقول عليه الصلاة وأفضل السلام “خلق الله تبارك وتعالى مائة رحمة امسك عنده تسعة وتسعين وانزل في الأرض رحمة واحدة و بها يتراحم كلّ الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن صغيرها لألاّ تصيبه . والعجيب ان الإمام البخاري رحمة الله عليه في رواية له زاد”فلو يعلم الكافر ما عند الله من كل الرّحمة ما أيس من دخول الجنة ولو يعلم المؤمن من كل العذاب ما أمن دخول الجنة ” ونحن نقول: وأين كلّ من كلّ؟ أين كل العذاب من كل الرّحمة ؟أيّهما اغلب وأكثر وأعظم ؟ لا شك أنّ الرّحمة اغلب .أليس هو الرّحمان الرّحيم؟ .وفي الحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:” لما خلق الله الخلق وفي رواية لما قضى الله الخلق كتب فير كتاب فهو عنده فوق العرش “إنّ رحمتي تغلب غضبي أو غلبت غضبي وفي روايات تسبق غضبي ” فكل الرّحمات التي نلمسها ونقف عليها في هذا الوجود الممتد السحيق هي من فيض رحمة واحدة أرسلها الله هي أثر لرحمة واحدة من مائة رحمة و بهذه المناسبة يمكن أن نطرح سؤالا في فلسفة الأخلاق دار حوله جدل كثيرو تطاحن لا يزال إلى اليوم: ما هو منبع الرحمة في نفس الإنسان؟ هل هوا لمجتمع؟ هل هي غريزة في الإنسان كغريزة البقاء مثلا؟ كتب احد فلاسفة التنوير الانجليزيفي القرن 18 بيرنارد مانديفن ,قصة اسمها قصة النحل أو حكاية النحل عزا فيها الرحمة التي يبديها الانسان الى باعث أنانيّ.ذلك أن الإنسان يتصوّر نفسه دائما ف موقع الإنسان الضعيف المحتاج المريض الأسير لذلك حين تأخذه به عاطفة ورحمة كأنّما بذلك يرحم نفسه لذا كانت الرحمة من هذا المنطلق دليل أنانية .أمّا آدم سميث صاحب كتاب ثروة الأمم وله من الكتب كتاب أخر عنوان نظرية العواطف الأخلاقية وقد اعتبره كاتبه أهمّ من كتاب ثروة الأمم ردّ فيه على ديفد مانديفن واعتبر كلامه مجانبا للصّواب مبرهنا على ذلك بقوله: ” إنّ الرّجل يتعاطف مع المرأة التي تكون بحال ولادة ويحنو عليها مع انه من المستحيل ان يتخيل نفسه امرأة تضع لأنه رجل فلا يمكن أن يأتي عليه يوم ليعيش هذه المعاناة” إذن ليس الباعث الأناني هو منبع الرّحمة وكان يمكن لآدم سميث أن يسوق حجة أبلغ من هذه فالبشر يتعاطفون مع الحيوانات وتأخذه بها رقة كبيرة على انه لا يمكن أن يتصور نفسه في يوم من الأيام حيوانا يحتاج إلى مثل هذه الرحمة. فالصّحيح أنّ الرّحمة في قلب الإنسان هي هذه العطية الإلهية من آثار هذه الرحمة الواحدة التي أرسلها الله في خلقه فالعلماء قد رصدوا للبهائم المفترسة العجماء مواقف أعربت فيها عن قدر عجيب من الرحمة ليس إزاء صغارها بل إزاء صغار عدما أمهاتهم مثلا .لكن الفلاسفة العلماء التطوّريّين يعزون كل هذه العواطف النبيلة إلى مفاهيم تطوّريّة”صراع البقاء وبقاء الأصلح”ونحن نردّ عليهم باختصار: لو كان المنطق التطوّري يفسر لنا كل هذه العواطف من حس جمالي وحسّ التعاطفي والحس الأخلاقي ,الحسّ الميتافيزيقي الباحث عن الماوائيّات والغيب لو كان كل هذا يفسر بمنطق تطوّري فلماذا نشعر شعورا جماليّا حين نكون في جوف الصّحراء وهي تخلو من كل مزايا البقاء بخلاف البساتين والرياض ؟ وهناك عالم انجليزي تطوّري كبيري قول: أنا استطيع أن أضحي بنفسي من اجل اخوين لي وان أضحي بنفسي من اجل ثمانية أبناء عم لي” وهو هنا يتحدث بلغة الحساب الوراثي ,لكي تبقى الحقيبة الأصلية الجدودية كاملة فالحساب يقول ممنوع أن تضحي بنفسك لأجل أخ واحد بل يجوز ذلك لأجل اخوين فلا باس أن ذهبت أنت لأجل أن يبقى إخوان فتبقى بذلك الحقيبة الوراثية وتتناقل ويجوز أن يحصل ذلك أيضا لآجل ثمانية أبناء عمّ.وكل هذا هراء لان الوقائع لا تحصى ولا تعدّ تبرز أن بشرا كثيرين ضحّوا بأنفسهم لا في سبيل اخوين أو ثمانية أبناء عم بل في سبيل طفل صغير لا يعرفون من هو وجدوه في نار تتلظى فاخترقوا النيران وأنقذوه لكن لقوا حتفهم بعد ذلك . فالرحمة فيض ربانيّ لا اله إلا هو الذي خلق الإنسان لكي يكون مرآة ومجلى لرحمته نسال الله تبارك وتعالى برحمته الواسعة . في القرآن الكريم يتردد اسم الرحمان في غير البسملة في 57 موضعا وفي البسملة يتردّد 113 في فاتحة كل سورة باستثناء سورة التوبة ولا وجود لكتاب سماوي ولا ارضي تحدث بهذا العنوان وهذا التواتر والتوارد كما فعل القران الكريم .وقد قال احد المفكرين:” أنا شديد العجب من مسلم يعرب عن قدر من القسوة وهو يتلو في كلّ صلاة “الرّحمان الرّحيم” ” لذلك ينبغي على المسلم أن يكون أكثر عباد الله رحمة. ولان هذا الاسم الكريم يتردد ويتوارد كل هذا التردد اعتبره علماء العقيدة الاسم الثاني لله تبارك وتعالى فالاسم الأول هو الاسم الجامع اللفظ المفرد اسم الجلالة”الله” ومباشرة يأتي بعده الاسم الثاني الأكثر تواردا “الرحمان” :قل ادع الله أو ادع الرحمان أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى” ” فإمّا ترينّ من البشر أحدا فقولي إنّي نذرت للرحمن صوما” “وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ” إخواني وأخواتي كنت قد شرعت في الحلقة السابقة في الإجابة عن سؤال حكم من لم تبلغهم دعوة الإسلام وحكم من بلغتهم دعوة الإسلام بطريقة محرّفة .مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يمتحنون في عرصات القيامة وباختصار هذا ما رجّحه كبار محققي أهل السنة والجماعة وفي أحاديث كثيرة “أن أربعة نفر يمتحنون يوم القيامة (علما أنّ التكليف والاختبار لا ينقطع إلا بدخول أهل الدارين الدّارين والاستقرار فيهما وهو قائم قبل ذلك , في البرزخ وفي عرصات القيامة ) هؤلاء الأربعة يمتحنون في عرصات القيامة: أصمّ وأحمق ورجل هرم ورجل مات فالفترة”والفترة هي المدة الزمنية بين نبيين لم يبعث فيها نبيّ.”فيقول الأصم يا ربي قد جاء النبي وأنا أصمّ لا اسمع شيئا ويقول الأحمق يا ربي جاء النبي والصبيان يقذفونني بالبعر ويقول الهرم يا ربي قد جاء نبيك وأنا شيخ هرم لا أعقل ما يقول لا ويقول الذي مات في الفترة يا ربي ما جاءني منك من نذير فيأخذ الله تبارك وتعالى عليهم العهد والميثاق أن يطيعوه ذلك فيأمرهم أن يدخلوا النار وفي رواية يخرج لسان من النار فيقول لهم ادخلوا فيها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما .فالله تبارك وتعالى قد يكلف في الدنيا الإنسان بقتل نفسه كما كلف بني إسرائيل “فاقتلوا أنفسكم” وقد يكلفه بالجهاد فيموت والمؤمن يصدع لأمر الله فهذا ليس بالشئ المحال إنّ الله هو الآمر فعليك التلبية ومن أبى دخلها ولم يخرج منها وهذا امتحان ولله الحجة البالغة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وذهب إليه أبو الحسن الأشعري وأبو بكر البيهقي في كتابه الاعتقاد والإمام بن قيم وابن تيمية وابن كثير وابن حجر استحسنه وقال صحّفيه الخبر حين تكلم عن مصير البلدان ومن آخر العلماء الذين قالوا به العلامة الجليل الإمام الشنقيطي في أضواء البيان وفك به تعرضا كبير ا في أدلّة المسالة والكلام فيها يطول ومستفيض ولعلّي أُسهم بشيء من تحقيق فإن أصبت فهذا من الله تبارك وتعالى وإن أخطأت فهذا من نفسي ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وقد يكون مجال عرضه حين أتحدث عن رحمة الله يوم القيامة بإذن الله تبارك وتعالى سؤال : كيف يمكن زرع الرحمة مجدّدا في قلوب المسلمين؟ الجواب: هناك فرق بين العلم والثقافة فلا يكفي أن نتعلم الرحمة كمعطيات معرفية معلوماتية نظرية بل لا بدّ ان نحيلها إلى ثقافة وأكثر امة تتحدث عن النظافة مثلا هي الأمة الإسلامية لان الإسلام نظيف ويكفي الوضوء 5مرات يوميا دليلا على ذلك. لكن في المقابل نجد الأمة الإسلامية متأخرا تفتقر إلى حس النظافة في بيوتنا وسياراتنا وفي ملابسنا أيضا رغم أن النظافة في ديننا عبادة فالله يحب المتطهرين .لماذا هذه المفارقة ؟ لان النظافة بقيت مجرّد معلومات نظريّة لم تستحل إلى ثقافة .فإذا عرفنا آليات تحويل العلم إلى ثقافة نكون قد اجبنا عن هذا السؤال .انه على الرغم من امتلاكنا لكليات علمية وانتشار العلماء في البلاد الإسلامية من أطباء وعلماء فيزياء ومدرسين وبيولوجيا …لكن تعوزنا الثقافة العلمية فليس من العجيب الشاذ أن تلحظ أستاذا كبيرا في الفلك في علم الوراثة في الحياء يتردّد على العرافين ويصدق الدجالين ويعتمد في حياته أساليب خرافيّة لأن العلم بقي مجرد معارف في مقاعد الدرس وفي بطون الكتب ولم يستحل إلى ثقافة .لا بد إذن أن نبحث عن آليات تصيّر العلم والمعرفة ثقافة ,ساعة تتحول معرفتنا الرّحموتية إلى ثقافة نكون بذلك قد حققنا المراد. سؤال : حول حديث سلمان الفارسي الذي أخرجه الإمام بن خزيمة في صحيحه وقال صحّ الخبر ” أيّها النّاس قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار” . إنّ الله عزّ وجل لا يغفر إلا إذا رحم لذلك تطلب المغفرة منه بعنوان رحمانيته لأنّه هو الغفور الرحيم فلو لم يرحم لم يغفر ولو لم يرحم لم يستر ومن كرمه سبحانه وتعالى أن يهبنا هذه الهبة العلويّة الصّمادانيّة من غير استحقاق لذلك كان السّلف الصالح رضوان الله عليهم كما قال ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليه كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان فمن بلغه الله رمضان فقد أدخله في رحمة وسيعة باسطة له لا اله إلاّ هو ثمّ إذا صاموا يضلون ستة أشهر يحمدون الله تبارك وتعالى على أنّه بلغهم رمضان ومكّنهم من صيامه وقيامه .هذه هي الرحمة تليها بعد ذلك المغفرة فإذا رحمك وغفر لك فلن يبقى إلاّ أن يكرمك ويعتقك من النار . نسأل الله عز وجل ان يجعلنا من أهل رحماته وأهل مغفرته وأهل عتقه من نار جهنم اللهم اعتق رقابنا ورقاب أبائنا ورقاب أمهاتنا وإخوانا وأخواتنا وأساتيذنا والمسلمين والمسلمات جميعا من نار جهنم بفضلك ومنك وحولك وطولك يا رب العالمين فذلك لا يستطاع إلاّ بك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفريغ : نادية غرس الله /تونس

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: