أ ل م – إنقاذ العالم الإسلامي – 2014-09-25
السلام بين المسلمين و غيرهم فريضة إسلامية يجب أن ينصاع لها الجميع، و بعيداً عن الإنفعال يجب أن تتجه النخب العربية و الإسلامية إلى فعل النقاش الحضاري إنقاذاً للراهن و المستقبل .ومن الأولويات المطروحة اليوم مسألة حقن الدماء و حفظ الأنفس و الأرواح و الأعراض و الخروج من دائرة التكفير و التكفير المضاد، و حصر الخلافات المذهبية و الفقهية في الإطار العلمائي و عدم الزج بالخلافات إلى الشعوب العربية و الإسلامية. ضيف الحلقة: عدنان إبراهيم – مفكر إسلامي.

أ ل م
من شأن هذا البرنامج تفعيل النقاش الفكري حول القضايا الإسلامية المعاصرة من موقع إسلامي معتدل كبديل عن الإسلام المتطرف. يناقش البرنامج قضايا سياسية ساخنة متصلة بالشأن الإسلامي ويقدم نظرة الإسلام إليها

د. يحيى أبو زكريا

 

يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله وبيّاكم وجعل الجنة مثواكم.

“وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”. لا يختلف عاقلان أنّ ما يجري اليوم في العالم العربي والإسلامي سيُرخي بظلاله على أجيالٍ مقبلة قد يصعب أن تتخلص من تعقيدات الراهن وإرباكاته، وفي كلّ المستويات.

وفي خضمّ فورة الدم والزلازل الأمنية والتقاتل والتحارب والإغراق في البدائية وقدوم الظلامية والاستعمار إلى خط طنجة جاكرتا، أصبح العقل مهمّشا وهيمن العنف والعنف المضاد وباتت الأمة الإسلامية في مرحلة انحطاط حضاري، فالتراجع سيد الموقف في كلّ المجالات الاستراتيجية والثقافية والعسكرية والأمنية والتنموية والاقتصادية والسياسية.

جغرافيتنا مستباحة، عقلنا معطل، أمننا مدكدك، والإسلام الذي كان يجمعنا خُطِف، وعندما يكون التقسيم والتفكيك الجغرافي للعالم الإسلامي واردًا، فيجب أن نعلن حالة طوارئ، وعندما يكون الذبح والعنف والقتل والتمذهب والطائفية عنواناً في العالم الإسلامي فيجب أن نعلن حالة الطوارئ، وعندما تنتشر حروب الإسلامات والطوائف ويتوجّه المسلمون إلى معارك خاسرةٍ في الداخل الإسلامي بدل استرجاع فلسطين يجب أن نعلن حالة الطوارئ.

فالسلام بين المسلمين وغيرهم فريضة إسلامية يجب أن ينصاع لها الجميع، وبعيدًا عن الانفعال، يجب أن تتجه النخب العربية والإسلامية إلى فعل النقاش الحضاري إنقاذًا للراهن والمستقبل، ومن الأولويات المطروحة اليوم مسألة حقن الدماء وحفظ الأنفس والأرواح والأعراض والخروج من دائرة التكفير والتكفير المضاد وحصر الخلافات المذهبية والفقهية في الإطار العلمائي وعدم الزجّ بالخلافات إلى الشعوب العربية والإسلامية والفضائيات الإعلامية، ليتمّ نبذ كلّ ما من شأنه تكريس الكراهية والبغضاء بين المسلمين.

وهذه الأهداف الكبرى المنشودة لا يمكن أن تتأتى فجأة بل يجب أن تصبح قناعة فكرية للجميع، وإرادة التلاقي والمصالحة أقوى من إرادة التفتيت حفاظا على إرث الإسلام ووصية الحبيب المصطفى مهجتي روحي فداه “لا تعودوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

كلّ هذه العناوين سنطرحها على ضيفنا العزيز والحبيب المفكر الإسلامي الدكتور عدنان إبراهيم في هذه الحلقة الخاصة من برنامج أ ل م تحت عنوان “إنقاذ العالم الإسلامي”. مرحبًا بكم جميعا.

دكتور عدنان إبراهيم، مرحبًا بك في برنامج أ ل م، وأنت من العقول التي نعتزّ بها في العالم العربي والإسلامي، فعقلك بمستوى خط طنجة جاكرتا. أنت طبيبٌ ومفكرٌ في نفس الوقت. عندما أسألك عن الداء الذي تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم في سنة 2014، كيف تصف الداء لأنه لا بدّ لحلحلة كلّ المعضلات أن نجد هذا الداء؟ في عصر النبوة جاء الرسول قال الأمّة مصابة بداء الشرك، ألغي الشرك وحلّ التوحيد محله فكان البناء. ما هي أمراض أو مرض العالم الإسلامي اليوم على وجه التحديد؟

 

عدنان إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين.

أما بعد، اسمح لي أخي وعزيزي الدكتور يحيى في البداية أن أوجّه إليك تحية شكر وعرفان على استضافتك الكريمة لي في هذا البرنامج الماتع، وكذلك لقناة الميادين الرائدة.

في الحقيقة جواب هذا السؤال المؤلم والحسّاس والحرج يمكن أن يُنظر إليه من زوايا متعدّدة وبالتالي يتعدّد هذا الجواب. أنا سأختار زاوية معيّنة لكي أجمل فيها ربما شتات رأيي وأخلاط فكري بهذا الخصوص، فأقول لعلّ جوهر وخلاصة الداء العياء الذي كاد أن يكون داءً عياءً لا طبّ له في هذا الوقت والذي تعاني منه الأمة الإسلامية، وعنوان الإسلامية يقودنا حتمًا إلى التركيز على موقف الأمة من دينها، فهم الأمة في هذا الدين ولهذا الدين يمكن أن يُقال باجمال وبكلمة واحدة إن الأمة المسلمة اليوم بأطيافها وتشكيلاتها وتنوعاتها المختلفة لم تعد تتعاطى مع إسلامها تعاطيًا غائيًا، بمعنى أنها لا تحدده بغاياته وأهدافه ومقاصده العليا والكبرى، فقدت هذا الفهم وفقدت هذه الروحية للأسف الشديد.

من هنا أنت ترى مشاهد منقورة جدًا في الحسّ الإنساني وليس في المعيار الإسلامي، بمعنى أنّ الإنسان من حيث هو، من حيث أتى، حين يرى هذه المشاهد، حين يرى هذه الفواجع والكوارث، يستنكر بإنسانيته، لكنّ المسلمين، أعني بعضهم طبعًا بلا شك، هؤلاء المتصارعين المتحاربين المتنابذين المتكارهين لا يستنكرون، بعضهم لا أقول حتى يستبيح، يستحسن هذا جدًا، ينتشي معه. إذًا هو بكلمة مضروب في إنسانيته منقوص في آدميته. ما الذي حصل؟ كيف يمكن أن يقنع المسلم نفسه بمواءمة هذه الحالة الفاجعية الكارثية اللا إنسانية الخارجة عن حدود كل ما هو إنساني ومعقول ومقبول مع إسلامه الذي يزعمه ويدّعيه؟ كيف يمكن أن يبيّض هذا السواد كله؟ كيف يمكن أن يسوغ هذا الجرم كله وباسم الدين، وباسم الدين؟

أنا أقول اقتراحا مني قد أكون مصيبًا وقد أكون مخطئا، لأن المسلمين لم يعودوا يحددون دينهم بغايته، غرقوا في الوسائل والوسائل حين تبت صلتها بغاياتها يمكن أن تصبح وسائل تبرر كل شيء وأي شيء. خذ إليك مثلا عزيزي الدكتور يحيى مفهوم الجهاد، وهو مفهوم بلا شك إنساني في جوهره، إنساني تمامًا مفهوم الجهاد وليس مفهومًا عدوانيًا أو استباحيًا. مفهوم الجهاد حين لا يُربَط ولا يُحدَّد بغاياته ومقاصده الحقيقية، وعلى فكرة بين قوسين أو مزدوجين، للأسف الشديد الفقه الإسلامي إلى الآن لم يحسم أمره بكلمة واحدة في هذا الموضوع، ما هي الغايات الحقيقية، ما هي المقاصد العليا للجهاد، لأنّ من العلماء المسلمين من فقهائهم إلى اليوم ورسائل عليا بمستوى رسائل الدكتوراه تقدم وتجاز بأعلى الدرجات التي تجعل الجهاد وسيلة للعدوان على الآخرين، في أحسن الفروض الجهاد وسيلة للتسلط على الآخرين، لقهر الآخرين وإخضاعهم، أنا أقول لك ليس الإسلام، لسلطان المسلمين، في غاية المطاف هذا السلطان الذي قد يختزل في سلطة السلطان الواحد، الشخص الواحد، الطاغوت الواحد وبإسم الإسلام وتجاز هذه الرسائل ويُقال هذا هو الإسلام، فإذا بُتّت وانقطعت صلة الوسائل بالمقاصد أصبحت الوسائل هذه مرنة إلى حدّ الكارثة، يمكن أن تبرّر كل شيء.

الجهاد إذُا مثلٌ حيّ نعيشه الآن، فالآن تستباح كرامة المسلم، ديار المسلمين، أمن المسلمين، استقرار المسلمين، حرمات الإسلام نفسه، دين المسلمين، ملة المسلمين باسم الجهاد، باسم الجهاد في سبيل الله ويستوعب الشباب هذا على أنه الإسلام الحق ويقوم بلا شك مسلسل الكوارث التي نعيش اليوم ولا نستطيع أن نقف هذا المسلسل.

في الأبواب الأخرى الشيء نفسه، حتى لا نطيل بذكر الأمثلة دكتور يحيى، أحبّ أن أقول، المسلم اليوم للأسف الشديد لا يرى تناقضًا البتة بين كونه مسلمًا وبين كونه إنسانًا سيئًا، سيىء السلوك، سيىء الملكة كما يقال، سيىء المزاج، سيىء التعاطي مع الآخرين بمستوى التكشير كما يقال أو التقطيب أو العبوس والتجهم إلى مستوى شرعنة الفُحش ومخاطبة الآخرين من أهل الملة ومن غير أهل الملة بما لا يمكن أن ينحدر إليه إنسانٌ رُبّي تربية سليمة في الحد الأدنى. يفعل هذا علماء ودعاة كبار ومشايخ بلحى وعمائم ولا يستحون ويبررون هذا.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عدنان أنت تطالبنا بمهمة حضارية وربما دونها خرق القتاد، صعبة إلى أبعد الحدود. دعنا نعود إلى بداية القرن التاسع عشر، كان هناك الخلاف بين الأصالة والمعاصرة، العقل والنقل، قاسم أمين، طه حسين، عبد الرزاق سنهوري، صاحب كتاب “أصول الحكم” الشيخ عبد الرزاق مصطفى عبد الرازق، وكان سياكس بيكو أو ظاهرة سايكس بيكو تعمل في العالم الإسلامي تفتيتًا.

اليوم دعني أنصاع لما طرحت، الوصول إلى مفهوم ابستمولوجي معرفي للإسلام. أقول لك يا دكتور عدنان من أين نبدأ وتاريخنا مزوّر كله دماء؟ إذا أردت أن تناقش في التاريخ يُقال لك أنت مجوسي أو أنت رافضي، إذا أردت أن تصحّح قضية تاريخية يُقال لك تجاوزت النص. في الراهن الإسلامي لا يوجد اتفاق إجماع على مسألة الإسلام.

إذاً من أين نبدأ دكتور عدنان إبراهيم وهو سؤال خالد محمد خالد من هنا نبدأ في الخمسينات؟ من أين نبدأ؟

 

عدنان إبراهيم: سؤال جميل. شكرًا لك دكتور يحيى. نبدأ من حيث واصلت الحديث قبيل قليل، من تحديد الإسلام غائيًا، المانيفستو الإسلامي، نحن نحتاج لمانيفستو إسلامي، لماذا الإسلام؟ الدين مفهوم واسع جدًا، الإسلام بالتالي كدين طبعًا عالمي هو واسع جدًا، ويمكن أن نتحدث عن إسلامات كثيرة جدًا تبلورت ولا تزال أو لا يزال بعضها في طور التبلور. لكن في نهاية المطاف هناك الجوهر، هناك ما هو جامع مشترك بين كل هذه الإسلامات على اختلافها. هذا الجامع المشترك أعتقد أنه يجب أن يطلب وأن يُقصَد وأن يُعمد إليه من كتاب الله تعالى وسأكون صريحًا جدًا حتى بعيدا عن السنة لأن السنة ليس في جملتها ولا أقول في تفاريقها أو تفاصيلها، لكن في جملتها السنة ليس لها من الوثاقة الاعتمادية ما للقرآن العظيم. السنة فرّقت الأمة وتعمل إلى الآن على تفريق الأمة، للشيعة سنتهم، للسنة سنتهم، للإباضية سنتهم، للزيدية سنتهم، لكلّ سنته، طبعًا هناك أيضاً جوامع مشتركة بين هذه السنن، لكن المفرّقات هي التي تعمل سيف التفرقة وسيف التمزيق في جسد هذه الأمة، في السنّة.

إذا عدنا الى   القرآن الكريم يمكن تمامًا تحديد الإسلام غائيًا، لماذا الإسلام، ما هو الإسلام، ما المقصود بالإسلام، “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، عالمية الإسلام عزيزي دكتور يحيى لا تتحدّد تاريخيًا بمعنى التوسع الجغرافي الذي أصابه أو أصابته جيوش الفتح الإسلامية. أنا دائمًا أقول، جانكيز خان مثلا أسّس إمبراطورية من حيث المدى الجغرافي أعظم من الإمبراطورية الإسلامية. ليس معنى هذا أنّ الياسق شريعة جانكيز خان أو بربرية جانكيز خان أو الهمجية بالأحرى حتى نحترم المصطلحات هي المعيار الصحيح أو كانت صحيحة. مستحيل. ليس هذا. عالمية الإسلام تتحدد بماذا؟ تتحدد بطرح مكثف وواضح وبسيط إذا قُدّم للعالم لا يجد أحد من العالمين، طبعًا بعيدًا عن التحيزات الأيديولوجية والدينية، لا يجد نفسه مضطرًا لأن يقول لا لهذا الطرح الإسلامي، بل سيقول نعم لهذا الطرح، ولذلك عالمية الإسلام ليست شيئًا يُفرَض على الناس بإسم الإسلام، هذا مهم جدًا، المسلم يظن أنّ العالمية بهذا المعنى سيف يفتح ويُخضع الناس، أبدًا وإنما الإسلام إذا عرض كما هو قرآنيًا على العالمين قبلوه، ولذلك عالمية الإسلام وخيرية هذه الأمة ليست دعاوى ومزاعم وإنما شهادات يقرّ بها الآخر، الآخر إذا أعطاك شهادة أنك خير الموجود وخير المطروح أنت تكون فعلا في هذه اللحظة نجحت أن تصل إلى الإسلام كما أراده الله تبارك وتعالى. الآخر يجب أن يقول هذان “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، ليست قضية دعوة، إنني من خير أمّة، يجب على الآخر أن يقول أنتم خير الناس لنا، أنتم خير هذه البشرية.

 

يحيى أبو زكريا: في هذا السياق دكتور عدنان، على طريقة الفلسفة أنّ الجواب يصبح إشكالاً في الفلسفة، سواء الإنسانية أو الإسلامية، كيف الإسلام الذي وحّد الأمّة وكان رمز عزّتها يصبح أساسًا في الإشكالات العامة التي أفضت إلى الدماء؟ كيف تحوّل الإسلام من المدلول الإيجابي إلى مدلول سلبي على قاعدة الفهم الخاطئ لهذا الإسلام؟ هل الإسلام صار مشكلة للعالم الإسلامي اليوم؟

 

عدنان إبراهيم: مشكلة للمسلمين، أحسنت، هو مشكلة لأمته اليوم. الأمة الآن تتقسم وتتذابح باسم الإسلام، باسم النصوص، باسم كلام الفقهاء، باسم العلماء، باسم النصوص الصفراء والحمراء. هذا هو الواقع، هذا هو الواقع حقيقة، حتى أكون أكثر تحديدًا، الآن مثلا الكل يتكلم عن داعش، اليوم يوم داعش كما يقال، ساعة داعش، الكل يتكلم عن داعش. أنا أقول دائماً لإخواني في المجالس الخاصة، أقول لهم الوضع أكثر حراجة ممّا تظنون. كيف؟ أقول لهم مثلا داعش حين تأتي وتستبيح الأزيديين مثلا، فإنها تستند إلى موروث فقهي، إلى موروث فقهي، هذا الموروث الذي تجلى في قول بعض الأئمة لا يجوز عقد الذمة لغير الكتابي، فقط، اليهودي والنصراني وألحق بهم المجوس بالتبع كما في الأحاديث، هؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، إذاً لا سبيل أمامهم إلا الدخول في الإسلام او السيف مثلا، هذا موروث فقهي، ما لم يتعدّل هذا فداعش ترى لها مثلا ذريعة، داعش تستبيح مثلا الشيعة وتقول هؤلاء روافض وكفرة ومرتدون، لماذا؟ في الموروث الإسلامي السني هناك فتاوى كثيرة تستبيح الشيعة وتكفّرهم، إذاً داعش لديها ما تستند إليه، داعش ترى أنّ الجهاد مهمة عدوانية، كلّ من هو غير مسلم يجب ان نبدأه بالقتال لنخضعه لسلطة الإسلام وبعد ذلك نأتي إلى مثل هذه الأحكام التفصيلية، فإن كان كتابيا عقدنا له الذمة وقبلنا الجزية وكففنا عنه، وإلا استبحناه بالسيف. هذا موروث فقهي إسلامي لا يزال إلى الآن يدرس في الجامعات. ما لم نصحّح هذه الأشياء بجراءة، حقيقة دكتور يحيى يزعجني أنا من علمائنا حقيقة أنهم مجاملون، طبعًا أنا أتحدث عن المجموع وليس عن الكل لكن إجمالا هكذا، هناك استثناءات مضيئة لكنها قليلة، العلماء مجاملون، العلماء غير جادين في وضع أصابعهم كما يقال على مكمن الداء، والقول هذا ظلام وهذا نور، هذا حق وهذا باطل، هذا غلط وهذا صحيح، يمجمجون دائمًا ويترددون ولا أدري. طبعًا هناك العصبيات أعلم، هناك الطائفيات، هناك المذهبيات، هناك التوظيف السياسي للديني، هذا على فكرة أحد مكامن داء هذه الأمة عبر التاريخ، في السياق الأوروبي لقرون طويلة إلى مطلع العصر الحديث كان الشأن الزمني كما يقال أو الشأن العام كان مستباحًا من جهة الجانب الروحي، السلطة الروحية، الكنيسة. في العالم الإسلامي القضية كانت معكوسة تمامًا، الديني كان مرتهنًا للسياسي، كان مستباحًا، كان موظفا للسياسي ولا يزال.

أنا أقول لك تقريبًا معظم ما نشاهده اليوم تقف وراءه السياسة. هناك سياسة، هناك سياسة، لكن ليست السياسة وحدها، لماذا؟ لأن هذه السياسة كانت ستخفق وستفشل حتمًا لو لم يمهّد هذا الفكر الديني البائس، الفكر الديني المتزمت المتطرف المتعصب الجامد المنغلق العدواني، هو الذي مهّد بنفسه لنفسه أن يُستخدَم أداة للساسة لكي يحققوا طموحات معينة أو ينفذوا أجندات محدّدة.

 

يحيى أبو زكريا: رحم الله أستاذي مالك بن نبي، كان معروفًا بمصطلح القابلية للاستعمار، جاء بعده مفكر جزائري اسمه مولود قاسم نايت بلقاسم، وهذا لا يقلّ فكرًا عن مالك بن نبي وضع مصطلح القابلية للاستحمار. أي أمة هذه التي لديها قابلية للاستحمار منذ كعب الأحبار؟ كعب الأحبار تسلل إلى دائرة الموروث الإسلامي ففجّره. أجدادنا تقاعسوا ولم يصححوا هذا الموروث الإسلامي، حتى صار مطية للحركة الاستعمارية، الغرب عندما يفرض علينا مشروعًا يأخذ بعين الاعتبار التربة الفكرية في خط طنجة جاكرتا. لماذا تقاعس الأجداد قبل أن نأتي إلى الراهن في تصحيح هذا الموروث المتناقض الدموي الذي تحوّل إلى قنابل موقوتة في دنيا المسلمين اليوم؟

 

عدنان إبراهيم: في الحقيقة هذا سؤال كبير وحرج دكتور يحيى وحساس جدًا. هل أجدادنا تقاعسوا أم أنهم تمادوا في تفعيل فهوم معينة، نظريات معينة، توجهات في فهم الدين معينة؟ أعتقد أنّ الاحتمال الأرجح هو الثاني، بالعكس هم لم يتقاعسوا، هم اشتغلوا وتحركوا بحماس وذهبوا ربما إلى آخر الشوط في تفعيل هذه الفهوم وهذه المقاربات للدين، والتي هي من الأصل كانت تعاني من مكامن خطأ، إصابات معينة معرفية لم يتنبهوا لها، لم يتنبهوا إليها. لو أخذنا، باختصار وسيكون كلامي هذا أيضًا صادمًا للكثيرين، لو أخذنا مفهوم الفتوح.

 

يحيى أبو زكريا: مرحبا بالصدم إذا كانت ستوقظ العقل الإسلامي، مرحبًا بالصدم.

 

عدنان إبراهيم: إن شاء الله، على كل حال الصدمات كثيرة الآن، نحن يصدم بعضنا بعضًا حين يصطدم بعضنا ببعض. أعتقد المستقبل في نهاية المطاف سيكون ملجأ لنا لأنه راجع مراجعات حقيقية، ليست تحسينية أو تجميلية، لكن بعد أن ندفع أكلافا باهظة جدا وبعد أن نفقد أيضًا جزءًا هائلاً من شبابنا وشوابنا الذين يلتحقون الآن بمعسكرات الإلحاد ومعسكرات التنكر لكل ما هو ديني وروحي، يجب أن نكون واضحين مع أنفسنا في هذا الصدد أيضًا للأسف الشديد، هذا ما يحصل، هذا ما يحصل.

أجدادنا كما قلت أبدًا لم يتقاعسوا، اشتغلوا بحماس، بحمية كبيرة أيضًا وبإخلاص وحسن نية لكن كان هناك شيء معرفي خاطئ. أنا أعتقد أنّ الإسلام المحمدي، الإسلام القرآني، الإسلام الأول الرباني الصافي الذي أريد به أن يكون تحريرًا للإنسان من كلّ أشكال الوثنية، من كلّ صور العبودية إلا لله، أريد به أن يصوغ وان يبلور إنسانًا كما عبر عنه الشيخ المجدد مفتي مصر في وقته محمد عبدو أن يكون الإنسان عبدًا لله وحده وسيّدًا لكل شيء بعده، لأنه خليفة الله في الأرض سُخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، أصبح هذا الإنسان للأسف الشديد بانعطافة لا أقول حرجة إنما انعطافة كارثية في حياة العقل المسلم، عبدًا لأصنام كثيرة، صنم الطائفة وصنم المذهب وصنم الزعيم وصنم القائد وصنم السلطة، أصنام كثيرة، لماذا؟ لأنّ الإسلام بدل أن يكون دين تحرير أو صيغة للتحرير أصبح صيغة للهيمنة، صيغة للسلطة، للأسف الهيمنة هذه ربما بدأت في الحقبة الأولى من صدر الإسلام بعد وفاة رسول الله، سلطة عالمية عُرفت بسلطة الفتح بعد ذلك اختزلت مباشرة في سلطة الحاكم الذي سمي بالخليفة أو بالسلطان وما إلى ذلك، وعاشت الأمّة في هذا الشرك، في هذا الفخ إلى اليوم، للأسف الشديد تمأسس الإسلام، أصبح دينًا ممأسسًا لكن لا لصالح المجتمع، لا لصالح الإنسان، لصالح السلطة الحاكمة. لا بدّ، أنا أعتقد المرحلة الراهنة يا دكتور إذا انتقلنا ربما إلى محور آخر، محور الحل، أكيد سيأتي هذا الكلام، أنا أعتقد أنه لا بدّ من فك الارتباط بين هذه السلطات وبين الإسلام.

 

يحيى أبو زكريا: هنا يا دكتور، أنتَ حرّكت لواعجي وأشجاني واقعًا، أنت أمام حلين إما ترمي التاريخ الإسلامي إلى أقرب نهر في العالم العربي، الفرات والنيل، وتبدأ لتؤرخ للمسلمين من سنة 2014، وهذه أتصوّر لا يقبلها أحد، أو أنك تغربل الموروث الإسلامي. جيّد، كل الذين دعوا إلى غربلة الموروث الإسلامي كُفّروا، محمد أركون كُفّر، محمد عابد الجابري الصديق المرحوم كفر، هشام جعيط كفر، كلّ من يدعو إلى غربلة التاريخ الإسلامي لإعادة بناء عقلية جديدة للإسلام، فلنقل، أو في المفاهمية الإسلامية كفر. أنت عندها ستكون استشهاديًا بأتمّ معنى الكلمة وأنت تعيد تصحيح الموروث الإسلامي.

 

عدنان إبراهيم: على كل حال دكتور يحيى ما من أحد في كل الأمم على كل حال وخاصة الثقافات التقليدية المستعصية التي أصيبت باستعصاء ثقافي، ما من أحد يدعو إلى مثل هذه الدعوة إلى مراجعة، إلى بث روح نقدية، تحارب من حيث هي الدغمائية، كل أشكال الدغمائية إلا ويُلعَن ويرجم ويكفر، الأنبياء كانوا يلعنون ويرجمون ويكفرون أو كما قال جبران ومن قبل جبران نيتشه، أن نكون اوائل معناها أن نكون ملعونين لأنك تريد أن ترتاد طريقًا لم تسبق إلى انتهاجه أو السير فيه، هذا شيء.

 

يحيى أبو زكريا: أذكرك بقول محمد عبدو وقد أشرت إليه قبيل قليل، قال على منبر الأزهر من قال بالتحقيق قيل عنه زنديق، للأسف الشديد.

 

عدنان إبراهيم: أحسنت وهو عانى، الشيخ محمد عبدو كفر في زمانه، كفر وكفر تلاميذه. على كل حال هذا سبيل المصلحين وورثة الأنبياء، هذا شيء طبيعي، ليس هذا المهم لكن المهم أن نستخلص الآن سؤالاً من خلال هذا السؤال الجميل الذي طرحته وهو لماذا؟ لماذا تشبث الأمة الإسلامية إلى هذا الحد بقدسية تاريخها؟ من أين إضفاء القدسية على التاريخ، وهو عمل بشر؟ هل التاريخ، التاريخ الإسلامي فيه نقاط مضيئة بلا شك معظمه ينتمي إلى الأمة ولا ينتمي إلى السلطة، وفيه نقاط سوداء مظلمة، حندس مدلهمة، عار وفضيحة إنسانية، ومعظمها ينتمي إلى السلطة، السلطة المسلمة أو السلطة الإسلامية، من أين أضفينا عليه وكيف وبأي مسوغ هذه القدسية وهو عمل بشر محض؟

أنا أقول لك من يوم وثنا الإسلام مأسسناه وحولناه إلى وثنيات، كلٌ يعكف على صنم صغير له. هل التاريخ أصبح صنمًا للأمة؟ طبعًا هي الأمة المجموعية، هناك أشطار من الأمة، أجزاء من الأمة لا تدين بالولاء لهذا التاريخ وتقول فيه وتواجهه بروح نقدية وأحيانا بروح حتى افترائية موجود، لكن الأمة في مجموعها اعني أهل السنة والجماعة يضفون القدسية على تاريخنا الذي هو ليس بالمقدس، إنما التاريخ تاريخ بشر. نحن طبعًا نرى أنّ من الضرورة العلمية إعادة النظر في قضايا كثيرة من منظور تاريخي لماذا؟ لأن معرفة تاريخ المشكلة يحدّد أسلوب العلاج حتى في الطب، الأطباء يدرسون التاريخ، تاريخ المرض، وكما قال الفيلسوف المثالي العظيم هيغل، كان يقول تاريخ المشكلة مشكل التاريخ، من أين بدأت الكارثة؟ من أين بدأت الفاجعة لكي تبدأ محاولة تصحيح؟ فعلى كل حال تقديس التاريخ هو أحد تجليات أو تمظهرات المرض الإسلامي وهو إضفاء التقديس على ما ليس بمقدس، قُدّست الطائفة كما أقول، قدّس المذهب، قدس الأشخاص وقدس التاريخ وهذا كله غير مقدس.

 

يحيى أبو زكريا: وربما دكتور عدنان في ما يلي من محاور سوف نعالج هذا الخلل الابستمولوجي المعرفي في صناعة المعرفة الإسلامية، يعني بدل أن يكون القرآن مصدرًا للتوحيد، مصدرًا للمعرفة، بات مصدرًا لكل طائفة. كل طائفة أخذت الفتات الذي يضفي عليها شرعية واكتفت بذلك وهكذا نشأ الاختلاف. وعلى ذكر التاريخ أذكر أنّ أول كتاب وضع في التاريخ الإسلامي هو في الطور الأول من العصر العباسي سيرة أبو اسحاق، توفي سنة 159 هجرية، وتلاه ابن هشام، سيرة ابن هشام، يعني المسلمون لم يؤرخوا لحظات أحداثهم إنما نقلوا شفاها. بعيد الفاصل ستستكمل كل هذه المحاور دكتور عدنان.

مشاهدينا فاصل قصير ثم نعود إليكم في هذا الحديث الشيق مع المفكر الإسلامي الدكتور عدنان إبراهيم.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • تحليل التفكير السلفي الوهابي الرويبضي الإستراتيجي التافه
    الدعوة+روما

    ماذا تفهم من عبارتين
    ]آخر وصية علوش السلفي عليكم بالدعوة[
    ]تنظيم الدولة السلفي الوهابي سيفتح روما[
    رجاء:
    الحمقى لا يمتنعون … والعقلاء يمتنعون
    ملحوظة: ” الفاتيكان دولة صغيرة داخل روما وروما دولة غير نصرانية بل علمانية مع قمة العري والإنحدار الخلقي … والدعوة أليه فمثلا ممكن تسجل شركة اليوم بها للواط بالبغال والحمير … لا مانع … الخ
    أصل السيف إن منعوك الدخول للدعوة وهذا غير حاصل لا منع ادفع ثمن الفيزة وتفضل
    فلماذا تدخل عليهم بالسيف؟ وأبوابها مفتحة لك تدخل وتفعل ما تشاء من دعوة لله تعالى”
    هيا نحلل خيابة الوهبية
    الدعوة+روما
    يقصدون بالدعوة الدعوة للمذهب الوهابي التيمي السلفي الشاذ عقيدة
    اسمع ل ..

    https://www.youtube.com/watch?v=T7r69d5qoVw&list=PLmFDZaY1wUxLb4kYdTWAIC4hYLBvxDFSu
    (مثال وثن الجهة السادسة لأعلى
    ووثن العرش … الخ
    ) وشريعة لا الدعوة للإسلام
    ويقصدون بفتح روما مثل فتح بلاد اليزيديات حتى يبيعوا نساء روما
    فروما اليوم إذا سرت في شوارعها بها عرب أكثر من الرمادي ولكن لا هم لهم لعبادة الله تعالى وذكره ونشر دعوته، بل همهم العلمانية بكل معانيها ليتشبعوا من كل حذافيرها، بل العري والتحلل والزنا في روما في الحدائق والطرقات …
    فتفكيرهم الإستراتيجي “لماذا لا نحصل ضريبة على ذلك العري ونقلبه من الطرقات للبيوت” باسم شيخي الإسلامي ابن تيمة وابن عبد الوهاب ومشايخنا وأمراؤنا يجمعون المال ولا صوت يعلوا صوت الدولة الوهابية السلفية
    والحمقى لا يمتنعون … بل العقلاء يمتنعون

    فيا جلالة الملك أسرع بتبني مذهب مالك والشافعي في الحرمين وامنع المذهب الوهابي إلا في نجد … حتى يسود السلام سطح الأرض

%d مدونون معجبون بهذه: