إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

 وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩  وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ۩ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ۩ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ۩ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۩ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين, اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

العلم في الإسلام ليس فضلةً من الفضلات وليس ترفاً يتمتع به قبيلٌ من الناس ويُحرَم منه آخرون، إنما هو شيئٌ أشبهُ بالفريضة وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار سعة المدلول لكلمة علم في كتاب الله والآية التي تلوتها عليكم من سورة فاطر تُؤكِّد هذه السعة بشكلٍ واضحٍ وتام لأن الله – تبارك وتعالى – يتحدَّث عن شؤوناتٍ كونية وأشياء لها علاقة بالمياه وبالحيوان وبالجبال وباختلاف ألوان الأشياء ثم يُعقِّب فيقول إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ۩ ولكن أي علماء يعني؟!

يعني العلماء في هذه الشؤونات، العلماء المُختَصين بهذه الحقول المعرفية المُختلِفة وهى حقولٌ كونية ولكن يتم ربطها بسرعة بحقل الإلهيات أو العقيدة الإسلامية أو الرؤية الإيمانية للكون والوجود والحياة عبر قوله كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ۩.

 هذا علمٌ يُورِث الخشية و يُورِث العِظة، ولذلك كان موقف الإسلام مُتفرِّداً ومُتميِّزاً جداً وقد عب عُباب بحر العلم والمعرفة بسرعةٍ لم تتفق لأمةٍ من الأمم، فأكثر المُؤرِّخين – أعني مُؤرِّخي العلم – اقتصاداً وتواضعاً في تقدير وتثمين الظاهرة الإسلامية بما يخص خدمة العلوم والمعارف والأفكار قالوا “على الأقل لا تُوجَد أمة تفوَّقت على الأمة الإسلامية، يُمكِن أن نتسامح ونقول هناك أمم سامتها وهناك أمم ضارعتها، أما أن تكون أمة سبقتها فلا”، فهؤلاء كانوا أكثر المُقتصِدين، أما الفريق الآخر فقالوا “هى الأمة الطراز المُعلَم والعلم الخفَّاق، إنها نسيج وحدها في قضية خدمة العلوم والأفكار والمعارف”، وطبعاً بديهي أنني لا أتكلَّم عن أمتنا اليوم فهى في مُؤخِّرة الأمم بكل جدارة للأسف الشديد ولكنني أتكلَّم عن الأمة في يومٍ من الأيام، يوم تلقّت عن ربها وعن نبيها – عليه الصلاة وأفضل السلام – بجدٍ واجتهادٍ ومسئولية.

 وقف – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً خطيباً فقال “مَا بَالُ أَقْوَامٍ لا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ وَلا يُفُقِّهُونَهُمْ وَلا يَفُطِّنُونَهُمْ وَلا يَأْمُرُونَهُمْ وَلا يَتَفَطَّنُونَ”، ثم قال عليه السلام “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُعَلِّمِنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ وَلَيَنْهَوْنَهُمْ وَلَيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَلَيَتَفَقَّهُنَّ وَلَيَتَفَطَّنُنَّ أَوْ لأُعَاجِلَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا” ثم نزل، فقالوا: مَن ترونه يعني؟!

أي عن مَن يتحدَّث عليه الصلاة وأفضل السلام؟!

علماً بأن هذا الموقف كان شديداً، فالنبي يُهدِّد بإنزال عقوبة – هذا شيئ عجيب – لأنهم لا يُعلِّمون والآخرون لا يتعلَّمون، القضية إذن ليست ترفاً وليست في وقت الفراغ عندما أُريد وإذا أحببت أن أتعلَّم، ليست كذلك لأنك مسلم، ومعنى ذلك أنت عالم أو مُتعلِّم، ولكن الأمة الآن ليست كذلك بالمرة للأسف الشديد إلا مَن رحم ربي وقليلٌ ما هم!

إذن بعد أن نزل النبي قالوا: مَن ترونه يعني؟!

فقال جماعةٌ “الأشعريين – يقصدون الأشعريين من اليمن، قوم أبي موسى رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فإنهم قومٌ فقهاء ولهم جيرانٌ جُفاةٌ من الأعراب وأهل المياه”، أي جهلة ولا يتعلَّمون ولا يفهمون شيئاً، فالنبي يعني هؤلاء ويعني جيرانهم الجُهلاء ولكنه بدأ بالتشديد والتثريب على الفقهاء، أي على الأشعريين الذين كانوا أصحاب علم وحكمة رضيَ الله تعالى عنهم.

فلما سمع الأشعريون بذلك أتوه – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقالوا: يا رسول الله ذكرت أقواماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟!

كأنهم يقولون: ما هى قصتنا أو جريرتنا وجريمتنا؟!

فأعاد عليهم قوله بحذافيره الذي تلوته عليه قُبيل قليل “مَا بَالُ أَقْوَامٍ لا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ وَلا يُفُقِّهُونَهُمْ وَلا يَفُطِّنُونَهُمْ وَلا يَأْمُرُونَهُمْ وَلا يَتَفَطَّنُونَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُعَلِّمِنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ وَلَيَنْهَوْنَهُمْ وَلَيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَلَيَتَفَقَّهُنَّ وَلَيَتَفَطَّنُنَّ أَوْ لأُعَاجِلَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا”، فقالوا: يا رسول الله أتأمرنا إذن أن نعظ جيراننا؟!

أي هل هذا الذي تُريد؟!

فأعاد عليهم قوله “مَا بَالُ أَقْوَامٍ لا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ وَلا يُفُقِّهُونَهُمْ وَلا يَفُطِّنُونَهُمْ وَلا يَأْمُرُونَهُمْ وَلا يَتَفَطَّنُونَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُعَلِّمِنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ وَلَيَنْهَوْنَهُمْ وَلَيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَلَيَتَفَقَّهُنَّ وَلَيَتَفَطَّنُنَّ أَوْ لأُعَاجِلَنَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا”، أي أن النبي كان يُشدِّد، فأعادوا عليه الثانية: أنعظ جيراننا؟!

فأعاد عليهم قوله، فقالوا “فأمهِلنا سنةً يا رسول الله”، وهذا يدل على توافر حس المسئولية لديهم فلم يقولوا “نحن لها وسنُعلِّمهم” وإنما وضعوا تقريباً خُطة أو تصوَّروا خُطة مُعيَّنة، كأنهم يقولون “الأمر يحتاج إلى سنة أو إلى اثني عشر شهراً وسننقطع إليهم وسنُعلِّمهم شيئاً فشيئاً وبعد ذلك أنت ستختبر النتيجة ولعلك ترضى عنا”، فهنا يُوجَد إحساس حقيقي بالمسئولية وليس مُجرَّد تفاعلاً دراماتيكياً وقتياً فيقول الواحد منهم الآن سأقرأ وسأتعلَّم ثم أترك بعد يوم أو يومين، وإنما إحساس حقيقي، فهذا تكليف ديني رسولي ومن ثم قالوا “فأمهِلنا سنة”، فأمهلهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – سنة، ونحن أمة الكتاب الذي نزل فيه لعنٌ في حقِ مَن تعلَّم علماً فكتمه، قال الله أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۩، تغليظ فظيع راعب، فالله يقول يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ۩وكفى بلعنته لعنة، وإلى لعنة الله لعنات اللاعنين، ولكن مَن هم اللاعِنُونَ ۩؟!

قيل “الأنبياء”، وقيل “الملائكة”، وقيل “المُؤمِنون كلهم”، وقيل “كل الخلق إلا الإنس والجن”، وقيل “دواب الأرض وهوامها وحشراتها”، فهذا هو معنى قوله  وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۩، جمعهم بالواو والنون جمع مَن يعقل كما في قوله تبارك وتعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ۩، وكان حقها أن يقول رأيتهم أو رأيتها – أي رأيت هذه الكواكب والشمس والقمر – لي ساجدةً، لأنها لا تعقل ولكن جمعها جمع مَن يعقل لنُكتة معروفة وقال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ۩، فتكلَّم عنهم تبارك وتعالى – أي عن هذه العجماوات والحشرات والهوام – وجمعها جمع العاقل، قال الحسن في قول الله  وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۩هم كل العباد، أي أن كل عباد الله هم اللاعنون، أما مَن قال بأنها دواب الأرض والهوام والحشرات فقال “تقول العن بني آدم فبسببهم مُنِعنا القَطر – القَطر وليس القِطر، فالقَطر هو المطر أما القِطر هو النُحاس المُذاب – بسبب شؤم هؤلاء”.

وطبعاً القضة الآن يُمكِن أن تُفسَّر حتى تفسيراً علمياً يتعلَّق بإفساد الإنسان في الأرض وعدم إصلاحه في البيئة وأنانيته ودورانه حول مصالحه الموقوتة وعدم استرشاده بحاجات وضرورات المُستقبَل والأجيال الآتية فيُفسِد البيئة ويُفسِد المُحيط الحيوي الذي تعيش فيه النباتات والحيوانات، فيستحق الإنسان إذن اللعنة، ولذلك في المُقابِل العالم يستغفر له مَن وماذا؟!

يستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في البحر وحتى النمل في جحورها.

وهذا قطعاً العالم بالمعنى الأعم لكلمة علم ويدخل فيه العالم الشرعي، لأن العالم الشرعي لا يأمر إلا بالصلاح وبالإصلاح وبالرحمة، قال الله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ۩،الإحسان إلى البيئة وإلى الحيوان وإلى النبات يدخل كله في الإحسان لعموم قوله عليه السلام إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيئ، فليس الإحسان في العبادة والذكر فقط والصلاة وإنما في كل شيئ، وهذا هو المعنى الأعم والمعنى الأوسع، ولذلك صحَّ عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – الحديث الذي تعرفه العامة والخاصة وهو الحديث الذي أخرجه أهل السنن إلا أبا داود والإمام البيهقي ومنه قبله الحاكم وصحَّحه على شرط الشيخين ومِن قبلهما الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أنه قال عليه الصلاة وأفضل السلام مَن سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار، الله أكبر، ولذلك نشط المسلمون إلى اكتساب العلوم والمعارف والتعمّق فيها والتوسّع فيها كما نشطوا في الوقت عينه وذاته في نشرها وتعميمها وتكثيرها ومُبارَكتها بمُدارَستها وإخصابها ومُلاقَحتها ومُحاوَرتها، فكان هناك ما يُعرَف بالتبادل الحر للأفكار في المُجتمَع الإسلامي، ولعلكم سمعتم قصة النفر العشرة الذين حدَّث عنهم أحد الأفاضل من علماء المسلمين ونُبهائهم حين قال كنتُ أرى عشرةً يجتمعون في أحد مساجد البصرة لم تر العين مثلهم، يجلسون يتدارسون ويتحاورون ويتجادلون ولا يُعكِّر صفوهم شيئٌ كأنهم إخوة، ولكن مَن هم العشرة؟!

العشرة كلٌ ينتمي إلى طائفةٍ ودين ولكنهم يجتمعون في مسجد واحد، أحدهم مسيحي والآخر يهودي والآخر مسلم سُني والآخر مسلم شيعي والآخر زنديق – ابن عبد القدوس زنديق – والآخر ثانوي والآخر مجوسي والآخر صابئي حراني وإلى آخره، وهكذا كان العشرة!

قبل يومين سألني أحد الإخوة الأساتذة الأفاضل وقال لي: هل آذن لأخ مسيحي أن يأتي – عربي – ويحضر دروسك؟!

فقلت له: هذا يُسعِدني ويُشرِّفني، كيف لا آذن؟!

ثم قلت: هذا شرف وسعادة كُبرى، فواجبنا نحن أن نذهب إليهم وأن نُبلِّغهم ما عندنا وأن نتدارس، فإذا لم نفعل – ونسأل الله أن يغفر لنا فهذا شيئ عظيم نقع فيه – على الأقل هو يأتينا فهل من المعقول أن نقول له لا؟!

في القديم لم يكونوا هكذا وإنما كانوا يأتون ويتحاورون، فيأتي المسيحي ويُحاوِر المسلم ويأتي اليهودي ويُحاوِر المسيحي والمسلم، ويأتي الزنديق ويُحاوِر أهل الأديان والمِلل في مساجد المسلمين، أي وُجِد قديماً تبادل حر للأفكار، ولذلك الآن تتساءلون: أين المُعتزِلة؟!

لا يُوجَد مُعتزِلة الآن!

ماذا تعرفون عن الفكر الصابئي وعن أعلام الفكر الصابئي؟!
لا أحد ، لا نعرف صابئياً واحداً، فلا يأتي مساجدنا صابئي ولا غير صابئي، ولا نعرف عن الصابئة شيئاً أصلاً إلا ما يذكره المُفسِّرون وهى أقوال غير مُحرَّرة وغير دقيقة بالمرة ولا تحكي شيئاً عن حقيقة الصابئة وهى مذهب كبير وعندهم كتابات ودراسات لكن لا يُوجَد أي تبادل، فقط يقولون لك المُعتزِلة موجودن في بطون كُتبنا، نعم موجودون كجثث والأفكار الاعتزالية موجودة كجثث، ونحن نحكيها ونُمارِس عليها قوتنا ومهارتنا وحذاقتنا، فتأتي أنت – مثلاً – بالفكرة الجثة – أنا أسميها الفكرة الجثة – وتقول “هذه هى الفكرة، انظروا لا تسمع إذن هى فكرة فاشلة، انظروا إلى هذه الفكرة التي لا تُبصِر ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها، إنها ضعيفة مشلولة شلّاء عوجاء، إذن هى فكرة زائفة فلنطردها ولنشجبها”، إذن هى فكرة جثة أما التبادل الحر للأفكار فيكون للأفكار الحية، ومن هنا أنا أُؤمِن بضرورة وجود مُعتزِليٌ حي يُناقِش شيعياً أو يُناقِش سُنياً أو يُناقِش صابئياً وإلى آخره، أي أحياء يتناقشون فالأمة كانت هكذا وكانت قادرة على توليد الفرق والمذاهب والأفكار والفلسفات والاتجاهات والأيدولوجيات المُختلِفة وأحياناً المُتطاحِنة، فُوجِد حراك فكري حقيقي وكانت أمة عظيمة في كل شيئ، الأدب كان في ذراه والفكر الشرعي التأصيلي وأصول الفقه والحديث والاعتقاد وعلم الكلام وعلم المُناظَرة وعلم أصول الفقه كلها كانت علوماً في الذروة أيضاً وكانت موّارة وعارمة النشاط، والعلوم الإنسانية كانت كذلك والعلوم الكونية كانت مُمتازة إلى نهاية القرن الخامس الهجري، أي وُجِد حراك فكري وعلمي حقيقي لأن الجو كان مُتاحاً بسبب التبادل الحر للأفكار، لكن اليوم إذا خرج مُفكِّر في هذا البلد العربي أو في ذاك أو ذياكم البلد ولاحظوا أنه  – مثلاً – مُتأثِّر بطريقةٍ ما بمنهج الاعتزال أو بالفكرة الاعتزالية مُباشَرةً يُوصَم بالمُعتزِلي ويُقال عن أنه من المُعتزِلة الجُدد وتُؤلَّف الكتب والكُتيبات السخيفة عن المُعتزِلة الجُدد، فيُراد أن يُطحَن ويُراد أن يموت ويُسحَق لأن هذا يُعَد ممنوعاً، فنحن نخشى التبادل الحر ونخشى المُحاوَرة ونخشى المُدارَسة، ومن ثم كل واحد يستعرض عضلاته ولكن وحده في الميدان، فيأتي السُني ويتكلَّم بإسم المُعتزِلي وبإسم الشيعي وبإسم الزيدي وبإسم الصابئي والنصراني وحده طبعاً ويقول لك أنا أستند إلى الكتاب والسُنة، ونفس الشيئ يحدث مع الزيدي الذي يقول أنه يستند إلى الكتاب والسُنة، وكذلك الشيعي الإمامي الذي يقول أنه يستند إلى الكتاب والسُنة، وكذلك الإباضي الذي يقول أيضاً أنه يستند إلى الكتاب والسُنة، وهذا كله كلام فارغ، هذا كلام صبيان وليس كلام مُفكِّرين وعلماء كبار أبداً إن كنا نُريد تبادلاً حراً للأفكار.

نحن لا نطمع في التبادل الحر للأفكار فقط في الدائرة الإسلامية وهو مُنعدِم تقريباً، فعلاً مُنعدِم، وإلا أين هو؟!

لا نكاد نلمسه، وهذه المُؤتمَرات التي تُعقَد هنا وهناك هى مُؤتمَرات دعائية وحرق بخاخير ومُجامَلات ومسح جوخ فيقولون “نحن إخوة وأحباب وديننا واحد ولا مجال للخلاف” ثم نمضي وهذا كلام فارغ، علماً بأنهم يعترفون بهذا، لكن نحن نُريد تبادلاً حقيقياً ونُريد تطاحناً وتجاذباً حقيقياً تشهده العامة والمنابر ومجالس العلم كما كان في السابق، فهكذا كان يحدث قديماً، والأئمة الأربعة كانوا يحظون بهذه المُناسَبات، فيدخل المُخالِف أمام الناس ويُناقِش الإمام والإمام يرد عليه وهذا يرد أيضاً وهكذا، وكان هذا يحدث في مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء، وأحياناً الفيلسوف يُناقِش الشرعي أو الفيلسوف يُناقِش الشاعر أو الشاعر يُناقِش الفقيه أو النحوي يُناقِش الفقيه، فالمُناظَرات كانت كثيرة جداً جداً جداً وأُلِّفَ فيها كتباً من ألطف ما يكون.

أحد النُحاة – مثلاً – يُناقِش الإمام أبا يوسف، وأبو يوسف الكندي الفيلسوف – فيلسوف العرب – يُناقِش الشاعر الحبيب بن أوس الطائي –  أبا تمَام –  نقاشاً من ألطف ما يكون، وأبو تمّام يقف في حضرة الأمير الذي سيُصبِح خليفة عما قريب وهو أحمد بن المُعتصِم ويقول له:

مَا في وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسِ                تَقْضِي ذِمامَ الأَرْبُعِ الأَدْرَاسِ 

إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ               في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ

شاعر عجيب، فهذا هو أبو تمّام طبعاً الذي هو نسيج وحده وأعجز الشعراء في عصره، فعلى الفور يقول له أنت في ساعة واحدة تُثبِت وتُبرّهِن أنك مُتصِف وأن فيك ذوبُ هؤلاء العظام الأربعة، فأنت مثل عمرو بن عبد ود في شجاعته وحاتم الطائي في كرمه وسماحته ونداه والأحنف بن قيس في حلمه وترزنه والقاضي الشاب الشهير إياس بن مُعاوية في ذكائه، فهو من أذكى العرب على الإطلاق، ومن هنا قال له أنت هؤلاء الأربعة ولكن في شخص واحد، أي جمع الله العالم في واحد.

إذن هو قال:

مَا في وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسِ                تَقْضِي ذِمامَ الأَرْبُعِ الأَدْرَاسِ 

إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ               في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ

فقام له الفيلسوف أبو يوسف الكندي، وأبو يوسف الكندي هو فيلسوف العرب لأنه الفيلسوف العربي الوحيد الذي أنجبناه، لكن جاء بعد ذلك أبو حامد وهو ضد الفلاسفة، علماً بأن ابن رشد أيضاً فيلسوف عظيم ولكن أبو يوسف عُرِف بفيلسوف العرب لأن عنده أصالة حقيقية فلم يكن مُجرَّد شارح كابن رشد مع أصالة ابن رشد طبعاً، وعلى كل حال قام الفيلسوف أبو يوسف الكندي لأبي تمام وقال له “أيها الشاعر ما زدت على أن وصفت الأمير بأوصاف أجلاف العرب وشبَّهته بهم، والأمير فوق ما وصفت فلقد أساءت جداً”، أي أنه يقول له أن هذا الكلام يُعَد كلاماً فارغاً فهو نوع من التملق أيضاً وذلك لأنه أراد أن يُحرِجه، فوقف أبو تمّام هكذا هُنيهةً وهو يُفكِّر مُتأثِّراً لعدة دقائق ثم قام وقال أمام أحمد بن المُعتصِم وأمام الفيلسوف الكندي:

لا تُنكِروا ضربي لهُ منْ دونهِ                        مَثَلاً شَرُوداً في النَّدى والبَاسِ

 فاللَّهُ قد ضَرَبَ الأقلَّ لِنُورِهِ                             مَثَلاً مِنَ المِشْكَاة ِ والنبْرَاسِ

الله أكبر، والله العظيم هذا الموقف بحياة عالم كبير من علماء العصر، فالعالم من هؤلاء يعيش سبعين سنة ولكن كله على بعضه هو وعلمه لا يسوى هذا الموقف العبقري النابغ، فما هذا يا أخي ؟!

ما هذه الأمة العجيبة؟!

هذه أمة مُتدفِّقة وعارمة النشاط والعبقرية وبادية الذكاء، هذه أمة عباقرة، فهو من فوره على البديهة قال “هذا صحيح، فلابد أن أعترف أن خليفة الغد وأمير اليوم هو أعظم من هؤلاء الأربعة – وفي الحقيقة هو ليس أعظم من أي أحد من هؤلاء ولكن هذا هو التملق – فأنا شبَّهته بمَن هم أقل وأدنى منه ولكن الله – تبارك وتعالى – شبَّه نوره بنور المصباح – الله قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ  – أو النبراس، أي مصباح بفتيلة وموضوع في حائط في كوة، وهذا المصباح لا شيئ بالنسبة لنور الله”.

إذن هو قال :

لا تُنكِروا ضربي لهُ منْ دونهِ                        مَثَلاً شَرُوداً في النَّدى والبَاسِ

 فاللَّهُ قد ضَرَبَ الأقلَّ لِنُورِهِ                             مَثَلاً مِنَ المِشْكَاة ِ والنبْرَاسِ

فقال أحمد بن المُعتصِم “مهما يطلب فأعطوه”، كأنه يقول أعطوه أي شيئ يطلبه ولو وصل الأمر إلى مائة ألف دينار كمُكافأة على هذا الذكاء، لكن لو كان هذا الرجل يعيش اليوم لقيل عنه أنه مُتحذلِق ومُتفلسِف وشاعر غاوٍ، لأن الأمة اليوم تُحقِّر العبقرية وتُحقِّر الذكاء وتُحقِّر النبوغ إلا مَن رحم الله، فاليوم أقل لاعب كرة أشرف من أكبر عالم عندنا، فمَن يعرف اليوم علماء الإسلام الحقيقيين الكبار؟!

مَن يُقدِّر هؤلاء العلماء إذا عرفهم؟!

مَن يعرف فلاسفة العرب اليوم ومُفكِّري العرب الكبار وهذه الشخصيات النابغة النابهة وهى قليلة؟!

مَن يعرف هذه الشخصيات ويُقدِّرها؟!

مات  مُترجِم القرآن إلى الإنجليزية الهندي يوسف عليّ – رحمة الله عليه – الهندي – علماً بأن أعظم ترجمة على الإطلاق إلى الإنجليزية هى ترجمة يوسف عليّ – في لندن في شقة صغيرة جداً، فتكاد تأكله أغراضه وأشياؤه وأمتعته، ولم يجد ولم يُوجَد مالٌ يُدفَن به وتبرَّعت الحكومة البريطانية لدفن الرجل، فما شاء الله علينا وعلى أمة محمد الذكية العجيبة التي تحترم علماءها وقاداتها!

يوم مات مُحقِّق التراث النحوي الصرفي والعالم الذي كتب كتابات وحقَّق تحقيقات غير مسبوق إليها المُحقِّق المصري العظيم مُحي الدين عبد الحميد – رحمة الله تعالى عليه – كان في صوان العزاء أو سرادق العزاء عدد من الأنفار الذي يُعدون على أصابع اليد، واتفق – سبحان الله – بحكمة الله التي تُريد أن تهزأ منا وأن تسخر منا فأقامت منا مسخرةً ومسرحية لاهية كوميدية موت جاره مُباشَرةً الذي كان يسكن إلى جانبه وكان يعمل مُغنياً – Singer – فلم يجد الناس ما يجلسون عليه ومن ثم أخذوا يعزونه وقوفاً وهم يأكلون بعضهم بعضاً، ومع ذلك يقولون لك أمة محمد بخير، والصحيح هو أن أمة محمد في انحطاط رهيب، فاليوم أقل لاعب كرة قدم – والله العظيم – أكبر من أكبر فيلسوف وأكبر من أكبر علّامة وأشهر من أشهر مُفكِّر، وانظروا إلى المُغنيين والمُغنيات في عالمنا العربي، فلو قالوا للناس تعالوا لأن العالم أو الدكتور أو الفيلسوف الفلاني سيُلقي مُحاضَرة لن يحضر أكثر من خمسمائة أو ستمائة أو ألف أو ألفان شخص، لكن لو قالوا للناس أن  فلان الفلاني المُغني أو علانة العلانية المُغنية ستحضر إلى مكان ما فسوف سيصل عدد الناس إلى عشرات الألوف، ولو اتسع المسرح ربما يصل العدد إلى مئات الألوف وقد يُصاب بعضهم بالإغماء من شدة الفرحة – فليذهب إلى إلى جحيم الله إذن – فيفقد الوعي من شدة الوجد الفني بسبب هذا الفن الهابط وهذه الشخصيات الهابطة التي لا أصوات لها ولا موسيقى ولا أداء ولا لحن ولا أي شيئ، لا يُوجَد إلا الهبوط والانحطاط فقط.
عبد الرزّاق السنهوري – رحمة الله تعالى عليه – مُقنِّن وواضع أسس القوانين المدنية  في خمس أو ست بلاد عربية وبما فيها مصر وأكبر دماغ قانوني ومع ذلك يُؤجَّر له مجموعة عمّال مأجورين مدفوعين فيدخلون عليه في مكتبه في مجلس الدولة ويضربونه بالأحذية – أكرمكم الله – على أم دماغه – على رأسه – فيُصاب  بالشلل من الغيظ والهم ويموت مشلولاً، أكبر دماغ عربي يُضرَب على رأسه، ثم يخرج هؤلاء الأوغاد المدفوعين بإسم كذا وكذا إلى الشارع ويهتفون “يسقط العلم، يحيا الجهل”، فهل سمعتم بمثل هذه المُظاهَرة؟!

في بلادنا العربية والمسلمة  تحصل هذه المُظاهَرة، في مصر حصل هذا وخرجوا يهتفون “يسقط العلم ويحيا الجهل”، وهذا ذكَّرني هذا بشيئ مثله في العجب حيث خرجت مُظاهَرات هتف فيها الفاشيون في إسبانيا بالذات ضد الفيلسوف الإسباني العظيم والإنساني  أونامونو Unamuno، وكان هتافهم بشكل عام هو “تسقط الحياة، يحيا الموت”،ومن هنا أنا أقول لكم “الهتافان مُتعادِلان تماماً” لأن هتاف “يسقط العلم، يحيا الجهل” يُساوي – والله العظيم – هتاف “تسقط الحياة، يحيا الموت”، لأن منجل عزرائيل والموت يشتغلان حين يُخيِّم ويرين الجهل، فتشهد المُفرّقَعات والذين يقتلون أنفسهم والذين يصدرون الفتاوى بالتكفير والذبح وقطع الرؤوس والسلخ والنفخ والتقوير والتثقيب والتخزيق بالحفارات Drillers، فكل هذا يحدث في ظل الجهل وإن كان يقع بإسم العلم، فهذا ليس علماً بل هو جهل حقيقي، لأن إذا سقط العلم وحيي الجهل سقطت الحياة وانتعش الموت، فستُصبِح سوق الموت رائجة – أي تروج سوق الموت – ويحصد المنجل – منجل ملك الموت -ألوف الشخصيات.
أيها الإخوة والأخوات:

أُحِب أن أتحدَّث عن التبادل الحر للأفكار والخبرات للعبقريات البشرية على مُستوى العالم وليس على مُستوى الأمة الإسلامية فهو – كما قلت – شبه مُنعدِم من أسفٍ وأسف شديد مُمِض حارق، وأتساءل اليوم: لو كان هذا الحصار الظالم الفاجر – إي والله هو فاجر إنسانياً وفاجر سياسياً وفاجر حقوقياً وفاجر دولياً – على غزة – جبّار المُتوسِّط كما لقبتها مرة – كان قبل – مثلاً – ألف سنة هل سيُؤثِّر تأثيره اليوم؟!

لن يُؤثِّر ولو بمقدار واحد من الألف من تأثير اليوم، فالمدن والقرى والبلدات قبل ألف سنة كانت شبه معزولة تقريباً وإن كان هناك تبادلات ولكنها كانت في نُطق ضيقة إلى حدٍ ما، فلا يُمكِن أن يُقارَن التبادل للسلع وللأفكار وللبضائع وللشخصيات حتى وللخبرات بما يحصل اليوم، فالتبادل الذي كان قبل ألف سنة أو خمسمائة سنة أو حتى مائتين سنة ليس كالتبادل الذي يحصل اليوم، مُستحيل أن يُقارن به ومع ذلك نحن اليوم نعيش ولا نكاد نتفطَّن لهذا الشيئ، ونمخر عُباب هذه النعم الجمة السابغة السوابغ دون أن نتفطَّن لأعجوبة ما نحن فيه، فنحن نعيش في عجائب لا نتفطَّن إليها ونعتبرها شيئاً طبيعاً وهى ليست طبيعية بأي معنى من المعاني، فليس طبيعياً أن تذهب إلى المكتبة وتدفع خمسة يورو وتأخذ كتاباً في الفقه أو في الأصول أو في الفلسفة أو في الفكر أو في الفيزياء – Physic – أو في الاسترونومي -Astronomy – أو في أي شيئ تُريده، هذا ليس طبيعياً بالمرة بل هو يُعَد مُعجِزة!

في العصور الوسطى الإسلامية المُذهِلة المُنيرة تقريباً بعض الموسوعات العلمية كان لا يستطيع أن يمتلكها ويحتازها إلا خليفة أو سُلطان أو ملك أو أمير أو رجل مُثرٍ، وهذا ينطبق على الموسوعات الكُبرى على الأقل كالأغاني للأصفهاني وهذه قصته على كل حال،  حيث دُفِع فيه وزنه ذهباً، ربما وصل المبلغ إلى خمسة آلاف أو ستة آلاف ذهبية، اشترى هذا الكتاب ملك مسلم في الأندلس – أمير المُؤمِنين هناك – فقُرِئَ في الأندلس قبل أن يُقرأ في بغداد بعد أن دُفِع فيه وزنه ذهباً، لكن اليوم لم يحدث في الغرب أن يُدفَع في كتاب وزنه ذهباً فلا يُوجَد ضرورة لذلك طبعاً لأن هناك المطابع، لكن في الماضي لكي تمتلك كتاباً ذا قيمة كان ذلك أمراً مُرهِقاً، فهذا الكتاب يصنعه ناسخٌ واحد أو مجموعة من النُسّاخ إن كان كبيراً جداً فينسخونه حرفاً حرفاً وهم مُؤتمَنون على ما هم فيه وإلا فقدوا صدقيتهم المهنية، فهذا مُكلِف جداً جداً جداً، ربما يُكلِّف الناسخ هذا – مثلاً – عمل سبعة أيام مُتواصِلة ليل نهار، وأحياناً يُكلِّفه عمل سبعة أشهر مُتواصِلة إذا كان يعمل على موسوعة كبيرة، فإذن هذا كان مُكلِّفاً جداً جداً جداً، لكن اليوم تستطيع أن تأخذ كتاباً بخمسة يورو وتستطيع أن تأخذ موسوعة عظيمة جداً بسبعين يورو وهذا شيئ عجيب، فمن المُمكِن أن تحصل على موسوعة إسلامية في خمسة عشر مُجلَّداً مثل فتح الباري بسبعين يورو أو بستين يورو أو بخمسين يورو في ظل التخفيضات، لكن كيف هذا؟!

طبعاً لكي نفهم هذا لابد أن نفهم أشياء كثيرة فالأمور مُعقَّدة جداً جداً جداً، وسأُوضِّح هذا الآن لأن الفكرة على بساطتها تحتاج إلى توضيح، ففي العصور الغابرة كان الملوك يخدمهم الكثير من الطُهاة في مطابخهم، مثل السلطان بايزيد في السياق الإسلامي لدينا ومن قبله المُعتصِم وابن المُعتصِم وإلى آخره، وأيضاً مثل لويس الرابع عشر Louis XIV في أوروبا حيث كان يخدمهم في مطابخهم مئات الطُهاة، فلويس الرابع عشر Louis XIV  كان عنده أربعمائة وثمانية وتسعون طاهياً وكانوا يتواجدون كل ليلة وكل يوم في مطبخه لكي يُعِدّوا له وجبةً واحدة، وطبعاً لا يستطيع هذا إلا مَن كان مثل لويس الرابع عشر Louis XIV – أو لوي الرابع عشر كما يقول الفرنسيون – فيدفع لكل هؤلاء مالاً، لكن اليوم أنت تستطيع هذا حين تذهب إلى أي مطعم فاخر قد لا يُكلِّفك أكثر من سبعين أو مائة يورو فيخدمك مئات الناس، فإذا أردت أن تُسلسِل سوغ ترى أن هناك مئات الناس يخدمونك، وسأُوضِّح هذا بفكرة أُخرى أيضاً، فتصوَّروا لو أن هذا المحمول – Handy – الذي نحمله  عُرِضَ على خليفة أو على ملك مثل  شارلمان Charlemagne في أوروبا – مثلاً –  أو مثل هارون الرشيد في وقته وقيل له: هذا جهاز صغير تستطيع أن تُهاتِف به قادتك في الميدان في أي بلد آخر وقتياً لحظياً، وتستطلع منهم آخر الأنباء وتُكلِّمهم، كم تدفع فيه؟!

سيقول: هل يكفي أن أدفع نصف المملكة لكي أحصل عليه؟!

من المُمكِن أن يعطيك نصف المملكة لأنه يفهم أنه سيُدير بهذا بعد ذلك عشر ممالك، لكن اليوم نحن ندفع فيه خمسين يورو أو ثلاثين يورو أو باشتراك قد تأخذه مجاناً Free، فهذا الجهاز البسيط جداً جداً جداً ماذا يعني ويُساوي إذن؟!

مَن الذي صنع هذا الجهاز لخدمتي وخدمتك؟!

ألوف ألوف ألوف وقد يكون ملايين الناس، فلا أحد تقريباً يستطيع أن يصنعه وحده، رئيس أعظم شركة تصنع المحمولات لا يستطيع أن يصنعه ولا يصنع أي شيئ فيه تقريباً لأن هذا المحمول يُساوي أشياء لها علاقة بالسيليكون Silicon وأشياء لها علاقة باللدائن والبلاستيك Plastic وأشياء لها علاقة بالمعادن  – إذن بالبترول أيضاً مُهِم في هذه الصناعة – وأشياء لها علاقة بالترانزستور Transistor والبث اللا سلكي والأشعة تحت الحمراء والبلوتوث Bluetooth والأشعة الزرقاء، هناك خمسون ألف فكرة تعاورت وجاءت وصنعت هذا الجهاز الصغير جداً جداً، فهذه الأفكار لو أردنا أن نُسلسِلها سنجد أنها تعود إلى أمم كثيرة جداً جداً جداً عبر مئات السنين، فكيف تراكمت في نهاية المطاف وانتهت ومكَّنت الإنسان أن يُبدِع هذا المحمول؟!

 هناك مصانع لكي تصنع المحول، فيُوجَد مصانع تختص باللدائن ومصانع بالسيليكون Silicon ومصانع بالترانزستورات Transistors ومصانع بغير ذلك، فالمصانع كثيرة جداً جداً، والعامل الذي يقف في خط الإنتاج كما يُقال وهو شيئ بسيط جداً لكنه لا يفقه منه شيئاً وتجده يحتسي القهوة، هذه القهوة مَن الذي يزرعها ويلقطه ويحصدها ويُعيد إنتاجها حتى تصل إليه ويشربها لكي يُؤدي عمله؟!

فكِّر بهذه الطريقة، فكل هؤلاء يجتمعون لكي يخدموني ويخدموك، فهم الذين يُوفِّرون لك هذا الجهاز البسيط جداً في يدك، لكن كيف أمكننا أن نصنع هذا؟!

بالتبادل الحر للخبرات والأفكار وبمُراكَمة الجهود البشرية، فهذه هى الميزة أو إحدى الميزات الأساسية للإنسان والإنسانية، فالحيوان ليس عنده هذا، ومن هنا الإسكتلندي آدم سيمث Adam Smith – صاحب ثروة الأمم ويُقال عنه أنه أبو الاقتصاد العلمي الحديث – يقول “لم يشهد شخصٌ ما في يومٍ ما كلباً ما يقوم بتبادل عادل لعظمة مع كلبٍ ما”، وهذا الكلام عظيم جداً جداً جداً في فلسفة الاقتصاد وعميق إلى أبعد درجات العمق!

ديفيد ريكاردو David Ricardo أحد أعلام الاقتصاد الكلاسيكي الشهيرين جداً في ألف وثمانمائة وسبعة عشر في أول القرن التاسع عشر كتب مرة يقول “آدم Adam يحتاج إلى أربع ساعات لكي يصنع الرمح أو الفأس اليدوي -Hand axe – ويحتاج إلى ثلاث ساعات لكي يصنع بلطة، إذن هو في حاجة إلى سبع ساعات، وأوز Oz يحتاج إلى ساعة لكي يصنع الرمح وإلى ساعتين لكي يصنع البلطة، والاستنتاج الذي يُمكِن أن يصل إليه أي واحد منا هو أن أوز Oz أفضل مِن آدم Adam وأنه لا يحتاجه فهو يستطيع أن يصنع بلطته ورمحه وحده دون أن يحتاج إلى أوز Oz لكن هذا غير صحيح”، فاجاءنا العبقري ريكاردو Ricardo وقال “لو قاما بتبادل  – أنتم قوموا بهذه العملية البسيطة جداً التي من المُمكِن أن يقوم بها ابنك وهو في الصف الأول – وصنع الأول بلطتين فسوف يحتاج إلى ست ساعات وصنع أوز Oz فأسين فسوف يحتاج فيهما إلى ساعتين – مثلاً – أو حتى لو استغرق ساعتين في الرمح فسوف يحتاج إلى أربع ساعات، ثم قاما بالتبادل – استبدل هذا رمحاً ببلطة وهذا بلطةً برمح – فسوف يجد كل منهما نفسه قد وفَّر ساعة”، أي أنه سوف يكسب ساعة وبإمكان أي أحد أن يفعل هذا ببساطة، هذه هى الفكرة العبقرية من وراء التبادل، أي تبادل الخبرات والتقنيات والأفكار والمعلومات، فهذه فكرة غير عادية ووفَّرت لنا وقتاً للرخاء ووقتاً للتخصّص فنتخصَّص أكثر طبعاً، إذن أنا سأظل بعد اليوم أصنع الرماح وأنت ستصنع البُلط، وبعد سنة سأُصبِح أنا مُتمرِّساً أكثر في صنع الرماح وأنت مُتمرِّساً جداً في صنع البُلط، فأكسب أنا وتكسب أنت وأكسب دائماً على طول الخط وقتاً جديداً أُراكِم به خبرات جديدة وآتي بنقود جديدة، وأنت تكسب في المُقابِل الشيئ نفسه، فكلانا سوف يكسب ولن يخسر أي أحد بالتبادل، لكن حين ننغلق وحين نجمد كلانا يتأخَّر، فهذا الشيئ لابد أن ننتبه إليه وربما أعود إلى فكرة التأخّر لكي أُناقِض ريجيس دوبريه Régis Debray الذي أننا لا نتأخَّر، وهذا غير صحيح لأننا في هذه الحالة نتأخَّر، ويُمكِن أن نتأخَّر وأن ننحط تقنياً أيضاً، علماً بأننا سنُبرّهِن هذا بعد قليل، إذن هذا هو التبادل المُفيد لكلا الجانبين!

سأتحدَّث عن الكتاب الذي بدأت به خُطبتي اليوم أو مُحاضَرتي اليوم، فليس شيئاً عادياً أن تمتلك كتاباً وأن تجلس في الليل وتُضيء المصباح أو النواسة وتقرأ في الكتاب، إذا جلست بالنهار فقد يكون أمراً عادياً لكن أن تفعل هذا في الليل فهذه الفعلة تُعَد عجيبة من عجائب الحضارة والميزة الإنسانية، هذه هى ميزة التبادل الحر للأفكار والمنافع والخبرات، ولكن كيف؟!

قبل مائتي سنة  لو أردت أن تفعل هذا وحدك لكلَّفك ساعاتٍ وساعات، فكان عليك أن تذهب وتذبح خروفاً أو سخلاً ثم تستخرج دُهنه ثم تُعالِجه بطريقة مُعيَّنة ثم بعد ذلك تصنع منه شمعةً صغيرة بفتيل فتقرأ ربما نصف ساعة أو ربع ساعة في كتابك، إذن هذا كان مُكلِفاً جداً، لكن في النمسا – مثلاً – اليوم في القرن الحادي والعشرين لكي أقرأ ساعةً على نوري سيُكلِّفني هذا من جُهدي كموظَّف مُتوسِّط الدخل يحصل على  ألف ومائتين يورو مثلاً ثانية عمل فقط، في حين أن في ألف وتسعمائة وخمسين  كان هذا يُكلِّف الموظَّف مُعتدِل الدخل في أوروبا ثماني ثوانٍ لكي يقرأ ساعة على نور مصباح في أوروبا هنا، إذن هو وفَّر سبع ثواني لرخائه، لكن في عام ألف وثمانمائة وثمانين كان هذا يُكلِّف المُوظَّف آنذاك خمس عشرة دقيقة كما يقول الاقتصاديون لكي يستغل ضوء شمعة تشتعل وتُشِع لساعة واحدة فقط، فكان عليه أن يحصل على ثمن شمعة ثم يشتريها ويقرأ عليها الكتاب أو يعمل أي شيئ ثانٍ يُريده إذن كان لا يُحِب قراءة الكتب فهو حر على كل حال، وفي سنة ألف وثمانمائة كان هذا يُكلِّفه عمل ست ساعات ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فهذا الشيئ يعيشه الناس الآن ولا يدرون به كما لو كان شيئاً طبيعياً فلا نحس بهذا، وإنما فقط نُولِّع الضوء ونقرأ الكتاب، لكن هذه مُعجِزة كبيرة جداً، فالبشرية في تقدّم هائل وعندها إمكانات فعلاً للتميّز وللرخاء ولاستخدام مواهب روحية وعقلية ونفسية أُخرى في أشياء أرقى بكثير من الضرورات المُوجِعة المُبتذَلة اليومية ولكنها لا تشعر بهذا، بمعنى أن أي عامل سنة ألف وثمانمائة لم يكن دخله ليُوفِّر له فقط القراءة على شموع لمُدة ساعة كل ليلة، فهو لا يستطيع هذا ومن ثم كان يجب عليه أن يشتغل ستة أشهر – مثلاً – لكي يقرأ لشهر واحد فقط إذا أمكن، لكن الآن نفعل هذا دون أن نُحِس به، فما الذي مكَّننا من هذا؟!

فكرة عبقرية بسيطة جداً جداً وهى فكرة التبادل، فتبادل الأفكار والخبرات ومُراكَمتها فعلت المعاجز!

قال الله في القرآن الكريم “قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩”، فالموضوع لا يقف عند هذه البداية العجيبة الإلهية التي تتعلَّق بأنه تعلَّم الأسماء ولكن الموضوع يكتمل باستخلاف أبناء آدم ليعمروا الأرض وليتعارفوا، قال الله “شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۩” وحرَّم عليهم كتم العلم وشدَّد جداً ووسَّع من دلالة ومدلول العلم نفسه والمعرفة، وكل هذا موجود أسسه ولكن نحن في عالم وهم في عالم، وكما قلت هذه ميزة مُتفرِّدة للإنسان، ولكن لماذا؟!

جماعات الشِمْبانزِي Chimpanzee عندها نوع بسيط جداً من الثقافة، فسؤال  لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ أصبح مشكوكاً فيه، لأن يبدو أن الإنسان لا ينفرد، فكل هذه  الـ Chimpanzees بكل أنواعها تأتي على الطبيعة ولا تستطيع أن تلقط بعض الثمار ولا تعرف كيف السبيل إلى هذا ولكنها تكتسب هذا من تعليم والديها، فالشِمْبانزِي Chimpanzee أبوه يُعلِّمه وأمه تُعلِّمه كيف يقذف بالحجر فتسقط الجوزة أكثر من مرة، ثم تُعلِّمه كيف يقذف جوزة بجوزة وكيف يكسرها، إذن هو  يتعلَّم هذه الأشياء وبالتالي هذا Kultur أو Culture، ولكن العجيب جداً أن هناك أنواعاً طبعاً من الشِمْبانزِي Chimpanzee – أي قبائل من الشِمْبانزِي Chimpanzee – لا تتبادل هذه الخبرات لأنها مُغلَقة Closed على نفسها ولذلك تبقى ثقافة كل مجموعة من الشِمْبانزِي Chimpanzee  عبر عشرات آلاف السنين كما هى، فلا تندمج ولا تتراكم ولا تتسع ولا تنبسط، إذن هذه ميزة لنا بني الإنسان، وهذا درس وعبرة وموعظة لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۩ ولمَن يُريد أن ينغلق ولدُعاة الانغلاق ولدُعاة الاكتفاء والشعور المُريح جداً بأننا فعلاً تامون مُطلَقون كاملون فلا نحتاج أن نمسع غيرنا ولا أن نرى غيرنا ولا أن نقرأ لغيرنا، نحن عندنا المُعادَلة Formel التي تُحيل كل مُشكِلات ومُعضِلات الكون ونحن نجلس في بيوتنا وفي مساجدنا، إذن علينا ألا نعبأ لا بحصار ولا بغير حصار، وهذا غير صحيح، فهذا هو الدمار بعينه، وفي الحقيقة المسلم كغيره يُعاني من أي حصار، فيا ليت أن نُوسِّع من مفهوم شجب الحصار الفكري ولا نكتفي فقط بالحديث عن الحصار على الأمتعة والأغذية وعلى الموبايل وعلى الفوانيس وعلى السيارات وعلى المُبرِّدات وعلى التلفزيونات Televisions وعلى المُسلسَلات طبعاً إذا انقطعت الكهرباء ولكن يجب أن نتحدَّث عن الحصار الذي يُمارَس على الفكرة أيضاً، فينبغي ألا يُحاصَر الفكر والفلسفة والعلم والنور، لكن للأسف تقريباً كل الشعوب تفعل هذا بأقدار مُتفاوِتة، إذا تعلق الأمر بالثقافات والأفكار التي تخص الجانب والمجال الإنساني البحت – إن جاز التعبير – فإنها تقريباً تتجمَّد وتتكلَس وتتوجَّس وتُحاوِل أن تنغلق للأسف الشديد، أما في مجال الماديات  مثل معرفة الكون ودرسه واستثماره وارتفاقه فإنها تنفتح ولذلك تستفيد في هذا الباب، أما في الباب الثاني فهى إلى اليوم لا تزال مُتردِدة وحيرى ومن ثم هناك شبه انقطاع في هذا الصدد.

 أنا قلت كلمة ووعَدت أن أُبرّهِنها، فلو انغلقنا هل يُمكِن أن نظل مُحافِظين على درجتنا في المُستوى التقني؟!

لا يُمكِن، بل بالعكس سوف نشهد تراجعاً وانحطاطاً بالانغلاق!

أنا ذكرت المُفكِّر والسياسي الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه Régis Debray الذي عنده نظرية مشهورة جداً جداً جداً كتب فيها مئات الصفحات قائلاً “هناك تاريخان، تاريخ للإنسان وأفكار الإنسان، وتاريخ للأشياء كالتي أنجزها واخترعها وأبدعها الإنسان، فتاريخ التقنيات مثلاً في تقدّم مُستمِر على عكس التاريخ الأول الذي قد يشهد تراجعاً”، علماً بأن أوروبا شهدت تراجعاً في هذا الباب، فتاريخ حقوق الإنسان – مثلاً – قد يشهد تراجعاً، تاريخ الحريات في عهد بوش Bush شهد بالفعل تراجعاً مُخيفاً جداً، تاريخ الحوار بين الأديان والثقافات قد يشهد تراجعاً، فكل هذه الأنباء عادية لكن تاريخ التقنيات لا يشهد تراجعاً، بمعنى أننا لا يُمكِن أن نرى الإنسان في يوم من الأيام يتخلى عن الهاتف المحمول ويعود إلى استخدام أساليب النار – مثلاً – والدخان لإيصال رسائله لجيرانه، لا يُمكِن أن يتخلى الإنسان عن ركوب الطائرة والقاطرة والحافلة والسيارة فيعود ليركب العجلة – مثلاً – أو البغل ويكتفي بهذا، لا يُمكِن وإن كان هذا الكلام تعميم، فجزيرة تاسمانيا Tasmania الآن – مثلاً – في جنوب أستراليا Australia لم تكن في يوم من الأيام جزيرة وكانت مُتقدِّمة جداً وكان عدد سكانها أربعة آلاف قبل عشرة آلاف سنة، لكن تاسمانيا Tasmania الآن أصبحت جزيرة حقيقة حيث ارتفع البحر في يوم من الأيام بشكل مُفاجيء فعزلها، فأصبحت جزيرة من كل جوانبها تماماً وعُزِلَت فتراجعت فيها الصناعات دون أن تتوقَّف وتراجع كل شيئ، ولكن تفسير هذا يحتاج إلى تحليل مُطوَّل، لكن على كل حال أربعة آلاف لا يكفونللوفاء بمُهِمة التخصّص التصنيعي أو الصناعي والإنتاجي والتطبيع التصنيعي كما يقول العلماء، ولذلك تكلّس المُجتمَع وبدأ يتراجع، في حين أن أرض النار تييرا دل فويغو Tierra del Fuego في جنوب الأرجنتين Argentina المُواجِهة للمُحيط عندما عُزِلَت قبل عشرة آلاف سنة لم تتراجع، حيث بقيَ هناك خط صغير جداً جداً يُمكِن عبوره باستمرار إلى الضفة الأُخرى ولذلك لم يشهد التصنيع والتقنيات تراجعاً بسبب وجود اتصال مع العالم الآخر، فالانغلاق لا يستفيد منه إلا الجمود والتراجع والانحطاط والجهل وبالتالي يشقى به الإنسان، لكن الانفتاح دائماً والانفتاح باستمرار هو الذي يُثري مسيرتنا وهو الذي يُعظِّم خبراتنا وهو الذي يُجمِّل حياتنا وهو الذي يُوفِّر – كما قلت – لنا وقتاً – هذا الوقت أنا أُسميه وقت الرخاء – لكي نُولي الجوانب النفسية والروحية والعاطفية والفكرية العامة فينا وقتاً أزيد، فدائماً ترون أن الذي يقضي مُعظَم وقته لكي يُحصِّل رغيف الخبز يكون جانبه العاطفي مُتخلِّفاً نوعاً ما، وكذلك الحال مع جانبه الفكري الذي يكون مُتخلِّفاً وجانبه الروحي الذي يكون مُتخلِّف أيضاً فضلاً عن جانبه الاجتماعي الذي يكون قلقاً نوعاً ما طبعاً، لأن هذا المسكين أصبح مُستعبَداً من أجل تلبية الضرورات، لكن من خدمات وأثمار الحضارة أنها وفَّرت لنا وقتاً لا أقول مُستقطَعاً بل وقتاً مُضافاً فعلاً بحساب الإيجاب لكي نُمارِس تنمية المهارات الروحية والفكرية التي تُعطي الإنسان ميزته الأكبر، وهو أنه إنسان ذو أفق روحاني وذو أفق فكري وتطلعات غير موجودة في عوالم الحيوان والعجماوات.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الإخوة:

القرآن الكريم يُلاحَظُ أنه لم يُول مسألة تبادل التقنيات والخبرات في عالم المادة أهميةً تقريباً تُذكَر في حين أنه ركَّز في عشرات الآي على تبادل الأفكار في نطاق الحقائق الروحية والمِلية والدينية  – القرآن فعل هذا – وهو النطاق الذي تتحرَّج منه مُعظم المُجتمَات والثقافات إلى يومنا هذا، والآن اجلس مع مسيحي مُثقَّف وقد يكون أستاذاً جامعياً مثلما حدث هنا في النمسا واسأله عن حجم معرفته الدقيقة والصحيحة بالإسلام، وسوف تجد أن حجم هذه المعرفة الصحيحة تقريباً لا يكاد يُساوي شيئاً، فهو يعرف أشياءً سخيفة جداً جداً جداً، وكذلك حجم معرفة أي مُثقَّف منا تقريباً بالمسيحية ومذاهبها ومقولاتها ولاهوتها، فهو يُساوي تقريباً صفراً أيضاً، علماً بأن الإحاطة بالمسيحية أصعب بكثير طبعاً من الإحاطة بالإسلام، فالإسلام واضح ومُحدَّد والاختلافات في داخله أقل بكثير بفضل الله عز وجل، وأنا قلت مرة أن المذهب الاعتراضي البروتستانتي – مثلاً – فقط فئاته وأحزابه وجماعته المُتناحِرة في أمريكا تنوف على الألف، فهناك أكثر من ألف جماعة وفرقة وكل فرقة تدّعي أنها جوهر البروتستانتية وهذه كارثة كبيرة، ولكم أن تتخيَّلو هذا، فهذا أمر صعب جداً، ولكن القرآن فعلها وفعلها باستمرار حيث أمر بالمُحاوَرة معهم وأمر بالمُجادَلة، وعرض لأفكارهم وعرض لتشغيباتهم وعرض لشُبهاتهم وأجاب عنها بعد أن أشار إليها وذكر مواطن الاتفاق وهى كثيرة، قال الله إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى ۩وقال أيضاً وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ۩ فالقرآن يقول أن عندهم هذا، ويقول فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۩، فالقرآن قال أنهم يُمثِّلون مرجعاً فيُمكِن الرجوع إليهم للسؤال، وهذا شيئ غريب لكن القرآن فعل هذا لأنه يُريد أن يكسر فعلاً هذا الجمود وأن يُحارِب مُنذ البداية ومن لحظة التأسيس العقدية والكلامية اللاهوتية هذه الانغلاقية ووهم الاكتفاء المُطلَق، فيقول أن الأمور والحقائق إنما تُعرَف وُتوزَن وتُقدَّر بالمُقابَلة وبالمُحاكَمات وبالمُوازَنات وبالمُقارَنات وليس بوهم الاكتفاء.

أحسب أن الأمة الإسلامية تحتاج أن تتدرَّج اليوم وأن تبدأ من جديد، وأول ما تبدأ بأن تنفتح على نفسها، في الأول ننفتح على أنفسنا ثم نُمارِس بعد ذلك ربما بخط مُتوازٍ وبعملية مُتوازية الانفتاح على الذات والانفتاح على الآخر معاً، فنحن نمتلك ثقتنا بما عندنا – بإذن الله تبارك وتعالى – وباختيار الله لنا الذي شرَّفنا به، قال الله سبحانه وتعالى هُوَ اجْتَبَاكُمْ ۩ وقال أيضاً لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۩، أي فيه شرفكم وفيه عصمتكم وفيه حفظكم، إذن نحن دينا هذه الثقة – إن شاء الله – وهذه الطمأنينة، فلا نخاف من الانفتاح ومن الحوار ومن التبادل الحر للأفكاروالخبرات المُختلِفة.
اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا وأن تُعلِّمنا ما ينفعنا وأن تنفعنا بما علَّمتنا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً وعيناً دامعة ورزقاً واسعاً وعملاً مُتقبَّلاً ودعاءً مُستجاباً.

 نعوذ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع ومن عينٍ لا تدمع ومن دعوةٍ لا تُسمَع ومن عملٍ لا يُرفَع، ونعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة، ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيم وافتح علينا فتوح العارفين بك يا أرحم الراحمين.

 اللهم إنا نسألك ونضرع إليك ونبتهل في هذه الأيام المُبارَكات واللحظات الطيبات الزاكيات أن تجعلنا من أهل رحمتك في هذا الشهر الكريم، اللهم واغفر لنا ذنبنا كله فيه، دقه وجله، صغيره وكبيره، قديمه وحديثه، ظاهره وباطنه، ما علمنا منه وما لم نعلم.

 اللهم واعتق فيه برحمتك رقابنا من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجارنا وصديقنا ومشائخنا وكل مَن له حقٌ علينا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا حاجةً لنا من حوائج الدُنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها بمنّك وتوفيقك وتيسيرك إلهنا  ومولانا رب العالمين.

 اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومِن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدُنيا، اللهم ولا تجعل مُصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدُنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تُسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم زِدنا ولا تنقصنا وأعطنا ولا تحرمنا وأكرِمنا ولا تُهِنا وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا وانصرنا ولا تنصر علينا وخذِّل عنا ولا تخذلنا وارض عنا وأرضِنا يا رب العالمين.

عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩

اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من فضله يُعطكم،  وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.  

(20/8/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • تخيلتُ نفسي في موضع حوار و نقاش كالذي تفضلتَ به كنوع من تبادل الأفكار الحر مع العلم أن هذا يحدث في الواقع أحياناً : ماذا عن الحديث القائل [ أوتيتُ القرآن و مثله معه ] بينما كلام الله ليس مثله أي كلام فكم من يحتج بهذا الحديث على من يتطرق لصحيح البخاري بأي معارضة أو مناقشة ؟ هل هي قضية لغوية ؟ أي كلمة [ مثله ] لا تعني التطابق بل المشابه و المشابه يختلف كثيراً عن المطابق ـ و هذا شيئ نعرفه في مادة الهندسة عندما نبرهن عن تشابه المثلثات و تطابقها فالاختلاف واضح و بيّن .. أليس كذلك ؟ … أم هذا الحديث موضوع لقوله تعالى { فليأتوا بحديثٍ مثلهِ إن كانوا صادقين } ؟ أم يجب أن نحصر معارضتنا لنوع معين من الأحاديث مثلاً الطويل كثيراً منها حيث أن ميزة حديث النبي صلى الله عليه و سلم أنه موجز و جامع لعدة معاني [ أوتيتُ جوامع الكلم ] ؟ …

%d مدونون معجبون بهذه: