إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم وذكره الحكيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ۩ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۩ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ۩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ۩

يأتينا به الله رب العالمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

الآية الكريمة قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩ فيها إشارة إلى معنى دقيق وعميق وخطير، أي معنى كبير شريف، هذه الآية تُشير إلى هذا المعنى ولو من طرف خفي، لو راح حملة هذا الدين ضحية الاضطهاد وضاعت مبادئ هذه الرسالة نتيجة الكبر والعنود والجحود فما الذي سيكون؟ تقول الآية لن يبقى أحدٌ في مأمنة أو بمأمنة، سوف تتخوَّض هذه البشرية، وسوف تضرب في سُبل كثيرة تتيه فيها عن وجه الحق، لن تهتدي بعد ذلك سبيلاً، سوف تلقى بأساً شديداً، وسوف تُكابِد عذاباً أليماً، والآية لا تتحدَّث بهذه الطريقة الإشارية عن عذاب الآخرة، إنما عن عذاب الدنيا، نتيجة هذا تظهر وتبرز في الدنيا قبل الآخرة.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، نحن رحمتكم، الله يأمر نبيه أن يقول لهم نحن – أنا وأمتي، أنا ورسالتي، أنا وشرعي – رحمتكم، وبدوننا لن تُرحَموا، ستعيشون عذاباً مُراً، ستعيشون تنكيداً وتنغيصاً ومحناً تتوالى في الدنيا قبل الآخرة، في الدنيا! لا منجاة، لا مأمن، لا ضمانة، ولا عصمة! وهي طريقة عجيبة، الآية تقول في الظاهر شيئاً وهو صحيح وتقول بالإشارة شيئاً آخر وهو لطيف جداً، هكذا تُؤشِّر الآية، وهذا المعنى يشهد له قوله – تبارك وتعالى – وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۩، فإن ذهب وأُهلِك – إذن لا تبقى ضمانة – لن تبقى ضمانة ضد العذاب أو بإزاء العذاب، نفس الشيئ! نفس الشيئ تقوله الآية الأُخرى، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، إن ذهبت هذه الرحمة ما الذي يبقى؟ العذاب، يبقى العذاب! فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، في الدنيا قبل الآخرة!

أيها الإخوة والأخوات:

إن أفراداً معدودين – منزوري العدد – يعيشون في ظل بيت واحد – ما يُعرَف بالأسرة – يحتاجون إلى ضمانات تُؤمِّن بعضهم من ظلم بعض ومن حيف بعض ومن تجاوز بعض، على مُستوى الأسرة لابد من دستور داخلي، لابد من قانون ومن لوائح داخلية حتى على مُستوى الأسرة، وهذه موجودة بطريقة أو بأُخرى، عادلة كانت ومضبوطة وصحيحة أو غير ذلك، لكن موجودة، تُوجَد في كل الأحيان أو في غالب الأحيان، على مُستوى أوسع إن أفراداً يعيشون في ظل مُجتمَع واحد يحتاجون إلى مثل تلكم الضمانات، وهي موجودة في كل المُجتمَعات، إلا أنها نسبية وتختلف في مُجتمَع عنها في مُجتمَع آخر، فهل يُمكِن الآن أن نطرح السؤال الذي غدا مُبتذَلاً لكثرة ما طُرِح ولكثرة ما سُئل وعُرِض، السؤال هو هل يُمكِن أن يُدّعى أو أن يُجادَل في أن البشر جميعاً يعيشون اليوم في ظل كوكب واحد؟ كما يُقال هذا الكوكب الذي غدا قرية صغيرة، هل يُمكِن أن يُقال هذا، أم أننا نعيش كثقافات وحضارات ومُجتمَعات على الأرض؟ هل يُمكِن أن يُجادَل أننا نعيش كبشر وكبني آدم – وحدة واحدة كُبرى هي أكبر هذه الوحدات أو التوحدات – لا في ظل أسرة ولا في ظل مُجتمَع ولا في ظل دائرة حضارية أو ثقافية بل في ظل الأرض، في ظل عالمنا هذا، في ظل أمنا وهي الأرض؟ مثل هذا السؤال لم يكن ذا مصداقية يوماً كما هو اليوم، لم يكن هذا السؤال مُمكِناً يوماً كما هو اليوم، اليوم حيث يُمكِن للواحد منا وهو جالس في غُرفته وفي داره أن يُتابِع ما يدور في الأقاصي والأداني من هذه المعمورة، عبر جهاز صغير أمامه، عبر تقنية مُتطوِّرة جداً تُعرَف بالإنترنت Internet أو حتى الفضائيات، وعبر هذا المحمول الصغير، ويُمكِن أن تُشارِك في مُؤتمَرات عالمية حول العالم وأن يكون لك رأي وأن تَسمع وتُسمِع وأن تَرى وتُرى وأنت جالس في غُرفتك لا تبرح، فهذا السؤال إذن اكتسب مصداقية كاملة في هذا الزمان، إذن لابد من البحث عن جواب له، ما هي الضمانات؟ ما هي الضمانات التي تهيأت لهذه الأسرة البشرية لكي لا يحيف بعضها على بعض ولكي لا يظلم بعضها بعضاً ولكي لا يغتال بعضها حقوق بعض ولا يتخوَّض بعضها في حقوق بعض؟ ما هي الضمانات؟ هل يُمكِن للقانون الدولي أن يدّعي أنه رسم هذه الضمانات؟ هل يُمكِن لمُؤسَّسات كونية مثل الأمم المُتحِدة أو حتى مجلس الأمن أن يزعم وأن يُساجِل أنه وفَّر أمثال هاته الضمانات؟ إلى آخر هذه الاحتمالات!

طبعاً بعض الناس يرى أن المسألة ليست بهذا العمق وليست بهذه الجدية، فهناك ضمانات مفعولة وإن لم تكن مُقنَّنة، يُمكِن أن تُسيِّر العملية، وهذا غير صحيح بالمرة، هل تعلمون لماذا؟ المسألة في أُفقها العميق والعميق جداً كالتالي، انتبهوا! بما أننا بشرٌ فهذا يعني أننا محدودون، وكوننا محدودين مُباشَرةً يستلزم أن تكون لنا حدود، هذه الحدود حين تكون موجودة تعني شيئاً آخر أيضاً يستلزم ما هو أكثر أساسية، كيف؟ 

لنبدأ – مثلاً – من العلم، العلم الذي أُريد له أن يُصبِح بمثابة إله – طبعاً مُزيَّف بلا شك – لهذا العصر، هذا العلم محكوم بماذا؟ طبعاً كل نسق بحسب سبينوزا Spinoza لابد أن يكون محكوماً، كما قلت لأننا نسبيون وبشر كل أنساقنا لابد أن تكون محدودة، كل أنساقنا! لا يُوجَد نسق مفتوح بالمُطلَق، مُستحيل! لا القانون، لا السياسة، لا العلم، لا الأدب، ولا الفن، مُستحيل! كلها أنساق في نهاية المطاف لها حدود، ومُتحرِّكة هذه الحدود بلا شك، بحسب تطور العقلية والثقافات البشرية، العلم محكوم بماذا؟ محكوم بمنطق المُمكِن واللا مُمكِن، مُباشَرةً هذا هو العلم، بمنطق المُمكِن واللا مُمكِن! 

هناك قانون يعرفه فلاسفة العلم والمُشتغِلون بدرس هذه القضايا يُعرَف بقانون جابور Gabor، أي Gabor’s law، قانون جابور Gabor يتحدَّث عن المُمكِن وينص على التالي، كل مُمكِن سيُنجَز على الدوام، بمعنى أن العلم مسيرة مفتوحة، ولن ينتهي إلى تُخم يُقال إنه النهاية، أي Stop، هنا انتهى العلم، قانون جابور Gabor تماماً هو ضد نبوءة المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي Arnold Toynbee في كتابه تاريخ البشرية، حين تنبأ في أول فصل أن العلم البشري سيشهد نهايته، لابد أن تكون له نهاية، ولا أدري على أي أساس استند، لم يذكر المُؤرِّخ الكبير مُبرِّرات مُقنِعة، بل تقريباً على ما أذكر لم يذكر أي مُبرِّرات، لعله استند على أُس ديني، استلهم هذه النتيجة من معنى ديني، لأن العلم البشري إن لم يكن محدوداً وكان مسيرة لا نهائية فيُمكِن أن يُجادِل البعض أنه قد يُعادِل العلم الإلهي في النهاية، وهذا غير صحيح، بالعكس! هذه حُجة على العكس تماماً، بما أن العلم لم يتوقَّف فهذا يعني أن الإنسان لن يكمل ولن يستكمل معرفته النهائية، بالعكس! لا ندري وهكذا نُجادِل.

إذا أردنا أن نستهدي بالوقائع وبالتاريخ القريب وليس بالتاريخ البعيد يُمكِن أن نقول – لكن بطريقة وقائعية وليست نظرية فلسفية – أن العلم سيشهد نهايته، هل تعرفون متى؟ يوم يُساهِم في إفناء البشرية، ولم يصل العلم يوماً إلى هذا الإمكان كما فعل اليوم، البشرية لأول مرة كما يقول الفيلسوف المُسلِم رجاء جارودي Ragaa Garaudy في تاريخها أصبحت مُقتدِرة مُتمكِّنة أن تُقرِّر مصيرها وأن تضع حداً لمسيرتها، الآن الإنسان بوسعه أن يُفني نفسه وأن يُفني هذا الكوكب لو أُطلِقت الأسلحة الذرية والهيدروجينية المُتوفِّرة اليوم، عُشر هذه الأسلحة كفيل أن يُشظي كوكبنا هذا إلى ألف مليون مليون شظية في الكون، ينتهي كل شيئ، لأول مرة! الإنسان وصل إلى هذه الدرجة، قد يفعلها العلم، قد يفعلها العلم على أساس أنه المُموِّل بالتقنيات، أما السياسة فلها القول النهائي في هذا الأمر، بالأحرى مجانين السياسة.

حين سُئل العالم الكبير ألبرت أينشتاين Albert Einstein كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة قال الثالثة لا أستطيع أن أجزم كيف ستكون، أما الرابعة فأعرف، قالوا كيف؟ قال بالأخشاب وبالعصي، لأن الثالثة ستُفني الحضارة الإنسانية، ستُسدِل الستار على كل المسيرة الحضارية الإنسانية، سيعود الإنسان إلى ما قبل مائة ألف أو مائتي ألف سنة، أكثر بدائيةً من البدائية ذاتها، سيتحارب الناس بالحجارة والعصي، قال أينشتاين Einstein هذا، قال نعم، الرابعة أعرفها، الثالثة لا أعرف، كانت الحرب الأولى – أي العالمية الأولى – هي حرب الكيمياويين كما يقولون، وقد زُعِم لها أنها الحرب التي ستضع حداً لكل الحروب، كما زُعِم لحرب أكتوبر طبعاً بين العرب وإسرائيل، الحرب الثانية العامة – أي العالمية الثانية – كانت حرب الفيزيائيين، القنبلة الذرية! الحرب الثالثة الله وحده أعلم ستكون كيف، نسأل الله ألا تقوم، لكن الوقائع تُؤكِّد أننا ربما نسير في هذا الطريق للأسف الشديد، كيف؟

في عقد التسعينيات المُنصرِم من القرن المُنصرِم – القرن العشرين – كان مُعدَّل الإنفاق على التسلح يومياً بل في كل دقيقة مليون وستمائة ألف دولار، ما يُعادِل أو ما يُناهِز ثمانمائة وخمسين ملياراً في السنة، طبعاً هذا الآن أصبح أكثر بؤساً بكثير، وتعرفون هذا، المُوازَنة العسكرية للولايات المُتحِدة الأمريكية الآن أكثر من أربعمائة وعشرين ملياراً في السنة، أصبح الوضع أكثر بؤساً بكثير، هذا في الوقت الذي يموت فيه كل يوم الآلاف والآلاف بسبب الجدب وعدم الغذاء وسوء التغذية والأمراض السارية أيضاً والتي لها علاجات مُتوفِّرة لكن لا يُوجَد مَن يدفع لهذه العلاجات والأشفية، لكن يُوجَد مَن يُنفِق الملايير على أسلحة لا معنى لها إلا أنها الوعد نفسه بالعدم وبالفناء، هذه المسيرة نفسها عدمية، Nihil! مسيرة عدمية وخُطة عدمية لا معنى لها، لا تجد تبريرها، غير مفهومة! غير مفهومة بأي حال من الأحوال، نصيب كل فرد الآن من ستة ملايير من البشر زُهاء ستة أو سبعة أطنان من السلاح، على كل فرد واحد منا! لماذا هذا التكديس غير المفهوم؟ ما هذا الجنون؟

ولذلك العلم المحكوم بطرفي المُمكِن واللا مُمكِن – وكما قلنا وفق توينبي Toynbee – سيشهد نهايته، والوقائع – إذا استهدينا بالوقائع – نعم تُؤكِّد كلام توينبي Toynbee بهذا المعنى، أنه سيشهد نهايته حين تُنهي البشرية نفسها، سيُسدِل الستار على كل شيئ، تنتهي المسرحية العبثية الإنسانية للأسف، التي كان ينبغي لها أن تكون مسيرة الخليفة عن الله في أرضه، أصبحت مسيرة عبثية سريالية غير معقولة وغير مفهومة، لكن بحسب جابور Gabor المُمكِن لابد أن يُنجَز دوماً، هذا على أساس نظري، إذا جادلنا نظرياً نعم العلم مسيرة مفتوحة لن تشهد نهايتها نظرياً، لكن وقائعياً الأمر يختلف تماماً.

إذن يأتي السؤال الآن، العلم المحكوم بالمُمكِن واللا مُمكِن والذي لا يُمكِن أن يضع لنفسه لا أقول المعايير – الــ Norms – وإنما الحدود أين ينبغي أن يقف؟ إذن لابد أن يُحَد من خارجه، لابد أن يجد حدوده من خارجه، ما هو هذا الخارج؟ القانون، يقولون السياسة والقانون، لذلك أنتم الآن تشهدون نقاشات دائمة ومُستدامة حتى ومُتواصِلة حول ماذا؟ حول الاستنساخ طبعاً، في كل العالم المُتقدِّم، نحن طبعاً هذا الأمر لا يعنينا، لأننا بعيدون جداً عن قضية الاستنساخ، لذلك لا نتناقش طويلاً في بلادنا، لكن في العالم المُتحضِّر يتساجلون ويتناقشون طبعاً في مجالس الشعب أو ما يُعرَف بالبرلمانات أو مجالس الأمة كثيراً جداً حول هذه القضايا، كما تناقشوا حول أطفال الأنابيب والإجهاض الآن يتناقشون حول الاستنساخ وما بعد حتى هذه القضايا، لماذا؟ لأن على القانون أن يضع حدوداً للعلم، يتدخل رئيس الولايات المُتحِدة الأمريكية أحياناً بالإعراب عن وجهة نظره، كأنه يُريد أن يُوحي إلى ويُلهِم الكونجرس Congress أفكاراً مُعيَّنة وأن يخط لهم اتجاهاً، أحياناً يحدث هذا، فعلها كلينتون Clinton وفعلها هذا الأفندي بطريق أُخرى.

على كل حال هذا القانون، هل القانون هو النهاية؟ لقد ادّعى جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau في العقد الاجتماعي أنه ما من قانون أساسي، ويعني بالقانون الأساسي القانون النهائي، أي المرجعية المُطلَقة النهائية، وصحيح ما من قانون أساسي، هل تعرفون لماذا؟ لأنه حتى في الدول الأكثر ديمقراطيةً لا يُوجَد هذا،وأنا هنا أُساجِل ضد فيلسوف فرنسي مُعاصِر ادّعى أنه لا يتم الاقتراع على الخير والشر، بالعكس! أنا مُنحاز إلى رأي خصمه ألان تورين Alain Touraine الذي زعم أنه يتم الاقتراع على الخير والشر وفي أكثر النُظم ديمقراطية، ألم يُنتخَب الفوهرر Führer أو القائد الكبير أدولف هتلر Adolf Hitler بطريقة شبه ديمقراطية في سنة ثلاث وثلاثين ليكون مُستشاراً للرايخ Reich، أي الثالث؟ نعم! ومن أمة مُتقدِّمة وتعرف ما هي الديمقراطية وما هو العلم، بل ربما كانت هذه الأمة الأكثر تقدماً وقتها، نعم! وانتُخِب بطريقة شبه ديمقراطية، ديمقراطية إلى حد بعيد جداً! والنتيجة الهولوكوست Holocaust، المحارق، المذابح الجماعية، الأفكار الجنونية التي خرجت من القمقم – من قمقم الشر والظلامية، من أسفل قاع المُخ البدائي للإنسان الحديث المُعاصِر -، وإهلاك الحرث والنسل، الله وحده أعلم لو أن هذا الرجل لم يُهزَم في الحرب العالمية الثانية أين كان سيكون البشر اليوم وماذا كان سيكون مصير الحضارة اليوم، لكن باسم الديمقراطية وباسم القانون وباسم الاقتراع هذا ما حصل! ولذلك نحن مع روسو Rousseau، ما من قانون أساسي، وما من قانون نهائي، أي Final law، ستقول لي لا، القانون النهائي في نهاية المطاف بيد الشعب، لكن هذا ليس بطريقة مُباشَرة، وهذا يُمكِن حتى أن يُساجَل فيه، لكن بيد المُمثِّلين عن الشعب، ولذلك للأغلبية دور، يُمكِن برأي هذه الأغلبية في النُظم الديمقراطية أن يُصبِح ما كان يُعَد بالأمس شراً اليوم خيراً، هل يُمكِن أن يُصوَّت على غزو شعوب مظلومة؟ يُمكِن، فعلها الإنسان المُعاصِر، انتبهوا!

هنا يأتي الذين لا يُريدون أن يُقِروا بأهمية الدين، بضرورة أن نحتفظ بالله – تبارك وتعالى – كرب، كمعبود، وكمُشرِّع، علماً بأن مُشكِلة الغربيين بشكل عام أنهم يكرهون فكرة الدين كشرع، انتبهوا! الغربي هنا يكره هذا، ولذلك في تقديري الشخصي ربما كان هذا هو الذي أعطى للمسيحية مجالاً أكبر للانتشار من اليهودية، اليهودية ديانة شرع وشرع مُعقَّد وبتفاصيل مُمِلة ومُسهَبة وكثيرة جداً، هذا معروف! أما المسيحية فهي ديانة شرعها قليل وقليل جداً، يكاد ينعدم فيها الجانب التشريعي، أي دين بلا شرع، إيمان! إيمان بلا شرع، وهذا مقبول، علماً بأن إلى اليوم الغربيين يقبلون هذه الفكرة، تلذ لهم هذه الفكرة، لو عرضنا الإسلام على أنه مُجرَّد إيمان بلا شرع يقبلونه، صدِّقوني! كثيرون منهم سيقبلونه، يحلو لهم هذا الدين، لكن لا يقبلون ديناً بشرع وضوابط ومعايير وحدود وحلال وحرام ومرجعية مُطلَقة لا تُتجاوَز اسمها الله تبارك وتعالى، هذا غير مقبول.

وبالمُناسَبة سأفتح قوسين لأقول (ربما الآن الدين الذي يُراد أن يُصبِح هو الإسلام هو دين من هذا النوع، انتبهوا! باسم التطوير والتحديث والتنوير والاجتهاد يُريدون تفريغ الأديان – في مُقدَّمتها الإسلام – من مضمونها التشريعي، يُريدون تفريفها من مضمونها التشريعي وهذا شيئ خطير جداً جداً جداً، هذا ليس اجتهاداً، هذا اجتهاد في ماذا؟ في إحالة هذا الدين إلى لا معنى في نهاية المطاف، لا شيئ! هل تعرفون لماذا؟ سنرى من خلال هذه الخُطبة – وقد بدأت الرؤية تضح لنا الآن تماماً – أننا نحتاج إلى الدين كشرع، نحتاجه تماماً! أكثر ما نحتاج إليه هو الدين كشرع، طبعاً بعد الدين كعقيدة، نحتاجه جداً! لماذا؟ سنرى).

هذا القانون يُمثِّل في نهاية المطاف الأغلبية، مصالح الأغلبية، رأي الأغلبية، ثقافة الأغلبية، وأميال الأغلبية، أي الأشياء التي يُميلون إليها، يُرجِّحونها طبعاً، هذا هو! قد يقول بعضهم ولكن يبقى هذا القانون محكوماً بشيئ أعلى منه اسمه الدستور، لكن لا تغفل عن حقيقة أن هذا الدستور أيضاً يتضمَّن عرضاً لآليات ديمقراطية يتم بها وعبرها ووفقاً له تعديل الدستور نفسه، المسألة خطيرة! لذلك ما من قانون أساسي، نُردِّد مع جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، ما من قانون أساسي، ولذلك يُمكِن أن تُشرعَن وأن تُسوَّغ حروب ظالمة واغتيالات وإهلاك للحرث والنسل باسم القانون وفي نُظم ديمقراطية أيضاً، فالديمقراطية في النهاية مع أنها كما قال تشرشل Churchill فعلاً هي أحسن ما توصل إليه الاجتهاد البشري – نحن نُقِر بهذا ونُصادِق عليه – لكنها لا تعني عصمةً ضد الأسوأ، أي لا تعني ضمانة، لن تكون ضمانة لنا أن نتخوَّض وأن نقع فيما هو الأسوأ، يُمكِن أن يقع ذلك، وقد وقع في القرن العشرين، يُمكِن أن يتكرَّر عشرات المرات، عشرات المرات!

ثم من جهة أُخرى قولوا لي جواباً عن الآتي، اسألوا أكبر قانوني في أوروبا أو في أمريكا أو في العالم العربي أو في العالم الثالث – أينما أردتم – هل هناك قانون يمنع أن تكون أنانياً؟ لا طبعاً، أنت حر! القانون أن تُؤدي ما عليك وأن تلتزم، هل هناك قانون يمنع أن تكون سلبياً، أن تكون جامداً، أن تكون ثقيل الدم مثلاً، وأن تدور حول نفسك؟ لا، هل هناك قانون يمنع أن تنطوي على أحقاد وكراهية داخلية تُعبِّر عن نفسها بطرق رمزية أحياناً؟ لا، القانون لا دخل له بهذه الأمور، هذه قضايا دينية وأخلاقية، القانون لا علاقة له بها، انتبهوا! القانون لا يُمكِن أن يكون بديلاً عن شرع السماء بهذا المعنى.

لذلك يُمكِن كما قال أحد الفلاسفة أن يكون المرء وغداً كبيراً وهو أكثر المُلتزِمين بالقانون، لكنه وغد وأحمق Idiot، وغد كبير! أي شخص حقير فعلاً، غير مُحبَّذ، لكن هو أكثر الأشخاص التزاماً بالقانون، يلتزم حرفية القانون، يُمكِن أن يكون شخص أيضاً مُتديناً كبيراً وهو وغد كبير أيضاً، حتى في الدين! في الإطار المسيحي واليهودي هذا يُعرَف بالفريسي، الفريسيون الذين حاربهم المسيح، والذين سعوا في صلب المسيح، لكن نجاه الله، هؤلاء الفريسيون هم يلتزمون بالقانون السماوي تماماً بحرفيته، لكن خلو من المحبة، من الرقة، من الرحمة، ومن الغيرية، موجودون! وهؤلاء الفريسيون موجودون في كل ديانة، موجودون! هناك فريسيون في المُسلِمين أيضاً، هذا معروف! وتلحظهم وتحس بهم وتشعر بثقل أرواحهم عليك، ليس هذا النمط من التدين الذي يرتضيه الله – سُبحانه وتعالى – لنا، هذا نمط مُختلِف تماماً.

على كلٍ إذن القانون لا يستطيع أن يحد نفسه، لابد أن يُحَد من خارج، هذا معروف! ما الذي يحده من خارج؟ قالوا الأخلاق، هنا وصلنا إلى مقطع حرج، إلى مُفترَق طرق حرج جداً بيننا وبين النسبويين والملاحدة والماديين، يقولون الأخلاق، نحن ندّعي دائماً – ولنا مُساجَلات طويلة في هذا الموضوع – أن سؤال الأخلاق لا يُمكِن فكه وفصله عن سؤال الروح، أي عن سؤال الدين، إذا تكلَّمنا عن الدين وعن الروح نتكلَّم عن ماذا؟ عن اللوغوس Logos، عن المعنى، انتبهوا! إذا بحث الإنسان عن معنى هو يبحث عن ماذا؟ عن دين، والباحث هو الروح الآن، ليست المعدة، وليس العقل، وليس الفرج، انتبهوا! المعدة والعقل والفرج لهم علاقة بالاقتصاد، لهم علاقة بالاقتصاد، لهم علاقة بالطب، لهم علاقة أيضاً بالقانون، أما الروح فهي مسألة الدين، مسألة المعنى!

نحن نُجادِل أنه لا يُمكِن فصل سؤال الأخلاق عن سؤال الروح، عن سؤال الدين! لو تم الفصل بينهما كما فعل كثيرون من المُفكِّرين الغربيين المُعاصِرين وأتباعهم أيضاً في أسقاع الأرض نحن نزعم أن سؤال الروح وسؤال الأخلاق جميعاً سيغدوان خلواً من الجوهر، سيُصبِح الدين بلا معنى، وستُصبِح الأخلاق بلا معنى طبعاً، الآن يتم الحديث وبإسهاب عن ماذا؟ عن أخلاق المُؤسَّسة، عن أخلاق المُنشأة، هذه أخلاق المُؤسَّسة! كيف ينبغي أن تكون أخلاقياً حتى تربح؟ كيف ينبغي أن تتعلَّم – أن تتعلَّم، انتبه – أن تكون أخلاقياً حتى تستطيع أن تُسوِّق سلعتك أو سلع المُنشأة التي تعمل فيها؟ كيف ينبغي أن تتعلَّم أن تكون أخلاقياً لكي تكون مُديراً ناجحاً؟ أخلاق! تحت اسم أخلاق، لا ندري مدى صحة هذه التسمية، ولذلك من شعارات أخلاق المُنشأة أو أخلاق المُؤسَّسة  Ethics pays كما يقولون، أي الأخلاق تُسوِّق، تستطيع أن تبيع لك كثيراً، أي أخلاق هذه؟ هذه أخلاق نفعية، أقرب إلى أخلاق اللذة، إنها أخلاق المصلحة، إنها بريئة البراءة كلها من أخلاق عمانوئيل كانط Immanuel Kant، الرجل الذي جرَّد الأخلاق من كل شائبة مصلحة أو لذة أو منفعة أو حسابات حتى شخصية أو جماعية، وسماه مبدأ الترفع، وله كلام في مُنتهى الجودة، لكنه فعلاً مُغرِق في التجريد.

على كل حال هذه الأخلاق، يُمكِن أن تأتي الأخلاق لتحد القانون من خارجه، بأي معنى؟ هل يُمكِن قيام الأخلاق بلا دين؟ ثم أي معنى للدين نُريد؟ نتكلَّم عن الدين بأي معنى وبأي زاوية نظر؟ للأسف الملاحدة الآن في القرن الحادي والعشرين يُصِرون على شيئ غير صحيح، هل تعرفون لماذا؟ طبعاً أنتم تلتقطون خط التاريخ كما يُقال في علم الاجتماع، الآن المسألة الأخلاقية تقريباً في نهايتها لكنها ألقت بظلالها وكانت قوية إلى حد بعيد عبر عشرين سنة مُتوالية، انتبهوا! طبعاً هذا معروف في آخر عقدين، لذلك شهدنا أطباء بلا حدود، مُنظَّمات لها علاقة بالمُضطهَدين، بالمساكين، وبالمساجين المُضطهَدين سياسياً، بشكل غير طبيعي وغير مسبوق في القرن العشرين، والآن هذه كانت الصرعة الأخلاقية بعد صرعة السياسة، السياسة هي كل شيئ في الستينيات والثورة الثقافية، وبعد ذلك الأخلاق، الآن فُتِح الباب على مصرعيه على مسألة المعنى، الروح، والدين! هذا في العالم كله وهو معروف، يلتقط هذا مَن يدرس الواقع دراسة عميقة ويلتقط خط التاريخ كما يُقال، فالمسألة ليست افتراضية، ليست تنظيرية، مسألة واقع ووقائع، وتُلِح علينا!

هؤلاء يُجادِلون على عكس المُتوقَّع، أنه كلما ضعف الدين كلما احتجنا إلى الأخلاق أكثر، ونحن نُوافِق على هذا، نُوافِق على هذا! إذا غاب الدين فعلاً سنغدو مُحتاجين إلى الأخلاق، ومع وجود الدين، فالدين كما قلت مسألته ليست بعيدة، بل مُتواشِجة ومُتشابِكة تماماً ومُنسجِمة مع مسألة الأخلاق، لا معنى لأخلاق بلا دين ولا معنى لدين بلا أخلاق، هذا ما نقوله، لكن هؤلاء الماديون الكافرون بالأديان وبالله – تبارك وتعالى – يزعمون أنه حتى لو غاب الدين يُمكِن قيام أخلاق، وكلما غاب أكثر أصبح قيامها أو أصبح قيام الأخلاق ضرورة مُلِحة أكثر، نحن نُصادِق على هذا، هذا صحيح! لكن ما نُجادِل فيه هل يُمكِن أن تنجح في إعطاء جواب المسألة الأخلاقية بغير دين؟ نحن نُؤكِّد أنه مُستحيل، وطبعاً قرأنا كثيراً جداً من مُساجَلاتهم، ويُمكِن الرد عليها وتفنيدها بسهولة، لأنها ركيكة ومبنية على شفا جرف هار يُوشِك أن ينهار في كل لحظة، كلام فارغ، بالعكس! دوستويفسكي Dostoyevsky الأديب الكبير المُلهَم كان أقرب إلى الحقيقة حين قال على لسان أحد أبطاله إن غاب الله فكل شيئ مُباح، لا يُمكِن أن تقوم أخلاق بغياب الدين.

سأختم أيها الإخوة، لأن الوقت للأسف يُدرِكنا في هذه الأيام بقوله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الذي أخرجه الإمام نصر المقدسي الشافعي – رحمة الله عليه – في كتابه الحُجة على تارك المحجة والإمام أبو نُعيم في الأربعين والإمام الطبراني، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال – صلى الله عليه وسلم – لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، يُمكِن أن تفهم أو تفهمي هذا الحديث من زاوية فردية تصوفية بسيطة جداً، نحن هنا نُريد أن نفهمه من زاوية كونية، من زاوية تُترجِم عن حاجة العالمين إلى شرع إلهي يكون بمثابة ما نفاه روسو Rousseau القانون الأساسي، بمعنى المرجعية المُطلَقة.
وسنقول بين يدي هذا الحديث الأخير الإنسان فقط في حالة واحدة يُمكِن أن يعود مرجع نفسه وأن يصير مرجع ذاته ويكتفي بذاته وأن يستغني عن شيئ اسمه الله، اللهم غفراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، في حالة واحدة فقط! إذا غدا هو بنفسه إلهاً، لا نسبياً، مُطلَقاً، كُلي الحكمة، كُلي العلم والمعرفة، وكُلي الخير والرحمة، وهذا أكثر المُحالات استحالةً، لأنه ليس إلهاً، ما كان ولن يكون يوماً إلهاً، ولذلك ليس هذا الإنسان في غنى يوماً أو لحظةً من اللحظات عن الله تبارك وتعالى، ليس كموضوع إيمان فقط، بل كمصدر تشريع وتقنين يتسم بالإطلاق، يقول الفيلسوف البريطاني الكبير جود Joad لقد مكننا العلم في هذه الآونة أخيراً من أن نتمتع بقوى وقُدر آلهة، طبعاً آلهة الأولمب، ليست آلهة السماء، ليس إله العالمين، وإنما آلهة الأولمب الأسطورية، وهذا الكلام فيه غطرسة ومُجازَفة كبيرة، على كل حال قال لدينا الآن قدرات تتمتع بها الآلهة، لكن للأسف – يقول جود Joad – نستخدمها بعقول الوحوش والأطفال، هذا صحيح، هذا صحيح تماماً بلا مُبالَغة، هذا يُمكِن أن يُبالَغ فيه، لكن ما ذكره ليس مُبالَغاً فيه، قدرات مهولة مُخيفة وفي نهاية المطاف تجعل مُستقبَل البشرية ومُستقبَل الكوكب على كف عفريت أحمق من أوغاد البشر، هذا ما أعطاه العلم اليوم، وهذا ليس تهجيناً وليس استنكاراً وليس شجباً للعلم، بل شجب للمسيرة العقلية الإنسانية التي ضلت عن أن تعرف كيف تُحَد أنساقها – نسقها العلمي، نسقها السياسي، ونسقها القانوني، بل وحتى يُمكِن أن يُقال نسقها الأخلاقي أيضاً – بمرجعية وحيدة نهائية، هذا بعض معنى لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! هكذا بعض المعنى هنا في هذه المسألة.

نُريد أن نفهم حديث النبي – صلى الله عليه وسلم، وصحَّحه الإمام النووي، قال حسن صحيح، وجادل بعضهم في ذلك – من زاوية كونية، عولمة! هذا نوع من العولمة الدينية الآن، تفكير على مُستوى كوكبي حقيقي، لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۩، يقول لا يكتمل إيمان أحدكم إلا بهذا، نحن نُعادِل باستمرار وفي كل مُناسَبة بين الإيمان الكامل والإنسانية الكاملة، لا إنسانية كاملة بلا إيمان كامل، بل لا مخرج، لا إنسانية بلا إيمان، انتبهوا! لا أخلاق بلا إيمان أيضاً، إذن لا إنسانية بلا إيمان، فكأن النبي يقول لن يصل الإنسان إلى رُتبة وشرف الإنسان الكامل حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به.
تقول لي هل النبي يقول عليك أن تنحاز كإنسان يتطلب أو يطلب وينشد الكمال والاستكمال إلى الشرع ضد أهواء وأميال ونزوات ورغائب النفس؟ نعم، عليك أن تفعل هذا، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ۩، ولكن النبي يُؤشِّر إلى ما هو أبعد من هذا، انتبه! وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ۩، النفس اللوّامة هنا، إذن الصراع موجود إلى الآن، الصراع بين ما يُريده الله، ما شرع الله، وما يُرضي الله، وبين ما تُريد النفس، ما ترغب النفس، وما تهواه وتتعشقه وتتشوف إليه النفس، لكن يتم الانحياز في مُعظَم الحال إلى جانب الله تبارك وتعالى، هذه النفس اللوّامة، قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۩، النفس المُطمئنة، انتبه! فتنتقل من النفس اللوّامة إلى النفس المُطمئنة، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۩، في مرحلة النفس اللوّامة كنت تبحث عن الطريق دائماً، في كل خيار أو في كل فُرصة خيار كنت تبحث عن الطريق، هنا أو هنا؟ في مسألة أو في مرحلة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۩ الطريق أصبح واضحاً، إنه طريق واحد فقط، انتهى الصراع، اضمحلت المُنازَعات الداخلية، انتهى كل شيئ، واطمئنت النفس، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ ۩.

هذا ما أشار إليه الحديث، الحديث لا يقول عليك أن تنحاز إلى جانب الله، وعليك أن تُرجِّح رضا الله على رضا نفسك، لا يقول هذا، الحديث يتحدَّث عن أُفق أعلى بكثير، يقول حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، مُطابَقة كاملة! أنت تهوى ما يهواه الشرع، أنت تعشق ما يعشقه الشرع، أنت تميل إلى ما يميل إليه الشرع، مُباشَرةً! لكن هذه مرحلة مُتقدِّمة تماماً، إنها مرحلة الإنسان المُطمئن، وبلا صراعات حتى، فعلاً الإنسان الساكن سكينة الإيمان، الإنسان الكامل، إنه الإنسان الكامل الذي يبهتنا ويُحيِّرنا بمدى استقامته لا الفريسية إنما استقامة الطمأنينة والسكينة، أحوال عجيبة جداً، حتى يقول أحدهم كشيخ الإسلام ابن دقيق العيد إني لأرجو أنني مُنذ أربعين سنة لم يجد الملك ما يكتبه علىّ، كيف هذا؟ إنها النفس المُطمئنة، التي لا تنزع إلا إلى ما يُحِبه الله ويرضاه، بطبعها الآن تفعل هذا، أصبح طبعاً جديداً لها، هذا ما ينبغي أن نُجاهِد لكي نصل إليه أفراداً في البداية وجماعات في النهاية وأن نخضع له، شرفنا أن نخضع لشرع الله وأن نعترف بالعبودية لله.

الإنسان المُعاصِر بحُكم أو بسبب استبحاره العلمي والفلسفي أصبح مُتغطرِساً، صدِّقوني! أصبح حتى يستنكف من كلمة عبد، يقول لك لماذا أكون عبداً لله؟ لماذا هذا؟ لماذا أنا عبد لله؟ أنا سيد، سيد على مَن؟ هل أنت سيد على نفسك؟ لن تكون سيداً عليها ما لم تكن عبداً له، إذا أخفقت أن تُحقِّق العبودية له مُباشَرةً تُصبِح عبداً لهواك، قال تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۩، مُستحيل! أما إن نجحت أن تكون عبده فصحيح أنت سيد نفسك وسيد في هذا الكون، كما قال الإمام المُجدِّد محمد عبده الإنسان – المُؤمِن الكامل طبعاً – عبدٌ لله وحده، سيدٌ لكل شيئ بعده، في هذه الحالة فقط! ولذلك العبودية لله يُقابِلها – أي يُضادها – ماذا؟ عبودية الهوى، مَن لم يكن سيده الله فسيده هوى نفسه والعياذ بالله، فيضل ضلالاً بعيداً.

يقول وهيب بن الورد سأل موسى – عليه السلام – ربه، قال أي ربي أوصني، قال أوصيك بي، أوصيك بي، أوصيك بي، الله يقول له أوصيك بي، أي بالله، الله يُوصى موسى بالله، بنفسه، بذاته العلية! ثم قال في الآخرة – أي في الثالثة – أوصيك بي، لا يعرضن لك أمر يا كليمي إلا قدَّمت فيه مُرادي على مُرادك وهواي على هواك، فمَن لم يفعل لم أزكه ولم أرحمه.

إِنَّ هوَاكَ الَّذي بِقَلْبِي                                             صَيَّرَنِي سَامِعاً مُطِيعَا.

أَخَذْتَ قَلْبِي وَغَمْضَ عَيْنِي                                    سَلَبْتَني النَّوْمَ وَالْهُجُوعَا.

فـَذَر ْفُؤَادِي وَخُذْ رُقَادِي                                         فَقَالَ لَا، بَلْ هُمَا جَمِيعَا.

هذه وهذه، يجب أن تكون بالكُلية لله، طبعاً نقول لهؤلاء المساكين من قصّار النظر أنتم تفخرون وتدلون بعبوديتكم لبشر أمثالكم، هم مساكين، فقراء، معجونون بالفقر والحاجة والضعف، فيقول أحدكم أنا خدّام عند رئيس الوزراء، أنا سوّاق الرئيس، طبعاً هذا شيئ كبير جداً، أنت سائق عند الرئيس أو حتى خادم حذاء الملك، شيئ كبير وواسطة ولك دالة عليه، لِمَ لا تفخر بعبوديتك لله إذن؟ كما قلنا في الخُطبة الماضية لِمَ لا تفخر؟ تعلم هذا!

سأختم بشيئ صادم، لكنه شيئ رائع جداً من كتاب الله، عجيب! أنا لم أسمعه من قبل، عجيب! وهو من كتاب الله، قرأناه ألف مرة ولم نفهمه جيداً، انتبهوا! النبي قال السيد الله، النبي قال السيد – أي السيد المُطلَق – الله، كما قلنا مصدر افعل ولا تفعل المُطلَق هو الله، مصدر الخير والعلم والرحمة المُطلَقة هو الله، السيد الله النبي قال، كل مَن عداه عبد في نهاية المطاف، إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ۩ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۩، إذن نحن جميعاً عبيده، انتبه! السيد يستطيع أن يُصرِّف عبيده فيما يُريد، أليس كذلك؟ فيستطيع أن يُعبِّد لي وأن يُخدِمني مَن شاء مِن عبيده، صدِّقني! لذلك إذا تحقَّقت بأن تكون عبداً لله الله قد يجعل أكبر الرؤوس عبدة لك وخدّاماً عندك إذا أراد وشاء تبارك وتعالى، إذا اقتضى الأمر يفعل ذلك، لأن الكل عبيده، أسياد الأرض يفعلون هذا، ولذلك أقول – هذا هو الشيئ الصادم – مَن اتقى الله وعرف الله وطابق هواه هوى شرع الله – تبارك وتعالى – أخدمه الله الشياطين. 

سأسأل بطريقة أكثر صادميةً هل يُمكِن أن يحفظ الله الشياطين؟ احفظ الله يحفظك، ستقول أعوذ بالله، ما هذا؟ نعم! الله سيحفظ، الله يُمكِن أن يحفظ الشياطين، يحفظ الأبالسة، يحفظها! لا حُباً فيها – لعنة الله عليها – ولا تقديراً لها، وإنما لتخدمك، سيحفظها ولن يُهلِكها، سيحفظها في كل أفعالها لأنها في خدمتك يا عبدي، قال – تبارك وتعالى – وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة في هذا المقام الكريم ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

__________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(7/12/2007)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: