إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ۩ وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۩ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۩ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
حتماً أو ترجيحاً ذهبت بكم الظنون والحدوس الآن مذاهب شتى في موضوع خُطبة اليوم، والأرجح كما أظن – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم – أن مُعظمَكم ظنَّ أننا سنتحدَّث عن مخازي أهل الكتاب، الآيات تدورُ حول هذا الموضوع بشكل واضح لنا كمسلمين وكتُلاة لكتاب الله تبارك وتعالى، في الحقيقة الخُطبة ستذهب في الاتجاه المُعاكِس تماماً، الخُطبة حتى لا أُطيل عليكم بالمُقدِّمات ستكون عن خيانة التعصب أو التعصب كخيانة بما هو تعصب، فكل تعصب هو خيانة، وهذه المقولة ربما لم أُسبَق إليها ولكن سأُحاوِل أن أُجادِل حول هذه المقولة، أُريد أن أُجادِل أن التعصب خيانة، كل تعصب خيانة بما هو، لابد أن يكون خيانةً بما هو، ولكن قبل أن نُدلِف إلى موضوعنا لابد أن اُجيب عن سؤال سريع وبسرعة وعلى عجل، لماذا نُبديء ونُعيد في هاته الموضوعات التي ليست ذات طبيعة وعظية وهى الطبيعة التي يتسم بها الخطاب المنبري؟ الخطاب المنبري طبيعته الرئيسة والأصلية والأساسية هى الطبيعة الوعظية، طبيعة وعظية وليست طبيعة فكرية وليست طبيعة علمية وليست طبيعة فلسفية، بكلمة ليست علمية، طبيعة وعظية تُذكِّر وتُكرِّر وتُبديء وتُعيد فيما يعرفه الناس، وهذه الطبيعة الوعظية من حيث هى هى طبيعة معيارية تهتم بأحكام القيمة لا بأحكام الوضع والوقائع، تهتم بأحكام القيمة مثل هذا حلال وهذا حرام وهذا صح وهذا غلط وهذا يجوز وهذا لا يجوز وويحكم وويلكم، لم تفعلون هذا؟ ولم لا تفعلون هذا؟ ومَن فعل هذا فله كذا كذا كذا، ومَن لم يفعل فله كذا وكذا، هذا هو الوعظ، ولذلك هذا الوعظ يفشل باستمرار، ظل فاشلاً ويفشل ويُراهِن على الفشل باستمرار في تغيير الواقع، لا يُمكِن للوعظ أن يُغيِّر الواقع، لو صحَّ أن الوعظ يُغيِّر الواقع لكانت أمة محمد في رأس قائمة الأمم، لكانت أحسن أمة وأفضل أمة وأنظف أمة وأرتب أمة وأكثر الأمم انضباطاً بالمواعيد وأكثر الأمم إنتاجية وإنجازية وأكثر الأمم تسامح ورحمانية وأكثر الأمم كذا وكذا، لكن في الحقيقة هى ليست كذلك، ولا حتى قريبة من القمة، هى بعيدة جداً وأقرب إلى القاع، الآن هذه الأمة للأسف – أمتنا – أقرب إلى القاع بهاته الاعتبارات وفي هذا الصدد أو في هذه المجالات والميادين للأسف الشديد، لماذا؟ لأننا دائماً نُراهِن على الوعظ، نظن أن هذا الوعظ يُصلِح، لكنه لا يُصلِح، هو أعجز من أن يُصلِح، يُشعِرنا بأننا عاجزون إزاء ما نُريد إصلاحه وإزاء ما نُريد تغييره، وهذا طبيعي ومفهوم لمَن يفهم الطبيعة الأساسية للوعظ والطبيعة المطلوبة في الإصلاح والتغيير وفي خطاب الإصلاح وخطاب التغيير، كما قلت لكم طبيعة الوعظ معيارية، هو لا يأتي بجديد، هو يُذكِّركم بما تعرفون، أن هذا جميل وهذا قبيح وهذا يحسن وهذا لا يحسن ولا يجمل وهذا حلال وهذا حرام، ونحن نعرف هذا لكننا نُريد الحل، الواعظ يقول لكم يجب أن تنحازوا إلى الحق، قولوا بالحق، اشهدوا بالقسط، اشهدوا بالعدل، كونوا صادقين مع أنفسكم، لا تتنكروا لضمائركم، يقول هذا لكنه وهو على منبره يُخالِف هذا ويُقيم من نفسه قدوةً لكم مُجسَّدة حية أن الأمور لا تجري على هذا النحو، ولذلك وعظه في طريق ورسالته في طريق آخر، رسالته التي أقام من نفسه – كما قلت – برهاناً عليها وعلى إندماجه فيها وتماهيه بهذه الرسالة في طريق آخر، في الجهة المُخالِفة تماماً، وهو غير واعٍ بهذه الحقيقة، هو غير واعٍ أصلاً بهذا، هو يظن أنه أبرأ ذمته وخرج من العُهدة بما أنه وعظ بأن ننحاز إلى الحق وأن نكون غير مُتعصِبين، نتعصب للحق، وهو يقول لك تعصَّب للحق، وهذه العبارة غبية، لا يُوجَد تعصب للحق، التعصب مكروه من حيث هو، حتى إن كان للحق فهذا لن يكون حقاً، لأنه سيُشوِّه الحق, هذا الحق سيكون مُشوَّهاً لذا لا يُوجَد تعصب للحق، كيف؟ نُريد أن نُجادِل حول هاته المواضيع، إذن لماذا نطرح هاته المواضيع؟ للأسف لأن هذا المنبر – منبر رسول الله وليس منبري وإنما المنبر الإسلامي المُجرَّد، لأن هناك مَن يقول أنني أقول على منبري أنه منبر رسول الله، على كل حال ليس المقصود منبر مسجد الشورى وإنما المنبر المُجرَّد كالإنسان المُجرَّد والملاك المُجرَّد، المنبر بما هو، منبر الجمعة في كل مساجد المسلمين وحول العالم – قصَّر كثيراً في الخروج من العُهدة وإبراء الذمة وأداء دوره والإطلاع برسالته ومُهمته، قصَّر كثيراً وعمل كثيراً – ليس دائماً طبعاً – في الاتجاه المُعاكِس، ضد ما ينبغي أن يعمل على تعزيزه وتوكيده وعلى إبلاغه وتوصيله أو إيصاله للأسف الشديد، ولكن هذا المنبر له مزية – صدِّقوني – لا يمتاز بها تقريباً أي منبر رمزي آخر، هذا منبر حقيقي وهناك منابر رمزية Symbolic، مَن عنده هامش بسيط في جريدة يكتب فيه فهذا منبر، ومَن عنده فرصة أن يخرج في التلفزيون Television فهذا منبر، مَن عنده صفحة في النت net فهذا منبر، وهذه كلها منابر رمزية، أما هذا منبر حقيقي، على كل حال أقول لكم هذا له امتياز على كل المنابر، لأنه يحظى بفرصة أسبوعية لكي يُخاطِب عشرات إن لم تكن مئات الملايين حول العالم، في مثل هذا اليوم الآن أكيد عشرات وقد يكون مئات الملايين حضروا خُطبة الجمعة، بماذا عادوا؟ ماذا قيل لهم؟ استمعوا إلى ماذا؟ الله وحده أعلم، الله وحده أعلم ونحن في الجُملة نعلم طبعاً، نعلم ما يُقال عموماً من أقصاها إلى أقصاها، ومعروفة المنابر ما شاء الله، منابر الجمعة ماذا تقول للناس؟ الخطاب الوعظي الذي يُقال لهم من ألف وأربعمائة سنة ولم يُفلِح في تبديلهم ولا تغييرهم، بالعكس كرَّس في أحايين كثيرة مشاكلهم ودعَّمها وعزَّزها وحرَّضهم على بعضهم البعض وكرَّههم في بعضهم البعض وزادهم انغلاقاً على أنفسهم إزاء الآخر في الوطن وإزاء الآخر في العالم – للأسف هكذا تفعل هذه المنابر – أو كرَّههم في الدين بالإملال والتكرار والخُطب الموسمية، الآن تقريباً تسعة وتسعون فاصل تسعة تسعة تسعة تسعة تسعة في المائة من خُطب اليوم عن الحج، فالحديث عن موسم الخير والحج وعرفة وغير ذلك، لكننا نعرف هذا يا أخي وهذا يُقال للحجاج، مَن ذهب إلى الحج نقول له هذا، مَن يجلس هنا ولا يحج لماذا نُكلِّمه عن الحج؟ ما الفائدة؟ وهناك أكثر من خمسين ألف ملف ينبغي أن تُفتَح وأن يُتكلَّم فيها مع الناس ومع هاته الملايين، تكون في بلد يذبح بعضهم بعضاً ويستأصل بعضهم بعضاً ويُقصي بعضهم بعضاً ويتكلَّمون عن الحج لمَن لا يحج ولمَن هو جالس، حالة من الغيبوبة وحالة من العبثية Absurd، حالة عبثية حقيقية نعيشها يا إخواني، وما مِن أحد يشعر بالعبثية، وهذا من العبثية أيضاً، ما مِن أحد يشعر بأن هذه الحالة عبثية، هو يتكيَّف معها ويتقبَّلها بشكل عادي، لأنه نشأ من صغره على هذا، فهذا من عبثية حياتنا، أننا لا نشعر بعبثية حياتنا، هذا من عبثيتها أيضاً، عبثٌ على عبث، يُقال نور على نور وهذا عبث على عبث وليس نوراً على نور، نحن نُريد أن نُصلِح ونُريد أن نُغيِّر ولذلك لابد أن نفهم، قبل أن نُصلِح ونُغيِّر لابد أن نفهم، الوعظ لا يُفهِّم، الوعظ – كما قلت لك – معياري، يقول لك هذا صح وغلط، ولكن كيف أنا أكون عاجزاً أمام هذا الغلط؟ الوعظ لا يستطيع أن يفيدك بشيئ، الوعظ يُمكِن حين يكون وعظاً حسناً أن يقول لك التعصب سيء، التعصب ذميم، ديننا ليس ديناً تعصبياً، ديننا لا يتعاطف مع التعصب ولا مع المُتعصِّبين والاتجاهات التعصبية، وهذا جميل إلى حد الآن، لكن بعد ذلك لماذا هذا مُتعصِّب؟ لماذا يتعصَّبون؟ لماذا؟ لماذا الإمام نفسه مُتعصِّب؟ ويُوجَد ألف دليل على أنه مُتعصِّب إزاء الآخر المذهبي والطائفي وإزاء الآخر حتى الكوني العالمي، مُتعصِّب أنت يا أخي وتشجب التعصب، تُسارِع إلى التبديع وإلى التفسيق وإلى التكفير وإلى الهمز وإلى الغمز وإلى اللمز، تختزل الآخرين، لديك قوالب نمطية – Stereotypes – وصور نمطية وقوالب جامدة تُخرِجها مُباشَرةً وتبدأ تُصدِر الأحكام على الناس، أنت مُتعصِّب وهذا هو التعصب، لست مُتسامِحاً، أنت غير قادر على أن تعيش مع الآخر بما هو إنسان، هذا هو التسامح وهذا جوهر التسامح، القبول بالآخر والتعايش معه من حيث أتى، ومع ذلك تأتي التصنيفات الإثنية العرقية واللغوية والدينية والأيدولوجية وإلى آخره، وحتى الجيندرية من ذكر وأنثى ورجل وامرأة كل هذا مرفوض الآن، ينبغي أن أتقبَّله وأتعايش معه بما هو إنسان، هذا جوهر ولب وروح التسامح، فلسنا مُتسامِحين إذن ولا نستطيع أن نقول غير هذا، لماذا؟ لأن الإنسان المُتعصِّب لم يُولَد مُتعصِّباً، هناك شروط نفسية كثيرة جعلت منه ما هو، هناك شروط اجتماعية كثيرة جعلته مُتعصِّباً، هنا الدرس العلمي يُفلِح، يقول لك ما هى الآليات النفسية للتعصب؟ ما هى الشروط النفسية للتعصب؟ ما هى الديناميات والآليات الاجتماعية التي تُفرِز التعصب؟ كيف يستطيع المُجتمَع أن يجعل أفراده كأفراد مُتعصِّبين؟ المُجتمَع في الجُملة مُتعصِّب، لماذا هذا الفرد بالذات وهذا وهذا وهذا مُتعصِّب؟ هناك آليات أيضاً كالتنشئة الاجتماعية والمسايرة أو الامتثالية – Conformity – مدروسة في العلم، بهذا الدرس وبهذا الفهم نبدأ نفهم، نستطيع الآن أن نشرع في اصطناع واشتراع خطوات علاجية على بصيرة وعلى هُدى، نعرف كيف نُخاطِب هذا الوهم الكبير المُخيف وهذا الوحش الذي له ألف رأس الذي إسمه التعصب الآن، نحن نُحارِبه علمياً لأننا درسناه علمياً، وإلا سيبقى وهماً فنُحارِب في فراغ ودائماً هو ينتصر ودائماً نحن نفشل، وهذا هو الفارق، ولذلك ما من بد للأسف الشديد وإلا كان الأجدر أن يفعل هذا غير هذا المنبر الديني، أي غير منبر الجمعة، وأنا أقول لكم أن هذه قناعتي، وأن يكون منبر الجمعة مُقتصِراً على خُطبة لا تزيد عن خمس عشرة دقيقة، لو الأوضاع سليمة وكما هى والمطلوب كما هو مطلوب خُطبة الجمعة ينبغي ألا تزيد على خمس عشرة دقيقة يُذكَّر فيها الناس بأشياء، تذكير فقط، مواعظ تذكيرية، لكن بناء العقل وبناء الفكر وبناء الثقافة وبناء المنظور والمعايير والقيم تقوم بها خمسون ألف جهة أخرى، للأسف هذا غير مُتاح، تقريباً لا أحد يفعل، وهذه المنابر بدل أن تكتفي بالوعظ التقليدي – كما قلنا – في عشر أو خمس عشرة دقيقة أصبحت منابر تجيشية وتحشيدية وتعبوية تعمل على تمزيق الأمة وتسليط بعضها على بعض وتكريه بعضها في بعض، وهذه مُصيبة طبعاً، من جميع النواحي أنت ترى أنك أمام مُصيبة حقيقية فكفى، كفى لهذه اللغة الخشبية، نُريد لغة علمية، لغة المشائخ ولغة الخطاب ولغة المواعظ هى لغة خشبية، Langue de Bois كما يقول الفرنسيون أو Double-talk كما يقولون بالإنجليزية، هذه لغة ضعيفة هشة،الأمريكان والإنجليز قالوا نُترجِمها باللغة المُزدوَجة، وهى لغة ضعيفة جداً، لغة خشبية فقط تقول لك افعل ولا تفعل، ولكن لماذا لا أستطيع أن أفعل؟ لا تستطيع هذه اللغة أن تُفهِمك، ثم أنهاتصدر عن مناظير وعن مُقارَبات قديمة، يُعالِج لك مسائل كهذه الآن علم النفس وعلم النفس الاجتماعي بالذات وعلم النفس الاجتماعي التجريبي بوجه أخص، هذه العلوم لها تقريباً حوالي خمسين سنة تدرس هذه المسائل كموضوعة التعصب Prejudice، خمسون سنة هنا في الغرب يدرسون التعصب وآليات التعصب وميكانيزمات التعصب وتشريطات التعصب النفسية والاجتماعية والمحتوى العاطفي – Emotional – للتعصب والمحتوى الإدراكي – Cognitive أو المعرفي للتعصب والمحتوى السلوكي للتعصب، وهو كلام علمي دقيق ويُفلِح في وضع الأصبع على الدمل وعلى القرحة وعلى موضع الداء، وبالتالي يُفلِح أيضاً في علاجه ومُحاوَلة استئصاله شيئاً فشيئاً، الآن كل أحد في العالم يتمنى أنه يعيش في الولايات المُتحدة الأمريكية وفي العالم الجديد، كأن هذه لها تاريخ عريق جداً في مُحارَبة التعصب، بالعكس هذا العالم الجديد واحد من ثلاثة هم الأسوأ تاريخياً في سجل حقوق الإنسان بالذات بصدد الاتجاهات التعصبية، جنوب أفريقيا والعالم الجديد – الولايات المُتحدة الأمريكية – وروديسيا Rhodesia، على إسم المُستعمِر طبعاً، فهذه الأسوأ، لكن الآن أمريكا رئيسها من أصول أفريقية، وهذا شيئ جميل جداً، شيئ من أجمل ما يكون، هذا ربما من أسعد اللحظات التاريخية في حياة الإنسان الإنسان، الإنسان المُلتزِم بما هو إنساني وبما هو عالمي، لأن البشرية بدأت تبرأ قليلاً من لوثاتها ومن أمراضها ومن لعناتها، هذا أبوه عانى من التمييز الوقح والصارم والصارخ ضده ولكن هو الآن رئيس العالم الجديد، وهذا شيئ جميل، هكذا يتعلَّم هؤلاء من أخطائهم، لكن هذه الأمة أدمنت على أن لا تتعلَّم، حلفت يميناً لا تُريد أن تحنث فيه أنها لن تتعلَّم، وستُكرِّر أخطاءها وأخطاء العالمين، لن تتعلَّم لا من كيسها ولا من كيس الآخرين، فمتى تتعلَّم؟ أمة كهذه إن أصرت على هذا تُصِر على أن تبيد نفسها وتُصِر على أن تستقيل وأن تخرج من التاريخ وأن تُطرَد، هى ستُطرَد من التاريخ، هذا غير معقول.
ننظر إلى الفيلسوف النمساوي الكبير كارل بوبر Karl Popper، وهو من الناس الذين تكلَّموا بشكل علمي ومُتقَن، ومع ذلك عليه علامات استفهام وعلامات اعتراض كبيرة أيضاً، له مواقف تعصبية لكن له أيضاً أفكار وفلسفة جيدة جداً في مُحارَبة التعصب، لكن في نظري كارل بوبر Karl Popper به لوثة أيضاً، لوثة من مركزية الغربيين أو بعض الغربيين، الرجل مات وهو يعتقد أن عبء الرجل الأبيض لا يزال مطروحاً، على البيض أن يُعلِّموا هؤلاء السمر والسود الأغبياء المُتخلِّفين كيف تكون الحضارة، فهذا عبء عليهم، ما زال يحمل هذه الأفكار، وهذا شيئ غريب جداً، فهذا المسكين كان عنده هذا، ولكن على كل حال فيماعدا ذلك يُمكِن أن نتعلَّم منه الكثير، هكذا نحن الآن نُعطي درساً في مُحارَبة التعصب، أرفض هذا منك وأقبل هذا،وبكل احترام وتبجيل، لا أرفضك بالكامل لأنني رأيت فيك ما يُرفَض، ما هذا؟ هذا تعصب، لكن أنا لست مُتعصِّباً، أرفض ما ينبغي أن يُرفَض وأقبل ما ينبغي أن يُقبَل وبعدل وإنصاف، وأعلم أن خيرك أكثر من شرك وأن صوابك أكثر من خطئك، يجب أن نكون هكذا وبكل بساطة حتى مع أنفسنا، هذا الرجل يقول من أهم ومن أكبر ومن أوكد الدروس التي ينبغي على البشرية أن تتعلَّمها من تاريخها هى أن تُدرِك الأخطار الحقيقية للتعصب، التعصب كارثة، التعصب ليس مُجرَّد موقف فكري ضد فكرة، هو أشمل وأعم بكثير، هو موقف انغلاقي ضد الأشخاص وضد الأفكار والمفاهيم وحتى ضد الأشياء، والتعصب آثاره وعقابيله وعواقبه وتواليه – كما يُقال – وتدعيماته لا تقتصر على مُجرَّد الشأن الثقافي والفكري، هناك حروب أهلية وعشرات الملايين تذهب ودماء تسيل، بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهاية القرن المُنصرِم وبدايات حتى الألفية الثالثة ضحايا التعصب بلغوا وعدوا ستة عشر مليون، ستة عشر مليون بإسم التعصب قُتِلوا، قتل بعضم بعضاً، حروب أهلية كما في العراق وكما في رواندا وكما في يوغسلافيا السابقة وإلى آخره، وهذا شيئ غريب، هؤلاء أكثر من ضحايا الحروب الدولية، الحروب الدولية ليست قريبة من هذا الرقم، ستة عشر مليون ضحايا التعصب، هذا هو التعصب، ولذلك هذه المسألة ليست مسألة ترفية أو مسألة من فواضل المسائل نتكلَّم فيها من باب الترف على منبر ديني، هذه مسألة حقيقية ضاربة الآن في نُخاع حياتنا، أي مسألة التعصب وأخطار التعصب، فنرجع إلى كارل بوبر Karl Popper، يقول هذا من أكبر وأهم الدروس التي ينبغي على البشرية أن تتعلَّمها من تاريخها، وهو أن تُدرِك الحجم الحقيقي لأخطار التعصب وأن تُعلِن مُعارَضتها للتعصب – لكل تعصب – ليس فقط إذا اختلفت أهدافه مع أهدافنا بل أيضاً حين تتفق أهدافه مع أهدافنا تماماً، فنحن ضده، نحن لا نُحِب الحق بالتعصب، لا نُحِب العدل ولا نُحِب الشرف ولا نُحِب النبل ولا نُحِب الإيمان والتوحيد بالتعصب، لا نُريد للتعصب أن يحشر أنفه وأن يحشر رأسه في دعم أي قضية شريفة، لا نُريد هذا، الحق قوته من ذاته – إن شاء الله – وليس بالتعصب، التعصب يُفسِد كل شيئ، إن دخل وحشر أنفه في أي شيئ أفسده، يُفسِد الدين ويُفسِد المُجتمَع ويُفسِد الأوطان ويفسد الضمير ويُفسِد البحث العلمي ويُفسِد المسار النقدي للجماعات وللأفراد أيضاً، هذا هو التعصب، لذا قال لا نُريده حتى حين تتفق أهدافه مع أهدافنا لا نُريده، لا للتعصب ولابد أن يُحارَب من حيث هو، ولكن الموضوع ضافي الذيول، الموضوع مُشتبِك وكبير، لا أقول مُعقَّد وإنما أقول كبير جداً جداً وضافي الذيول، كيف نُريد أن نُلملِم بعض أطرافه بما يُناسِب خُطبة جمعية؟ باختصار نقول أن التعصب ضده النوعي التسامح، هذا مُتسامِح وهذا مُتعصِّب، يُمكِن أن نفهم أحدهما تماماً إذا فهمنا ضديده، قلت لكم التسامح ما هو؟ هذا من أبسط ومن أشمل وأجمل تعريفات التسامح، التسامح هو أن تعتقد وتُعلِن وتعيش وفق هذه القناعة التي تقول أنك تتقبَّل الآخرين وتُعايشهم أو تتعايش معهم بما هم بشر، بما هم إنسان، لا يهمني أنه يهودي أو مسيحي أو مسلم أو شيعي أو سُني أو أحمر أو أسود أو أبيض أو لغته كذا أو بلده كذا أو تاريخه كذا أو أنه ذكر أو أنها أنثى، هذا كله لا يعنيني، يعنيني أن أتقبَّله وأن أتعايش معه كإنسان، وطبعاً بهذا المنطق ينبغي عليه أيضاً أن يُعامِلني، وهكذا تطيب الحياة، وبعد ذلكيُترَك كل شيئ لقواعد الانتخاب، الحياة عندها آلياتها وعندها قواعدها وعندها ذكاءها، كل شيئ سيُنتخَب فلا تخف، بالذات المُتدينون المُتحمِسون دينياً وأصحاب الاتجاهات الدينية يخافون من هذا المنطق ويقولون لك بهذه الطريقة ينتصر الباطل، لماذا أنت ثقتك ضعيفة جداً بحقك؟ إذن أنت لم تعرف الحق وأنت لم تعشه، الحق لو انتصر في ساحة نفسك لما خُفت عليه في ساحة الحياة، أنا أقول لكم التحديات الحقيقية ليست في ساحة العالم وإنما في ساحة النفس أولاً، وبعد ذلك تكون في ساحة الحياة، قلت لكم أكثر من مرة التناقض الذي لم يفهمه كارل ماركس Karl Marx ولم يُؤشِّر إليه مرة هو التناقض الذاتي في الإنسان ذاته، ظل يتحدَّث عن التناقض الطبقي والتناقض المُجتمَعي والتناقض في الخارج، وماذا بعد؟ وصل هؤلاء الشيوعيون إلى الحكم واتضح أنهم أسوأ مليون مرة من الرأسماليين، أذاقوا شعوبهم الويلات وعاشوا لم يعش غيرهم، وطبعاً هؤلاء أعضاء القيادة العليا للحزب في اللجنة المركزية، عاشوا كما لم يعش أي رأسمالي في العالم وبلعوا كل شيئ، لماذا؟ لأنه لم يفهم أن التناقض الأخطر يبقى في مجال النفس الإنسانية، هذا هو، وهذا هو الإنسان، قال الله كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ۩، هذا هو الإنسان وهذا ما لم يفهمه ماركس Marx، وظيفة الدين العتيدة – من وظائفه الدين الأولى أو الأول – أن يُعالِج هذه التناقضات الذاتية في ساحة النفس الإنسانية، أنت مُستخلَف في أرض نفسك قبل أن تكون مُستخلَفاً في أرض الله تبارك وتعالى، إن نجحت وجوزت الاختبار في الاستخلاف الأول تستطيع أن تجوزه وأن تنجح في الاختبار الثاني، لن تكون هناك أي مُشكِلة أبداً، أي إنسان تضعه في منصب – وخاصة منصب تنفذي كما يُقال – لم يتغلَّب على نفسه ولم ينجح في الاختبار الأول سوف يفشل بنسبة مائة في المائة في الاختبار الثاني بأي طريقة، هو رهن فقط أن تسنح له فرصة لكي يفسد، لكي يُمارِس فساده، لكي يتغوَّل الأموال والحقوق، لكي يتسَّلط ويُخرِج الفرعون في داخله، لأنه لم يتغلَّب على تناقضاته الذاتية، لم يتغلَّب على تناقضه الذاتي هذا المسكين، وهنا يأتي الدين، ولذلك بما أننا نتحدَّث حتى عن التعصب فإن في التعصب يتحدَّثون عن نوعين أو نمطين من التدين، التدين الجوهري – Intrinsic Religious Orientation – الذي يُسمونه التوجه الديني الجوهري، والتوجه الديني الخارجي القشوري الطقوسي، هذه القضية طويلة وهى في فلسفة الدين مطروحة أيضاً، ليست مطروحة فقط في علم النفس الاجتماعي وإنما في فلسفة الدين، التوجه الديني الجوهري باختصار وبكلمة هو تدين المرء على نحو بحيث يكون هو في خدمة المعنى الديني، هو مُقتنِع به، مُقتنِع بضرورة الإيمان وبأخلاقيات الإيمان ويُريد أن يخدم هذه القضية، أي قضية الإيمان وأخلاقيات الإيمان، ومن ثم ينجح هذا، هذا مُتدين جوهرياً، ليس شرطاً أن تكون له لحية طويلة، ليس شرطاً أن يُصلي الخمس صلوات في المسجد جماعة، بالعكس قد يكون مشغولاً، قد يكون مُهندِساً كبيراً أو جرَّاحاً أو طبيباً أو باحثاً أو أكاديمياً أو مُؤرِّخاً أو دارسا ً أو عاملاً يعمل في حقله أو في مصنعه أو في أي مكان، فالرجل مشغول وليس عنده وقت فراغ، هذه ظروفه وقد يعيش في الغرب وليس في الشرق العربي والمسلم، لكن هذا التدين تدين جوهري حقيقي ترى فيه جمال المُتدين وترى فيه سكينة وطمأنينة الرجل المُتدين حقاً وترى فيه الوفاء والشرف والصدق والأمانة، وعودوه لا تطير مع الرياح كما يُقال، هناك أُناس – ما شاء الله – يرفعون راية الدين ويعدون بأشياء كثيرة حتى على المُستوى الفردي وليس على المستوى الحزبي وما إلى ذلك وإنما على المُستوى الفردي لكن وعودوهم تطير مع الرياح، كما تطير الرياح بأشياء تطير بالوعود، يعد ويُقسِم ويحلف وكل شيئ يطير وكل شيئ يتبخَّر، فأي تدين هذا؟ هذا التدين الخارجي الشعائري الطقوسي المظهري، هذا تدين تجاري، بكلمة هو أن يتدين المرء على نحو بحيث يكون الدين في خدمة مصالحه هو، الدين طبعاً من أجل مصالحه هو ومن أجل أن ينتفع مادياً ومعنوياً، أقل شيئ معنوياً، كأن يُقال أنه مُتدين فيحترمه الناس ومن ثم يُقبِّلون يديه ويُنزِلون رؤوسهم أمامه ويُرخِّصون له الأسعار ويُسامِحونه في بعض الأشياء ويسمحون له أن يضحك عليهم وأن يجمع منهم تبرعات بالآلاف وبالملايين، فهو يجمع التبرعات لكن أنا لم أقتنع بهذا حتى نكون واضحين، لم أقتنع بهذا ولا أُحِب ما يُوجَد حتى في الصفحات على النت Net كأن يقول لك أحدهم تبرَّع، لا يُوجَد تبرع، اذهب وانظر لنفسك ولا تأخذ أموال الناس لأننا توقفنا عن الإيمان بهذه الأشياء والله العظيم، هذا مسجد تُحِبون أن تُصلوا فيه وأن تتعلَّموا فيه فإذن أنتم قوموا به، وأي جماعة مثل هذه الجماعة ينبغي أن تقوم بنفسها، لا ينبغي أن نمد يدنا للناس ونقول لهم أعطونا مالاً، ولذلك لم نفعلها مرة بفضل الله عز وجل، مرة واحدة لم نفعلها، لم نقل لأحد مرة ادفع لنا لأننا نُريد، ولا نُعلِن لا على الصفحة ولا على غيرها لكي نقول للناس تبرَّعوا، لا يُوجَد تبرّع، نحن نقوم بأنفسنا، إذا كنا لا نقدر على هذا سوف نقعد في البيوت وينتهى كل شيئ، لا نُريد أن يكون المسعى الديني طريقاً لتغول أموال الناس بأي سبب من الأسباب، لا نُريد هذا ولا نُحِب هذا، أكثر ما يُمكِن أن يُفعَل أن الناس تتبرَّع مرة إلى العراق ومرة إلى فلسطين ومرة إلى الشيشان، وتُؤخَذ التبرعات وبكل شفافية تُرسَل مُباشَرةً إلى أماكنها وينتهى كل شيئ، هذا هو فقط، هذا أفضل لأننا لا نُريد أن يكون ديناً تجارياً كأن يُوجَد بين كل خُطبة وخُطبة إعلان عن تبرعات وإعلانات في الصفحات ويُقال للناس ادفعوا وادعموا الجمعية والمسجد، لا يُوجَد هذا، هذه الخُطة لا نُحبِّذها ونكرهها، والمفروض أن كل جماعة تقوم بنفسها، هذا الأفضل حتى يبقى الدين نقياً طاهراً بعيداً عن كل هذه المصلحيات التجارية، هذا أفضل مليون مرة، أنا ذات مرة عرض علىّ شخص كبير شراء المسجد، قال لي نُحِب أن نشتري لكم المسجد، فقلت له بارك الله فيك فقط، والله الذي لا إله إلا هو لم أقل أكثر من هذا، وهو شخص كبير – كبير جداً جداً، ليس شخصاً غنياً فحسب بل هو شخص كبير في منصبه – ويبدو أنه نسي، وأنا لم أنس ولكن لا يُمكِن أن أطلب، انتهى الأمر وأنا لا أطلب شيئاً لنفسي، أنت قلت نشتري هذا المسجد قبل سنين لكنك لم تفعل هذا فأنت حر، لا يُمكِن أن تسمعها منا، لا يُمكِن أن نقول لك اشتر لنا المسجد، لا يُمكِن تحت كل الظروف، الدين يجب أن يكون فعلاً مُقدَّساً، وأن يكون فوق كل الرغائب وفوق كل السفاسف وفوق كل الصغائر وفوق كل هذه المنافع، طبعاً الحياة فيها منافع وفيها سفاسف وفيها صغائر لكن ليس من طريق الدين، خُذوها من طريقها لا من طريق الدين، اتركوا الدين وحده، اتركوه في نزاهته، اتركوه أن يكون فسحة وفرصة وميداناً لنا لكي تطيب لنا الحياة به ولكي نستروح النسائم الرقاق في فضائه، أي فضاء الدين، هذا هو إذن، فهذا التدين الآخر تدين لخدمة الشخص، لا ينبغي أن يكون كذلك، هذا التدين يتظاهر ويُصاحِبه في أكثر أحواله وحالاته التعصب والانغلاق والجمود ونفي الآخر، ولذا هو تدين كارثي، وإلا التدين الحقيقي من حيث هو – سبحان الله – انفتاحي رحماني أو رحموتي وإنساني، التدين الجوهري إنساني، هذا ينطبق على أي مسيحي أو يهودي أو مسلم أو بوذي أو أي شخص أياً كان، إذا كان مُتديناً حقيقةً هو إنسان مُنفتِح ويكون إنساناً ورحيماً – سبحان الله – وعنده منظور واسع جداً جداً جداً في النظر إلى الأشياء، وهو عكس الذي يرى فقط في الآخرين العفريت، تستطيع أن تجد في أحسن واحد فينا عفريتاً لأننا لسنا آلهة ولسنا ملائكة، نحن بشر نُخطيء ونُصيب، نحن بشر ضعاف نسبيون، إذا بنيت خُطتك في التعامل والتفاعل مع الآخرين على أن تبحث عن العفاريت فيهم ستجد العفاريت في كل مكان، وسوف تستحيل أنت أكبر عفريت طبعاً، أنت الباحث عن العفاريت – تتعايش مع العفاريت أربع وعشرين ساعة – سوف تُصبِح أكبر عفريت والعياذ بالله، وفي ظن الناس أنك أكبر شيخ، لكن أنت أكبر عفريت والعياذ بالله، أنت تبحث عن العفاريت في الناس وستجدها، أنا أُبشِّرك بأنك ستجدها وباستمرار، لكن هذا غير صحيح يا أخي، بالعكس أنا أبني على أن ابحث عن أحسن ما في الناس، أنا أتحالف معه، أتحالف مع الجوانب الطيبة في الناس، هذا هو، وهذه الخُطة السليمة، نيتشه Nietzsche مرة يقول يكفي فقط أن تنظر إلىّ – ليس كعفريت – كعدو حتى تعجز عن فهمي، أذا بدأت أنت من البداية تنظر لي كخصم – والله – لن تفهمني وأُقسِم بالله على هذا، حتى لو تكلَّمت أنا بما تعتقد به أنت وأتيت بألف برهان أحسن وأذكى من براهينك لن تُصيخ إلى هذا ولن تفهم ولن تُدرِك، سوف تقول ما باله ينطق كفراً – والعياذ بالله – وهزلاً لا جداً؟ يا أخي أنا أنطق بما تعتقد أنت وأقمت عليه ألف برهان، أنت لن تسمعني ولن تفهمني لأنك منذ البداية نظرت إلىّ كخصم، ولذا أنت لن تفهمني، وهذه عبارة عظيمة جداً، يكفي فقط أن تنظر إلىّ كعدو حتى تعجز عن فهمي، ابحث عن العفريت، ولن تجد الإنسان وإنما ستجد دائماً العفريت باستمرار، لكن في المُقابِل تُوجَد المقولة العجيبة لعميدة الحقبة الرومانسية في الأدب الفرنسي، ماذا تقول؟ تقول حين تفهم كل شيئ ستغفر كل شيئ، وهذا شيئ عجيب، حين تفهم كل شيئ ستغفر كل شيئ، وهى تتكلَّم بروح علمية، حين تفهم مشروطية الناس – ليس بعقلية مواعظية فتُصدِر أحكام قيمة وإنما بعقلية علمية فتفهم الوقائع بأسبابها وشروطها – ستخف حدة غلوائك وستعذر الناس، لذلك قيل أعرف الناس بالحق أعذرهم للخلق، أعرف الناس بالحق – لا إله إلا هو – أعذرهم – أي من العذر بمعنى، يُقيمون الأعذار للناس – للخلق.

إذن جوهر التسامح ما ذكرت، يكون التعصب ما هو؟ التعصب هو الضد النوعي تماماً له، أنك تأبى إلا أن تتعاطى مع الآخرين لا على أساس أنهم إنسان وعلى أنهم أبناء آدم وعلى أنهم بشر بل على أنهم السود أو الحمر أو اليهود أو النصارى أو البوذيون أو الشيعة أو السُنة أو حزب التحرير أو الإخوان أو الفلول وهكذا، أنت تُريد هذا المنظور، وطبعاً هنا قد يقول لي أحدكم أنت تتحدَّث عن عالم آخر لأن هذه هى الحياة، نعم هذه هى الحياة، والحياة فيها سود وحمر وبيض وذكر وأنثى ومسلم ومسيحي، هذا صحيح ومضبوط، ونحن لسنا ضد هذا من حيث هو، ضروري هذا التنوع، هذا التنوع خلَّاق، هذا التنوع الذي تحفل به الحياة ينبغي أن نحتفل نحن به، هو جميل وخلَّاق، يُطيب ويُبارِك ويُثمِّر ويُعظِّم ويُركِّب الحياة، هذا صحيح لكن انتبهوا، ليس هنا الخطأ وليس هنا الخطر، الخطأ والخطر يكمن ويبرز أين؟ حين نُصِر على أن نتعامل مع الأفراد من خلال صورة نمطية مجموعية، كأن يُقال أليس هو شيعي؟ إذن انتهى الأمر، كل الشيعة كذا وكذا، لكن يا أخي هذا شيعي مُختلِف، ليس لي علاقة، هو شيعي وانتهى الأمر، أليس هو شيعي؟ إذن انتهى الأمر وشطبنا عليه، أليس هو سُني؟ شطبنا عليه، أليس هو وهابي؟ هذا سُني وهابي ومن ثم اشطب عليه وانتهى الأمر، أليس هو إخوانجي؟ هو إخواني فاشطب عليه، أليس هو تحريري أو بوذي أو مسيحي أو يهودي؟ اشطب عليه، لكن هذا غير صحيح، تعامل مع الآخرين كأفراد، انتبه – كما قلت – واحذر من المنطق الإحصائي، المنطق الإحصائي منطق الديكتاتورية والطغيان والعنف، لذلك القرآن الكريم يرفض هذا، وهذا سر تلاوتي للآيات اليوم، وتعلم هذا حين تتأمَّل كتاب ربك لا إله إلا هو، هذا شيئ عجيب، لكن ينقصنا التأمل وينقصنا أن نُدعِّم وأن نُترجِم هذه المفاهيم الإلهية إلى وسائل وآليات تربوية لا أقول ترميم العقل المسلم وإنما أقول تُعيد بناء هذا العقل، تُعيد بناء العقل المسلم وتُعيد بناء النفسية والمزاج عند المسلم، لأنه عقل مُدمَّر ومُنغلِق كثيراً، وهو مثل عقول الآخرين أيضاً، هذه ليست لعنة حاقت بالمسلمين فقط وإنما حاقت بآخرين كثيرين من أديان أخرى وأيدولوجيات أخرى، وهذا أمر معروف، هذه المُشكِلة العالم أصلاً، هذه مُشكِلة البشر عبر تاريخهم وما زالت، كان يُظَن أن القرن العشرين سيكون من أسعد القرون بخفة حدة العصبية فيه فاتضح العكس والله، هو من أتعس القرون، ونجمت فيه العصبية وخرج لها قرون وعانت البشرية الويلات، وأنتم تعرفون هذا، تعرفون الشيوعية وتعرفون الفاشية والنازية وتعرفون الأصوليات الدينية، هذا هو القرن العشرين للأسف، هذه لعنة وما زلنا فيها، فالموضوع راهن وليس قديماً أو ينتمي للعصور القديمة والوسطى، الموضوع له راهنيته، لكن انظروا إلى القرآن الكريم، القرآن الكريم فيه وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ۩، انتبه إلى هذا، كان يقدر على أن يقول ود أهل الكتاب، لكن انظر إلى شوف منطق التعصب بإزاء المنطق القرآني، منطق التعصب أي أحد ينتمي إلى مجموعة خارجية كما يُسمونها – في علم الاجتماع وفي علم النفس الاجتماعي يُسمون هذه المجموعات – يُرفَض، يُقال مجموعتي وهم أو نحن وهم، نحن هذه مجموعة داخلية وهى مجموعتنا، أما الأخرى كلها مجموعات خارجية، العلاقات بيننا وبينهم بين مجموعية، التعامل يكون على هيئة مجموعة Group، هذا هو فقط، فيُقال نحن وهم، الـ نحن والـ هم، واحد فقط من الـ هم يفعل شيئاً حتى نُلصِق مُباشَرةً مُلصَقاً على كل الـ هم، فنقول اليهود كذا وكذا أو النصارى كذا وكذا أو الوهابية كذا وكذا أو الصوفية كذا وكذا أو الشيعة كذا وكذا، كيف يُقال – مثلاً – كل الشيعة؟ هذا شخص واحد فعل هذا، لكنهم يقولون كل الشيعة يفتون بقتل كذا أو كل الوهابية يفتون بكذا، ليس كل الشيعة وليس كل الوهابية، مَن قال لك هذا يا أخي؟ هذا شيخ وهابي فعل هذا، هذا مرجع شيعي عمل هذا، هذا رجل صوفي قال هذا، وليس الكل طبعاً، فلماذا هذا المنطق؟ هذا منطق التعصب، منطق الذي يحرقه التعصب، هذا منطق المسكين المجنون المُحترِق من العصبيات، وطبعاً – الحمد لله – في دراسات كثيرة في علم النفس الاجتماعي أثبتت أن العلاقة بين الذكاء والتعصب علاقة سالبة، كلما ارتفع الذكاء يتراجع التعصب، فالعلاقة سالبة وليست علاقة اطرادية أو مُوجبة وإنما سالبة، كلما تكون أذكى تبتعد عن التعصب، لكن الذكاء المقصود ليس الذكاء الخاص بالـ IQ وما إلى ذلك، وإنما هو ذكاء أكثر من هذا، ذكاء يقوم على خبرة وعلى حراك فكري وحتى جغرافي، أي Geographic Mobility، فالواحد منهم هؤلاء تحرَّك وسافر وجاء – سوف نعود إلى هذا الكلام – ومن ثم عنده ثراء واتساع في المنظور Breadth of Perspective، أي عنده عُرض أو سعة كما يُسموها في المنظور، من أين جاءت؟ هذا هو الذكاء، بعضهم يُسميها التبسيطية Simplism، فمثل هذا الشخص ثراء في المنظور، وهذا هو الذكاء الحقيقي المطلوب هنا، درس كثيراً وسافر كثيراً ورأى الكثير والتقى مع ناس كُثر وشاهد أشكال وألوان وسمع أفكار كثيرة جداً، هذا هو الذكي، وهو ليس عنده تعصب، من الصعب أن يكون مُتعصِّباً، كلنا حين كنا صغاراً إخواني وأخواتي – أنا وأنت وهى، كلنا كنا كذلك – ماذا كنا نفعل؟ هذا ابن نجع وهذا ابن ريف وهذا ابن قرية وهذا ابن حارة وهذا ابن مُعسكَر Camp، ماذا كنا نفعل؟ أي اختلاف طفيف مهما ضئل وحقر وصغر في لبسة أو في لهجة أو في هيئة أو في سلوك – مهما ضئل هذا الاختلاف في هذا التفصيل الدقيق الذي يكاد يكون خفياً – كان جديراً بأن يستثير استغرابنا ويستحث سخريتنا، كأن نقول انظروا إلى هذا المسكين، انظروا كيف يتكلَّم، لكن هذه لهجته يا أخي، هو مصري لكنه من قرية أخرى أو من بلد آخر فيتكلَّم هكذا، ومع ذلك يُقال انظروا كيف يتكلَّم وكأنه أتى شيئاً إداً، هو يتكلَّم كما يتكلَّم أهله، كل ما هنالك أنه لا يتكلَّم كما تتكلَّم أنت وأهلك، وهذا شيئ غريب، طبعاً لأني طفل صغير فعالمي كله وحدوده هى حدود قريتي أو حدود مُعسكَري، هو هذا العالم بالنسبة لي، وهذا ما يُسميه هنري بيرسون Henry Pearson بالعالم المُغلَق، هذا هو عالمي، لكن هذه مركزية بل إغراق في المركزية، ومع ذلك أحكم على الآخرين وأُقيِّم الآخرين من خلال معاييري عاد وضوابطي وتقاليدي وعاداتي ولبسي، هو هذا فقط، وأي شيئ يختلف يستثير الضحك والسخرية، فيُقال انظروا إلى هذا المسكين كيف يتكلَّم، انظروا إلى هذا المسكين كيف يلبس، ما هذه اللبسة التي يرتديها هذا المسكين الأهبل؟ عندنا في المُعسكَرات هناك في فلسطين – مُعسكَرات قطاع غزة – أي أحد يلبس البالطوا مثل الذي كنت ألبسه اليوم يُعتبَر أهبل، هذا يُلبَس هنا في أوروبا طبعاً بسبب الشتاء لأنه بالطو طويل وقد يكون ثميناً جداً، لكنه يُعتبَر هناك أهبل، لأن كان عندنا في هذا المُعسكَر رجل – رحمه الله – إسمه عطا الله، وكان هذا المسكين أهبل، كان مجنوناً – جُنَّ في عقله – فكان يلبس هذا البالطو، هذا لا يلبسه إلا الهُبل، كأنت تأتينا الباله التي تعرفونها – اليونسكو UNESCO يبعثون لنا البالات – وفيها البلاطي، فكان لا يلبسها أي أحد، هذه كانت تُرمى في الزبالة، كيف تلبس البالطو؟ هل أنت أهبل؟ وطبعاً هذه كانت مُصيبة، كان من المُمكِن أن يُوصَم بهذا أكبر رأس أو أكبر مُثقَّف أو أكبر شيخ أو أكبر طبيب لو لبس هذا البالطو، يُقال هذا أهبل، وهذه هى المُجتمَعات المُغلَقة، ونحن نضحك الآن، نحن نضحك على أنفسنا، هل تعرفون لماذا؟ لأن بقية من هذا الاستغراب الصبياني ومن هذه السُخرية الولدانية تبقى في الكبار الذين لم يتوفَّروا على إثراء أنفسهم بمنظورات أكثر تركباً وأكثر أيضاً ثراءً، ينبغي أن يفهموا كيف العالم يسير، فالعالم أشكال وألوان ولغات وثقافات وعادات وتقاليد وألبسه وأشكال، هذه آية من آيات الله، قال الله وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۩، وكذلك عاداتكم وتقاليدكم وأفكاركم، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ۩، هذا مُهِم لكي تتعارف، لكي تبرأ من لوثة المركزية، لا تظن أنك مركز الوجود، لم يبق – والله – إلا أن ترى ملكاً فتستغرب من أنه لا يلبس كما تلبس أنت، وهذا طبعاً لو كُشِفَ عنك الحجاب، فتضحك على ملك وتقول لماذا لا يبدو بهيئتك؟ هذا عالم، ونحن عوالم من البشر، لذلك بعض المُفسِّرين فسَّر معنى رب العالمين برب الشعوب والقبائل، قال العالمون هى الشعوب والقبائل وليس فقط الأكوان – Universes – أو الأكوان المُتوازية Parallel Universes – وما إلى ذلك، بل حتى في العالم الاجتماعي الخاص بنا، قال القبائل والعادات هى العالمون، هذا عالم وهذا عالم وهذا عالم، وهذه كلها عوالم، ومن ثم تتعارف أيضاً، فبقيت فينا بقية من هذا الاستغراب الصبياني ومن هذه السُخرية الولدانية فنضحك على الآخرين طبعاً، نقول كيف هو هكذا؟ وهذا أمر عادي وطبيعي، كيف أنت كذلك أيضاً؟ كما تراني يا جميل أراك، مثلما تنظر إلىّ أنا أنظر إليك، لكن الذي عنده هذا الثراء المعرفي وضعه مُختلِف، ولذا القرآن منطق يختلف تماماً عن هذا، القرآن قال لك هذا غير موجود، أنا أتعامل مع الناس بمنطق أكثر علميةً وأكثر تفصيلاً، قال الله وَقَالَت طَّآئِفَةٌ ۩، لأنه فعلاً الذين قالوا هذا طائفة، والطائفة كما رجَّح الإمام الكبير ابن حزم تُطلَق حتى على الفرد، ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام عمل بحثاً مُمتازاً وقال الواحد يُسمى طائفة، وطبعاً يُسمى الاثنان والثلاثة بالطائفة بلا شك، فمن المُمكِن أن اثنين أو ثلاثة من اليهود قالوا هذا، فلا مُشكِلة إذن، قال الله وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۩، لم يقل الله ود أهل الكتاب لو يضلونكم، بالعكس قال طائفة منهم، قد يكون القائل هو واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، نحن لا نعرف، لكنه قال طائفة ولم يقل كلهم، ثم أن الله خاطبهم قائلاً يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۩ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، ثم قال وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، بحسب أسباب النزول ثلاثة من اليهود ذكروا ذلك، فما رأيكم؟ وفي بعض الروايات بعض المُنافِقين، فثلاثة الذين قالوا هذا وليس كل اليهود الذين في المدينة، ثلاثة عملوا مُوامَرة، قال الله وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ۩، فالله قال هذه طائفة، لأنهم في أسباب النزول كانوا ثلاثة، ثلاثة من اليهود انحط رأيهم على هذه المُؤامَرة الخبيثة تشكيكاً للمسلمين في دينهم، كأن يُقال لو كان خيراً ما خرج منه هؤلاء الأسياد من بني إسرائيل من اليهود، لماذا خرجوا؟ هذا يعني أن هذا الدين فيه شك، هذه كانت خُطة، لكنهم كانوا طائفة، وما زال في نفس السياق ما هو أعجب، هذا القرآن عجيب، في نفس السياق يقول الله وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، أي منهم، منهم الناس الأمناء عظيمو الأمانة، لكن هل في المسلمين يُوجَد خونة؟ يُوجَد خونة عظيمو الخيانة، هذا موجود يا حبيبي، هذا ليس له علاقة بذاك، المسألة ليست علاقة خطية بين الدين وبين الأمانة والخيانة، هذه ليست علاقة خطية أبداً، هناك جوانب شخصية أخرى مُختلِفة كثيراً عن الموضوع الديني، ليس لأنه يهودي هو خائن وليس لأنك مسلم أنت أمين، هذا غير صحيح، سوف تجد في المسلمين هذا وهذا وسوف تجد في اليهود هذا وهذا، قال الله وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ۩، فالله يقول قنطار، هل تعرفون ما هو القنطار؟ الحديث عن قنطار ذهب أو فضة، وهذا في القرآن، هذا ليس إنساناً يُبالِغ، هذا رب العالمين العليم بالطوايا والمكنونات وما في الصدور، الله قال لك يُوجَد منهم مَن هم كذلك، يُوجَد مِن اليهود والنصارى مَن لو تأمنه على قنطار ذهب يُعيده كله إليك ومن غير بيِّنة، بدون أن يكون هناك أي شهود أو كتاب، لأنه إنسان يخاف الله، يا سلام، هل يُوجَد مَن هم كذلك في اليهود؟ نعم، القرآن يقول هذا، قال الله وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ۩، لم يقل بدليل أو بيِّنة، مُباشَرةَ يقول لك خُذ، هذه أمانتك، إليك أمانتك، ثم قال وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۩، حين تُعطيه ديناراً يتغوله، قال الله لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۩، تقف على رأسه ومعك الشهود أو البيِّنة لكي تأخذه، حين تجره على القضاء يُعطيك إياه وإلا لن تأخذه، فإذن الله قال منهم ومنهم، وماذا يا ربي عن المسلمين؟ منهم ومنهم، نفس الشيئ أيضاً، فالبشر بشر، كأن الله يُريد أن يقول انتبهوا ولا تقعوا أيضاً في المركزية الأخلاقية، وكأن الأخلاق حليفة فقط المسلمين أما غير المسلم فهو ليس أميناً ولا نظيفاً وإلى آخره، علماً بأنني قلت في الخُطب السابقة أننا مخاخنا وأدمغتنا تسمَّمت قليلاً وخاصة نحن الإسلاميين الذين تربينا في جو إسلامي وفي جو المساجد، هكذا تقريباً نشأنا على أن كل مَن هو غير إسلامي – ليس غير مسلم وإنما غير إسلامي، هو مسلم ويُصلي ويفعل كل شيئ حسن لكنه غير إسلامي، أي أنه ليس مثلنا ولا يتواجد على مدار الأربع والعشرين ساعة في المسجد – هو تقريباً مشكوك في وطنيته، لا يكون وطنياً حقيقياً، الإسلامي الوطني فقط هو الذي يخاف الله وهو صاحب الأيدي المُتوضئة وهو الذي يُحب الشهادة، لكن هذا غير صحيح يا أخي، ويُوجَد أكثر من خمسين مليون مثال على هذا، يُوجَد أُناس ملاحدة وأُناس شيوعيون وأُناس كذا وكذا ضحوا من أجل أوطانهم ويُضحون بالنفس والنفيس يا أخي، حب الأوطان غريزة في الإنسان، فما هذا الكلام الفارغ؟ يتحدَّثون وكأن المسلم فقط هو الوطني، وهذا غير صحيح، وقبل أن نسمع حتى بمُصطلَح الوطنية كانت هناك جماعات وطنية غير إسلامية هى التي وضعت هذا الخط وتحدَّثت عن الدفاع عن الأوطان وما إلى ذلك، فهذا ليس له علاقة، كذلك قد يُقال بما أنه غير مُلتزِم وغير إسلامي فليس هناك ثقة في أمانته أو ثقة في وعده، وهذا غير صحيح، هذه ليس علاقة بتلك، هذه القضايا فردية، ولذلك عامل الناس كأفراد، لا تقل هذا علماني فاشطب عليه لأنه كذا وكذا، هذا غير صحيح، هذا العلماني من المُمكِن أن يكون مُمتازاً، فهو في صفات كثيرة مُمتاز أما هذه الجُزئية العلمانية التي فيه تقبل النقاش، ناقشه فمن ال مُمكِن أن يقنعك ومن المُمكِن أن تقنعه، كذلك قد يُقال هذا إسلامي فخُذه بكليته، وهذا غير صحيح، من المُمكِن أن يكون إسلامياً وأن يكون شيخاً ويحفظ الكتاب والسُنة ومع ذلك يتسبب في الذهاب بك إلى ستين مليون داهية ويأخذ – والله العظيم – أموالك وتجارتك وتجارة أولادك ولا يعطيك فلساً واحداً، تذهب أموالك وأموال المسجد وأموال المسلمين بسببه، فهذا موجود في الحقيقة، لذلك عامل الناس كأفراد، قال الله وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ ۩، هذا في نفس السياق بعد قليل، قال فريق ولم يقل كلهم، الله قال بعضهم بيتلاعب بالدين، فقط فريق من بعض الأحبار والرهبان وليس مش كلهم، لذلك الله يقول لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩، وهذا أمرٌ عجيب، هل يُوجَد منهم مَن هم كذلك؟ الله قال نعم يُوجَد منهم مَن هو كذلك، يُوجَد كتابي يهودي أو نصراني ما شاء الله، يتلو كلام الله، وهو رجل عابد ورجل قانت ويأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر ويُسارِع في الخيرات، وشهد له الله – عز وجل – بالتُقى والصلاح في السياق ذاته، وهذا أمرٌ غريب، لكن الله قال هذا موجود، وهنا قد يقول لي أحدكم ما هذا الكتاب؟ هذا كتاب عجيب، وطبعاً هو كتاب عجيب، هذا الكتاب يفتح العقل، يجعل العقل عقلاً مُتفتِحاً والنفسية – نفسية المسلم الحقيقي – نفسية مُتفتِحة، تتفتح على الآخرين وتُحاوِل أن تتعاطى معهم، وهذا تماماً عكس تعريف التعصب، هل تعرفون ما هو التعصب الانغلاق على الذات، وليس شرطاً أن تكون الذات الفردية، هناك الذات حتى المجموعية والهوية المجموعية، نحن أو جماعتنا أو حزبنا أو تنظيمنا أو أي شيئ نكونه نحن، فنحن ننغلق على أنفسنا ولا نرى إلا محاسننا ولا نرى إلا المشابه بيننا،كلنا مثل بعض والحمد لله، كلنا مُمتازين وهذا أحسن شيئ، علماً بأن هذا أحد الأساليب التخديرية التي نُمارِسها لخدمة التعصب وتعزيز التعصب في حياتنا، كأن نقول نحن الأحسن ونحن الأفضل ونحن الأشرف ونحن الأكرم ونحن الأقرب إلى الله ، ونحن الأكثر وفاءً للدين وللوطن، فأي شخص خارج هذه الـ نحن مشكوك فيه ويُنظَر إليه نظرة ازدراء وتحقير واستخفاف وتخفيض، وهذا نوع من تغييب العقل، والقرآن ضده على طول الخط، لا يُمكِن مَن قرأ القرآن وتعبَّد الله به حقاً أنه يصدر عن مثل هذه العقلية، لا يُمكِن أبداً، هتلر Hitler النازي – أبو النازية – لم يكن يُتيح طبعاً الفساد الجنسي للشعب الألماني، لا يُحِب هذا لأنه يُريد شعباً مُحارِباً وشعباً قوياً، الرايخ Reich الثالث لألف سنة، لكن ماذا كان يفعل؟ كان يُخدِّر شعبه أيضاً ويتغوَّل عقلهم بهذا الحشيش الأيدولوجي، يقول لهم أنتم الأعظم، أنتم الأوائل، أنتم رقم واحد، أنتم القمة، أنتم أساتذة البشرية، أنا كنت أشعر بنحو من الافتخار والازدهاء عندما كنت أقول نحن أساتيذ البشرية، وهذه العبارة أطلقها الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه، لكن الآن أحتقر هذه العبارة، ما معنى أساتيذ البشرية؟ ما هذا؟ نوع من الفخر الكاذب ونوع من الفخفخة، أساتيذ في ماذا؟ مُتخلِّفون في كل شيئ ويُقال أساتيذ، في كل شيئ مُتخلِّفون، حتى في عالم حقوق الإنسان وفي عالم الرحمة نحن مُتخلِّفون، ومع ذلك يُقال لك أساتيذ، أساتيذ ماذا يا رجل؟ نعم كنا نفتخر بهذا الكلام ونحن صغار، لكن الآن وعينا، الحمد لله أنقذنا أنفسنا في آخر شيئ قبل أن نموت وعقولنا مُغتالة، أنت تكون الأفضل لا بما أنت، وإنما بحسب معايير مُحدَّدة قرآنية أيضاً، نُحدِّد من منطق ديني معياري،كما قال سيدنا عمر مَن سرَّه أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها، قال الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩، ليس لأنك مسلم ومحمدي، هذا ليس له علاقة، إذا حقَّقت الإيمان وقبل ذلك – كما قال القرآن – أذا قمت بالأمر والنهي – تأمر وتنهى وتُحقِّق الإيمان – وتكون نفَّاع وخير الناس للناس تكون خير أمة، وواقعك يُؤكِّد أنك خير أمة، لكن اليوم نحن لسنا خير أمة والله، نحن الآن لا نُنتِج العلم ولا نُنتِج التقنيات ولا نُنتِج الأفكار التي تدعم حقوق الإنسان والحريات، ليس نحن مَن يفعل هذا وإنما هم، فلا تقل لي نحن خير الناس، كيف نكون خير الناس بهذه الفخفخة الفارغة؟ فعمر يقول مَن سرَّه أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها، حقِّق الشرط يا سيدي، من غير شرط لا تكون من هذه الأمة، لا تكون من خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، اللهم اجعلنا من خير الناس للناس ومن أنفع الناس للناس ومن أرحم الناس بالناس، فالقرآن شيئ مُختلِف تماماً، القرآن يُحل ذبائح أهل الكتاب ويقول وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ۩، ولذلك من المُمكِن أن تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني، لماذا؟ انفتاح على الآخر، المدينة كان فيها مسلمون وكان فيها يهودي، القرآن يُعلِّمنا كيف ننفتح على الآخر، لا يُقال هؤلاء يهود وكذا، بالعكس طبعاً بل من المُمكِن أن تتزوج منهم، تأخذ ابنة أحدهم أو تأخذ أخته، نفس الشيئ بنص الآية في سورة المائدة، فمن المُمكِن أن تتزوج من نساء أهل الكتاب، وهذا أمرٌ عجيب، إلى هذه الدرجة؟ وهل بعد ذلك يُصبِح خال ابني يهودي؟ نعم، هذا أمر عادي، خال ابنك يهودي، ما المُشكِلة؟ ما له اليهودي؟ هل اليهودي عفريت؟ لا يصح هذا المنطق التعصبي، اسأل الله ولا تعترض علىّ وإنما اعترض على الله إذن وقل يا رب كيف أنت أبحت هذا؟ كيف يُصبِح أخوال ابني من اليهود؟ يا أخي قل لله هذا، هل أنت مجنون؟ هل جنَّنك التعصب؟ الله أباح هذا، النبي يموت – والحديث في الصحيح – ودرعه مرهونة عند مَن؟ هل مرهونة عند عليّ؟ هل مرهونة عند عثمان؟ هل مرهونة عند عمر؟ مرهونة عند يهودي، يُقال في كذا وسقاً من شعير، هل النبي كان يعجز أن يستلف كذا وسقاً من شعير من أي أحد من أصحابه وفيهم أصحاب أموال طائلة ومُتموِّلون أثرياء؟ يقدر طبعاً، هذا أمر عادي، ولا أسهل من هذا، أليس كذلك؟ لماذا النبي تعمَّد أن يستلف من يهودي؟ ليُقيم من نفسه قدوة وإنموذجاً في الانفتاح على الآخر، نأكل طعامهم ونقبل هداياهم ونتزوَّج من بناتهم ونسائهم ونزورهم ويزورونا ونرجو لهم الخير ونُداينهم ويُداينونا، هذا انفتاح فما المُشكِلة يا أخي؟ أنت تعيش في المُجتمَع فلا ترفض الآخر، وماذا عن دينه؟ بينه وبين الله، أليس كذلك؟ حر في دينه هو، هو حر في أن يكون يهودياً أو مسيحياً أو مجوسياً أو أياً كان، هو حر في دينه، أليس كذلك؟ ليس لك عليه أكثر من النصح والموعظة والنقاش بالتي هى أحسن وبالجدال بالتي هى أحسن والبحث عن المُشترَكات كما في آية العنكبوت، هذا هو القرآن، لا يُوجَد تمييز ضد الأقليات عندنا في الدين أبداً، هذا التمييز الفقهاء أقاموه، وهو تمييز لا نُؤمِن به، تمييزات غريبة عجيبة أتى بها الفقهاء وهى من أبشع ما يكون، والقرآن بريء – والله العظيم – منها، الآن يتحدَّثون عن التمييز، لكن أهم شيئ التمييز المُؤسسي ضد الآخرين، ليس فقط على المُستوى الفردي، وإنما التمييز المُؤسسي في النواحي الاجتماعية وفي النواحي الاقتصادية وفي النواحي العدلية والقضائية والقانونية وفي النواحي السياسية، تمييز مُؤسَّس يكون بنيوياً، وهذا شيئ خطير، يُرهِقهم ويُتعِبهم ويُقصيهم ويُخفِّضهم بالكامل في المُجتمَع، لكن هذا غير موجود في الدين عندنا أبداً، التمييز المُؤسسي غير موجود في القرآن أبداً، وكلكم وكلكن تعرفون وتعرفن قصة اليهودي التي ذكرناها مائة مرة والتي
كم تروقنا، ولن أذكرها طبعاً الآن، لكن هذا اليهودي الذي ظُلِمَ – اتُهِمَ ظلماً – وبعد ذلك لم يجد مُحامياً لكي يُدافِع عنه، من حق أي واحد يُتهَم – تتوجَّه إليه أصابع الاتهام – أن يُقام له المدره، العرب يُسمونه المدره، والمدره هو الأفوكاتو كما يُسميه المصريون، أي المُحامي الذي يُدافِع عن المتُهَم، هذا المسكين من سوء حظه لم يجد مَن يُدافِع عنه ولا مَن يشهد له، لكن هل تعرفون مَن الذي تولى الدفاع عنه؟ رب العالمين من فوق سبع سماوات، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، سبع عشرة آية تُدمدِم وتُثرِّب على الصحابة الذين اتهموه وعلى رسول الله نفسه، والطبري – كما قلت لكم أكثر من مرة – قال هذه الآيات جاءت لتُؤدِّب رسول الله، الطبري مَن قال هذا وليس أنا، قال هذا تأديب للرسول وليس تعليماً، ممنوع أن تسمع لأصحابك دون أن تُحقِّق بعمق في المسألة لأن المُتهَم يهودي، هذا ممنوع في الدين، ولذلك انتبهوا لأننا الآن ندخل في عمق المسألة، وهذا شيئ جميل، لكن هذه كلها استطرادات، وعلى كل حال ما هو؟ لا تقل لي أنا مُتعصِّب للحق كما قلت لكم وقد وعدتكم أن أشرح هذا، لا يُوجَد تعصب للحق، هذا جهل وتشويه للحق، إذا تعصبت للحق أنت شوَّهته مُباشَرةً وظلمت قضية الحق، لا يُوجَد تعصب للحق، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ كيف لا يُوجَد تعصب للحق؟ طبعاً التعصب للحق هو تعصب إيجابي، التعصب تعصبان، تعصب مع وتعصب ضد، التعصب ضد يُسمونه التعصب السالب، والتعصب مع يُسمونه التعصب المُوجب، فالتعصب للحق هو تعصب مُوجب، لكن لا يُوجَد تعصب، هل تعرفون لماذا؟
كل دائرة تكون أكثر سعةً بحيث تشتمل وتتضمن ما دونها من دوائر يكون الانحياز إليها والالتزام بها لا يُعتبَّر تعصباً، هذا ليس من التعصب، فممنوع تقول هذا، هل تعرفون لماذا؟ لأن التعصب دائماً في بنيته المعرفية والشعورية العاطفية والسلوكية يُترجَم في شكل تصرفات تميزية إقصائية إلغائية تخفيضية للآخر، وأنت مُلتزِم بالدائرة كلها الواسعة، وداخل الدائرة الوسيعة هناك دوائر، فإذا التزمت أنت بالأوسع مُباشَرةً وبالضرورة أنت مُلتزِم بالأضيق، مثل الأم التي تحتضن كل أولادها، هذه الدائرة احتضنت كل هذه الطوائف وكل هذه الأحزاب وكل هذه المذاهب، كلهم في الدائرة الوسيعة، وهذه الدائرة قد يكون اسمها الوطن مثلاً، سوف نأخذ الوطن كمثال، وفي داخل الوطن عندنا أحزاب، نأخذ الناحية السياسية مثلاً، هناك أحزاب سياسية مُختلِفة على خلفيات علمانية وليبرالية ودينية وإلى آخره، هذه كلها أحزاب سياسية تعمل، والمفروض أنها تعمل لصالح الوطن، وأنا أقول لكم مَن التزم بالدائرة الأوسع وهى دائرة الوطن سيلتزم بعد ذلك ألا يكون مُتعصِّباً ضد أي دائرة من هاته الدوائر، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا الكلام أيضاً يُعتبَر معيارياً، لأنه في الواقع يلتزم بالوطن ومع ذلك يكون مُتعصِّباً، وهذا غير صحيح، هو كذَّاب لأنه لم يلتزم بالوطن، والله لم يلتزم بالوطن، وأنا أقول لكم هكذا ضاعت أوطاننا لكي أكون واضحاً معكم، ومن المُمكِن أن تضيع الكثير من الأوطان بهذا الكذب والإدعاء والزيف، أنا أقول لكم مَن التزم بالوطن لا يُمكِن أن يعمل على إفشال آخرين يعلمون على مصلحة الوطن، قد يبذونه وقد يسبقونه بحكم أشياء كثيرة، ولذا قد يقول لك إذا سبقوني سوف تذهب علىّ الفرص، إذن هو غير مُلتزِم الوطن، هذا يعني أن الاعتبار والمركز عندك هو أنت، تقول أنا الحزبي أو أنا الشخصي وليس الوطن، إذا كنت مُلتزِماً بالوطن فيا حيهلاً، هذا تنافس شريف، قال الله وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۩، أنا أُحاول أن أدعم الوطن وأُحاول أن أُري الوطن وهو أيضاً يُحاول، مَن سبق يا حيهلاً – والله – ونقول له بارك الله فيك لأنه نجح، يُحزنني ألا يكون لي شرف أن أخدم وطني، مثل شرف أن أكون الأبر بوالدي وأمي من بين إخواتي، هذا تنافس شريف، مثل شرف أني أكون الأقرب إلى الله والأصدق في تديني، هذا تنافس شريف، ولكن حين تتطرَّق المُنافَسات والصراعات الحزبية إلى أن يعمل كل حزب على إفشال الآخر فأنا أقول لكم هو يعمل بالضرورة على إفشال الوطن لأنه غير مُلتزِم بالوطن، هو كذَّاب لأنه لم يلتزم بالوطن، أُقسِم بالله كذَّاب، لا يُمكِن أن يكون مُلتزِماً بالوطن، هل فهمتم كيف؟ نأخذ دائرة أخرى الآن، وهنا قد يقول لي أحدكم إذن لا تُوجَد إمكانية أن مَن التزم بالأوسع أن يكون مُتعصِّباً إزاء الأضيق، وهذا مُستحيل طبعاً، نظرياً هو مُستحيل، إلا أن يكون كذَّاباً في إعلانه الالتزام بالأوسع، هذا غير صحيح على الإطلاق، لكن أين تأتي التعصبات؟ دائرة ضيقة تتعصَّب ضد دائرة ضيقة في حال وفي حين عدم التزامها بالأوسع، وإلا لو التزمت بالأوسع لا تكون مُتعصِبة، فيُسمَح بالتنافس لكن لا تتعصب بحيث تُفشِلها، أي لتُفشِل من خلالها الوطن أو بعض الوطن، لا يُمكِن أن يفعل هذا صادق في وطنيته، وكذلكم الدين فانتبهوا، وطبعاً يُوجَد أُناس لا يقبلون هذا المنطق من أصله، يقول لك أحدهم أنا لا أقبل منطق الحديث عند الدين، لأن فعلاً العصبية أحرقته، جعلته حمماً وفحماً ورماداً – Ash – بالأموات والقبور، يقول لك لا يُوجَد حديث يتحدَّث عن دائرة دين إسمه الإسلام، لا نقبله هكذا، إذا قلت لي الإسلام سوف تُدخِل لي الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية وسوف تُدخِل لي إباضية عُمان وسوف تُدخِل لي الصوفية والدراويش وسوف تُدخِل لي الإخوانجية والتحريريين، إذن ماذا تُريد أنت؟ ما الإسلام عندك؟ يقول الإسلام هو الوهابية مثلاً، أي نحن فقط، أهل السُنة والجماعة، هل الإسلام هو طريقتك أنت فقط؟ ويُمكِن أن يقول شخص ثانٍ نفس الشيئ، لا يُريد أن يُدخِل في الإسلام إلا جماعته كالشيعة مثلاً، يقول لك نحن فقط، نحن فقط مَن يلتزم بأهل البيت ونحن كذا وكذا، وإذا رأى أحسن رجل سُني يقول الله يهديه والله يفتح عليه وإن شاء الله سوف يعرف مذهب الحق، يا رجل – أطال الله عمرك – ما هذا؟ اترك هذه العصبيات الباردة التي أنهتنا وذبحتنا، يُوجَد شيئ أوسع منك ومني، هذا الشيئ إسمه الإسلام، والله العظيم أنا لا أعترف لا برواياتك ولا برواياتي خارج كتاب الله في أسس الاعتقاد وأُقسِم بالله على هذا، والله العظيم أتعبد الله بإنكار كل هذا الغلط واللغط وحالة الاستهبال التي نحن فيها، يُقال لك ينبغي أن تُؤمِن لي بكذا وبكذا وبكذا وبكذا وبكذا وبكذا وإلا إيمانك خلاص مظنون ومزنون، هذا غير مقبول يا حبيبي، لست أنت مَن يُعلِّمني الإيمان، أنا غير مُلتزِم بك ولا برواياتك ولا بكتبك، أنا مُلتزِم بكتاب ربي وما وافقه من صحيح ما صحَّ عن المعصوم عليه السلام، أي شيئ يُخالِف كتاب الله لا ألتزم به ولا أُريد أن ألتزم به ولا يقدر أي أحد على أن يُلزِمني أن ألتزم به، نحن ذبحنا أنفسنا ودمَّرنا ديننا بهذه الطريقة، يُوجَد دين إسمه الإسلام وأنتم تعرفون هذا، لن نُعيد الكلام الذي يُقال الصبيان، هذا معروف هذا حتى للصبيان، فهؤلاء مسلمون يا أخي – أطال الله عمرك – وانتهى كل شيئ فلا تحترق تعصباً، هؤلاء مسلمون مُوحِّدون، هؤلاء من أمة محمد وانتهى الأمر، لكن هو لا يُريد هذا ولا يقبله أصلاً، لكن نحن نقبل بل نحن بنينا خُطتنا على هذا، هذه الدائرة الوسيعة إسمها الإسلام، وهى تحتوي الزيدي والإمامي والوهابي والصوفي والتحريري والإخوانجي أو الإخواني – يُسمونهم الإخوانجية لكي يزروا عليهم – وإلى آخره، كله بفضل الله داخل، كلهم مسلمون والحمد لله، ليس عندنا أي مُشكِلة، وأنا مُلتزِم بالإسلام، وغير مُمكِن أن التزامي بالإسلام يحفزني أو يلذني أو يضطرني إلى أن أؤذي الإسلام بإيذاء طائفة من هاته الطوائف، هذا لا يُمكِن أبداً، لأن إيذاءها هو إيذاء للإسلام أيضاً،هؤلاء مسلمون مُوحِّدون طبعاً، فما الفائدة وما الجدوى من دعاوى الاستئصال والذبح والإفناء والإلغاء يا رجل؟ يا رجل تنقص أمة محمد ولا تزيد بهذه الطريقة، ينقص الدين ولا يزيد، تزيد الشُبهات والشكوك في الدين ولا تتراجع، لماذا تفعل؟ التزم النقاش العلمي الهادي من أهله وفي محله وانتهينا، هذا يجوز فالتزم بالأوسع، إذن مَن التزم بالأوسع ما الذي يحصل معه؟ كما قلت لكم خُطبة اليوم تتحدَّث عن التعصب كخيانة، الذي يُصِر على أن يلتزم بالأضيق دائماً يخون الأوسع، ما رأيكم؟ فالتعصب خيانة، وهنا قد يقول لي أحدكم هل من المُمكِن أن يتعصَّب أحدهم ولا يخون؟ وأنا أقول له هذا لا يُمكِن، لأنه لكي لا يخون الأوسع عليه ألا يتعصَّب، عليه حزبياً كما دينياً وطائفياً حين يرى مُنافِسه يتقدَّم نحو الصحيح في الطريق الصحيح أن يقول له لله درك، أنت لها، أدعو لك بالتوفيق، واصل، ولا يخدعه ولا يختدعه ولا يُضلِّله ولا يضع العصي في دولابه، لماذا؟ هذا يخدم الوطن ويخدم الدين، أنا معه طبعاً، لكن هو ليس من حزبك، ما علاقتي بهذا؟ هو يظل ابن وطني وهو يخدم الوطن وينجح الآن، وأنا أُقدِّم النصح حين يفشل وحين يعثر وحين يخبو، آخذ بيده وأقول له لا خدمةً للوطن، أنا في النهاية لماذا تحزبت؟ لا يُمكِن لأي حزب أن يكون بحجم الوطن، هل فهمتم؟ هذا غير موجود، الأحزاب تذهب وتجيء، لا يُمكِن لأي حزب أو لأي تنظيم أن يكون بحجم الوطن، الوطن دائماً أكبر وأوسع، والوطن باقٍ، لا يُمكِن لأي مذهب أو لأي طائفة أن يكون بحجم الإسلام، هذا كذب، والله مَن قال لكم هذا كذب عليكم، لا السُنة ولا الشيعة ولا أي أحد بحجم الإسلام، بدليل أن الإسلام يسعهم جميعاً، ومَن قال لك طائفتي بحجم الإسلام هو أكبر تكفيري، وهذا واضح طبعاً، لأنه تورَّط في هذا، وهذا غير موجود، لكنه يقول الذي يتطابق مع الإسلام تماماً هو أنا وطائفتي، وأنا أقول له أنت أكبر تكفيري، لأن الآخرين بهذا المنطق خارج حدود الإسلام، أليس كذلك؟ بمقدار ما يتطابقون معك يتطابقون مع الإسلام، وهذا غير صحيح، هل تعرفون ما هى المُشكِلة الآن؟ عندنا أفكار تنظيمية إسلامية أيدولوجية – ليست مذهبية وطائفية وفقهية وعقدية وإنما أيدولوجيات وحزبيات – تدّعي أنها الإسلام، واحد من كبراء هؤلاء – لن أقول الأكبر لكن هو فعلاً من أكبرهم على كل حال – ماذا يقول؟ يقول وبهذا يضح لنا أن منهج هذا التنظيم – يتحدَّث عن عن تنظيمه – هو الإسلام، هكذا هو قال، وهذه صيغة خطيرة وتعبير خطير مُزلزِل مُزعِج مُخيف، ما هذا يا أخي؟ هل أنت تتحدَّث عن حزبك أو عن جماعتك التي عمرها كذا وكذا سنة تبادلياً مع الإسلام؟ أي إن تحدَّثت عن الإسلام فأنت تتحدَّث عن حزبي، إن تحدَّثت عن حزبي فحزبي هو الإسلام، وهذا شيئ مُخيف ومُرعِب جداً، فأين ذهبنا نحن؟ أين ذهب كل مَن هم خارج دائرة حزبك؟ ذهبوا إلى جهنم بهذا المعنى، هؤلاء كفار إذن وليس لهم أي علاقة بالإسلام، وهذا غير معقول، ما هذا المنطق العجيب؟ ولذلك – كما قلت لكم – الوطن أوسع من أي حزب والدين أوسع من أي مذهب وطائفة، هذه هى الحقيقة، مَن قال لكم غير ذلك فقد كذب عليكم، والآن مَن جعل التزامه الأساسي بالأضيق – هذا الالتزام الأساسي والنهائي والأقصوي Maximum عنده – هو خائن، لابد مرة أن يخون الوطن ومرة أن يخون الدين شاء أم أبى.
في الخُطبة الثانية – حتى لا نُطوِّل عليكم وقد فعلنا – سنشرح لكم فقط مسألة واحدة وهى مسألة تمثيلية سنُوضِّح عبرها بالمثال كيف الالتزام بالأضيق دينياً يخون الأوسع وهو الدين نفسه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه!

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
مرةً قال فولتير Voltaire الطائفة والخطأ مُتعادِلان، هما شيئٌ واحد، أن تكون طائفياً قطعاً هذا يعني أنك ستُخطيء مرات ومرات وربما تُخطيء أكثر مما تُصيب، لماذا؟ الطائفة بإزاء ماذا كما قلنا؟ قد تكون بإزاء الدين أو حتى بإزاء الوطن، وهذا خطأ طبعاً، الالتزام النهائي بالطائفة خطأ، هذا سيعني الخطأ، وأنا أقول لكم هذه خيانة، هو يعني الخيانة، لكن كيف؟ انظروا الآن إلى كثير من المعارك التي تشتجر واشتجرت واحتدمت بين الطوائف الإسلامية وخاصة الشيعة والسُنة وخاصة حول قضايا الصحابة وخاصة حول قضايا الراشدين، فهذا هذا ما يهمنا، هو أهم شيئ، مثل ما وضعية أبو بكر ووضعية عمر ووضعية عثمان بإزاء عليّ رضوان الله على الجميع؟ سوف ترون أن الطرح الطائفي من الجهتين ذو طبيعة استمرارية غير اكتمالية، وهى طبيعة عبثية، في المسائل العلمية والأخلاقية هذه طبيعة عبثية، في حين أن المفروض أن الطرح دائماً يتوخَّى أن يكون طرحاً اكتمالياً، بمعنى طرحاً غائياً قيمياً في جوهره، كيف؟ أي طرح حين يتوخَّى ويتغيا – يجعل غايته – القيمة لا يكون ذا طبيعة استمرارية تسمح بطرح سؤال ثم ماذا بعد؟ باستمرار، وماذا بعد؟ ثم ماذا؟ وماذا بعد؟ كل طرح يستدعي سؤال وماذا بعد؟ هو طرح استمراري، هذا طرح عبثي، واليوم كثير جداً من مشاكل إخواننا السُنة مع إخواننا الشيعة هى ذات طبيعة عبثية استمرارية، فمثلاً يهم الشيعة كثيراً ويهم السُنة كثيراً أن يُثبِت كلٌ منهم أن صاحبه أفضل، يُقال عليّ أفضل من عمر ويُقال عمر هو الأفضل، ويا ويلك إذا خالفت، ويُقال لك هذه طريقة أهل السُنة وقصة كبيرة، والآن السؤال يا سيدي كالآتي، أنت شيعي وقد ثبت أن عليّاً الأفضل، سؤالي ثم ماذا بعد؟ عليّ الأفضل وماذا بعد؟ حين نقول محمد الأفضل فهذا مفهوم لماذا، إذا قلنا محمد الأفضل فهو أفضل من الكل وعلى الكل وفوق الكل، إذن محمد معصوم، محمد يُتبَع، محمد حُجة على الجميع وقدوة للجميع، هذا هو محمد، فمُهِم جداً أن نفهم أنه الأفضل منا وأنه مُفضَّلاً علينا طبعاً، لا يُمكِن لأحد أن يقول غير هذا، ولذلك نحن أنكرنا على أخينا السعودي – فك الله أسره – عندما قال أنا أضع يدي في أيدك وأُسلِّم عليك كأقران، كيف تقول كأقران يا ابني يا حبيبي؟ أطال الله عمرك، أقران ماذا يا أخي؟ ونحن قلنا في أيامها الحقيقة وهم غضبوا بسببها، لكن هذه هى الحقيقة ولابد أن نحكي الحقيقة، أنت لست قرناً أصلاً – كما قلنا – لفولتير Voltaire ولا لأينشتاين Einstein ولا لنيوتن Newton ولا لفلان ولا لعلان، فهل أنت هتكون قرناً لمحمد؟ أطال الله عمرك يا أخي، ماذ هذا العبث والكلام الفارغ؟ هذه عنجهيات فارغة لا تُؤيَّد، هذا محمد طبعاً، لكن عندما تقول لي عليّ الأفضل أو عليّ الأفضل من عمر سوف أقول لك ثم ماذا بعد؟ يا أخي أثبت أن عليّاً الأفضل ثم ماذا بعد؟ وأنت السُني أرحناك وقلنا عمر الأفضل يا سيدي، ثم ماذا بعد؟هل أنت ارتحت الآن؟ قد يقول لك أحدهم نعم ارتحت لأن هذا وضع للأشياء في نصابها، نشهد لكل أحد بما يشهد به الدليل، وكأن هذه بحد ذاتها قضية فانتبه، أنا أقول لك هذا هو التعصب بعينه الذي لا يخدم غاية قيمية أو أخلاقية، يُقال عمر أفضل، أي في النهاية عمر لحماً ودماً وشخصية الأفضل، ثم ماذا بعد؟ عليّ الأفضل، ثم ماذا بعد؟نحن لم نستفد شيئاً، أمتنا اليوم لم تستفد من هذا الشيئ ومن هذه النتيجة، وهنا قد يأتي رجل شيعي وهو طبعاً مُتفلسِف أكثر ويقول لي نحن درسنا فلسفة وما إلى ذلك، عليّ أفضل لأن عليّاً – عليه السلام – جسَّد الحق أكثر وجسَّد العدل وجسَّد قيم الإسلام وكان وفياً لقيم الإسلام وإلى آخره، وأنا أقول له هذا جميل يا سيدي، والله عمر الذي أنت تُحاول أن تغمز قناته وأقمت معركة كبيرة عنه – عناءٌ في غير غناء، بالعكس هذا كله تدمير للأمة وتدمير للكل – وتظن أننا أسطرناه وحوَّلناه إلى أسطورة ينبغي أن تُوافِق على أسطورته، وعليّ أسطرناه أيضاً وحولناه إلى أسطورة، وهذا معروف لأن الأمم كلها تفعل هذا مع أبطالها طبعاً، لا يُوجَد بطل يبقى بطلاً، فهو يتحوَّل إلى سطورة – Legend – وليس إلى خُرافة – Myth – وهذا معروف، أنا أقول لك عمر هذا الذي تنعى علينا أننا أسطرناه من المفروض أن تُوافِق وتُبارِك وتُصادِق على أسطورته، لماذا؟ حتى يكون الحديث والنقاش والنزاع بيننا ليس استمرارياً بل اكتمالياً فينتهي عن نُقطة، ومنطقي أن ننتهي عندها وغير منطقي أن نذهب بعدها لأنه لا يُوجَد وراء الوراء وراء، ليس دونه مُنتهى ولا وراءه مرمى، لا يُوجَد وراء هذه النُقطة مرمى، هذا هو المُنتهى وهذا هو المرمى، ما هو؟ أنا أقول لكم هذه الأسطورة العُمرية أسطرناها خدمةً لقيمة الحق والعدل، لا يُوجَد سُني يعشق في عمر أنه ظلم مثلاً أو أنه اعتدى أبداً، كلنا كسُنة نعشق عمر لأنه عمر العادل، عمر الذي أنصف من نفسه وأنصف من أولاده وأهل بيته وأنصف من أقرب الناس إليه، ولذا نعشق هذا، هذا الذي كبَّر عمر في عيننا، أليس كذلك؟ ونحن نُحِب عمر ونستلهمه من هذه الزاوية، فينبغي عليك كشيعي أن تقول والله حيهلاً وأنا أقول – والله – بارك الله لكم وأُؤيدكم في هذا، حين تراني أُريد أؤسطر مُعاوية واجعله أسطورة قل لي اقف عندك الله، لا تفعل هذا – أطال الله عمرك – يا حبيبي، كيف تُؤسطر لي هذا؟ سوف تُدمِّر نفسك، وهذا صحيح وأنا معك في هذا طبعاً، لا يصح أن تُؤسطر هذه الشخصية، لكن عمر ليس كذلك، لا يُوجَد أي سُني يستلهم من عمر الظلم والكذب والدجل والمصلحية والمنطق النفعي، لا يفعل هذا أي أحد بفضل الله عز وجل، وكذلك عليّ عليه السلام، لا يهمني أن تُثبِت لي كأمام شيعي أن عليّاً يعلم الغيوب، هذا لا يهمني لأن الله هو علَّام الغيوب، وهذه القضية لا تهمني كثيراً، هذه عند الله عز وجل، ما الذي يهمني في أن يعلم الإمام عليّ الغيب؟ هذه القضية لا تهمني لأنها لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر شيئاً عندي، وطبعاً هذه القضية جيء بها لكي تُبرِّر أشياء بعينها، وهذه قضية ثانية لا نُريد أن نزعج إخواننا الشيعة بها، وعلى كل حال هذا لا يهمني، الذي يهمني هو عليّ حين كان في الحياة وبالذات حين كان في الخلافة، كيف سلك وكيف نشط وكيف تفاعل، كان في مُنتهى الجمال وفي مُنتهى العدل، فعلاً ترجَم عن روح الإسلام الحقيقية، لذا أُحِب هذه الأسطورة، أُحِب عليّاً هنا، أحياناً جزء من عليّ الذي يتحدَّث عنه الشيعة لا أعترف به، يكون الإمام عليّ شيئاً مُختلِفاً تماماً فلا أعترف به، وأحياناً عليّ عند الشيعة أعترف به، لأنه مع القيم التي لو قدَّمته لكل البشر سوف يُقال هنيأً لكم بهذه القيم وهنياً لكم بهذه العقلية وبهذا المزاجة الأخلاقي، وهذا شيئ جميل جداً، فأقول لك أنا أُبارِك أسطورتي ما خدمت المعايير والقيم والحق والعدل والكرم والنبل والجمال، وعليك أنت يا أخي الشيعي أن تُبارِك أسطورتي إذا خدمت في الاتجاه ذاته حتى لو كانت تُخالِف ما تراه، قد يقول أحدهم هذا غير صحيح، أنا ثبت عندي أن عمر لم يكن ذلك العادل فعمر ظالم وعنده مظالم كثيرة، لكن أقول له ليس من الخير لك ولا لي أن نفعل هذا، ما رأيك؟ حتى لو ثبت عندك هذا فليس من الخير لك أن تقول لي عمر كان على هذا النحو، هل تعرف لماذا؟ أنا أحتاج إلى أسطورة كما تحتاج أنت إلى أسطورة، اترك لي أسطورتي الكاملة الطيبة لكي أستلهمها في الحق، وأنا أترك لك أسطورتك أيضاً، لكن يُوجَد التنافي المُتبادَل، نُحاوِل نُحطِّم أسطورتهم بطريقة أو بأخرى، وطبعاً عليّ لا تُوجَد عليه حرب كثيرة حقيقةً، لن تجد سُنياً يرعى جانب رسول الله ويرعى حُرمة رسول الله في آل بيته يسب عليّاً أو يطعن في عليّ، قد تجد من بعض السُنة الذين عندهم اتجاهات ناصبية مُحاوَلة انتقاص خفية من الإمام عليّ من وراء وراء، أي من تحت إلى تحت كما يُقال، لكن هذا المسلك نشجبه ونتبرأ إلى الله منه، ما هكذا تُورَد الإبل، لكن – كما قلت لكم – المُتعصِّب لا يُؤمِن بهذه الطريقة في العمل والنقاش، المُتعصِّب كما يتعصب لجماعته بما هى – لأنه جماعته فقط – يتعصَّب لنفسه بما هو ويتعصَّب لأسطورته بما هى بغض النظر عن الأفق الغائي الأخلاقي لها، وهذا غلط طبعاً، وهذا ما جعل حياتنا عبثية الآن وجعل تعصباتنا كارثية علينا وعلى ديننا، هل فهمتم يا إخواني؟ ولذلك علينا أن نبرأ قليلاً من هذه العصبية لكي ننشط ونخدم في الاتجاه الذي يخدم رسالتنا ويخدم أمتنا.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر والطف بنا فيما جرت به المقادير، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم أمة حبيبك محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً – وأصلِح ذات بينها وألِّف بين قلوبها ولم شعثها ووحِّد صفها وكلمتها برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ولإخواننا المُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 فيينا (4/10/2013)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: