إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ۩ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ۩ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ۩ وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ۩ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى ۩ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۩ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ۩ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۩ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۩قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۩ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة والأخوات:

قال الله فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ۩، فما كان في الجنة هو حالٌ عكس حال الشقاء، فما هو الشقاء لكي نعرف تلكم الحال الغائبة والحال المفقودة الضائعة في الجنة التي أضاعها علينا وعلى نفسه أبونا آدم عليه السلام؟!

باختصار وبكلمة واحدة إنها السعادة، إنها حال السعادة وهى مطلب أثير وأصيل وأساس ورئيس وجوهري بل جوهراني في حياة الإنسان، لكن من أين لنا هذا التفسير أن هذه الحال هى حال السعادة؟!

من مُقابَلته – تبارك وتعالى – بين الشقاوة أو بين الشقاء والسعادة، قال الله فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فضلاً عن أنه قال فأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وقال وَأَمَّا الَّذِينَ سُـعِدُوا ۩، فالقرآن يقول ما يُقابِل السعادة الشقاء وما يُقابِل الشقاء السعادة، وهذه هى الدقة اللغوية القرآنية، فليست التعاسة وليس البؤس وليس الاحباط وإنما هو شيئٌ يجمع أولئكم جميعاً تحت مظلة واحدة في نطاقٍ واحد، إنه الشقاء.

ولذلك تواتر استخدام هذا المُصطلَح الإلهي في هذا السياق الدقيق بكثرة على لسان الخاتم المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – حيث قال في صحيح مسلم “اعملوا كلٌ ميُسَّر لما خُلِقَ له” إلى أن يقول “فمَن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة”، إذن مرة أخرى قال السعادة والشقاء أو السعادة والشقاوة – والعياذ بالله من الشقاء في الدنيا والآخرة – ولم يقل السعادة والتعاسة، وهذا من دقة رسول الله، إنه الذي يفهم القرآن ويتأوَّله، والأحاديث كثيرة على ذلك، ففي الأحاديث المشهورة قال “إن من سعادة العبد أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة”، أي ينيب ويتوب إلى الله – تبارك وتعالى – في طول العمر، فلا يُغافَل ولا يُفاجأ ولا يُغافَص أو يُخطَف، وإنما يطول عمره لكي يُرزَق الإنابة. رزقني الله وإياكم وإياكن جميعاً وجمعاوات التوبة والإنابة.

إذن هناك أحاديث كثيرة جداً يُقابِل فيها النبي بين الشقي والسعيد أو بين الشقاوة والسعادة، والأحاديث التي تتحدَّث عن السعادة أيضاً كثيرة، مثل حديث “وأربعٌ – وفي رواية خمسٌ – من السعادة” وذكرهن عليه الصلاة وأفضل السلام.
الدين عوَّدنا وأفهمنا أن نتناول السعادة والكلمات التي تدور في حقلها الدلالي ولكن أيضاً مع وفيما وراء وبعيداً أيضاً عن اللذائذ والمسرات والمباهج الحسية، هذه تدخل في السعادة – لا بأس – ولكن أيضاً فيما وراء ذلكم هناك اللذائذ والمباهج والأفراح والمسرات الروحية المعنوية، قال الله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۩، قال رسول الله “للصائم فرحتان”، وقال أيضاً “وإن الله – تبارك وتعالى – بعدله وقسطه جعل الروح والفرح – يتحدَّث عن الفرح – في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في السخط”، أخرجه البيهقي في الشُعب والطبراني في الكبير وغيرهما كالحكيم الترمذي وأبو نُعيم أيضاً الذي أخرجه في حليته، فهو يتحدَّث إذن عن الفرح ويتحدَّث عن الروح ويتحدَّث عن الأمل، وقلنا في الخُطبة السابقة أن الإيمان في نصوص هذا الدين الخاتم الكريم يُعادِل الأمل، قال الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ۩، فالإيمان أمل ووعدٌ بما هو أفضل، قال الله وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ  ۩، ليست فقط الدارة الآخرة وإنما أيضاً آخر أحوالك أيضاً في الدنيا إن شاء الله، فغدك سيكون أحسن من يومك، وهذا معنى واسع لقول الله وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ ۩،فما تستقبل أحسن مما فات بإذن الله تبارك وتعالى، وهذا أمل، وفي الحديث الشهير “وإن أفضل العبادة انتظار الفرج”، فالأمل أفضل العبادة، ولذلك أستطيع أن أتلمَّح الوجه العرفاني والوجه الإيماني للسعادة، فأن تكون سعيداً معناها أو جزء من معناه ولازم معناه أنك عبدٌ شاكر ولست عبداً كفوراً، لأن جوهر الشقاوة هو الكفر، أي الكفر بنعمة الله وعدم إحساسك بما أولاك الله وبما أعطاك الله وعدم تثمينك وتقديرك لما أعطاك الله من النعم ونظرك الدائم والدائب إلى ما أولى الله وخوَّل غيرك من الناس كفرٌ بالنعمة، فأنت شقي ولا يُمكِن أن تكون سعيداً، لا يُمكِن لأن السعادة لا تطرق بابك فلن تكون من السعداء، ستكون شقياً وتعيش وتموت الأبعد، لا جعلني الله وإياكم من الأشقياء.

فالسعادة إذن مظهر عرفاني ومظهر يدل على التكامل الإيماني وعلى النضج الإيماني، فأنا سعيد لأنني مُؤمِن ولأنني مُقِر ومُعترِف بنعمة الله، فأبوء إلى الله بنعمته – تبارك وتعالى – علىّ كما أبوء في نفس الوقت بذنبي، فأنا لا أستحق هذه النعم السوابغ ولكنها من فضل الله ومن روحه ومن عطائه ومن إفضاله علىّ وتنعيمه لي، فالسعادة لها وجهها الإيماني!

تحدَّثنا يوماً عن الحق في السعادة وذلك بأننا عنّوَنا خُطبة قديمة بعنوان “الحق في السعادة”، فالدين يقول هذا من حقنا، وليس الحق فقط بل يبدو أنها واجب، وبالتالي إذا كان لها وجهها الإيماني العرفاني فإذن هى من مقامات الدين أو في الحقيقة ليست مقاماً بقدر ما هى روح الدين وبقدر ما هى عكس وترجمة لمقامات واسعة وشاسعة من مقامات الواصلين والعارفين، فهى تعكسها جميعاً في مجموعها فيما يُعرَف بالسعادة!

وطبعاً السعادة من الصعب أن نُعرِّفها – هذا صعبٌ جداً – ولكن كل منا يُدرِكها إدراكاً جُملياً وإدراكاً عاماً، ولذلك حين يفتقدها يستطيع أن يُؤكِّد أنه ليس سعيداً، ولكن كيف يكون سعيداً؟ قد يجهل هذا، ولكن هو يُدرِك أنه ليس سعيداً فيبحث عن شيئ ما يُدرِكه إدراكاً عاماً جُمالياً، وهذا المطلب ليس مطلباً ترفياً وفضولياً وزائداً، إنه مطلب أساسي في الفلسفة الإغريقية وفي الفلسفة اليونانية وبالذات عند أرسطو  Aristotle، فجوهر الحياة والخير الأسمى  لدى أرسطو Aristotle هو السعادة، وزعم أرسطو Aristotle بذكائه مُنقطِع النظير أن كل الكائنات البشرية الإنسانية إنما تسعى في النهاية إلى السعادة، فمنهم مَن يُخفِق – وأكثرهم يُخفِق – ومنهم مَن ينجح، وحتى الذي يسعي إلى السيطرة والقوة والسُلطة ويتوسَّل البطش والقسوة والرعونة والهمجية والوحشية هو في حقيقته يسعى إلى السعادة ولكن لم يُصِب وسيلتها ولا نهج طريقها، فهذه الطريق مُختلِفة تماماً وتُؤدِّي إلى الشقاوة، لكن هو يُريد السعادة عبر هذه الأشياء ولا يُفلِح!

نابليون Napoleon كان يبحث عن السعادة عبر كل هذا التوسع الإمبراطوري والغزوات ونيران الحروب التي أزكاها – كان مسعر حرب – ولكنه في النهاية قال مُبتئساً “لم أذق طعم السعادة ساعةً”، أي أنه يقول “لم أُجرِّبها ولو لساعة في حياتي”، إذن كان شقياً، وكل ما فعله يبدو أنه كما زعم أرسطو Aristotle وجادل  كان بحثاً عن السعادة بوسيلة أو بأخرى وبمعنى أو بآخر ولكنه أخفق.

 ولذلك هذه الفلسفة صعبة وهذه المسألة صعبة ومُعقَّدة جداً فأفاض فيها الفلاسفة والمُفكِّرون والأدباء والشعراء والأديان الوحيانية والأديان حتى الوضعية، والآن هناك علم كامل إسمه علم السعادة الجديد  New Science Of Happiness، وهو علم جديد ومُثير وكُتِبت فيه الدراسات والأبحاث الإمبريقية أو التجريبية التي هى من أروع ما يكون، وسأُحدِّثكم بطرف منها إن شاء الله تبارك وتعالى.

إذن أرسطو  Aristotle زعم أن الخير الأسمى الذي تسعى إليه الكائنات البشرية هو السعادة، وطبعاً عنّوَن لها بعنوان مشهور جداً في الأبحاث الأخلاقية والفلسفية وهو عنوان “اليودايمونيا  Eudaimonia”، واليودايمونيا   Eudaimonia  اختلفوا كثيراً في ترجمتها، لكن ما معنى يودايمونيا  Eudaimonia  بالإغريقية؟

 تعني الحياة الطيبة، بمعنى آخر تعني الحياة السعيدة.

يقول مُؤسِّس علم النفس التجريبالسي في أمريكا وأحد أعمدة البراجماتية الثلاثة ويليام جيمس William James إن جوهر الدين كل دين وجوهر الأخلاق كل أخلاق  أساسه وأسه – أي أساس الدين وأساس الأخلاق – يقوم ويتقوَّم بكيف ننظر ونتعاطى مع الأحداث والوجود والحياة، أي من أي زاوية ننظر، وهذا ما له علاقة بموضوعنا!
سؤال آخر في هذه الخُطبة كمُقدِّمة: هل الناس سعداء أم أن التعاسة أو الشقاوة بالأحرى والشقاء هو الذي يستشري؟!

في أمريكا اليوم إحصاءات علمية تقول وتُنذِر بأن عدد المُنتحِرين أكثر من عدد الذين يسقطون قتلى بالجرائم، علماً بأن أمريكا هى قارة الجرائم لأن فيها جرائم كثيرة مُخيفة، ولكن المُنتحِرون عددهم يفوق الذين يُقتَلون بالرصاص وبالقتل، وبعض المُنتحِرين أغنياء وأغنياء جداً وبعضهم أساتذة جامعيون وأدباء وفلاسفة وشعراء ومع ذلك ينتحرون، ولا تستطيع أن تُحصي عدد الشعراء والكتّاب والمُفكِّرين – علماً بأن لي مُحاضَرة مُطوَّلة في هذا المسجد عن هذا الموضوع – الذين ذهبوا ضحية الانتحار، فالذين قتلوا أنفسهم  في القرن العشرين المُنصرِم بالمئات، وهذا شيئ لا يُصدَّق، فلماذا إذن؟ أحدهم كتب كتاباً من أربع مُجلَّد أو أربعة مُجلَّدات – لأن من المُمكِن أن يُقال مُجلَّد أو مُجلَّدة – وكان المُجلَّد الرابع – عن الانتحار – Suicide – لأنه كان وعداً بأن يُنير ويُضوَّيء ويهدي الناس إلى الأسباب والوسائل وفلسفة الحياة والرؤية التي تُجنِّبهم الوقوع فريسةً للانتحار، وقبل أن يُطبَع الكتاب – ولم يُطبَع للأسف – انتحر.

الرجل نفسه انتحر لأن فاقد الشيئ لا يُعطيه، ومن ثم لم يستطع أن يُعطينا إياه، وحتى لو أعطانا إياه لشككنا في قيمة ما أعطانا، فكما يُقال طبيبٌ يُداوي الناسَ وهو عليلُ، وهذا السر الذي سمته نازك الملائكة بسر الدهور، قالت “قد بحثنا عن السعادة لكن, ما عثرنا بكوخها المسحور. أبداً نسأل الليالي عنها, وهي سرّ الدنيا ولغز الدهور”، كأنها تقول أن العثور على السعادة يُعتبَر أمراً صعباً، فمَن يُصيب السعادة؟!
أنا سأختصر الخُطبة الآن وأقفز إلى الخاتمة التي سيكون كل ما يتلو من كلام يُعتبَر تبريراً لها:

السعادة في الإيمان بالمعنى الصحيح للإيمان، وعلينا أن ننتبه أن المقصود بالإيمان ليس إيمان الكتب والخُطب والمواعظ والشعائر والطقوس، وإنما الإيمان بالمعنى الحقيقي للإيمان الذي دأبنا وأدمنا أن نتحدَّث عنه في آخر سنة أو سنتين، وهو إيمان التجربة وإيمان التكامل وإيمان العملية وإيمان الصراط، وليس إيمان موقف وإيمان قرار وإيمان ترداد وتكرار للأسف كما اعتادنا، ليس هذا بالمرة، فهذه هى السعادة الحقيقية، والقرآن هو الذي يقول بهذا، قال الله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۩، فهذا وعدٌ إلهي بأنك ستكون سعيداً، لكن علينا أن ننتبه إلى أننا لن نفهم السعادة إذا ما نظرنا إليها بمنظور التعساء الأشقياء كأن يقول أحدنا كم عنده من مال؟ كلام فارغ، ليس عنده شيئ من مال وسعيد بل هو أسعد منك مليون مرة، كم عنده من شهادات؟ ليس عنده شهادات وأسعد منك، كم عنده من علم ومعرفة وفقه؟ ليس عنده حتى جزء من مليون مما عندك لكنه أسعد منك وأكثر توفيقاً منك وأكثر راحةً منك وأبعد عن الأمراض النفسية والعقلية وحتى الجسمية منك.
بحسب مُنظَّمة الصحة العالمية – WHO – فإنه بحلول عام ألفين وعشرين سيكون الاكتئاب – Depression أو الكانف كما يُترجِمه العرب – هو العامل الثاني في السنوات الضائعة المُتعلِّقة بالإعاقة –  يقصدون اقتصادياً، أي السنوات الضائعة في الاقتصاد وفي الانتاج – بعد مرض شرايين القلب أو أمراض شرايين القلب المُختلِفة.

أنتم تعرفون أن هناك آلاف الوصفات لعلاج الصلع وأكثرها خُرافات، لكن هناك مائة وعشرون مليون وصفة – لكم أن تتخيَّلوا هذا، هذا شيئ لا يُصدَّق، فلو لم أقرأ هذا في كتاب علمي مُعتبَر لما صدَّقت هذا – لعلاج الاكتئاب – Depression – حول العالم، وطبعاً أشهرها وأكثرها شهرةً ونجاحاً البروزاك Prozac، فالبروزاك Prozac عقار مُمتاز ومع ذلك يُوجَد مائة وعشرون مليون وصفة تُريد أن تُعطي الناس السعادة، وهنا يبدأ الخطأ لأنهم يظنون أنك إذا نفيت البؤس والتعاسة والاحباط والاكتئاب عن إنسان أعطيته السعادة وهذا أكبر خطأ، فالسعادة ليست أبداً معنىً سلبياً مثل انتفاء البؤس وانتفاء الحزن والكآبة، لكن السعادة هى خبرة إيجابية تجعل الإنسان أكثر عمقاً وأوسع آفاقاً وأكثر طمأنينة ورسوخاً وأكثر إقبالاً على الحياة وأكثر إبداعاً وأكثر إنجازاً وأكثر اجتماعيةً وتشاركاً وأكثر ابتساماً، وقلنا مرة أن الطفل على الأقل يبتسم في اليوم ثلاثمائة مرة، وطبعاً يُوجَد أعداد أكثر من هذا، لكن البالغون مُعظمهم لا يبتسم حتى عشرين مرة، فالواحد منهم يكون مُكتئباً لأن عنده أكثر من خمسين ألف عامل لأن يكتئب، فمن حقه المسكين أن يكتئب، لكن الصغير يبتسم من ثلاثمائة إلى  ثلاثمائة وستين مرة في المُتوسِّط يومياً، وهذا هو الكائن الطبيعي كما خلقه الله، هذا هو ابن الجنة وهؤلاء هم عصافير الجنة، أما نحن فنحن  غربان البؤس وبوم التعاسة والكارثة، فهكذا جعلنا أنفسنا، وأنا مُتأكِّد من أن كثيرين مِمَن سيسمعون هذه الخُطبة حتى ولو عبر الإنترنت Internet لن يفهموا رسالتها الحقيقية، والذكي فيهم ربما سيقول استفدت معلومات، لكن ليس هذا يا رجل هو المطلوب، فإن لم تُغيِّر هذه الخُطبة وأمثالها حياتك وطريقة تفكيرك وتعاطيك مع نفسك ومع الله ومع القدر ومع الناس الأقربين والأبعدين فأنت لم تفقه شيئاً، وطبعاً أنا أقول لكم من الآن للأسف الشديد أن مُعظم الناس لن يُغيِّر ولن يفهم، وهذه طبيعة البشر للأسف، هذه طبيعة حماقتنا وندفع ثمنها من أعصابنا ودمنا وحياتنا وآخرتنا دون أن ندري، فأكثر الناس يفتقرون إلى الحكمة الكافية، ولذلك ليس لدينا من الحكمة ما يجعلنا نُعيد النظر في هذه الأشياء!

إذن السعادة ليست معنىً سلبياً، إنها خبرة وجودية ذاتية، ونُدرِكها الآن إدراكا ً جُمالياً ولكن إذا شرعنا في إدراكها جزئياً وبالقطارة وبالقليل سنعرف حقاً ما هى السعداء وسنكون سعداء.

مُؤسِّس التحليل النفسي النمساوي سيجموند فرويد  Sigmund Freud للأسف كان يائساً ومُتشائماً، فكتب يقول في أحد أعماله “يبدو أن مسعانا للبحث عن السعادة ونيلها محكومٌ عليه بالإخفاق ويعكس رغباتنا طفولية – هذه الرغبات طفولية صبيانية ولدانية – لا يُمكِن لها البتة أن تتحقَّق في الواقع، إنه مسعى غير مُتضمَّن في خُطة الخلق”، بالضبط هكذا عبَّر فرويد Freud، وهو طبعاً لا يُؤمِن بالله، هو رجل مُلحِد، لكن ما معنى قوله السعي إلى النيل السعادة مسعى غير مُتضمَّن وغير موجود في خُطة الخلق؟

يُريد أن يقول أن هذا المسعى يُعتبَر مُستحيلاً، فأنت تطلب المستحيل حين تطلبه. 

 هذا هو فرويد Freud وهو مُعالِج نفسي ومُؤسِّس مدرسة التحليل النفسي – هو نبي من أنبياء علم النفس – ومع ذلك عاش ومات تعيساً، علماً بأنه كان يتعاطى الأفيون والكوكايين على الرغم مِن أنه مِن أول مَن كتب عنه دراسات ومع ذلك مات وهو يتعاطاه بعد أن سبَّب له سرطاناً بسبب كثرة الدخان، فهو كان يُدخِّن ليل نهار لأنه رجل تعيس ومسكين، فعاش ومات تعيساً وأكَّد أنه تعيس ويُؤمِن بفلسفة التعاسة، فكيف يُعالِج الناس هذا؟ هذا هو الطبيب العليل الذي يُعطينا وعداً زائفاً بأن يُعالِجنا، وهو قال “أنا لن أعطكم هذا، ولذلك مسعاي – هو عبَّر بهذا الوضوح وهذه الصراحة التي تُحمَد له – وهدفي كطبيب من هذا العلم ومن العلاج فقط أن نُحافِظ على التعاسة العادية أو البؤس الاعتيادي  Ordinary Misery، فنحن كائنات تاعسة، نحن مخلوقون لكي نكون بؤساء، ولذلك نُحافِظ على هذا المُستوى، أما أن نُحقِّق السعادة فهذا مُستحيل، لا يُوجَد سعادة، هذا كلام فارغ، وبالتالي نحن فقط نُحافِظ على هذا القدر من التعاسة”، وهذا شيئ عجيب، فهذا هو وعد هذا الرجل، لكن أين وعد الإيمان؟ أين وعد الله ووعد الأنبياء والرسل الحقيقيين وليسوا الكذَّابين الزائفين أمثال هذا الرجل؟ هناك وعدٌ مُختلِف تماماً، وانظروا إلى الناس الذين يعيشون علاقة حقيقية مع الله عبر العبادة والذكر والقرآن الكريم وعمل الصالحات، انظروا إلى الهدوء والطمأنينة ومحبة الناس، هذا شيئ عجيب، وأنا خبرت هذا بنفسي في عشرات من هؤلاء، حيث تجد الواحد منهم عمره يصل إلى ثمانين سنة أو تسعين سنة لكن – ووالله الذي لا إله إلا هو – عنده جلد وجه لا يتمتع به ابن عشرين وابن ثلاثين سنة، قسماً بالله شيئ عجيب، والناس يقولون النور يفط ويتشعشع ويخرج من وجهه، فوجهه مشدود ومرتاح جداً، وعيناه واسعتان تلتمعان بالسعادة والذكاء، وهذا شيئ غريب، لذلك هؤلاء عندهم قدرة غير عادية على العطاء والعمل والعبادة والتدريس والمُشارَكة والتعلّق بالناس والارتباط بشكل غريب، لكن لماذا هذا إذن؟!

بسبب الإيمان الحقيقي وليس الإيمان الزائف – كما قلت لكم –  والإيمان الكاذب، ليس بسبب إيمان النمط  فقط وإيمان الجماعة وما ينتظره مني الناس، وإنما بسبب الإيمان الحقيقي وتجربة الإيمان، فهو وصل إلى سن التسعين ومع ذلك تحسده على وجه وعلى مشدودية جلده، فهو جديد كجلد مُصحَف ويلتمع ككوكب دُري، والسعادة تبرق في عينيه بشكل واضح رغم أنه وصل إلى التسعين، وهذا شيئ غريب ولا يكاد يُصدَّق، وأنا عندي لهؤلاء بعض الصور التي أحتفظ بها، فهذا هو العيش مع الله إذن، ولكن نحن نستبق الأشياء.

وطبعاً هناك مُتقابَلات ونوع من المُفارَقات، فنحن كائنات تاعسة وبائسة وغير سعيدة لأسباب كما يقولون، من مثل أننا حساسون جداً للجوانب السلبية والكريهة في الحياة وهذا صحيح، ففي المسألة الحسية – على مُستوى الإحساس Sensory –  نحن نتحسَّس للطعم الحلو  بنسبة جزء من مائتي جزء غير حلوة وهذا جيد، لكننا نتحسَّس للطعم المُر – Bitter – بنسبة جزء من اثنين مليون جزء وهذا يجعلنا تُعساء، فنحن نتحسَّس بسرعة للشيئ المُر، ولذلك في مجال الإنجازات المعنوية والمادية في حياتنا نتأثَر كثيراً بخسارتنا أضعاف مُضاعَفة بشكل سلبي أكثر مما نفرح بربحنا، فإذا ربحنا وخسرنا بنفس النسبة يكون فرحنا بالربح لا يُعادِل جزءً من مئات الأجزاء من شعورنا القابض القاتم بالبؤس والتعاسة والخيبة حين نخسر، فلماذا تفعل هذا يا أخي؟ نفترض أنك ربحت ألفاً وخسرت مائة، فما المُشكِلة؟!

ومع ذلك يقول لك كيف خسر هذه المائة؟ لكن هذا هو الإنسان، وهذا ثابت تجريبياً طبعاً، أحد العلماء الأمريكان المُتخصِّص طبعاً في حل مشاكل الأزواج من عشرات السنين إسمه دانييل جولمان Daniel Goleman – علماً بأن جولمان Goleman خبير على مُستوى العالم – يقول “في نطاق الحكايياة الزوجية مُقابِل عامل سلبي واحد يتسبَّب فيه أحد الزوجين لابد لمُعادَلته من خمسة إيجابية”، أي أن الزوج إذا قال كلمة واحدة تُنغِّص على زوجته لابد في المُقابِل أن يكون هناك خمس كلمات حقيقية إيجابية لكي يُعادِل – هذه مُعادَلة – فترجع المياه إلى مجاريها، وهذه ليست حكاية حسابية وإنما حكاية نفسية تحدث بشكل تلقائي Automatically  أو Automatisch.
وهكذا في مُقابِل الجُملة السلبية الواحدة لابد من وجود خمس جُمل إيجابية، وكذلك اليوم السلبي يُقابَل بخمسة أيام إيجابية، وهكذا مع الشهر السلبي وإلى آخره، فمن الصعب إذن أن تكون الحياة الزوجية سعيدة لأن هذه العملية غير مُتكافئة بالمرة، فالواحد السلبي يُعادِله خمسة إيجابي وليس واحداً إيجابياً، لكن هذا هو الإنسان المسكين!

 من لطف الله تبارك وتعالى – علماً بأن ما نقوله الآن هو كلام العلم – أن الإنسان  يُوَلد مُزوَّداً ليس فقط بالرغبة في السعادة وتحقيقها بل بالسعادة ذاتها، فالإنسان يبدأ – Starts – من فوق المُتوسَّط، أي أنه يبدأ بنسبة – سبحان الله – أعلى من خمسين في المائة وفقاً لما يقوله العلماء، ولذلك الطفل الصغير يستطيع أن يُميّز بين الوجوه، فالوجوه الخالية من المشاعر المُتبلِّدة أو المقبوضة القابضة لا يُحِبها الطفل ومن ثم يبتعد عنها، أما الوجوه المُنشرِحة الفيّاضة الرينانة بالمشاعر فيُحِبها الطفل ويتفاعل معها بطريق المُحاكاة، ولا تنسوا حديثنا عن الخلايا العصبية المرآوية Mirror Neurons، ولذلك أنت حين تضحك للطفل بعد عشرة أشهر من ولادته يضحك لك مُباشَرة، إذا أخرجت له لسانك فإنه يُخرِك لك لسانه، ويُناغيك كما تُناغيه ويُمازِحك كما تُمازِحه، فهو مُزوَّد بهذا، فضلاً عن أنه يتحسَّس جداً للطعم الحلو، في حين أنه  يُحِب الأشياء الحلوة ويبتعد عن الأشياء المُرة لأنه يعرف أين سعادته، ومن ثم يفرح بهذه الأشياء.

إذن نحن نبدأ بما فوق المُتوسِّط، ولكن هذا كله يضيع حتى نُصبِح في نهاية المطاف بالسالب – Minus – للأسف بحسب  فلسفتنا ورؤيتنا للحياة، لكن أيضاً من  من حُسن حظ هذا الكائن الإنساني أو الكائنات البشرية – انظروا إلى التعادل في الخلقة الإلهية، فكل شيئ موزون بميزان كما قال الله – أن الله – تبارك وتعالى زوَّدنا بجهاز إسمه جهاز المناعة النفسي، فنحن نعرف طبعاً  المناعة العادية البدنية – Immune System – لكن هناك جهاز إسمه جهاز المناعة النفسي -Psychological immune system – لدى الإنسان، علماً بأننا تحدَّثنا عنه  أيضاً مرة في خُطبة تحت عنوان آخر، لكن ما هو هذا الجهاز؟!

مثلاً فتاة يأتي أحد لخطبتها ويكون مثل برلسكوني Berlusconi المُقرِف فيبدأ يلعب بأنفه بأن يُدخِل إصبعه في أنفه كما رأيتم برلسكوني Berlusconi الذي سب الإسلام والرسول يفعل، فهو كان يلعب بأنفه ثم يضع يده في فمه ومن ثم الكاميرا Camera صوَّرت هذا، وهذا شيئ مُقرِف جداً، لكن هذا هو برلسكوني Berlusconi، فليذهب هو وملياراته إلى حيث ألقت، ماذا تفعل به الفتاة وهو مُقرِف خاصة لو جلس في حفلة – Party – وكان هناك تورتة أو غير ذلك، فهذه سوف تكون مُصيبة، لكن المُهِم الآن هو أن هذه الفتاة حين تقدَّم إليها مثل برلسكوني Berlusconi الذي يلعب بأنفه وربما أدخل إصبعه بعد ذلك في فمه كانت تقول له  “هذا مُقرِف، ابتعد عني”، لكن إن تورَّطت به ومعه بعد أن أحسن التمثيل ولعب الدور وتحكَّم في نفسه ثم بدأ يلعب بعد ذلك وهو زوج فإنها سوف تقول  “نعم هذا مُقرِف ولكن له قلبٌ من ذهب، قلبه ذهبيٌ جداً”، فهكذا يعمل جهاز المناعة النفسي.

أحدهم لم ينجح في امتحان القبول لكلية كذا ولكنه نجح في امتحان قبول كلية أخرى، فإنه سوف يقول “لعل هذا أفضل بل أكيد أن هذا هو الأفضل، على الأقل حين أتخرَّج من هذه الكلية سيكون لدي وقت أكثر لأسرتي على عكس الكلية الأخرى التي كانت ستأخذ مني كل وقتي وذلك حين أتوظَّف بشهادتها، فهذا أحسن لي” وهكذا الإنسان يُقنِع نفسه بالأشياء، قال الشاعر:

إلاَّ يكُنْ عَظمي طَوِيلاً فإِنَّنِي                      لهُ بالْخِصالِ الصَّالِحَاتِ وصُولُ 

ولاَ خَيرَ في حُسْنِ الْجُسُومِ ونُبْلِها              إذا لَمْ تزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ 

إذا كنتُ في القَوْمِ الطِّوالِ عَلَوْتُهُمْ                       بِعارِفَةٍ حتّى يُقالَ طَوِيلُ

يُريد أن يقول “صحيح أنا قصير ولكنني عبقري، فأنا أذكى من هؤلاء القوم وعندي معلومات أكثر منهم، وبالتالي هذا يستوي مع هذا”، وهذا جيد، وهو من نعمة الله علينا، فهكذا تستطيع أن تُغيِّر قدرك ولكن لا بتغيير المقدور وإنما بتغيير الموقف من المقدور.
أعتقد أننا تابعنا فصلاً مُشرِّفاً جداً من حياة الإمبراطور الروماني الحكيم المشهور ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius في جلاديتور  Gladiator – المُصارِع الروماني – مع راسل ايرا كرو Russell Ira Crowe، ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius قال “حياتنا من صنع أفكارنا”، وبعده جاء بمئات السنين الشاعر المسرحي الإنجليزي العظيم ويليام شكسبير William Shakespeare فكتب يقول “كل شيئ رائع مع أنه لا شيئ جيد ولا شيئ سيء ولا شيئ جميل ولا شيئ قبيح، إن أفكارنا هى ما يصنع ذلك”، فيبدو أن الأشياء مُحايدة ولكن نحن الذين نُسقِط عليها المعنى، لكن طبعاً هذا صعب أن يستوعبه إنسان بسيط وساذج ومن ثم سيقول لك: هذا أمرٌ عجيب، فهل إجراء جراحة لقلبٍ مفتوح – مثلاً – يُساوي زيارة في هاواي Hawaii مع زوجتك وأولادك؟ كيف تقول لي هذا مثل هذا؟!

هناك معاني عميقة لا يستطيع أن يستوعبها كل الناس، لذلك هى تحتاج إلى وقت لإبرازها وإيضاحها، وهناك سؤال يُمكِن أن نفشل فيه جميعاً في اختبار الذكاء على الرغم منه أنه يُعتبَر بسيطاً جداً جداً جداً وهو: ماذا تظن أنه أفضل بعد سنة من الآن: أن تكسب الآن أربعمائة مليون يورو بطريقة مُعيَّنة أو أن يتفق لك حادث – لا قدَّر الله – مُروِّع وتُصبِح بعده كل كرسي مُدوّلَب؟!

كلكم ستيجبون قائلين أن الخيار بعد سنة طبعاً سيكون هو الأفضل دائماً لكن هذا غير صحيح تجريبياً، وهذا أمر عجيب، لكن هذه هى مُفاجأت العلم، وهذا ثبت في علم النفس الجديد الذي يُسمى بعلم النفس الإيجابي – Positive Psychology – والذي أسَّسه جماعة من مشاهير علماء النفس في الولايات المُتحدة، مثل دان جيلبرت  Dane Gilbert – دانيال جيلبرت Daniel Gilbert – بالذات ونانسي ايتكوف Nancy Etcoff ومارتين سليجمان  Martin Seligman أيضاً، فهم أسَّسوا هذا العلم الذي يُسمى بعلم النفس الإيجابي Positive Psychology.
يقول العلم “بعد سنة الذي ربح أربعمائة مليون يورو في اليانصيب – هذا عندهم في القمار وهو حرام – والذي اتفق له حادث أقعده وجعله أشل في كرسي مُدوّلَب سوف يُمارِسان ويخبران السعادة بنفس السوية تماماً، فليس هذا أكثر من هذا”.

وهذا السؤال يُعتبَر بسيطاً في اختبار – Quiz – الذكاء ومع ذلك كلنا سنفشل فيه لأننا كائنات مُحاكية فاشلة، فنحن نفشل أن نُحاكي ونظن أن بعد سنة طبعاً سيبقى هذا المسكين تعيساً بائساً في كرسي مُدوّلَب لأنه لا يستطيع أن يركض ولا أن يسبح ولا أن يذهب على رجليه ولا أن يتفرج، أما هذا فما شاء الله لديه أربعمائة مليون سوف يفعل بها الأفاعيل، لكن هذا غير صحيح علمياً، وهذا الكلام لو قاله رجل دين سوف يقولون “هذا مجنون”، وهو ما حدث بالفعل، حيث قاله رجال الدين في كل الأديان وخاصة في الإسلام وقيل لهم “هذا كلام وعظ وكلام فارغ”.

قال رسول الله “عجباً لأمر المُؤمِن إن أمره كله له خير، إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن”، ومع ذلك يقولون “هذا أمر مُستحيل، وهذه كلها مواعظ”، أما الآن فيقول العلم أن تربح أربعمائة مليون يورو مثل أن تُصبِح أشل على كرسي مُدوّلَب، فالعلم هو الذي يقول الآن وليس الدين، لكن كيف يحدث هذا؟!

هذا الموضوع طويل ويحتاج إلى مُحاضَرات، لكن يُوجَد فيه كتب على كل حال، فاقرأوا هذه الكتب واقرأوا لمَن ذكرت، ومن أجمل هذه الكتب كتاب دان جيلبرت  Dane Gilbert  التلكؤ في السعادة Stumbling on Happiness، وعنده كتاب آخر أيضاً إسمه  استكشاف جبهات السعادة Exploring the frontiersof happiness فاقرأوه أيضاً لأنه من أروع ما يكون، علماً بان هذا العالم من هارفارد Harvard، وهو من كبار علماء النفس حول العالم وأستاذ عريق في هافارد Harvard التي هى أعرق جامعات العالم، أي أنه ليس واعظاً أو قسيساً، فالرجل أثبت هذا كله بالاختبارات.

فهذا هو جهاز المناعة النفسي إذن، والعرب كانوا يعرفون هذا بحكمتهم، فكان فيهم حكماء كثر مثل أبي الطيب، يقول أبو الطيب المُتنبي:  

وَما الخَوفُ إِلّا ما تَخَوَّفَهُ الفَتى               وَلا الأَمنُ إِلّا ما رَآهُ الفَتى أَمنا

هذا هو، فأنت تستطيع أن تُسقِط المعنى.

ماذا يقول النبي في الحديث المشهور الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم الكثير؟!

يقول عليه الصلاة وأفضل السلام “وإنما الجزاءُ مع عظم البلاء، والصبرُ عند الصدمة الأولى، وإن الله يبتلي أقواماً فمَن رضيَ فله الرضا، ومَن سخط فله السخط”، عجيب لكن هذا هو المعنى الذي يقوله علم النفس الإيجابي، فالنبي لخَّصه بكلمة وقال “مَن رضيَ فله الرضا، ومَن سخط فله السخط” فأنت إذا كنت ترضى بهذا وتتقبَّله فسوف تكون العاقبة مرضية وسوف تكون فرحاً مسروراً بإذن الله تعالى، أما إذا كنت تسخط وتضجر ولا تُريده وربما تكفر فسوف تكون العاقبة هى الضجر والسخط بإذن الله تعالى.

وانظروا الآن إلى هذه الأحاديث التي سمعناها ألف مرة لكن الآن سنبدأ نُفسِّرها ونهضمها ونتمثَّلها فهماً من خلال زوايا مبحثية علمية معرفية جديدة، وهذه هى أهمية المعرفة لكي نُواكِب الجديد ونفهم بعمق ونستطيع أن ندفع حتى عن هذه المُعتقَدات وأن نُغيِّر حياتنا ونمط حياتنا ورؤيتنا الوجودية بيقين وبرسوخ بإذن الله تعالى.

في البخاري دخل عليه الصلاة وأفضل السلام على رجل أعرابي – شيخ كبير حطمته وكسَّرته الحُمى – محموم فقال له طهور إن شاء الله، لأنه يُريد أن يُواسيه وأن يُشجِّعه وأن يُعطيه دعماً – Support – نفسياً، فقال هذا الرجل بل حُمى تفور على شيخ كبير لتُورِد القبور، فما هذا الاختيار الغبي؟ هذا الرجل لم يُعجِبه كلام النبي، كان ينبغي عندما يقول له النبي طهور أن يقول له نعم طهور يا رسول الله، لكنه لم يقعل هذا لأنه أعرابي جلف غليظ قاسٍ، فهو ليس مُؤدَّباً وليس عنده لياقات تواصلية، ولذا قال بل حُمى  تفور على شيخ كبير لتُورِد القبور، فقال النبي له فهى إذن، أي أن هذا صحيح وهذا ما حدث، فمات الرجل وذهب إلى الجحيم بسبب هذا الاختيار، فليست الحُمى هى التي دمَّرته كما كان يقول ولكن هو كان مُدمَّراً أصلاً،  فهو الذي دمَّر نفسه وليس الحُمى.

لذلك الآن هناك مدارس وعلماء حول العالم يُنادون بأن يُساعِد ويُعين المريض الدكتور على علاج نفسه، لكن بماذا يُساعِده؟!

بالمعنويات العالية.

إحدى التجارب الرائعة جداً جداً كانت عن مرضى يتماثلون للشفاء بعد إجراء عمليات جراحية، علماً بأنها كانت عمليات جراحة حقيقية وكان هناك جراحات كُبرى تعرَّضوا لها، فالأمر لا يتوقَّف على أخذ الأدوية فقط، لكن كان جزء منهم مُقفَل عليه في غرفة بأربعة جدران لكي يرى هذا الجزء بعض اللوحات الفنية مثل لوحات لمونيه Monet وبيكاسو Picasso وهذا الكلام الفارغ، والجزء الآخر كان عندهم فرصة أن يُطلوا لساعات على مشهد من الطبيعة وزقزقة العصافير وتغريد الطيور والأنهار الجارية وخرير المياه وحفيف  الشجر والنسيم العليل ويشمون الروائح، فقال العلماء أن هؤلاء يتماثلون بسرعة أكبر بكثير ويخرجون بسرعة من المشافي، وأما الآخرون فتحدث لهم  مُضاعَفات – Complications – طبية كثيرة، وهذا هو ما يُسمى بحُب الطبيعة، أي البيوفيليا Biophilia، بمعنى أن تُحِب الطبيعة وأن تندك في الوجود وأن تشعر بأنك جزء من هذا الوجود أيضاً وإن كنت تُفارِقه وتعلو عليه بالوعي وبالإيمان أيضاً، وهذا الشيئ جميل جداً، لكن للأسف الشديد ليس كل الناس يتوفَّر على هذه اللياقات، فبعض الناس يعمل على تبئيس  نفسه بالإخلاد للقنوط والاحباط، فيجتر الأفكار السوداء والخيالات المريضة ويقول سوف يحصل كذا كذا وسوف يُخرَب بيتي وسوف أُطلِّق زوجتي ومن ثم سيذهب أولادي إلى الشارع بل أنني قد أذهب إلى السجن في نهاية المطاف وهكذا، ومن هنا نحن نقول له “أنت دمَّرت نفسك، لماذا تفعل هذا؟ احك لنفسك الصورة المُخالِفة تماماً، فهذا هو السر”، قال رسول الله “فمَن رضيَ فله الرضا، ومَن سخط فله السخط”، وقال الله  وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا – هو سوف يدفع مالاً على كل حال لأنه مُنافِق، ولكنه يقول هذه غرامة وضريبة ومُصيبة – وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩ وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ – هو سوف يدفع مالاً أيضاً على كل حال – قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ – أي أن هذه قُربة إلى الله، فعندما أفعلها تُقرِّبني إلى الله – وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ – الرسول سوف يصلي علىَ ويدعي لي ويدعي لأهلي – أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ۩، فالله هو الذي قال هذا، وهذا شيئ عجيب، فكلاهما سوف سيدفع مالاً لكن هذا أحمق وهذا حكيم، هذا جعلها ضريبة فكانت ضريبة وقطعت به، وهذا جعلها قُربة ووسيلة للصلاة عليه فكانت كذلك وشعر بهذا وعاشه بفضل الله تبارك وتعالى .

هذا هو إذن، فهذا كثير في الدين – أي في ديننا – جداً جداً جداً ومُتوافِر والنصوص فيه كثيرة قبل أبي الطيب المُتنبي وغير أبي الطيب المُتنبي وكذلك قبل إيليا أبو ماضي الذي قال:

أيهذا الشاكي وما بك داءٌ                      كيف تغدو إذا غدوت عليلاً
أي أنك  تشكو وتنتحب وتعول وأنت مازلت صحيحاً ومُعافىً وعندك ما تأكل وما تشرب وما تلبس، فما مُشكِلتك ؟ كيف لو أنك كُرِثت وأُصيبت بمُصيبة إذن؟

أيهذا الشاكي وما بك داء                         كيف تغدو إذا غدوت عليلاً

إن شر الجناة في الأرض نفس                    تتوقى قبل الرحيل الرحيل

وترى الشوك في الورود وتعمى                  أن ترى فوقها الندى إكليلا

هو عبء على الحياة ثقيل                         من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا

 والذي نفسه بغير جمال                       لا يرى في الوجود شيئا جميلا

وطبعاً سيظل يقول كُن كُن كُن إلى أن يختم بهذه الخاتمة الرائعة جداً جداً جداً والتي تُقرِّر المعنى ذاته وعينه فيقول:

أيَّهذا الشـــــاكي وما بك داءٌ                    كُنْ جميلا تَرَ الوجودَ جميــــــلا

وعبد الله بن عباس – رضوان الله تعالى عنهما – لما عمي – هو أضر في آخر حياته، أيفقد نور عينيه وعميَ – لم يغضب ولم يحزن ولم يقل حتى سأتصبَّر لأنه لم يرها مُصيبة، وإنما قال:

إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما                    ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ

يُريد أن يقول أن اللسان والعلم والفصاحة والمعرفة بالله والسمع سوف يُعوِّضون هذا بإذن الله، فضلاً عن أنني أستطيع أن أسمع وأن أُسمِع بلساني، فما المُشكِلة إذن؟

قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ            وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ

يُريد أن يقول عقلي موزون وليس خفيفاً، وقلبي ذكي  – المقصود ذكاء الفؤاد وليس ذكاء العقل – ولساني فصيح جداً جداً جداً وقاطع لبهرجة وزخرفة الباطل ومُؤيِّدليقين الحق بإذن الله، وهذا شيئ جميل جداً!

الأعمى بشار بن بُرد الشاعر والمُتهَم بالزندقة كان عنده شيئ من ذلك لأنه كان شاعراً حكيماً،  فقال – أنا أعتبر أن هذين البيتين من أروع ومن أعجب ما قرأت في حياتي – ذات مرة:

عَمِيتُ جَنِيناً والذَّكاءُ مِنَ العَمَى                      فجِئتُ عجيبَ الظَنِّ، للعِلمِ مَوئلا

يُريد أن يقول أنا وُلِدت أكمه – أعمى – ولذلك أنا ذكي جداً.

 وَغاضَ ضياءُ العَينِ للعِلمِ رافداً                      لقَلبٍ إِذا ما ضيَّع النَّاسُ حَصَّلا

يُريد أن يقول سر الذكاء الذي عندي والحفظ والفهم واللوذعية والألمعية هو أنني أعمى، وهذا هو جهاز المناعة النفسي –  Sychological Immune System – لأنه يُعيد فلسفة الكارثة والمُصيبة والحرمان فإذا به نعمة، ويُردِّد مع الشاعر العارف بالله:

قَدْ يَنْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ                وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ 

فهو كان يُردِّد هذا المعنى، لكن ذات مرة أحد الناس المُهرِّجين والشامتين شمت ببشار وظل يقول عنه أنه أعمى، فرد عليه قائلاً:

وعَيَّرَنِي الأَعْدَاءُ والعيبُ فيهمُ                      وليسَ بعارٍ أن يُقال ضَرِيرُ

 إِذا أبصر المرءُ المروءة والتُّقى               فإنّ عَمَى العينين ليس يَضيرُ

 رأيتُ العمَى أجراً وذُخراً وعِصمة ً                 وإني إلى تلك الثلاث فقيرُ

 هذا هو جهاز المناعة النفسي، فهو يقول: ما العمى؟ هو أجر وذخر وعصمة، فلا أقع على ما حرَّم ولا أرى ما حرَّم الله ولا أرى ما يسوء وإلى آخره، وهذه عصمة من الذنوب، وأنا أُريد الأجر والذخر عند الله والعصمة.

وهذا شيئ عجيب، فهذا الرجل كان فيلسوف حياة، فهو لم يقرأ علم النفس الإيجابي ولم يجب ولم يلزم أن يعيش القرن الواحد والعشرين إلى أن يتأسَّس هذا العلم لكي يُعيد نظرته إلى الحياة وإنما استمد هذا من الدين، قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، وهذه الآيات مُهِمة جداً جداً جداً، فينبغي أن نُعيد نظرتنا للوجود وفق هذه الآيات، علماً بأنني قلت مرة في أحد دروس التفسير قريباً أن ثقة الإنسان المُطلَقة بنفسه فرداً كان أو أمة او جماعة خطيرة جداً وهى وعدٌ بالكوارث على نفسك وعلى الآخرين، فحين تقول لي المسائل عندي محسوبة بدقة ومُرشَّدة كلها – طبعاً مَن يقول هذا يدّعي أنه عقلاني مُرشِّد لكل شيئ – فهذه كارثة، وهذه الكارثة هى التي تسمح لنا بأن يذبح بعضنا بعضاً ويحرق بعضنا بعضاً، وتسمح لنا أن نُفكِّك أسرنا وأن نتخلى عن أقرب الناس إلينا وأن نجترح القرارات الحمقاء الأنانية والغبية في حياتنا لأن كل شيئ محسوب والحساب هو الذي يقول هذا، وهذا غير صحيح، فالمُؤمِن مُتواضِع، وسر قوته يكمن في شعوره بضعفه، ولذلك قال الله  وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، فالمُؤمِن يمشي دائماً وإلى جانبه هامش عريض وطويل بطول الحياة كلها وعريض بعرض تعقيد المشاكل أن الاحتمال الآخر يُعتبَر مُمكِناً، ومن هنا جاءت فلسفة صلاة الاستخارة، فاستخر الله ولا تقل لي أنك حسبتها وأنها واضحة لأن قد يكون دمارك في هذا الشيئ، قال الله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ  ۩، وقال أيضاً وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ۩، فلا تقل أن هذا الشيئ بإذن الله يُعتبَر مُمتازاً، مَن قال لك هذا؟ هل أنت تتألى وتكذب على الله؟ مَن قال لك أن هذا بإذن الله؟ هذا بإذنك أنت، اذهب واستخر وصل ركعتين، فإن خار الله لك أن لا وإن كان في المسألة مالٌ كثيرٌ – مثلاً – فليذهب المال إلى الجحيم، لأنك استخرت الله ومن ثم لا يجب ينبغي عليك ألا تُريد هذا المال، وإن خار الله لك – مثلاً – أن تمشي مع فلان وهو غلبان وفقير فلتفعل بإذن الله، والله سوف يفتح عليك وعليه لأنه هو الذي خار لك هذا، فأنت لا تعتمد على عقلك بشكل مُطلَق، قال الله فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ۩، فلا تقنع دائماً بعقلك وحساباتك، لأن الحسابات مُعقَّدة وتقع في إطار جيد جداً جداً جداً فضلاً عن أنها محكومة بمُعادَلة يعرفها علماء الاقتصاد وعلماء الرياضيات وهى مُعادَلة برنولي Bernoulli’s equation – علماً بأن هذا الشاب كان عبقرياً بل كان شديد العبقرية، وعنده مُعادَلة مُعقَّدة جداً جداً جداً وهى التي تُعرَف بإسم  مُعادَلة برنولي Bernoulli’s equation  وفقاً لترجمتها الأدبية – التي تقول “القيمة المُتوقَعة – Expected Value – تُساوي مقدار الاحتمال – Odds Of Gain، أي مقدار احتمال الهدف أو احتمال الغاية أو احتمال الكسب – مضروباً في قيمة الهدف أو في قيمة المكسب Value Of Gain”، لكن ما معنى هذا الكلام؟!

هذا كلام جميل وهو مُهِم ويصلح لأن يُقتبَس في الدين وفي العقيدة، ولكن كيف هذا؟!

قد يقول لك أحدكم الآن: تعال، هل تُراهِن – بغض النظر عن حُرمة وحل الرهان طبعاً – الآن على وجهي العملة؟ فتقول “أنا أُراهِن على الصورة”، وهو يقول لك “أنا أُراهِن على الرقم، فإن جاءت الصورة فلك عشرة دولارات أو عشرة يوروات، وأنت إن خسرت سوف تدفع أربعة يوروات”، هل ستدخل في هذه اللعبة؟!

طبعاً تدخل مُباشَرةً، لأنك ستكسب في حال كسبت ضغفي ما دفعت ونصف الضعف،واحتمال الكسب – كما قلنا – يصل إلى خمسين في المائة، إذن خمسون في المائة ضرب عشرة ستكون النتيجة أنك الرابح في كل الأحوال، لأن النصف سيكون أكثر من أربعة يوروات وبالتالي سوف تدخل هذه اللعبة مُباشَرةً.

هذه المُعادَلة مُعقَّدة وكل الاقتصاديون يعرفونها، لكن هذا هو تبسيطها في علم الرياضيات والاقتصاد.

إذن مُعادَلة برنولي Bernoulli’s equation  تُفيد بأن القيمة المُتوقَعة  تُساوي قيمة الاحتمال – أي قيمة احتمال الكسب نفسه – مضروباً في قيمة الهدف أو في قيمة المكسب، وأنا سأقول لكم أننا من المُمكِن أن نستخدم هذا دينياً وثيولوجياً في العقيدة، وطبعاً يُمكِن أن نستخدمه في الحياة العامة وفي الحياة الزوجية وفي كل شيئ.

قد يقول لي أحدهم “أنا أُفضِّل الدنيا على الآخرة، فالدنيا أمامي كليمونة أعتصرها، هذه شيئ أمامي ومن ثم فأنا آكلها وأعصرها، فلا تعدوني بالآخرة ونعيم الآخرة والجنة، لأنني لا أدري هل سيحدث هذا أم، فمن المُمكِن أن يحدث ومن المُمكِن ألا يحدث”، لكن أنا أقول له ” فكِّر يا أخي كبرنولي Bernoulli”، الآن قيمة النعيم الدنيوي تُساوي واحد على واحد، فهذه قيمة الاحتمال الخاصة بالـ Gain، ثم أن هناك قيمة المكسب، فقد يكون المكسب هو سيارة – مثلاً – أو شركة أو مليون دولار أو عشرة مليون أو مليار، ومن ثم فهى تُحدَّد بحسب المكسب، فلو قلنا مليار سنقول واحد في مليار، وبالتالي النتيجة هى مليار، لكن بالنسبة لقيمة الآخرة وهل في آخرة أم لا فإننا سوف نتواضع ونقول Fifty-Fifty يا سيدي لأن من المُمكن أن يكون هنك جنة ومن المُمكِن ألا يكون – كُن مُتواضِعاً ولا تُقدِّم نفسك كما لو كنت فيلسوفاً للإلحاد لأنك لا تستطيع أن تفعل هذا ولم يستطع أحد هذا أصلاً، علماً بأن هناك مَن قال لي اعمل مُحاضَرة يا شيخ عن ستيفن هوكينج Stephen Hawking لأنه أنكر الله، وهذا الكلام سخيف ومُضحِك جداً، فقبله أنكره آلاف وأثبتوه ملايين، والآن أنكر هو وأثبتوه ملايين من المُفكِّرين والفلاسفة والعلماء، فعليكم أن تُفكِّروا بعقلية علمية، وعلى كل حال هذه مسخرة لا نهتم بها كثيراً – وبالتالي سوف نُفكِّر بعقلية رياضية ونقول أن من المُحتمَل أن يكون هناك آخرة بنسبة تصل إلى خمسين في المائة ومن المُحتمَل ألا يكون هناك آخرة بنسبة تصل إلى خمسين في المائة أيضاً، فهذا احتمال، إذن سوف نضرب خمسين في المائة في قيمة المكسب، ونحن لا نتحدَّث عن جنة مُؤبَّدة إلى ما لا نهاية وإنما سنكتفي بأن نقول لك خُذ أي شيئ في الجنة، خُذ حورية واحدة أو انظر إلى حياتك في الجنة وأنت تعيش فيها شاباً ابن أربع وثلاثين سنة بلا مشاكل في القلب والكلاوي والدماغ والشرايين والبُرُسْتاتة والمرارة وما إلى هنالك، أو لا تنظر إلى الحورية وانظر فقط إلى حياتك وأنت تعيش مُؤبَّداً في الجنة إلى ما لا نهاية، فكم ستكون النتيجة في نهاية المطاف؟

ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن رياضياً قيمة الاحتمال لا تأتي بالأخذ بعين الاعتبار مقدار الاحتمال فقط ولكن بضرب قيمة المُحتمَل، وهذا ما قاله برنولي Bernoulli، وهذا يبدو سهلاً في التعاطي معه – مثلما قلنا  – في حالة إذا تعلَّق الأمر بأربعة يورور أو مع عشرة يورو ومن ثم نستطيع أن نفعلها بسهولة، لكن في قضايا مُركَّبة ومُعقَّدة جداً جداً جداً ومُتراكِبة سيكون من الصعب أن ننجح وسوف نُخفِق كثيراً ولذلك نتخذ القرارات الخاطئة.

للأسف الوقت يتسارع، فنعود إلى موضوعنا:

إذن من أجل هذا نحن سعداء ومن أجل هذا نحن تعساء، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى.

 ذكر العلماء أيضاً سبباً أخيراً في التحليل العلمي وقالوا “الإنسان تعيس لأن الأنظمة الحيوية تعمل في داخله مُجزَّأة وأحياناً مُتشاكِسة، فلا تعمل بتناغم Harmony، فمثلاً الجينات Genes  في حوضها – أي جيناتنا في حوض الجينات Genes – لا تهتم كثيراً بما إذا كنا سعداء أو أشقياء، فهذا لا يهمها وإنما يهمها أن تمر وأن تعبر  – To Pass – إلى الجيل – Generation – الثاني فقط” وهذا صحيح، وهكذا الله خلق هذا الشيئ بحكمته أيضاً، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أنها تُغرينا بأشياء مثل الشهوة – Lust – والمُتعة الجنسية من أجل أن تمر، وتُغرينا أيضاً بالرومانسية وبالحب والعشق والأشعار وما إلى ذلك، وأخيراً تُغرينا بالعلاقة الدائمة والارتباط -Attachment – مثل الزواج مثلاً، ومن هنا يقول أحدهم أنه قرَّر أن يتزوَّج وأن يُكوِّن أسرة وينبي عشاً – عش الزوجية – لكي يدخل القفص الذهبي.

 إذن هناك ثلاثة أشياء، لكن هم قالوا “المأساة هى أن هذه الثلاثة الأشياء لا تعمل دائماً مُتآزِرة وقد تعمل مُنفصِلة”، بمعنى أن الواحد قد يُحِب أن يبقى زوجاً مع فلانة أو زوجاً لفلانة فيُولِدها أطفاله الشرعيين ولكنه يُحِب مُمارَسة الشهوة مع فلانة الساقطة جداً، وهذا ما تقرأه للأسفأحياناً في إسلام أون لاين Islam Online أو تسمعه في  الفتاوىالتي تأتي إلى الشيخ القرضاوي – حفظه الله – في الشرعية والحياة قديماً، فبعض المسلمين يقول لك قد يفعل هذا ويقول لك أنا مسلم وأُصلي ومُلتزِم، ولكن أنا أقول له ” مُخك مُلوَّث ونفسيتك مُسمَّمة، وأنا أُقسِم بالله على هذا، فأنت تقرأ أشياء قذرة وتُجاهِد أشياء قذرة وتُفكِّر بطريقة قذرة، أنت مُقلِّد – ولن أقول  أنك تُعتبَر قذراً – لهؤلاء الناس الآخرين.

يقول لك الواحد منهم أنا مسلم وعندي زوجة حسنة وطيبة وجميلة وصغيرة وما إلى هنالك ولكنني اُحِب مُمارَسة كذا مع الكذا، فما هذا؟ هذا يقوله الناس في الغرب وهذا كلامهم، ومن ثم علينا أن ننتبه جيداً،  وأنا سأكشف لكم عن شيئ لا أدري كيف توصلت إليه ولكن هذا من لطف الله، وهذا الكلام علمي، فهناك نظرية في العلم الآن  لها أصل في الشعر الإغريقي وفي الخطابة الإغريقية، وأنا وصلت إلى هذا ولم أجد مَن وصل إليه قبلي، وأنا مُتأكِّد أقولها الآن تحدٍ من على هذا المنبر – أن الذي اجترح هذه النظرية – نظرية الأنظمة الثلاثة التي تعمل مُجزَّأة ومتشاكِسة وغير مُتآزِرة – أخذها من خطيب اليونان ديموستين  Dimoustin الذي قال “نحن نتخذ العاهرات لنُمارِس الشهوة –  Lust – ونتخذ الخليلات للمُحافَظة على أجسامنا، ونتخذ الزوجات لكي يلدن لنا الأولاد الشرعيين”، ومن ثم فأنا مُتأكِّد من أنهم أخذوا هذه النظرية التي يقولون عنها نظرية علمية تجريبية من اليوناني ديموستين Dimoustin، فهو الذي أوحى لهذا العالم بها، ولكن أنا عرفت هذه المقولة بالصدفة فربطت بين هذا وهذا، لكن أنا كمسلم – مثلاً – وأنتَ كمسلم وهى كمسلمة لا نجد -والله العظيم – هذا الشعور السيء السخيف أبداً، فهذا الشعور مُقزِّز جداً، ونحن كنا شباباً عزاباً غير مُتزوِّجين ولم يخطر على بال بعضنا على الأقل أن يتزوَّج  حتى بامرأة كافرة بلا دين فضلاً عن أن تتعاطى بعض المشروبات الكحولية وتأكل الخنزير، فالواحد منا يجد أن هذا الأمر يُعتبَر مُقزِّراً جداً، وهو حر طبعاً، فمن خلال تربيته وفهمه لدينه يجد أن هذا يُعتبَر مُقزِّزاً جداً جداً جداً، ولذلك لم يفعله لأنه لا يُريد، فتحرقه العزوبية ولا يفعل هذا الشيئ القبيح، ومن ثم لا تقل لي أنا مسلم ومُلتزِم وأُحِب أن اُمارِس الشهوة مع – والعياذ بالله – الكذا وأُمارِس الخلالة والعشق مع الكذا، هذا كلام فارغ، هذه ليست فلسفتنا ومن ثم يجب أن ننتبه إليها، لكن هذه ثقافات يتم عكسها في شكل نظريات علمية وتُصدَّر على أنها نظريات علمية، وطبعاً هم من علميتهم يقولون “ليس بالضرورة أن تكون مُتشاكِسة، فقد تعمل مُتشاكِسة وهذا الأغلب لكن قد تعمل مُتآزِرة”، ونحن مع نظرية التآزر بإذن الله تعالى، لأنها حين تعمل مُتآزِرة أنت سوف تكون سعيداً، قال الله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، فلن أنظر إلى ما ليس لي، لن يشرئب لا عنقي ولن تمتد عيني ولن يُفكِّر قلبي فيما ليس لي، فكيف إذا كان ما ليس هو المُحرَّم والعُهر والسُخف والوساخة والقذارة؟ لن أنحط إلى هذا المُستوى الحقير أبداً فأخسر بعد ذلك زوجتي وأولادي وتتفكَّك الأسرة، من أجل ماذا أفعل هذا؟ من أجل أنني مُسمَّم، فعواطفي مُسمَّمة وذهني مُسمَّم ونفسيتي مُسمَّمة، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى أن هذه المسألة تتعلَّق بالتربية والثقافة!

للأسف بقينا مع المُقدِّمات، ولكن من المُمكِن أن نحتاج إلى خُطبة ثانية، وأخيراً وضح أيضاً بالتجربة أن الإنسان حين يعمل على اختيار شيئ وتفضيله ويدخل في حيازته فإن هذا الاختيار وهذا التفضيل يُغيِّر من ردة فعله التقيمية التثمينية الجمالية إزاء الأشياء، وهذا أمر طبيعي لأن هذا يتعلَّق بالجهاز المناعي النفسي أيضاً ولكن هنك خُطوة أعمق من هذا، فكيف هذا؟!

هناك تجربة أُجريَت من خمسن سنة أيضاً، وهى تجربة كلاسيكية في علم النفس، حيث أنهم أتوا بست لوحات فنية – مثل لوحات لمونيه Monet أو لبيكاسو Picasso أو لأي واحد –  ثم طلبوا من المُختبَرين أن يُصنِّفوها بدءاً من الأحسن فالأقل حُسناً فالأردأ في نهاية المطاف، فهكذا كلٌ يُصنِّف اللوحات، ثم قيل لهم اختاروا لوحةً من هذه اللوحات الست لكي نُرسِلها لكم هديةً بالبريد إلى منزلكم، والأغلب كانوا يختارون اللوحة رقم ثلاثة – أي اللوحة الثالثة – دون الأولى لأن سبق إعلامهم بأن الأولى وهى الأفضل دائماً ليس لهم الحق في الحصول عليها، فليختر أي أحد ما شاء ماعدا الأولى، وهم كانوا لا يُحِبون الأرقام الكبير مثل رقم أربعة وخمسة وستة وما إلى ذلك فاختار مُعظمهم الثالثة وهذا أمر عجيب لأن الثالثة في ترتيبهم هى الثالثة وليست الثانية ومع ذلك كانوا يختارون الثالثة، ثم أنهم ينقسمون بعد ذلك إلى مجموعتين، فيُقال لمجموعة “بعد أن تختاروا وتأخذوا اللوحات لن يكون هناك أي إمكانية للعود في القرار والاختيار”، ويُقال للآخرين “معكم أربعة أيام مُهلة، ففي بحر أيام يُمكِن أن تُعيدوا الاختيار”، وكانت نتيجة التجربة دائماً أن الذين اختاروا الآن وحُسِم اختيارهم كانوا راضين بلوحتهم، بل حين يُطلَب منهم بعد ذلك تقييم اللوحات يجعلون الثالثة هى الأولى وهذا أمرٌ عجيب، فيقولون لك “هذه أحسن لوحة ولكننا لم نكن نعلم هذا، فكيف عمينا عن هذا؟ هذه هى أفضل لوحة” لكن هذا هو جهاز المناعة النفسي، أما الآخرون لا يتحرَّك عندهم جهاز التحفيز لتخليق ما يُعرَف بالسعادة المُخلَّقة أو السعادة المُركَّبة أو السعادة المُصنَّعة أو السعادة المُولَّفة  Synthetic Happiness، لأن الأمر لم يُحسَم وبالتالي لديه إمكانية أن يُعيد اللوحة مرة أُخرى وأن يأخذ غيرها وبالتالي هذا قتل نفسه!

هذا الأمر قد يظنه البعض عادياً ومُمكِناً لكن يُوجَد شيئ آخر غير عادي بالمرة، ففي القرن الحادي والعشرين جاء العالم الشهير دانيال جيلبرت Daniel Gilbert وأجرى هذه التجربة على جماعة من المرضى بفقدان الذاكرة المُتكرِّر، أي بالأمنيجا Amnesia، والأمنيجا Amnesia  يُصاب بها – مثلاً – المُدمِنون على الكحول ومن لديهم مُتلازِمة كورساكوف Korsakoff syndrome، فمثل هذا المريض يستطيع أن يتحدَّث – مثلاً -عن ذكريات طفولته بكفاءة ونجاعة، ولكن إذا تحدَّث معك نصف ساعة أو حتى ساعة إلا ربع وخرجت وعُدت بعد نصف ساعة  لا يتذكَّر أي شيئ عنك ولا عن المجلس ولا عن أي شيئ، وهذا ما حدث بالفعل – علماً بأن هذا يحصل مع تسعين في المائة من الناس – في هذه التجربة، فهم طلبوا منهم ترتيب اللوحات وقالوا لهم “رتَّبوها ترتيباً مُعيَّناً”، ثم قيل لهم “اختاروا لوحة” فاختاروا الثالثة، فقال لهم المُختبِرون “شكراً جزيلاً سنبعثها لكم بعد ذلك هذه اللوحة بالبريد”، فأخذوا أمتعتهم وخرجوا من الغرفة ولكن بعد عشر دقائق عادوا فألقوا التحية وقالوا “نحن مُتأسِّفون يا دوك Doc – أي يا دكتور – لأننا مُصابون بمرض ولا نتذكَّر أي شيئ”، وفعلاً لم يتذكَّروا المساكين لكنهم أحسوا بوجود شيئ ما، فقال لهم على كل حال نحن كنا هنا وتكلَّمنا عن كذا كذا وشرح لهم ما حدث، فقالوا له لوحات ماذا؟ فقال لوحات مونيه Monet، فقالوا مونيه Monet مَن؟ وذلك لأنهم لم يتذكَّروا أي شيئ أبداً بسبب الأمنيجا Amnesia، فكل شيئ مُدمَّر عندهم في ذاكرة، فضلاً عن أنه لا يُمكِن لهم أن يُكوِّنوا ذاكرات جديدة، وهذا أمر معروف، فهذه هى الأمنيجا Amnesia.

العجيب الآن هو أنهم أعادوا التجربة وقالوا لهم “رتِّبوا اللوحات الستة هذه”، فكان الأمر الصادم جداً وهو أن اللوحة التي اختاروها وهى الثالثة أخذت الآن المكان الأول.

هذا عجيب جداً، إذن المسألة ليست واعية وليست إرادية وليست بالقرار وليست من باب تسلية النفس، فهؤلاء المرضى لا يعرفون أي شيئ عن الترتيب السابق ولا يعرفون أنهم يمتلكون هذه اللوحة – المفروض أنها في ملكهم الآن لأنهم وُعِدَوا بها – بعد أن استحسنوها ومع ذلك حصل لديهم تغيّر حقيقي في ردة الفعل الاستطيقية أو الجمالية للوحات، فكيف تم هذا التغير الحقيقي إذن؟!

هذه قدرة الله.

إذن – سبحان الله – فعلاً يُمكِن أن يُصاب المُؤمِن بمُصيبة ويصبر ويرضى  بإذن الله ويشعر بعد ذلك بالرضا وأن ما حصل كان خيراً له فيقول الحمد لله أن حصل لي كذا كذا كذا، أنا أشعر بالسعادة وأشعر بالرقي وأشعر أنني استفدت وأنني نضجت روحياً بسبب ما حصل.

على كل حال فرغنا اليوم من المُقدِّمات، إن شاء الله سيكون جسم الخُطبة في الأسبوع المُقبِل للحديث عن ماهى السعادة وما هو دور الإيمان وفهم الإيمان والرؤية الدينية العقدية في تحقيق السعادة وبالأحرى في توليف السعادة Synthesis Of Happiness، وذلك لنعرف كيف نُولِّف السعادة، فهذه هى النظرية الجديدة التي أحببت أن أُفضي إليكم بها اليوم ولكن للأسف لم يتسع الوقت!

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

(17/9/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • الكلام عن السعادة يبرع به و يعيشه فعلاً من حلّق فوق هذه الأرض و خرج من صندوقه و تعالى عن السفليات الأرضية الطينية نذكر هنا قوله تعالى عن الآيات و ليست بالتحديد القرآنية بل و الكونية أيضاً { و لو شئنا لرفعناه بها لكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } فإذاً أكبر عامل مساعد على الارتقاء فوق الأرض و تذوّق شعور السعادة هو آيات الله و التفكر بها و العمل بها قدر المستطاع أسلوب هذه الخطبة مميز جداً متوازي مع مضمونها ـ حالة رفرفة و طيران ـ دوماً إن شاء الله ….

%d مدونون معجبون بهذه: