التراحم بين الطبيعة والثقافة

video

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحنانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ۩ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ۩ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ۩ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ۩ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ۩ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ۩ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۩ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۩ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۩ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
للتو قبل أن أصعد المنبر جاءني شابٌ لطيف مُتحمِّسٌ لدينه ولنشر الخير وأخبرني أن معه رجلاً أجنبياً من رومانيا يُريد على عجل وقبل الخُطبة أن أدله على الإسلام وأن أُحدِّثه عن العذاب، قال لي “حدِّثه عن العذاب وهذه الأشياء حتى يُسلِم”،وهذا بالضبط وتماماً عكس وضد ما جئت أُحدِّثكم عنه، أي عن الرحمة وليس عن العذاب، ومَن أراد أن يدل على الله فليدل على الله – تبارك وتعالى – من باب الرحمة لا من باب العذاب ومن مُدخَل الرحمة لا من مُدخَل النقمة، وخاصة أننا في شهرِ رمضان الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقٌ من النار، فكيف نضلُ عن هذه المعاني؟ كيف نضلُ وكيف نتيه وكيف تغيبُ عنا هذه المعاني؟
ببساطة لأنها تغيب أو لأنها غائبة بمعنى أو بآخر!
والموضوع المُرشَّح أكثر من غيره لنُبديء فيه ونُعيد ونُكرِّر الحديث وباستمرار هو الرحمة، أكثر موضوع بعد وحدانية الله مُرشَّح للقول وللكلام وللتناول المُستمِر المُتكامِل وفق مفاهيمنا وخبراتنا التكاملية موضوع الرحمة الإلهية، وقد اقترحت مرةً من على هذا المنبر الكريم أنه ينبغي علينا أن نُعيِّر كل تأويل وكل تفسير وكل فهم للدين في باب النظر وفي باب العمل بمعيارٍ واحد كُلي وشامل وهو إلى أي حد وإلى أي مدى يتسقُ هذا الفهم والتأويل والتفسير مع رحمة الله تبارك وتعالى؟ إلى أي حد يُحقِّقُ رحمانية الدين ورحمانية الشريعة ورحمانية المُفسِّر نفسه والمُؤوِّل أو رحمته – رحمته وليس رحمانيته – بالأحرى لأن الرحمن من إسم الله تبارك وتعالى؟ إلى أي حد؟
كل ما اقترب من ذلك فهو صحيح وفق درجته في القرب من الرحمة، وكل ما ابتعد فهو باطل – حتماً باطل – أياً كان القائل به ولو كان أعظم الأئمة لابد أن يكون تأويلاً باطلاً، وهكذا نفهم ديننا وهكذا نفهم كتابنا وسُنة نبينا!
والحديث في الحقيقة ليس عن رحمة الله بمقدار ما هو عن رحمتنا نحن وعن تراحمنا نحن بني آدم، أي النوع الإنساني ، ولكن رحمة الله – تبارك وتعالى – لسعتها وتغلغلها وعمومها وشمولها تُورِث بعض الناس – لا أقول كثيرين ولكن بعض الناس – شكاً وارتياباً لأنها لا تتفق ولا تتسق مع مقاساتهم، أي مع مقاسات إدراكاتهم ومفاهيمهم، فما هذه الرحمة التي تتسع لكل خلقٍ ولكل وجود ولكل موجود؟ تتسع لكل أسماك البحار والمُحيطات وهى بالبلايين المُبلّيَنة لأن فروخ السمك وفُلوسه كثيرةٌ جداً، فهى رحمة تُلاحِق كل فلس من هذه الفلوس – أبناء السمك الصغار أو صغار السمك هم فُلوس السمك – وتُلاحِق النمل والذُبان والنحل وسائر الحشرات وتُلاحِق الدود – دود الأرض – دودة دودة وهى بالبلايين في التُربة وعلى الأشجار وتُلاحِق أعشاب الأرض عُشبةً عُشبة، خُذ أي عُشبة صغيرة واعلم أنها مرحومة، تهمي عليها رحمة الله تبارك وتعالى!
وهنا ينفسح مجال للشك والإلحاد: مُستحيل، ما هذا؟ ما هذا الكائن؟ ما هذا الوجود العلوي الذي يُلاحِق كل هذه الأشياء؟ يبدو أنه أسهل على عقلي أن أقول هذا شيئٌ اتفاقي وعرضي متروكٌ لنفسه ومتروكٌ لفوضى الطبيعة تعتمل فيه، ولا تُحدِّثني عن رحمة تخص كل دودة وكل سمكة وكل عُشبة!
لذا يُلحِدون، وطبعاً المُلحِد الآن أحل نفسه محل الله – تبارك وتعالى – لكن منظوره ليس إلهياً، منظوره لا يزال إنساني لأن عقله لا يتسع لأن يفهم هذا الشيئ، كيف يفهمه وخاصة إذا لم يكن عبداً رحيماً وإذا لم يكن منظوره العتيد والأول والأعمق هو الرحمة؟ لا يفهم هذا ويُلحِد، ولذلك هو شقيٌ ليس بإلحاده ولكن شقيٌ قبل أن يُلحِد، هو إنما شقيَ فألحَد لأنه شقيٌ بخلوه من الرحمة، فأساس شقائه خلوه من الرحمة ولذلك لا يفهم ويُنكِر، ومن هنا ما هى الكائنات المُرشَّحة أكثر منا وذوات المناظير الأوسع لكي تُدرِك كيف تهمي رحمة الله على كل خلق؟!
الملائكة وليس الإنس وليس الجن وليس حتى الأنبياء، وإنما الملائكة لأن الملائكة تُدبِّر شؤونات الخلق، فهناك ملائكةٌ تختص بالأرزاق وبالأمطار وبالنماء، وملائكة وتُوزِّن هذه الأشياء وتُنزِلها بأمر الله – هى مأذونة – وبإذن الله بميزان، وملائكة موجودة لأنها قوة غيبية وقوة إلهية، وملائكة مُختصة بالحفظ، أي حفظ الكائنات وحفظ حيواتها وتحقيق أمنها، أي المُعقِّبات، لأن الله سمّاها المُعقِّبات وهكذا، ولذلك الله في أكثر من سورة وفي أكثر من مُستهَل سورة يُقسِم بهذه الأصناف والأنواع من الملائكة وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۩ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ۩ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ۩ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ۩ وإلى آخره، قال الله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ۩ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ۩ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ۩ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ۩، فالملائكة يُقسِم بها تبارك وتعالى!
هذه الملائكة مُرشَّحة أكثر منا من خلال منظوراتها التخصصية مهنياً أن تُدرِك رحمة الله أكثر منا، ولذلك على لسانها أجرى الله – تبارك وتعالى – هذه الضراعة المُبتهِلة أو هذا الابتهال الضارع رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، فهذا مقول الملائكة، أي أن الملائكة قالت هذا وليس البشر وليس الأنبياء وليس الإنس وليس الجن وإنما الملائكة، لذا قالت رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩ لأنها ترى هذا كل لحظة!
قرأت لمُهندِس من المملكة السعودية – كثَّر الله من أمثاله – أنه حدث انقلاب وانعطافة كُبرى في حياته – في حياته العملية – بسبب أنه ذهب إلى مكان مُعيَّن يعمل فيه لكي يُنقِّب عن البترول – مُهندِس بترول – وهناك اتفق أن صخرةً صغيرة – حجر صفوان صلدٌ صُلب – انفلقت بين يديه في أثناء العمل فإذا به يُفجأ – علماً بأن هذا اتفق أكثر من مرة عبر العصور ولكن هذه القصة حديثة جداً وهو الذي كتب عن نفسه هذا قبل أيام – فإذا فيها دودة وعندها أقل من قطرة ماء وشيئٌ أخضر، فحصل لهذا الرجل حالة تجلّي إلهي وتغيَّرت حياته بالكامل بما رآه، فكيف هذا؟!
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، معنى أن يرحم الله خلقه وأن يسع كل خلقه رحمةً أنه لابد أن يُحيط بهم كلاً وكلٍ كلٍ – أي واحدٍ واحدٍ على جهة الاختصاص والتمييز – علماً، لأن الرحمة معناها أن يرعاه وأن يربه وأن يُرقّيه وأن يحفظه وأن يُزوِّده وأن يُمدِّه وإلى آخره وهذا يحتاج إلى علم، ولذلك قالت الملائكة وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، فلا يُمكِن أن يكون رحمن كل شيئ ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ولا يكون قد وسع كل شيئٍ من قبل علماً، فحق العلم إذن أن يُقدَّم على الرحمة فتقول الملائكة “وسعت كل شيئٍ علماً ورحمةً”، ولكن لم لم تقل كذلك وقالت رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩؟!
لأن هذا الوجود وكل موجود إنما خرج من ظُلمة العدم إلى حاق الوجود وإلى ساح الوجود لا بالعلمِ بُمجرَّده وإنما بالعلة الأولى والأكبر وهى الرحمانية، فالله يُدبَّر ويُرعى وأُعِدَّ وهُيّأ بالرحمانية، ولذلك تقول الآية الكريمة الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۩لا إله إلا هو، فهو يُدبِّر هذا الخلق كله ويُهيمن عليه ويرعاه برحمانيته وهو فيضُ رحمانيه، ولذلك أقصر طريق إلى الله وأسهل طريق وأوضحها – بتأنيث الطريق وهى الأفصح والأخرى فصيحة – الرحمة، أي أن نكون رحماء وأن نُحاوِل أن نُوسِّع حظنا وقسمنا ونصيبنا من الرحمة، ولكن هيهات ففي نهاية المطاف الواحدُ منا لا يستطيع أن يتحدَّث عن رحمة الله وأن يُدرِك من رحمة الله وأن يستشعر من رحمة الله وأن يرى من رحمة الله إلا بمقدار ما لديه من رحمة، وهذه مُعضِلة ومُفارَقة كُبرى، فأنت مدعو أن تتأمَّل في رحمة الله وأن تتملَّى تمظهرات وهيمان هذه الرحمة في الكون، والكون هائمٌ في رحمته والرحمة هائمة بكون الله تبارك وتعالى، وفي الحديث المُخرَّج في الصحيحين وفي مُعظَم دواوين أهل السُنة وكتب الحديث إن لله – تبارك وتعالى – مائة رحمة، أرسل واحدةً منها – في رواية أنزل وفي راوية أرسل – في خلقه فبها تتراحم الخلائق، حتى أن الدابة – في رواية الفرس – ترفع حافرها لئلا تطأ فصيلها أو ابنها – أي ولدها لأنالدابة عندها رحمة -، وادخر لعباده تسعاً وتسعين رحمة يرحمهم بها يوم القيامة، وهذا شيئ عجيب، فكيف ندل على الله بالعذاب؟ كيف يُقال حدِّث الناس عن عذابه حتى يُسلِموا؟ لن يُسلِموا، وإنما ينبغي أن يُقال حدِّث الناس عن رحمته حتى يخجلوا، لأننا نستشعر هذه الرحمة، وهذا الحديث الشريف المُخرَّج في الصحاح قد يُلهِم عالماً من علماء النفس أو علماء الاجتماع وخاصة علماء النفس فيقول: هذا أمرٌ عجيب، هل محمدكم يزعم إذن أن الرحمة مُنزَلة ومُرسَلة، فهى شيئ مخلوق وليست Kultur أو Culture أو تربية؟ هل هذا حق؟
وهذا صحيح فهى ليست Kultur أو Culture أو تربية، وإنما هى شيئ إلهي موجود في الداخل، وهذا حقٌ مثل ما أنكم تنطقون، هذا شيئ خلقه الله وأنزله وأتاحه، ولولا هذا الشيئ لفنيَ الوجود ولأكل كل شيئ كل شيئ لمُجرَّد الانتقام، ولكن هذه رحمة مُرسَلة وموجودة.
البشر يُعانون من قلة الرحمة، ومن ثم وقعت الحروب والمجاعات والفيضان والتوزيع اللامُتكافيء للثروة، وغير ذلك ضروب الاستعمار المُقنَّعة والسافرة، وهذا مُستمِر عبر التاريخ مُستمِر، نعم حصل تطوّر كبير – بفضل الله – وإيجابي ولكن هذا مُستمِر، فهذه هى أنانية الإنسان، يقول الشاعر إذا مت ظمآن فلا نظر القطر، وهناك مقولة تقول أنا وليكن بعدي الطوفان، والآن هناك أجيال بالذات في العالم المُتقدِّم الغربي لديها نمط في التفكير مُختلِف، وهذا النمط في الرؤية الكونية والرؤية الوجودية للأسف بدأ يجتاح عوالم حتى المسلمين وهو ما يُسمّيه علماء الاجتماع في الغرب هنا “جيل أو أجيال أنا وبعدي الطوفان”، ويُعبَّر عنه بقول The Me Now Generation، بمعنى أنا الآن وهنا وفقط، أي مصالحي فقط، ولذلك إسمه The Me Now Generation، فلا يُفكِّر في أحد ولا في والديه وأحياناً حتى لا يُفكِّر بعضهم في أولاده، وهذا شيئ غريب، فيذهب لكي يحضر فيلماً في السينما Cinema ويعود فيرى ابنه الرضيع قد مات، وهذا حدث في النمسا قبل حوالي عشرين سنة وذلك في أكثر من مائتين وخمسين حالة في سنة واحدة في النمسا وكُتبَ عنها News وتقرير مُخجِل جداً، وهذا كله بسبب أنهم يذهبون لكي يتمتعوا بالأفلام – Movies – في السنيما ويتركون رضيعاً ابن ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فيموت المسكين، وهذا شيئ عجيب، ولكن هذا هو معنى The Me Now Generation، أي أنا وبعدي الطوفان كما نُترجِمها، إذن البشر يُعانون من هذا، ولكن هل هذا أصيل في البشر؟ هل هذا طبيعي في البشر؟ هل يحق لنا بناءً على هذا أن نقول كفرنا بالإنسان أم يحق لنا أن نقول لا نزال نُؤمِن بالإنسان؟
أنا أُؤمِن بالإنسن لأن الله قال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ ، فالملائكة قالت أن هذا الإنسان يُفسِد ويسفك الدماء ويقتل ويُخرِّب ويُدمِّر لأنه مسعر حرب، فهو مُوقِد نيرانها وهو الذي سوف يُزكِّي أوارها، لكن الله قال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، فهذا الإنسان رائع وستخرج منه أشياء رائعة كثيرة جداً جداً، وهى تخرج الآن وتُزهِر وتخضر وتُثمِر بإذن الله تعالى.
في هذا الغرب هناك أُناس رائعون جداً جداً أتمنى أن أرى مثلهم في عالم المسلمين، ولدينا رائعون ولكن هنا أُناس رائعون جداً ويتحدَّثون بروعة ويسلكون بروعة عجيبة جداً جداً، فأتمنى أن أسمع عن عالم دين من أمثالنا أو عن رجل دين يفعل ما فعله رجل الدين الأمريكي ريك وارين Rick Warren صاحب الكتاب الأكثر مبيعاً ربما في القرون الحديثة كلها عدا الكتاب المُقدَّسة، حيث باع أكثر من ثلاثين مليون نُسخة وسالت عليه الأموال Worldwide على مُستوى العالم بعد أن بيع من الكتاب أكثر من ثلاثين مليون Copies نُسخة فقال سالت علىّ الأموال أطناناً، وأصبح من أشهر المُتحدِّثين حول العالم، وأحياناً يقضي شهراً أو شهرين مُتصِلين ليبث مئات الأحاديث حول العالم، فالكتاب مُدهِش والرجل قس وراعي كنيسة ومُثقَّف كبير وإنسان عظيم حقيقةً ومن ثم يُحَب ويُقدَّر، كثَّر الله من أمثال هذا الإنسان، فهذا إذن إنسان، وأنا مُتأكِّد من أن أمثال هؤلاء البشر يجعلون الله يُذكِّر الملائكة أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩؟ فهذا إنسان أيضاً، هذا من أبناء آدم وأنا أُباهي به.
لكن ماذا فعل ريك وارين Rick Warren ؟!

التراحم بين الطبيعة والثقافة
ريك وارين Rick Warren

حين انهالت عليه الأموال – الملايين بل مئات مئات الملايين – بسرعة فضلاً عن الشهرة أيضاً التي أتت في نفس الوقت قال “الناس طبعاً كانوا مصدومين والكل يسألني كيف شعورك؟ وأنا كنت مُندهِشاً أكثر منهم وكنت في لحظة توقف في حياتي فقلت ماذا يعني هذا لي؟ هذه شهرة على مُستوى العالم لم أقبلها ولم أُحِبها – قبلها على مضض بعد ذلك لأنها لا يُريد ولا يسعى إلى الشهرة – فماذا أفعل بالشهرة؟ هى سوف تأخذني حتى من نفسي وتُربّي أنانيتي وذاتيتي المُتضخِّمة ولذلك لا أُريدها، ماذا أفعل بهذا المال كله؟ ماذا أفعل بمئات الملايين؟ ماذا أفعل بثمن ثلاثين مليون نُسخة – والله أعلم بكم بيع الكتاب، قد يكون بيع بخمسة عشر أو بعشرين دولار، وهذا شيئ عجيب، فكم يكون له من كل نُسخة إذن؟ الله أعلم – من الكتاب؟ على كلٍ وقفت هكذا وسألت ما الهدف؟ ثم ماذا بعد؟ واتفقت مع زوجتي – وزوجة القس هذه يا لها من زوجها رائعة – على التالي: هذا المال ليس لنا – هذا أمر عجيب ولكنه فعل هذا – وانتهى كل شيئ، إذن لن نصرفه على أنفسنا، ولا أزال إلى اليوم – علماً بأنه حكى هذا بشكل واضح أمام العالم في تيد TED، وهو مُؤتمَر المُحاضِرين الأعظم والأكثر التماعاً في العالم – أركب سيارتي الفورد Ford الخمسة راكب كما هى، فلم أُغيِّرها ولم أُغيِّر سكني ولم أُغيِّر لباسي، فأنا كما أنا، بل أتيت إلى كل مُرتباتي التي تقاضيتها من كنيستي عبر خمسٍ وعشرين سنة وأعادتها إلى الكنيسة، ثم عُدت بأثر رجعي إلى العُشر – في الكتاب المُقدَّس يجب على كل مسيحي مُخلِص أن يدفع عُشر ثروته للفقراء والمساكين وفي المشاريع الخيرية، أي أكثر من المسلمين بأربع مرات، فنحن ندفع اثنين ونصف فقط، أي ربع العُشر، لكن هم يدفعون أربع مرات أكثر منا – لأن لم يكن عندي ما أدفع به العُشر سابقاً فجعلت أدفعه وبنسبة تركيبية – أخرج كل العُشر عن ثلاثين سنة – حتى أخرجت العُشر، وبقيت مئات الملايين وأطنان من الدولارات، فقلنا سوف نفتح بها مُؤسَّسات تُعالِج المشاكل الأكثر حراجةً حول العالم، مثل مشاكل الجهل والفقر والمرض وخاصة السيدا SIDA أو الإيدز AIDS”، وبالفعل فتح مُنظَّمات حول العالم ووضع فيها كل هذه النقود، ولا زال يعيش رائعاً كما كان وكما بدأ، وهذا شيئ عجيب!
قبل يومين يُحدِّثني أحد إخواني في هذا المسجد المُبارَك عن أخ عربي مسلم خسر تقريباً كل ثروته بعشرات الملايين وكان سؤالي ماذا كان يفعل بها؟ علينا أن ننتبه لأن هذا امتحان، ونحن ألقينا خُطبة قبل أسبوعين عن الامتحان، فكل شيئ هو ابتلاء ومن ثم لابد أن تنتبه، فإذا أتاك الله – تبارك وتعالى – نفوذاً – أصبحت شخصاً نافذاً – لا ليجعلك نافذاً – وأنت تظنه أعطاك النفوذ حتى تفرح في نفسك بأنك أصبحت نافذاً وأصبحت إنساناً ذا حيثية، لكن مُستحيل أن الله يعبث هذا العبث – وإنما يُؤتيك الله – عز وجل – النفوذ ويهبك السُلطة لكي تتكلَّم بإسم عذابات وحاجات وضرورات واحتياجات مَن لا نفوذ لهم، فقط هذا هو لذلك لابد أن تنتبه، هذا الامتحان وهذا الجواب، فإذا أتاك الله لساناً سوف يكون هذا بمثابة امتحان لك، فأنت – مثلاً – عندك لسان لأنك صحفياً مرموقاً أو مُذيعاً في الإذاعة أو في التلفزيون Television أو خطيباً على منبر أو كاتباً مشهوراً أو مُتحدِّثاً لبقاً ويُسمَع لك وإلى آخره، فأنت أُوتيت لساناً وطلاقة وفصاحة وعلماً وبياناً لا لكي تهيص كما يُقال بالعامية ولا لكي تفرح بنفسك أنك ما شاء الله قس بن ساعدة أو سحبان وائل القرن الحادي والعشرين أو ديموستيني Demosthenes اليونان أو خطيب العالم والعصر وكاتب العالم – هذا كلام فارغ، هذا عبث وسُدى، وبالتالي الله لا يعبث معانا هذا العبث – وإنما لتتكلَّم بلسانك نيابةً عن مَن لا لسان لهم، فتُنصِفهم وتتكلَّم بصدق مهما كلَّفك هذا، وأحياناً يُكلِّفك حتى حياتك، لكن تكلَّم وافعلها وإلا تكون رسبت في الامتحان، وهكذا في باقي الأشياء، ولذلك انتبهوا إلى أن الرسول قال لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة عن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، لا يُوجَد انصراف إلى جهنم للبُعداء الكفّار الأبعدين ولا حتى إلى الجنة – اللهم اجعلني وإياكم وإياكن منهم .اللهم آمين – إلا بعد أن تُجيب عن هذه الأسئلة، وريك وارين Rick Warren أجاب مُمتاز جداً جداً جداً، لكن قد يقول لي أحدكم “ولكن هذا كافر وهذا رياء للناس”، وأنا أقول له بدوري كيف يكون هذا رياء للناس؟ أنت لا تفقه شيئاً، لأن الذي يقول هذا لا يفقه شيئاً، هل تعرف متى يُمكِن للإنسان أن يُرائي بأفعاله؟ حين يدفع القليل بطريقة اقتصادية أصلاً كطريقة مُدخَلات ومُخرَجات، فيقول لنفسه أدفع القليل وأنتظر الكثير، فيدفع مائة يورو لكي يُقال عنه أنه ما شاء الله المُحسِن الكبير، أو أن دفع عشرة آلاف يورور وأنا عندي مليون مثلاً لكي يضعوا لي لوحة رخام ويُكتَب عليها ساهم في بناء هذا الصرح الأكاديمي الأستاذ فلان الفلاني هيّان بن بيّان الذي صفته كذا وكذا – وطبعاً هذا كثير – ولكي أصطاد به بقية الأموال من الناس وآخذ ثقة زائدة فيُقال عني التاجر الأمين أو الرجل الصدوق صاحب المصداقية العالية ومن ثم أتغوَّل أموالهم، ولكن حين أدفع كل ما لدي أو مُعظَم ما لدي فلا يُمكِن أن يكون هذا من باب الرياء، ليس هناك شيئ في العالم يعدل هذا، وكونوا أذكياء وشُجعاناً وجرِّبوا هذا، قل لبعض الناس نحن سنُخرِج تقريراً إخبارياً عنك في التلفزيون Television يا سيدي وسوف نعمل لك Profil خاص يُفيد بأنك مُحسِن كبير، فكم ثروتك؟ سوف يقول مائة ألف، قولوا له ادفع خمسين ألفاً، سوف يقول هذا مُستحيل، لا أُريد هذا ولتذهب التقارير إلى الجحيم ولن أدفع هذا المبلغ، أنا لا أُريد هذا، فلماذا يخسر خمسين ألفاً لقاء تقرير خمس دقائق وعشر دقائق؟ وبالتالي هو لا يُريد هذا فلن يفعلها وسوف يقول كيف أدفع كل أموالي لقاء أن أُصبِح ما شاء الله شخصاً مشهوراً والناس تُحييني بتعظيم سلام؟ إذن هو لا يُريد هذا ومن ثم لن يفعله، وبالتالي لابد أن تنتبه إلى أنك لا تفعل هذا وأنا لا أفعل هذا مع الكثير وإنما نفعل هذا ونُرائي مع القليل، فالرياء يتطرَّق مع الأشياء القليلة، ولذلك الإيمان والقيم والأخلاق والموقف وإنسانيتنا تُختبَر متى؟ مع العقبة الكأداء – فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ – ومع الشيئ الكبير، وأنا دائماً كنت أقول إذا كنت تمتلك مليوناً ودفعت عشرة آلاف فقط فهذا سوف يُعتبَر كلاماً فارغاً، فأنت لم تدفع شيئاً، كل فعل لكي يكون أخلاقياً لابد أن تشعر فيه بالمُعاناة ومن ثم سوف يحدث تردد ونوع من الحساب حتى، فأن يدفع صاحب المليون عشرة آلاف فقط يُعتبَر كلاماً فارغاً، لكن صاحب المليون حين يُريد أن يدفع مائة ألف أو مائتين ألف سوف يقوم بعمل حساب وسوف يتردد لأن هذا خُمس ثروته أو ربع ثروته أو ثلث ثروته، وكذلك الحال طبعاً مع ثلاثمائة وثلاثين ألف أو خمسمائة وخمسين ألف فسوف تحتاج إلى حساب، وحين يدفع تتبرهَن الإنسانية ويتبرهَن الإيمان، والصدقةُ برهان كما قال النبي، فهنا يظهر البرهان إذن، هذا هو البرهان الحقيقي لأنه برهن إيمانه بإنفاق هذه الأموال، وطبعاً لا يمُكِن أن يعدل بهذا المال الطائل المدفوع السُمعة التي يُمنيه بها شيطانه أو نفسه وأهواؤه، هذا كلام فارغ لأنه لا يُريد هذه السمعة، وبالتالي هنا تمثل الإنسانية، فهذه هى الرؤية الكونية، فكيف ينطلق الإنسان؟ ما رؤيته؟ ما هى قيمه المُحرِّكة الحافزة؟
نعود إلى موضوعنا الرئيس ونقول نعم هذه الرحمة رحمة مُنزَلة وهى عطية إلهية، فمن رحمة الله بنا أنه هيَّأنا فطرياً – هم يقولون هكذا فطرياً طبيعياً – أن نكون رحماء، فالنبي هو الذي قال هذا، لكن كيف؟ هل هذا ثابت؟ هذا بفضل الله الآن ثابت علمياً، فما رأيكم؟ هناك فرع كبير من علم الدماغ أو علم المُخ – Brain Science – إسمه علم الأعصاب الاجتماعي Social neuroscience، فما معنى علم الأعصاب الاجتماعي؟
هذا شيئ عجيب، لكن هذا العلم علم لطيف، ولذلك أنا قلت لكم هنا تجري أشياء رائعة في هذا الغرب المُتقدِّم – غرب الحضارة والتقدّم والمعرفة والبحث المشبوب المحموم – تُقرِّب مَن شاء ومَن كان له بصر ويقظة من لُب الحقائق وجوهرها من طريق مُختصَرة جداً ومن ثم يقدم ويفهم ما لم يكن مفهوماً، وهذا شيئ عجيب، على كل حال علم الأعصاب الاجتماعي يبحث في تعاطي الخلايا العصبية بين أدمغة مُتميِّزة – مثل بين دماغي ودماغكَ أو بين دماغها ودماغ أختها – لأُناس مُتميِّزين، ولا يبحث في نشاط الجُملة العصبية داخل العضوية ذاتها، وإنما بين عضويات وكائنات إنسانية مُختلِفة.
هذا في علم الأعصاب الاجتماعي يُشبِّهونه بالوي في Wi-Fi، أي الـ Wireless Fidelity، فالـ Wireless Fidelity تُسمى هنا بالألمانية ڨي في Wi-Fi، وأنتم تعرفون الـ Router الذي يُوضَع في البيت، هو هكذا أيضاً، فنحن يُوجَد عندنا ڨي في أو وي في Wi-Fi – Wireless Fidelity – في علم الأعصاب الاجتماعي، لكن كيف هذا؟!
بشرح مُبسَّط جداً اكتشف علماء علم الأعصاب الاجتماعي أن في أدمغة كل واحد منا نوعاً خاصاً من الخلايا أسموها بالخلايا العصبية المرآتية أو المرآويةMirror – Spiegel – Neurons، لكن كيف تكون هذه الخلايا مثل المرآة Spiegel؟!
قال العلماء “الآن أنت تمشي هكذا وتنظر في شخص، أول ما تنظر إليه تُوحي خلاياه العصبية المرآتية – Neurons Mirror – لدماغك ودماغه مُباشَرةً في نفس الوقت بالشعور ذاته، ونحن قلنا أن هناك ڨي في Wi-Fi ، والمحمول الخاص بك يلتقط الإنترنت Internet والإرسال لأنه Wireless أو Drahtlos، أي أن نفس الشيئ يحدث عندك لأن الله خلق الإنسان هكذا” علماً بأن هذا ثابت اختبارياً، فهذا ليس مُجرَّد نظريات وإنما أمر ثابت، وهذه ثورة في مجال العلم، وهناك أمور عجيبة تستطيع أن تراها بعيني رأسك مثل تصوير الرنين المغناطيسي وغيره والبوزيترونات – Positrons – المُمتَصة وغير هذا، ولذلك يقول العلماء “نحن سعداء جداً الآن بهذه التقنيات الأكثر من مُتقدِّمة والهائلة والرائعة لأنها بمثابة أعين نتبصبص أو نتلصَّص بها على الدماغ المُعتِم من داخله”، أي اننا سوف نرى طريقة عمله ثم تُترجَم على اللوحة أشياء بالألوان حاسوبياً طبعاً.
إذن قد يُوحى لخلاياك المرآتية أو المرآوية لديك أنني كسير أو أنني أُعاني أو أنني مألوم أو عندي مُشكِلة اجتماعية أو أنني فقير ولم آكل من أيام أو مُعتاز وإلى آخره فتشعر بهذا تماماً مُباشَرةً، ولذلك نشعر ببعضنا البعض، ومن هنا قال الله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩، فهذا هو الأساس النيروني – Neural – أو العصبي للضمير، إذن سقط كثيرٌ جداً من الحديث عن الضمير على أنه ابن الاجتماع وابن التربية وابن الثقافة وأن الضمير ليس شيئ ثابتاً بل هو شيئ مُتميِّز تماماً ونسبي ومُطلَق النسبية، وهذا غير صحيح، حيث يُوجَد حد أدنى بؤري جوهري – Essential – من الضمير في النفس الإنسانية وهو الذي أقسم الله به، وإلا لماذا حين تنظر أنت في هذا الكسير وتمضي لشأنك تبقى تقريباً عبر ثنتي عشرة ساعة وأحياناً بعض الناس الحسّاسين يمكث معاه أسبوعاً أو أسبوعين يُؤنِّب نفسه قائلاً: لم لم أقف؟ لم لم أُعطه شيئاً؟ لم لم أتعاطف معه؟ لم لم أسأله عن مُشكِلته؟
وطبعاً هذا يحدث لأن خلاياك المرآوية تعبانة ومن ثم لا تسكن الآن لأنها لم تُلبّ ولم تُعط الاستجابة، فهناك رسالة لابد أن يُجاب عنها، ولذلك تبقى دائماً تقدح في الدماغ.
يقول علماء الأعصاب الاجتماعيين أو علماء علم الأعصاب الاجتماعي “إذن نحن مخلوقون – هكذا مخلوقون – ومفطورون ومُهيَّأون ومبنيون لنتعاطف”، فهم يتحدَّثون عن التعاطف وعن التراحم وعن الانسجام وهذه مُصطلَحات شديدة جداً جداً جداً، علماً بأن الـ Compassion لابد أن يُترجَم بالتراحم، فهذا التراحم – Compassion – شيئ مُختلِف وشيئ عميق جداً، وهناك الـ Sympathy وذلك حين يحدث تجانس وتُحاوِل أن تُدرِك مشاعر الآخرين وأن تُدرِك أن هذا الرجل – مثلاً – يشعر بالتعب الآن وأنه محزون ومكروث ومُصاب ولذلك هذا المسكين ينوح، فلابد أن تُدرِك هذا، وهذا مُجرَّد إدراك لا يمس الشغاف، لكن إذا تقمَّصت حالته وتجاوزت حالة الإدراك إلى حالة الشعور والمُعاناة فتشعر أنك تتألَّم كما يتألَّم هو وأحياناً أكثر منه فهذا هو التقمص الوجداني Empathy، ووالله بعض الناس يتألَّم بالنيابة عن الآخرين، هم المألومون أصلاً ولكن هو يتألَّم ويخجل بالنيابة عنهم وعن الآخرين في حين أنه يجب أن يكونوا هم الذين يغرقون خجلاً وحياءً، وهذا الشخص يسمونه بالمُتعاطِف تعاطفاً حقيقياً، وهذ هو التقمص الوجداني الـ Empathy الذي يختلف عن الـ Sympathy، فهذا موجود ولكن بدرجات، علماً بأن هذا يحصل معانا بشكل فطري – ولاحظ هذا في أولادك أو حتى في أصدقائك ومعارفك – فبعض الناس إذا رأى رجلاً – مثلاً – يمشي واصطدم بحائط أو ضرب رأسه بباب أو بحائط أو بشجرة فإنه يصرخ مُباشَرةً لا شعورياً، فإذت هذا شخص مُتعاطِف وهو شخص رحيم، وأحياناً يضع يده على عينيه لأنه لا يستطيع أن يرى هذا الشيئ، وبعض الناس يتقدَّم أكثر من ذلك ليس بالإرادة لكن هو هكذا مُهيَّأ لذلك، لأن الله وضع فيه قدراً أكبر من الرحمة أو لأنه نمّى في نفسه هذا القدر بأساليب مُختلِفة – ويشعر بالألم هو، كأن الألم في رأسه – مثلاً – فيتألَّم حقيقةً، وهذا نوع من التقمّص الوجداني العميق جداً، علماً بأن هذه الحركات هذه تُسمى المُحاكاة الآلية في علم النفس، أي كأنه هو الذي اصطدم – مثلاً – بالحائط، ولذلك هذا شخص مُتعاطِف لأنه يُدرِك هذا ويعيشه، وهنا باللغة الإنجليزية يقولون To be in one’s shoes بمعنى يمشي أو يكون في حذائي غيره، إذن هذا موجود، وهذا من الرحمة التي أنزلها الله – تبارك وتعالى – علينا، وجوهر الدين يمثل في تحقيق هذه الرحمة.
لذلك أنا لا أمل أن أُعيد هذه الأشياء لأننا نحتاجها تماماً ونحتاج أن نتعمَّق فيها، والمُفارَقة – كما قلت – هى أننا مدعوون وندعو إلى هذا ولكن للأسف لا يستطيع الواحد أو الواحدة منا أن يُدرِك أو تُدرِك من رحمة الله – تبارك وتعالى – إلا بمقدار ما لديه هو من رحمة، وهذه ليست نظرية فلسفية وإنما نظرية بسيطة جداً جداً فينبغي أن تكون مفهومة لكل واحد منا، ولكن كيف هذا؟!
عينا الفنان أو عينا الشاعر تلتقطان من المشهد ما لا تلتقطه عين إنسان عادي، نعم الاثنان يران نفس المشهد ويعيشان نفس الحالة أمامهما الآن لكن للفنان خبرة ومردود من مُواجَهة هذا المشهد وهذه الحالة بشكل مُختلِف عن مردود الشخص العادي البسيط، ومن هنا يستغرب هذا العادي البسيط ويقول: هذا أمرٌ عجيب، كيف أدرك هذا؟ كيف شعر بهذا؟
شعر بهذا لأنه فنان ولأنه شاعر، وكذلك عينا العالم تعودان من المشهد بغير ما تعود به عين غير العالم، فالعالم يتنبَّه لأشياء نحن لا يُمكِن أن تُثير فينا أي تنبّه أو أي معنى ومن ثم لا نفهمها، وكذلك الشخص الرحيم، لأن الشخص الرحيم حين ينظر إلى الشيئ أو إلى الكائن أو إلى الموجود أو إلى الخلق أو إلى أيٍ كان فإنه يتقمَّص حالته ويشعر بحاجته، فإذا رأى هذه الحاجة قد سُدَّت بوجه من وجوه السداد أدرك انهيال الرحمة الإلهية، فهو يُدرِك هذا ويقول هذا أُمرٌ عجيب ولكنه من رحمة الله تبارك وتعالى، فبتعاطفه أدرك حاجة الآخر وحاجة الموضوع الآن فأدرك الرحمة الهابطة النازلة وبالتالي اتسع نطاقه!
هل خطر لأحدٍ منا – ونحن الآن في شهر الصيام – أن يسأل نفسه لم هذا التحبيب والترغيب والندب والحث على السحور؟ قال رسول الله تسحَّروا فإن في السحور بركة، فضلاً عن أنه قال إن الله وملائكته يُصلون على المُتسحِّرين، فهل هذا يعني أن الله يُصلي علينا ويرحمنا ويُعطينا ويُسدِل النعم لنا لأننا نتسحَّر ونتزوَّد؟ نعم، لكن لماذا يفعل هذا؟ رحمة ومحبة إلهية، فالله لا يُريد ولا يُحِب الله لك أن تُعاني، لا يُريدك أن تصوم يوماً طويلاً شاقاً، ولذلك يقول لك “تزوَّد في آخر اللحظات قبل الإمساك، اشرب ما تيسَّر وكُل ما تيسَّر، وسوف يكون الصوم عليك أسهل، فأنا أرضى بهذا يا عبدي”، الله أكبر، هذا هو الحُب وهكذا نفهم الحديث من هذه الزاوية، هذا هو حُب الله لنا ورحمة الله بنا، وهو أصلاً كلَّفنا أن نصوم من أجلنا – هذه الجُزئية تتعلَّق بخُطبة الصيام السابقة – ومن أجل أن ترتقي شخصيتنا ومن أجل أن نستثمر في نفسيتنا وفي ذواتنا، وهذه الرحمة أدركناها من هذه الزاوية وإلا ما كان لنا أن نُدرِكها وبالتالي أصبح هذا الأمر أمراً شرعياً أو تحبيب شرعياً أو أمر ندب لكي نحصد حسنات وانتهى كل شيئ، وهذا غير صحيح فالموضوع لا يقتصر على فكرة أنك تحصد حسنات وإن كنت ستحصد الحسنات أيضاً لكن الموضوع يتعلَّق بأن الله يرحمك ويحنو عليك ويُلطِف بك ولك وبعد ذلك يُعطيك أيضاً حسنات على ذلك، فهو يُعطيك حسنات لأنك رحمت نفسك ولأنك اعتنيت بنفسك، وهذا المعنى عظيم جداً جداً جداً جداً يغيب عن كثيرين!
ويليام جيمس William James في ألوان من الخبرة الدينية – من أروع الكتب في فلسفة الدين على الإطلاق، أتمنى من المسلمين والشرقيين أن يكتبوا كتباً في فلسفة وعمق معاني الدين كما يكتب بعض هؤلاء، لكن للأسف لدينا سطحية حتى في فهم الدين بشكل عام نحن، وعلى كل حال هذا كتاب عجيب لمَن يقرأه – يقول “لم يصدف أنني تعرَّفتُ أو قرأتُ عن قدّيس في كل المِلل والنِحل لم يكن رحيماً بكل شيئ ومن باب أولى وبدرجة أولى بنفس، فكل القدّيسين رُحماء جداً بأنفسهم، وهم مُتسامِحون جداً مع أنفسهم أيضاً ومع الآخرين”، هذا هو وهذا ما يُريده الله تبارك وتعالى وذلك يظهر في قوله طه ۩ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ۩ – أي أن الله يقول أنه لم يُنزِله من أجل الإشقاء – إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ۩، أي أنه يقول “نحن لا نُريد إشقاءك، نحن نُريد راحتك، وحين ترى أنه يُتعِبك عليك أن تنبته لأن مشهد الحكمة غير مُتجلِّ لك فقط، لأن الحكمة واسعة بسعة العلم”، وسأُبسِّط هذا أيضاً الآن وقد خطر لي اليوم وأنا في طريقي إلى المسجد أن تكثيف الحقائق في جُمل تمثيلية – بالذات تكون تمثيلية وليست تقريرية – يؤثِّر في الإنسان تأثيراً صوفياً وتأثيراً عرفانياً حتى ولو كانت الحقيقة رياضية أو فلسفية أو موسيقية أو فنية أو دينية أو أدبية، لأن الحقيقة بطبيعتها وفي طبيعتها بسيطة ومُكثَّفة ومُركَّزة، ونحن نقول الحق واحد عدَّده الجهل ونقول أيضاً العلم نُقطة كثَّرها الجهل، ولذلك سأُكثِّف هذا بجُملة واحدة على هذا النحو والطراز إن شاء الله.
قطعاً أولادك الصغار وأولادي الصغار الذين لم يبلغوا الحُلم ليس لديهم لياقة أن يُقيِّموا قيادتك للسيارة، فهم لا يعرفون هذا ولا يتساءلون قائلين هل يقود أبونا بشكل جيد وبشكل مُحترِف تماماً؟ هل نحن في أمان؟ هم لا يعرفون هذا لأن ليس عندهم لياقة أن يعرفوا هذا، وإلا من أين يعرفون؟ حتى الإنسان البالغ غير المُدرَّب على السياقة لا يعرف هذا، ولكن هؤلاء الصغار مُوقِنون تماماً ومُطمئنون أنك تُحِبهم وأنك حريصٌ عليهم، وكذلك الله أيضاً، هذا الله فقط ، فأنت الآن لم يبد لك ولم تفقه لماذا نهانك الله عن كذا ولماذا أمرك بكذا ولماذا ألزمك بكذا، فهذا لم يلح لك لأن ليس لديك لياقة أن تعرف هذا لأن هذا يتبع العلم، وأولادك ليس عندهم علم بالقيادة وبفن القيادة فلم يقدروا على أن يُدرِكوا هذا، وأنت أيضاً لم تقدر على هذا الآن، ولكن ألست مُوقِناً بحُبه – سبحانه – لك وبحرصه عليك وبإرادته الخير لك؟ إذن سلِّم تسلم وتعِش مُطمئناً سعيداً بإذن الله تعالى، سلِّم وسوف تبدو لك الوجوه من بعد إن شاء الله تعالى، وهكذا!
إذن الرحمة والتراحم، فإذا أردنا أن نتكلَّم عن رحمة الله لابد أولاً أن نكون نحن رحيمين، لأن من خلال رصيدنا من الرحمة نستطيع أن نُطالِع بعض رحمة الله وفق رصيدنا، فبمقدار رصيدنا من الرحمة نحن نُطالِع رحمات الله تبارك وتعالى، هذا هو فقط، ولذلك رحمة الله في عين كل واحدٍ منا تختلف عنه في عين الآخر أو رحمة في عيني الواحد منا تختلف عنها في عيني الآخر.
من فضل الله – تبارك وتعالى – أننا لسنا قططاً ولسنا أسماكاً ولسنا حيوانات مُدجَّنة مُستأنَسة وإنما نحن بشر لأننا أبناء آدم، لكن ما الفرق؟!
قلنا مرة أن السمكة في حوض الزينة – الأكواريوم Aquarium – في بيتك تشعر -يعرف مَن يُربّي السمك على عينه هذا – تشعر بصاحبها وبمَن يُغيِّر لها الماء ويُزوِّدها بالغذاء كل يوم، ولكن بلا شك تشعر شعوراً محدوداً جداً، وهو أقل وأنزل وأوطأ من شعور الهر، فالقط أو القطة في بيتك تشعر بهذا أكثر، فتشعر بحُبك وبرحمتك وبعطائك أكثر من السمكة، وطبعاً بلا شك هناك بونٌ واسع بين شعور القطة وبين شعور ابنتك الصغيرة أو ابنك، فهو يشعر بك أكثر من هذا كله، وكلما نمى وكبر شعر شعوراً أعظم بحُبك، وهناك أشياء لن يختبرها ابنك ولن يشعر بها وبحجمها أو بشيئ قريب من حجمها إلا بعد أن يمر هو نفسه بها، وهذا معنى الأبوة والأمومة أو الوالدية، فحين يُصبِح هو أباً وتُصبِح هى أماً ولها أولاد وله أولاد حينها فقط سيُدرِك كم كان أبوه يُحِبه وما معنى تصرّفات أبيه إزاءه في الماضي، فسوف يُفسِّر الماضي في ضوء الحاضر تفسيراً بأثر رجعي، لأنه سيُفسِّر الماضي في ضوء الحاضر أو بعيون الحاضر، ولذلك قال الله حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً – أصبح له أولاد وربما أحفاد – قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ۩، علماً بأنني ذكرت هذا المعنى من قبل على الأقل مرتين في الخُطب الجُمعية، لكن أُريد الآن أن أذهب خُطوة أبعد عاد لكي لا أُكرِّر نفسي لأنني أنا أكره التكرار، ولكن ما هى هذه الخُطوة؟!
نحن لسنا أسماكاً ولسنا قططاً، ولا يُؤمَل من سمكة أن تشعر بحدب ورحمة صاحبها شعور قطته بها، لا يُؤمَل في هذا لأنه مُستحيل، علماً بأن الفوارق بين شعور أسماك الزينة على الأقل من نفس النوع تقريباً مُنعدِمة، فشعورها مُتماثِل تماماً ومُتطابِق،وكذلك بين القطط من نفس النوع مُتطابِق، ولكن هل الشعور بالرحمات وبالحنان وبالمعاني وبالآخر بين أفراد النوع الإنساني مُتماثِل ومُتطابِق؟!
كلا، هذه ميزة الإنسان، فبعض الناس يعجز حتى عن أن يشعر بأقرب الناس وأدناهم إليه من زوجةٍ أو ولد، لا يشعر وبالتالي عنده نوع من التبلّد – والعياذ بالله – والدوران حول نفسه بشكل محموم على مدار الأربع والعشرين ساعة، فلا يرى إلا نفسه ولا يطلب إلا نفسه لأنه نرجسي عابد للذات، في حين أن بعض الناس – صدِّقوني – يشعر بالآخرين بطريقة لا يتصوَّرونها هم، فهل أنت تتصوَّر الآن – مثلاً – أن في هذا التجمع الذي فيه ربما سبعمائة أو خمسمائة من البشر بعض إخوانكم أو أخواتكم مِمَن يذكرون في الليل مَن لا يعرفونه ربما إلا بالوجه ويدعون له ويبكون لأجله؟ ما هذه العظمة؟
هذه هى العظمة، عظمة الإنسان العارف بالله والذي عنده علاقة بالله، فيتذكَّر مأساة هذا وحاجة هذا، ويتذكَّر أن هذا الرجل يعيش أعزباً لأنه غير مُزوَّج ويتذكَّر أن هذا فقير وأن هذا معيل وأن هذا مات أبوه قبل أيام وأن هذه ماتت أمها وأن هذا حدث له كذا وكذا وإلى آخره، ويبكي من أجلهم.
بعض الناس من العارفين الصُلحاء العظام يُكابِد ويُعاني حمل هموم وآلام ألوف بل ملايين الناس، فما رأيكم؟ شخص واحد يفعل هذا وهو واسع لهذا، لأن عنده من المدى والقدرة أن يفعل هذا بإذن الله تبارك وتعالى، فما هذه العظمة؟ إذن الآن السؤال النتيجة الآن: ما درجة قرب هذا العبد من الله؟
لا يعلمها إلا الله، لأنه يُطالِع رحمة الله عبر مُطالَعته باحتياجات الكل وتباريح وآلام الكل ومشاكل الكل وضرورات الكل، يُطالِع هذا تماماً ومن هنا هو قريب إلى هذه الدرجة من الله تبارك وتعالى.
لذلك لو دُعيت إلى إلقاء كلمة في محفل عالمي – والله – أول ما سأُركِّز عليه وسأجعله محور كلمتي حديث “عبدي مرضت فلم تعُدني، عبدي استطعمتك فلم تُطعِمني، استسقيتك فلم تسقني”، فهذا الحديث عجيب، وأنا مُتأكِّد من أن هذا سيهز وجدان العالم كله وسيُقال “هذا دين عظيم جداً، إذا كان عنده مثل هذا النص فهذا يدل على أنه عظيم جداً”، نعم لا تخلو الأديان كلها من نصوص مُشابِهة ولكنها ليست مُماثِلة ولا تقترب إلى هذه الدرجة بمثل هذا التكثيف وبمثل هذه المجازية لا أقول الصادمة وإنما الرائعة، فهى تروع كل ذي ضمير وكل ذي نفس حية فيها قبس من رحمة الله الرحمن الرحيم لا إله إلا هو.
في التراث اليهودي – مثلاً – قصة رائعة يقولون فيها أنأحد الأغنياء ذهب مرة إلى المعبد – إلى الهيكل – وكان غنياً جداً – أبطرته النعمة لكن منظوره في الحياة كان بسيطاً جداً ومُسطَّحاً مع أنه غني، وهذا حال أكثر الأغنياء للأسف – فجلس، والكاهن يُلقي موعظته أخذته سنةٌ من النوم، صار النوم يُغالِبه لأنه رجل بطين طبعاً وسمين وما إلى ذلك، فنام هذا الغني المسكين، وكلما استفاق يجد أن الكاهن يقرأ من سفر اللاويين، لكنه يسمع كلمات مُعيَّنة مثل كلمة معبد ثم ينام أو يسمع كلمة الله ثم ينام أو يسمع كلمتي خُبز وطعام ثم ينام، ثم ختم الكاهن واستفاق الناس واستفاق الرجل حين قام الناس وقال “إذن فهمت ماذا يُريد الله، الله يُريد خُبزاً أن أضعه له في المعبد، ولكن لماذا يُريد الله الخبز وهو خالق السماوات والأراضين؟ لا أدري ولكن هكذا أنا انتهى إلى علمي”، لأنه سمع الموعظة وهو نائم طبعاً، ففي تسعة أعشار الموعظة كان نائماً.
ذهب إلى البيت وصنع أرغفةً أو أمر بصُنع أرغفة مُمتازة ثم أخذها حارة سخينة ووضعها في التابوت – عندهم تابوت في المعابد اليهودية يُفتَح ويُوضَع فيه الصدقات والإحسانات – ثم قفل راجعاً، وهو في طريق عودته جاء حاجب المعبد وهو فقير جداً ومُعيل وعنده عيال كثيرون وبرَّحت به الخصاصة فجلس عند التابوت وهو لا يدري ما به وجعل يضرع إلى الله قائلاً “يا الله أنت تعلم حالي، أنت أغنى عن سؤالي، أنا فقير، أنا مُعوِز، لدي أطفال كثيرون وليس لديهم خُبز ولا طعام ولا شراب يا الله، يا الله، يا الله”، ثم شم شيئاً طيباً لم يشمه من أيام فقال “هذه رائحة خُبز، يبدو أن الله استجاب دعوتي”، وبحث ثم فتح التابوت فقال “الله أكبر، الله أكبر، استجاب الله دعوتي”، وأخذ الخُبز وعاد به إلى بيته، ووصل الغني كذلك إلى بيته ثم قال “ما أحمقني وما أقل عقلي وفهمي، هل الله وهو خالق هذا الوجود يحتاج إلى خُبز؟ أنا رجل غبي، لابد أن أعود وآخذ الخُبز”، وهذا طبعاً إلحاد في أسماء الله، فعاد وفتح التابوت لكنه لم يجد شيئاً، فقال “يبدو أنه أخذه، لا أدري لماذا يُريده، ولكن يبدو أنه قبله فليكُن، إذن سأزيده زبيباً”.
في اليوم التالي جاء بخُبز وزبيب ووضعه، وجاء الحاجب وكرَّر نفس الشيئ، فكل يوم يبكي ويسفح الدموع ويقول “استجاب الله دعوتي”، علماً بأن الله حقاً يُجيب دعوة المُضطَر، ثم يأخذ الخُبز والزبيب، فقال الغني مُتعجِّباً “هل الله أخذ الخُبز والزبيب؟ إذن سوف أزيده”، وزاد بعض الفاكهة وبعض المشروبات الطيبة الحلال، وظل الأمر هكذا على هذا النحو سنين، فالله – عز وجل – يقبل صدقات هذا ويرفع دعوات ذاك الواجفة إلى الله، وهذا مُمتاز ولكنه ظل مُستمِراً إلى أن تغيَّر الكاهن في المعبد – لا ندري نُقِل أو هلك ومات إلى رحمة الله – فجاء كاهن جديد ورأى هذا المشهد من أول يوم فدعا بهما وقال لهما “تعال أيها الرجل الغني، تعال أيها الحاجب، قصتكما عجيبة، أنت دائماً تقول الحمد لله قبل الله صدقاتي وأخذ خُبزي وزبيبي وفاكهتي، وأنت تقول لبّى الله دعواتي، لكن هذا لم يحدث”، فقالا “كيف أيها الكاهن؟” فقال “هذا الرجل يضع الخُبز وأنت تأتي وتأخذ الخُبز”، فأُصيبا بصدمة وأُحبِطا، فقال الغني “إذن أنا أحمق، لقد ثبتت حماقتي، فالله – تبارك وتعالى – غنيٌ عن العالمين وعن خُبزي”، والفقير المسكين قال “إذن لستُ بذلك الرجل الصالح، فالله لم يستجب لي دعوةً واحدة حتى”، فقال الكاهن لهما “لقد أخطأتما كلاكما أيها الرجلان، أيها الغني ألم تعلم وألم تفطن إلى أن وضعك الخُبز والطعام وهذه الصدقات بمثابة استجابة لأمر الله لنا أن نكون رُحماء وأن نتواصل مع العباد المعاويز والمُحتاجين؟” فقال “ربما”، ثم قال الكاهن “وأنت أيها الرجل الحاجب الفقير ألم تفطن وألم تُدرِك أن الله – تبارك وتعالى – نعم قد أجاب دعوتك حقاً وفعلاً بأن يسَّر لك هذا الغني لكي يفعل ما فعل من أجلك؟ فقال “ربما”، وتُختتَم القصة بهذا الختام الجميل: ثم أخذ الكاهن بيد الغني وقال له ألا ترى أن يدك هذه هى يد الله تبارك وتعالى؟!
هذا هو إذن، لكن السياق الإسلامي أجمل وأكثر تكثيفاً، في الحديث القدسي يقول الله عبدي مرضت فلم تعُدني، لكن كيف هذا؟ قال عبدي فلان مرض لو عُدته لوجدتني عنده، وهكذا فالحديث معروف لكم جميعاً!
إذن هذا هو جوهر التدين وجوهر الدين وجوهر القرب من الله – تبارك وتعالى – عبر هذه الصيغة الرُحمائية أو التراحمية، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرحمنا برحمته الواسعة وأن يُوسِع علينا وأن يغفر لنا وأن يتجاوز علينا وأن يسمح لنا وأن يتكرَّم علينا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه!

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
في المأثورات الإسلامية فيما يُحكى من قصص السابقين أن الله – تبارك وتعالى – أحبط عمل راهب عبده ستين أو سبعين سنة بتورّطه في آخر حياته في فحشاء – والعياذ بالله – وذلك بعد أن غلبت ابن السبعين أو ابن التسعين هذا شهوته، فهو عبد الله ستين أو سبعين سنة، فالله أعلم عن أي سن بدأ في العبادة لكنه على كل حال تورَّط في فحشاء فأحبط الله عمله – قال الله وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ۩ والعياذ بالله، لأنه نوع من هدر الإيمان، فلا يفعل هذا الفعل رجل يُؤمِن بالله وأنه رقيبه، وإلا كيف يفعل هذا؟ أين الإيمان؟ ولذلك في الحديث الصحيح في الصحيحين قال رسول الله لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن – ثم إنه ندم ندامةً شديدة جداً جداً ودخل النهر ليغتسل – والعياذ بالله – من نجاسة الفاحشة – وهى نجسة باطناً قبل أن تكون نجسة ظاهراً – فلما خرج وكان لم يأكل من ساعات طويلة وقد أعدَّ لنفسه قُرصاً أو رغيفاً هكذا وجد امرأةً فقيرة والدموع في عينيها وتحمل يتيمها فأعطاها القُرصة، وتُختتَم الحكاية بأن الله يبعثه يوم القيامة وقد أحبط عمله كله ولكن أدخله الجنة وأكرمه بهذه القُرصة.
إذن أقصر طريق إلى الله الرحمة، أن ترحم الخلائق!
أختم بسؤال وجوابه: إذا كنا مُهيَّأين وكنا مُعَدّين وكنا مخلوقين ربانياً أن نرحم وأن نتراحم وأن نشعر بالآخرين – ونحن مُهيَّأون لكي نتعاطف هكذا تلقائياً، هذه هى النفس اللوّامة – لماذا لا نفعل هذا حين تُتاح لنا فرصة؟!
أنا مُتأكِّد وأنا أولكم كل واحد فينا تاحت له فرصة في يوم من الأيام أن يفعل الخير وأن يمد يد المُساعَدة وأن يمسح دمعاً أو غير ذلك ولكنه في مرات كثيرة فشل وتراجع ثم ندم بعد ذلك، فلماذا لا نفعل هذا دائماً؟ لماذا لا نستجيب لطبيعتنا الإلهية في التراحم والتفاعل من غير بخل ومن غير كزازة ومن غير حسابات وبالتالي نستجيب لهذا بكل بساطة؟ لماذا لا نفعل؟
أجاب العلماء – علماء علم الأعصاب الاجتماعي – بجوابٍ علمياً من خلال إحدى تجاربهم الرائدة العجيبة، حيث أنهم أجروا تجربةً على طلّاب مدرسة برنستون Princeton اللاهوتية لدراسة اللاهوت أي أن جميعهم من طلّاب الدين – وقالوا لهم على لسان الأستاذ المسؤول – علماً بأن التجربة مُبهَمة وغير واضحة طبعاً وإلا تفسد وتفشل – المُشرِف بعد أن عيَّن مجموعة – سبع أفراد أو ثمانية أو عشرة مثلاً – منهم “على كل طالب اليوم أن يُعِدّ موعظةً عن التراحم – Compassion – أو مُحاضَرةً عن التراحم لكي يُلقيها”، فأعَّد كلٌ منهم نفسه، ولما جاء موعد الإلقاء في اليوم الثاني أو اليوم الثالث قالوا لهم “الآن ستذهبون واحداً وحداً إلى المبنى الآخر وهناك جمهور في انتظاركم لكي تُلقوا مواعظكم على جهة التدرّب أو التدريب”، وأرصدوا لهم بين المبنيين أو بين البنايتين رجلاً بائساً فقيراً تلوح عليه سيمة العوز والشدة والبؤس لأنه كان يتألَّم وينوح ويسأل، والآن الموعظة المُعدَّة التي ستُلقى بعد دقائق عن ماذا؟ عن التراحم، فهذا هو التراحم وهذا موضوع التراحم، لكن هل توقَّف أحد هؤلاء الطلّاب من دارسي الدين لكي يرحم هذا المسكين ولكي يتراحم معه؟!
الإجابة الصادمة وهى أن لا أحد من الطلاب فعل هذا، وهذا شيئ عجيب، مع أنهم مُهيَّأون أكثر من غيرهم، لكن لماذا لم يفعلوا هذا رغم أن موضوع الموعظة عن التراحم؟ هذا صدم قناعات العلماء وقالوا لماذا لم يتعاطفوا ونحن مُهيَّون لهذا؟ فالطلاب أدركوا هذه المُشكِلة من خلال الفيديو Video الخاص بهم وأدركوا أن هذا المسكين البائس الفقير يحتاج وينوح ويندب حظه، لكن العلماء وجدوا الجواب وقالوا “الجواب يمثل في أننا نكون في مُعظَم ساعات النهار والليل مُعجَلين – أي في عجلة من أمرنا – لأن دائماً عندنا أشياء نُريد أن نقوم بها وليس لدينا الوقت الكافي، وبالتالي ليس لدينا أي وقت حتى نتعاطف مع إنسان عبر التليفون كأن نتكلَّم معه ربع ساعة أو عشر دقائق عن مشاكله، ليس لدينا هذا الوقت ومن ثم لا نتعاطف”، والناس تدفع المال لقاء هذا التعاطف بالاستماع فقط، فقط أنت ترخي له أذنك وهو سوف يدفع لك مئات اليوروات لو كنت من المُحلِّلين النفسيين، فمُعظَم ما يفعلونه هو أنهم يسمعون فقط، فمُعظَم الجلسة سماع ثم يُعلِّق المُحلِّل النفسي بثلاث أو أربع جُمل وينتهي كل شيئ، ويدفع له مَن لديه الشكوى مائة وخمسين يورو مثلاً، وأحياناً تأتيني شكاوى شخصية من هذا النوع، مثل شخص جرَّب أن يتزوَّج عشرين مرة ودائماً يفشل، وهناك أسباب كثيرة لهذا ولكن تتصدَّر قائمة الأسباب أنه لا يُعطي الآخرين الفرصة لكي يتحدَّثوا عن أنفسهم، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن أمثال هؤلاء ربما مُرشَّحون أكثر من غيرهم أن يكونوا دائماً مُستغرَقين في الحديث عن ذواتهم وعن أنفسهم، فيقول الواحد منهم دائماً أنا وأنا وأنا وأنا ودراستي وعلمي وأموالي وجمالي وكذا كذا كذا وإلى آخره، وفي حقيقة الأمر النساء وأنا وأنت والرجال وكل العالم لا يُحِبون أمثال هؤلاء، لذلك يقول الواحد منا له “أعطني فرصة أن أتحدَّث عن نفسي”.
يقول هؤلاء العلماء “هناك فحص – Test – بسيط جداً يُمكِن لكل واحد منا أن يقوم به، وهو أنك حين تلتقي بشخص عدّ في ظرف نصف ساعة أو ساعة كم مرة أتاح لك أن تتكلَّم عن أناك – عن أنتَ أو أنتِ – في مُقابِل كلامه عن أناه، عدّ كم مرة سمح بهذا واكتبه، وسوف ترى أنك أمام شخص مُتعاطِف أو شخص لا يعرف معنى للتعاطف والتراحم”، ولذلك قد يكون هذا من أسباب انفصال الأزواج، وهذا ذكَّرني بالنُكتة الشهيرة التي ذكرتها مرة على المنبر والتي تتعلَّق بالإيرلندي المسرحي الشهير جورج برنارد شو George Bernard Shaw، حيث كان مُغرَماً بذاته أيضاً فالتقى بسيدة من سيدات الصالونات الفاخرة وجعل يتكلَّم معها لمدة نصف ساعة أو أربعين دقيقة فقط عن نفسه وعن رواياته وعن أدبه وعن فلسفته وعن مسرحياته التي مُثِّلَت هنا وهناك وعن جوائزه التي حصدها، ثم أنه شعر بنوع من الخجل لأنه تحدَّث كثيراً عن نفسه والسيدة تستمع إليه وإلى بلاهته وإلى حماقته وهو أديب كبير وفيلسوف شهير فقال لها “يبدو أنني بالغت قليلاً – قال قليلاً ولم يقل حتى كثيراً – في الحديث عن نفسي، جاء الآن دورك لكي تتحدَّثي، تفضَّلي حدِّثيني عن آخر كتاب قرأتيه من كُتبي”، أي أنه ما زال يدور حول عن نفسه، لم يستطع أن يخرج من سجنه ومن شرقنته، فهو يُريد أن يقول لها حدِّثيني ولكن عن نفسي أيضاً!
إذن لابد أن نستمع للناس وهم يتحدَّثون عن أنفسهم، ونستمع بصدق، وعلينا أن ننتبه إلى أن هناك كلمة صُكَّت قبل سنين – يمكن قبل سنتين أو ثلاث سنوات فقط – في أمريكا الآن، مثل كلمة جديدة Pizzeld، هذه كلمة جديدة جداً، وهى عبارة عن تركيبة أو توليفة Combination – – بين كلمتين، فهى مُكوَّنة من Puzzled ومن Pissed Off، فهى تأتي من ألغز وتحيَّر وارتبك، ولكن ماذا يصفون بهذه الكلمة؟!
يصفون بهذه الكلمة الظاهرة المشهورة الآن في المُجتمَع العالمي وهى أن تجلس مع زميل أو مع صديق أو حتى مع زوجتك أو إلى آخره ومعك طبعاً البلاك بيري BlackBerry إذا كنت في أمريكا أو معك التليفون أو المحمول من أي نوع إذا كنت هنا، ثم تأتيك مُكالمات هاتفية كثيرة فتضطر أن ترد عليها، وهذا كله يكون بمثابة تنغيص وتنكيد ما بعده تنكيد، فتدخل طبعاً في نوع من الارتباك وتسأل نفسك هل أُجاوِب أم لا أُجاوِب؟ هل هذا لائق أم غير لائق؟ ولذلك هم عبَّروا عن هذه الحالة بكلمة Pizzeld، لوجود نوع من اللغُز ونوع من الارتباك والحيرة، ثم أنك في نهاية المطاف تُجاوِب دائماً، لذلك قال العلماء “ابتعد عن هذه الظاهرة، اخدم ما يُعرَف الآن باللحظة الإنسانية Human”، حين تلتقي مع إنسان تُريد أن تُخاطِبه باحترام وأن تجلس معه باحترام لربع ساعة أغلِق المحمول، أغلِقه لعنة الله عليه، ماذا سيحصل إذا أغلقته؟ لن تذهب صفقة العشرين مليون دولار، أغلِق يا أخي المحمول وتكلَّم معي لمدة ربع ساعة فقط، أعطني اهتماماً شخصياً ذاتياً أنك ضحيت بشيئ من أجلي وأنك مُهتَم أن تُكلِّمني وأن تستمع إلىّ.
إذن هذه الجزئية الإنسانية هامة ولابد أن ننتبه إليها، ومع ذلك نحن لا نتعاطف مع الآخرين رغم أننا مُهيَّأون لذلك، وهذا فقط لأننا ندور حول أنفسنا وحول مصالحنا وحول ما يُفيدنا، وهذا في الحقيقة يُفسِد إمكانية التعاطف المطبوعة في داخل خلايانا الدماغية وفي الخلايا المرآوية، فعلينا أن نتفطَّن لهذه الناحية حتى لا يُفسِدها!
أنا شخصياً لم أقرأ عن شخص مُتعاطِف من هذه الحيثية مثله النبي عليه السلام وصلى الله عليه وسلم، تقول الآية الكريمة وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۩، وذلك من كثرة ما كان يسمع للجميع، فهو يسمعك لساعات طويلة دون أن يمل، ولذلك هم قالوا “ما هذا الرجل؟ هذا مُجرَّد أُذن، هذا قُمّع ولذلك يسمع للناس”، وهذا غير صحيح طبعاً، بل هو أذكى عباد الله لأن هذا هو الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي، وبالتالي هذا هو الإنسان الرحيم، قال الله عن الرسول بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، فالله ذكر مُباشَرة في نفس الآية أنه رحمةٌ للمُؤمِنين، كأنه يقول أن التراحم يكمن في أن أسمعك، وفي أنا أُعطي الفرصة لكي أسمع سخافاتك وهبلاتك ومُعاناتك الفارغة أحياناً ولكن لابد أن أسمعها لأنها مُعاناة، فصحيح هى سخافات عندي لكنها عندك ليست سخافات وإنما هى مرائر ومصائب وكوارث.
وهناك الحديث الذي أشرت إليه مرة والذي يقول “مَن عزّى مُصاباً فله مثل أجره”، وهو مُهِم في هذا الصدد، فتخيَّلوا أن أحدنا ذهب إلى حلب اليوم لكي يُعزِّي أخانا سمير الذي فقد اثني عشر شخصاً من أهله، هل من المُمكِن فعلاً أن يأخذ أجره؟! كيف هذا؟!
قد يقول لي أحدهم “هذا غير معقول وهذه الأحاديث الخاصة بكم هى غير معقولة”، لكن أنا أقول له “الحديث معقول وغير معقول”، فهو غير معقول بالمرة إذا فهمت فعلاً أن الله سيكتب لك أجراً مثل أجره بمُجرَّد قولك “عظَّم الله أجركم، لله ما أخذ ولله ما أعطى، والسلام عليكم” هذا مُستحيل، وبالتالي هذا يُعتبَر كلاماً فارغاً لأن هذا الرجل فقد اثني عشر شخصاً من أهله وصبر فمن أين لك أن تُعطى أجره بكلمة مثل هذه؟ النبي لم يقل هذا، وسوف يقول لنا أنا لم أقل لكم هذا، وإنما أنا قلت “مَن عزّى مُصاباً”، ومن ثم عليكم أن تفهموا كلمة “عزّى” كما هى بحرفها أو على حرفها، الآن كونوا حرفيين وكونوا ظاهريين، فمعنى عزّى مُصاباً أنه أحدث في نفسه عزاءً وسلواناً، إذن كيف سأُحدِث عزاءً وسلواناً في نفس إنسان فُجِع باثني عشر شخصاً من أهله؟!
حين يراني أبكي بصدق وبتعاطف – Empathy – حقيقي أمامه، حين يراني مهزوزاً وفي حالة صعبة جداً جداً جداً جداً، ثم أبدأ آتيه بالقصص والحكايات والآيات والأحاديث والأشياء حتي يحدث عنده نوع من الفرج الداخلي ونوع من العزاء والسلوان، فالنبي قال لي في هذه الحالة لك مثل أجره.
فلا يُمكِن إذن أن نُحيل كل شيئ في ديننا إلى طقوس حتى هذه الأشياء الاجتماعية فنقول لله ما أخذ ولله ما أعطى وننصرف بل ونقول عندنا مثل أجره، فما هذا؟ هذا مُستحيل، والنبي لم يقل هذا، وإنما قال” مَن عزَّى مُصاباً”، أي تُعزّيه حقيقة، فتُحدِث في نفسه عزاءً بدموعك وبمواقفك وبالتالي سوف يكون لك مثل أجره بإذن الله تبارك وتعالى.
هذه هى الرحمة إذن، ولذلك علينا أن ننتبه حتى لا نقطع على أنفسنا ولا نُفوِّت على أنفسنا فرص أن نتراحم، وعلينا أن ننتهز هذه الفرص لكي تنمو إنسانيتنا ولكي نستثمر في ذواتنا ولكي نقترب من ربنا تبارك وتعالى.
اللهم ألهِمنا رُشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا وارحمنا برحمتك الواسعة فإنك وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا۩، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا حاجةً من حوائج الدنيا لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها بمنّك وتفويقك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالسعادات والخيرات إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
اللهم ارحمنا في شهر رمضان واغفر لنا ذنبنا كله في شهر رمضان، اللهم وأعتِق رقابنا في شهر رمضان من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وأولادنا وذرارينا وقريبنا وصديقنا ومشائخنا وأحبابنا والمسلمين والمسلمات بفضلك ومنّك أجمعين يا أرحم الراحمين إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من أفضاله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

Mohamed Bouabdellah

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: