إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۩ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، آية عجيبة دُرية من دراري كتاب الله سُبحانه وتعالى، حتى قال بعض السادة العلماء والعارفين كل العلم والمعرفة بالله إنما يدوران على فهم هذه الأسماء الأربعة، الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، فهي إذن لا ريب نافذة في الموجودات وفي الخلق كله، تُجمِع آخره على أوله وقاصيه على دانيه، هُوَ الْأَوَّلُ ۩ بلا ابتداء سُبحانه وتعالى، وَالْآخِرُ ۩ بلا انتهاء، وَالظَّاهِرُ ۩ بلا احتداء، لا حد له، لا تخوم ولا حدود له سُبحانه وتعالى، وَالظَّاهِرُ ۩ بلا احتداء، وَالْبَاطِنُ ۩ بلا اختفاء، هو الأول بلا أولية، وهو الآخر بلا آخرية، وسُبحانه ظاهر دون أن تناله الحواس، وباطنه دون أن يُشاب بشيئ من عدم، لا إله إلا هو! فهو الوجود الحق، وهو الوجود المُطلَق.

وفي مُسنَد أحمد وصحيح مُسلِم من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجميعن – أن النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كان يدعو – عند أحمد قبل النوم، وعند مُسلِم هو دعاء علّمه لفاطمة الزهراء عليها السلام حين طلبت أليه أو منه خادماً – وكان من جُملة دعائه أنت الأول فليس قبلك شيئ، وأنت الآخر فليس بعدك شيئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيئ، وأنت الباطن فليس دونك شيئ، هذا تعبيره، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

طبعاً لا يتسع المقام أن نخوض في أربعة هاته الأسماء، مُستحيل! وإنما سنخوض بعض خوض ونُلقي أضواء على اسمه – سُبحانه وتعالى – الباطن، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، والبطون هو المصدر، البطون هو المصدر بمعنى الخفاء، عكس البدو والظهور، الذي هو معنى الظاهر، مصدره الظهور، أي البدو، أما البطون فهو عكس هذا الظهور والبدو.

طبعاً لا يفهم مُوحِّد أنه – سُبحانه وتعالى – باطن بمعنى أن أشياءً أو خلقاً من خلقه ساتراً من السواتر – أياً كان – يحجبه، مُستحيل! لا يحجبه شيئ كما تعلمون، لا يحجبه شيئ، لأنه قبل كل شيئ وبعد كل شيئ وفوق كل شيئ – سُبحانه وتعالى – ودون كل شيئ، ليس دونه شيئ! فكيف يحجبه شيئ من خلقه ويكون له ساتراً؟ مُستحيل، هذا مُستحيل! وإنما بطونه بمعنى آخر سُبحانه وتعالى، هو باطن بمعنى آخر.

قد ذكر السادة العلماء بضعة أقوال في معنى بطونه سُبحانه وتعالى، في معنى خفائه أو بطونه! ما معنى كونه باطناً؟ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، بعضهم قال هو ظاهر بمعنى وجوده ظاهر، قضية وجوده – لا إله إلا هو – ظاهرة بالدلائل التي نصبها وأقامها، وكل ما في الوجود إنما هو دليل منصوب على وجوده وقدرته وحكمته وتدبيره، لا إله إلا هو! وإنما خفيَ هذا عن بعض الناس لتظاهر كل ما في الوجود على تقرير هذه الحقيقة، بمعنى أنه لو شهد لوجوده بعض خلقه لما خفيَ وجوده عن أحد ولا ما وُجِد لا كافر ولا مُلحِد، لسلَّم الناس أجمعون، ولكن لما كانت كل الظواهر تدل عليه خفيَ، فبطونه من شدة ظهوره، طبعاً بطونه من شدة ظهوره!

ضربنا مثلاً قبل سنين عدة بشيئ يُوجَد وجوداً دائماً مُستمِراً بلا خفاء وبلا تقطع، لم يظهر! كالصوت كما يقول علماء الطبيعة، كصوت مُعيَّن أو نغمة مُعيَّنة أو أنة مُعيَّنة مُتواتِرة مُتجانِسة وتستمر بلا انقطاع، لن نلحظها، لن يلحظها أي سميع من الناس، مُستحيل! متى سنلحظها؟ إذا انقطعت، وهذا يحصل معنا جُزئياً أو نسبياً حين نُفضي إلى مكان فيه ضجيج وجلبة، في البداية يُعكِّر هذا علينا سكينتنا وهدوءنا، نشعر بالتشويش، نشعر بالتبرم، وبعد قليل – بعد نصف ساعة أو بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد سنة وأنت تسكن في هذا المكان – أنت لن تلتقط هذا الشواش وهذا الضجيج، ستتلاءم معه وكأنه غير موجود، ستصير لديك القدرة على أن تُركِّز وأن تحفظ وأن تقرأ وأن تستوعب وأن تأكل وأن تنام وكأن هذا الضجيج غير موجود، لأنه شبه مُتصِل، مع أنه يتقطَّع، وتلتفت إليه أحياناً، فكيف لو اتصل مُتجانِساً على حالة واحدة؟ لن تلتقطه، هو هكذا!

كل ما في الوجود يدل دائماً وأبداً على قضية وجود الحق، الوجود المُطلَق، لا إله إلا هو! فبعض الناس لا يلتقط هذا، للأسف من عمى أبصارهم وبصائرهم، وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۩.

وَفي كُلِّ شَيئٍ لَهُ آيَةٌ                         تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ.

لا إله إلا هو! كيف يُستدَل عليه – تبارك وتعالى – وهو الذي أظهر كل شيئ وبه ظهر كل شيئ؟ مُستحيل! القضية أصعب، لذلك قال مولانا أبو الحسن الشاذلي – قدَّس الله سره – نحن نظرنا بعين اليقين والإيمان، فاستدللنا به على الخلق، ولم نستدل بالخلق على الحق، كيف نستدل بهؤلاء الذين إذا فتشناهم لم نجدهم شيئاً، وإن وكان ولابد فهم هباء في هواء؟ لكن إذا فتشتهم لم تجدهم شيئاً! كأنه يُفسِّر قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، ثم عاد فقال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ – هو عز وجل – عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، هو الذي يُعطي الأشياء وجوده وظهورها، هو الذي يُعطيها إمكانية أن تُدرَك وأن تُعرَف أنها موجودة، هو! لا إله إلا هو، لذلك قال ابن سينا – ونِعْم ما قال – كل المُمكِنات – طبعاً كل ما عدا الله من المخلوقات التي وُجِدت أو يُمكِن أن تُوجَد، لها قابلية أن تُوجَد بخلقه سُبحانه وتعالى، تُسمى المُمكِنات باختصار، هذا معنى المُمكِنات – بقطع النظر عن مُوجِدها وعن علتها الأولى – أي بالنظر إليها من حيث هي – ليسٌ، وهي من علتها أيسٌ، هذا كلام في مُنتهى التدقيق لفيلسوف كبير، ليسٌ! هي فناء، هي عدم، وهي ظُلمة كما قال مولانا ابن عطاء الله السكندري، الكون ظُلمة وإنما أظهره – ماذا؟ – طلوع أنوار الحق فيه أو عليه، لا إله إلا هو! هذا هو طبعاً، فمَن شاهد المُكوَّنات ومَن شاهد الكون ولم يشهد المُكوِّن – بعين البصيرة طبعاً، لأن الله عز وجل لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩ – فقد أعوزه وجود الأنوار، هذا إنسان مُظلِم أيضاً، وليس مُستنيراً، فق أعوزه – أي هو فقير إلى الأنوار، ليس عنده أنوار – وجود الأنوار، وحُجِبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار، الآثار هي هذه المخلوقات، هذه التي هي ظُلمة، لم تُنَر إلا بماذا؟ إلا بسر إيجاده – سُبحانه وتعالى – لها، نقلها من كتمة العدم إلى ضياء الوجود، فهي بالنظر إلى ذواتها ليسٌ، وهي من علتها أيسٌ، قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۩، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ – لا إله إلا هو – وَالْبَاطِنُ ۩، هذا قليل من كثير جداً بما يتعلَّق بالظاهر، قالوا ظاهر بمعنى أن قضية وجوده ظاهرة لكل مَن أبصر فاستبصر، قالوا باطن بذاته وكُنهه، فلا يُدرِكه أحد، لا يُدرِكه شيئ! مَن الذي يُدرِك ذات الله؟ مُستحيل، وإنما نُدرِك آثار أسمائه في مجاليها وفي مطالعها – تجليات أسماء الله وصفاته في هذا الوجود – على قدرنا وعلى حسب فهومنا المنزورة المحدودة اليسيرة، واليسيرة جداً!

قال بعضهم الباطن بمعنى – غير المعنى الذي ذكرناه – هو العليم بالبواطن، عليم ببواطن الأشياء! وقال فريق ثالث الباطن هو خالق البواطن.

وإلى هذه الأقوال الثلاثة يُمكِن أن تُرَد سائر أقوالهم، على كل لا يمتنع أن يكون معنى الباطن الذي بطن بذاته، لا إله إلا هو! فلا يُكتنه، لا يقف أحد على كُنه ذاته، أياً كان هذا الأحد، مُستحيل! وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، كل شيئ يتفرَّد تقريباً مُستحيل أن يُنال، ولا أتحدَّث عن الفرادة بالمعنى المطروح في علم النفس أو في علم الاجتماع أو حتى في الاقتصاد، لا! الفرادة بالمعنى الفلسفي العقلي، بمعنى ماذا لو أن الله – تبارك وتعالى وله المثل الأعلى – جعل هذا الكون لوناً واحداً؟ نحن بالمُناسَبة الآن نفهم ما معنى اللون، ولا نفهم اللون إلا بالتضايف، أي بقياس شيئ إلى شيئ، فنعرف معنى الأحمر، أي هو الذي ليس بأخضر وليس بأسود وليس بكذا، وهكذا وهكذا! حتى اللُغة بحسب منهاج دي سوسير De Saussure هي أيضاً مُضطَرة أن تتعامل مع هذه المفهومات وفق هذا المُنطلَق، فالكلمات تُؤشِّر إلى الأشياء بتخالفها، فالشيئ يُفهَم لأنه ليس هو كذا وكذا وكذا وكذا، أي بطريقة سلبية، بطريقة النفي! نفي أن يكون الأشياء الأُخرى، هذا موضوع فلسفي ولُغوي طويل، لكن هذا شيئ آخر، فماذا لو أن الله – تبارك وتعالى – خلق هذا الكون لوناً واحداً؟

طبعاً في الحقيقة هذا التعبير يشي ويبوح بقصور اللُغة، لو خُلِق الكون والمُكوَّنات والأشياء في الوجود لوناً واحداً لما صح أن تُسمى لوناً، انتبهوا! لا يصح أن تقول إنها لون واحد، وهو اللون الأخضر مثلاً، غير صحيح! لن يكون لوناً ولن يكون لوناً واحداً، ويستحيل أن يُوصَف عندها بأنه أخضر أو غير ذلك، انتهى! بمعنى أن كل لُغات البشر ستفتقد كل ما يتعلَّق بالألوان أو باللون، لن نكون مُحتاجين إلى شيئ اسمه اللون، انتبهوا! مع أنه في واقع الأمر هذا الكون وهذه الأشياء تنعكس عنها الأضواء بطول موجي مُعيَّن، وهذا معنى اللون فيزيائياً، لكن لن نلتقط هذا، لماذا؟ لأنه مُتفرِّد، شيئ واحد فقط، ليس له ثان! جنس تحته نوع فيه فرد واحد، فكأن النوع يُساوي الجنس هنا إذن، وهذا مُستحيل أن يُعرَّف، حتى باللُغة المنطقية يستحيل أن تُعرِّفه بحسب شروط المناطقة، حتى بحسب شروط الإدراك لا يُمكِن أن تُدرِكه، وهذا شيئ يُفترَض أنه مخلوق بلا شك وحادث، من المُمكِنات! فكيف بمُكوِّن المُكوِّنات ومُحدِث المُحدَثات ومُعطي المُمكِنات إمكانها؟ مُستحيل أن يُدرَك، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، لا إله إلا هو! أي عقل هذا الذي سيُدرِكه؟ إنك فقط وقصاراك أن تخلع عليه شيئاً من لياقاتك، من مزاياك، ومن خصائصك، بمعنى أنك تُخفِّضه إلى إنسان، قد يكون أكبر منك كماً، لكنه ليس أكبر منك نوعاً، وهذا إلحاد! هذا إلحاد فانتبه، وهذا يقع فيه كل الملاحدة وإن ادّعوا أنهم لاهوتيون أو رجال دين، هذا نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته، ويجور على فرادنيته كما ينبغي أن تُسلَّم وأن يُؤمَن بها، سُبحانه وتعالى، تقدَّس في عليائه.

نعود، نحن مُطمئنون إلى أن معنى اسمه الباطن نعم هو الخفي بذاته وبكُنهه، فلا يُدرَك ولا يُكتنَه، وأيضاً خالق البواطن والعليم بالبواطن، إلى هنا ليس هناك من شيئ جديد، انتبهوا! نُريد أن نُفسِّر أو نذهب بهذه المعاني إلى آخر مداها في مُحاوَلة – نسأل الله أن تكون مُوفَّقة وصحيحة – لفهم بعض عُمق – بعض عُمق أو شيئ من عُمق – بُعد من أبعاد اسمه – تبارك وتعالى – الباطن، وهو شيئ سيكون مُذهِلاً ومُحيِّراً ومُطرِباً لأصحاب القلوب المُؤمِنة والأرواح الشفيفة والعقول الذكية، وسأبدأ من حيث بدأ إلهام هذا الخاطر أو هذا المعنى.

أيها الإخوة:

أعتقد أنكم تُسلِّمون جميعاً معي أن كماً من التجارب والخبرات المُتعلِّقة بالآخرين يُعايشها إنسانٌ ما أو فردٌ ما ستكون قمينة وكفيلة أن تُوسِّع أمداءه النفسية الوجدانية المشاعرية وأيضاً العقلية، وبالتالي ستُوسِّع وتمد وتبسط إنسانيته، لأن الإنسان في النهاية لا يتعرَّف – لا يتعرَّف كإنسان – إلا بالجامع الذي يجمعه بما يتجاوزه، بما هو آخر! وانظروا إلى كل التعريفات المشهورة للإنسان، الإنسان كائن حي أو حيوان – كما يقولون – اجتماعي، كائن حي اجتماعي، ليس بما يدور حول ذاته كمُفرَد مُطلَق، لأنه ليس مُفرَداً مُطلَقاً، مُستحيل! ولا معنى لإنسانيته خارج علائقيته، الإنسان حيوان أو كائن حي اجتماعي، نفس الشيئ! الإنسان كائن حي سياسي، الإنسان كائن حي ميتافيزيقي كما يقولون، فيه أبعاد غير منظورة وغير مقدورة بشكل جيد، الإنسان كائن ناطق، وقد فهمنا معنى النطق عند أرسطو Aristotle، ليس النطق باللسان، لا! بمعنى أنه مُفكِّر، عنده قدرة على التجريد ووضع الكُليات، دائماً يتحدَّد بما هو خارج، هذا هو فعلاً!

ولذلك حتى في اللُغة العادية، في اللُغة العاطفية، وفي اللُغة العامية يُقال هذا إنسان حقاً، أشعر بإنسانيتي، شعرت إثر هذا الانفعال بإنسانيتي، لماذا؟ طبعاً لأنه حاول أن يتقمص خبرة إنسان، أن يُعايشه في مأساته، أن يعيش مكروثيته وآلامه، فذرفت عيناه، هملت عيناه! ورق قلبه، ووقف موقف مُواساة حقيقياً، قال وشعرت بإنسانيتي، هذا صحيح! هذا تعبير عامي وفلسفي في الصميم، تشعر بإنسانيتك حين تُؤكِّد علائقيتك، وهذا معنى الإنسانية!

لذلك – هذا اجتهاد بسيط – في نظري آدم حين كان في الجنة وحده وقبل أن تُخلَق حواه كان بشراً، وأصبح إنساناً بحواه، حين هبط إلى الأرض وأنسل ذُريةً وصار خليفةً، هو الإنسان الخليفة، أما آدم برأسه فهو بشر، ولا يُمكِن أن نتصوَّر إنسانيته وحده، لكن ضمن هذه العلائقية يُصبِح إنساناً، فمَن أراد أن يُثري وأن يُعمِّق وأن يبسط إنسانيته فلينطلق من هذا المُنطلَق، وهو مُنطلَق تُؤكِّده الأديان جميعاً وخاصة الإسلام، وتُلِح عليه إلحاحاً شديداً.

نعود إلى ما كنا فيه، أكبر قدر أو أي قدر – أياً كان هذا القدر – من الخبرات يُعايشه الإنسان – خبرات الآخرين طبعاً – ويُحاوِل أن يستوعبه – بلُغة علماء النفس أن يتقمصه، هناك أمر أكبر من التعاطف وهو التقمص، الذي يُعبَر عنه بأن تضع نفسك مكانه كما في علم النفس الإنساني أو بأن تمشي في حذائيه كما يقول المثل الصيني، إلى آخر هذه الأمثولات والتعابير، هذا التقمص، حالة تقمص، ليس بمعنى التناسخ، لا! التقمص هو التقمص الوجداني، التقمص المشاعري، التقمص للحالة – سيبسط إنسانيته، هذا بلا شك سيبسط إنسانيتك، سيزيد آفاقك ويمد أمداءك، جميل جداً! وستشعر بإنسانيتك.

الآن طبعاً تجارب الآخرين على اختلافهم تُفيد شيئاً، كلما اتسع حجم هذه التجارب المُتقمَصة المعيشة سيتسع مدى الإنسان الذي يقوم بهذه الخُطوة العجيبة، قليل من الناس مَن يُحاوِل أن يقوم بها، وبعض الناس يُمارِسها عملياً دون أن يدري، ومن هنا سر ظرافته ومحبوبيته وروحانيته وإنسانيته، وسر رحمة الله له في الدنيا والآخرة! لأن هذا الإنسان الذي يُريده الله تبارك وتعالى، هذا هو الإنسان! ليس هذا البشر، هناك بشر كثيرون، لكن هناك أُناس قليلون، هناك بشر كثيرون! أكثر من ستة مليارات من البشر، أما الإنسان فيختلف أمره، الناس هؤلاء قليلون، لكنهم عميقون وروّاد مُتلألئون مُضيئون، لابد أن تخبر أو تُحاوِل أن تخبر تجارب وحالات هؤلاء على اختلافهم، الكبار والصغار، الذكور والإناث، العامة والمُتعلِّمين، الكفّار المُلحِدين والمُؤمِنين المُوحِّدين والعارفين، المُتدينين بدينك والمُتدينين بغير دينك، الفقراء والأغنياء، المسعودين والمغمومين، المُوفَّقين والفاشلين، هكذا تُحاوِل سواء أكانت هذه المُعايشة تتم بطريق مُتابَعة أجزاء من خبرة الآخر – إذا كان قريباً ولصيقاً بك، وربما كان نزيلك في البيت – أو بطريق الرواية والحكي، وطريق الحكي أو الرواية قد يأخذ صيغة عمل فني، مسرحيةً أو فيلماً أو روايةً – قد تُمثَّل رواية حقيقية أيضاً – أو قصيدة، إلى آخره! وقد تكون هذه الشخصيات حقيقية وقد تكون خيالية، كشخصيات الروايات، فلتعش معها أيضاً، ولتُحاوِل أن تأخذ شيئاً من خبرتها، تتقمص الخبرة!

إلى الآن وهذا أيضاً مفهوم، ويبدو أن الشعراء والفنّانين والروائيين والمُتروحِنين العارفين من أهل الدين يفهمون هذا، وهذا هو المُتدين الحقيقي، ليس المُتدين مَن يُصلِح هيئته على معيار السُنة ومَن يُحاوِل أن يُؤدي حقوق الله بالمسطرة وبالضبط، ثم هو خلوٌ من مُعايشة الآخرين والإحساس بهم، هذا بريء من أعمق معاني التدين، ومُثقَل بأبسط وأكثر معاني التدين سطحيةً وقشوريةً، وهو لا يدري – أي هذا المسكين – أبداً أبداً، يختلف تماماً الوضع!

أقول إلى هنا القضية مفهومة، فلننزل درجة، هل يُمكِن للإنسان أن يُحاوِل أن يتقمص حالات أُخرى؟ طبعاً هذه الحالات قد تكون حالات شعورية وجدانية، وقد تكون حالات فكرية مفاهيمية، بخصوص الإنسان هذا موجود وهذا موجود، بخصوص الحيوانات والعجماوات الأمر مشكوك فيه، أن تكون لها حالات عقلية ومفاهيمية أمر مشكوك فيه، لكن هل لها حالات وجدانية وشعورية؟ نعم، باستثناء ديكارت Descartes قال لا، اعتبرها آلات خلواً من المشاعر، وهذا غير صحيح، لها مشاعر ولها أحاسيس ولها مُدرَكات تُناسِب أُفقها ورُتبتها في سلم الموجودات، فلننزل هذه الخُطوة ولنُحاوِل، وفي الحقيقة من هنا كانت البداية، من مُلاحَظتي لحمامتين تهدِلان وتنقزان من فرع إلى فرع ومن غصن إلى غصن، فتخيَّلت نفسي للحظة أنني إحدى تلكما الحمامتين، كيف تنظر إلى نفسها؟ كيف تنظر إلى قرينها أو قرينتها أو ربما أختها أو صديقتها أو ربما عدو لها – لا أدري -؟ كيف تنظر إلى العالم؟ كيف ترى الأشياء؟ كيف تحس بها؟ كيف تنعكس عندها؟ هل أستطيع أن أتقمص هذه الحالة؟ أدب كافكا Kafka تكفَّل بشيئ من هذا، وهذه هي الشخصيات الكافكاوية، لكن للأسف – أنا قرأت هذا الأدب – تقريباً دائماً أو في أكثر الحالات على خلفية إنسانية، وهنا كان فاشلاً، في تقديري هو كان فاشلاً، لم يستطع أن يتعمَّق أكثر وأن يُحاوِل رجع تجربة على خلفية المُتقمَص، وهذا صعب طبعاً بالنسبة للإنسان إن لم يكن تقريباً مُستحيلاً، ستكون خلفية أنسنة لهذه المخلوقات، تُسقِط عليها إنسانيتك وشخصيتك، تُسقِط عليها بعض مُشخِّصاتك كإنسان، وتزعم أنه يُفكِّر هكذا، لكن ليس الوضع هكذا، من الصعب فعل هذا، لكن هو لم ينجح، المطلوب كفنّان أن يتكابد هذه الخُطوة، لكنه لم يذهب إلى هذا المدى، لكن الخُطوة عبقرية بحد ذاتها، هذه الشخصيات الكافكاوية عجيبة، ليس عبثاً هذا!

المُهِم ماذا لو نزلنا خُطوة أقل من ذلك؟ طبعاً يُمكِن أن تتقمص شخصيات حيوانية أقرب إلى المملكة الإنسانية، كالفصائل العُلوية، فصائل السيميا! كالغوريلا Gorilla، الأورانغوتان Orangutan مثلاً، والشِمْبانزِي Chimpanzee، فهذه ستكون أٌقرب قليلاً، ماذا لو نزلنا خُطوة أدنى من ذلك – إلى الزواحف، إلى الحشرات، وإلى الديدان – مثلاً؟ بحسب القرآن وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ۩، هل يُمكِن أن يقفز الخيال قفزته ويتعاطى هذا التقمص المُتخيَّل المُفترَض مع أشياء الوجود – مع الجوامد والسواكن – مثلاً؟ شيئ عجيب، ماذا لو الإنسان تصوَّر هذه الحالة؟ طبعاً المسألة مبدئياً مطروحة في نطاق الإمكان، بعض الناس يزعم أن عندهم هذه القدرة، أنا قرأت عن كثيرين يزعم الواحد منهم أن يتواصل مع النبات، ويتواصل بشكل حقيقي، ولذلك عندهم قدرة أن يتنبأوا عن أحوال هذا النبات لأسابيع مُقبِلة، ويقول لك هو يشتكي الآن، يشتكي من ظرف مُعيَّن في البيت، غداً هذه الزهرة لن تتفتح عن آخرها، ويُختبَر هذا غداً ويكون صحيحاً، عجيب! يقول أنا سأتواصل معها بطريقتي، سأجعلها تتفتح بعد أربع ساعات، ويحصل هذا، أنا أُصدِّق هذا، أُصدِّق! هؤلاء بشر غير عاديين، بشر استثنائيون، فيهم قبس رباني أو استغلوا هذا القبس الإلهي بطريقة أكثر من ذكية، أكثر من مُعتادة، أكثر من عبقرية، ولذلك هم أُناس فوق العادة، بلا شك استثنائيون.

هناك بعض قصص العارفين بالله في التراث الصوفي العرفاني الإسلامي مِمَن أكَّدوا على تواصلهم مع السواكن، وطبعاً هذا موجود في سيرة رسول الله، مع جبل أُحد، مع المطر، مع الحصيات التي سبَّحت في يديه، هذا موجود! مع الحجر الذي كان يُحِبه ويُسلِّم عليه، وهناك بعض العارفين أيضاً حكوا لنا عن نفس الخبرات، كان يتواصل أحدهم بطريقة ما ويتقمص هذه الحالة… لا أُسميها الوجدانية، الوجدان ما يعرفه الإنسان، أنا لا أستطيع أن أُغامِر وأُسمي حالة ملكية يتكابدها ملك بأنها حالة وجدانية، لا! لا أستطيع ولا أُغامِر، لكن أقول هذه الحالة ثم أترك نقاطاً أو إكس X، هذه الحالة! بعض هؤلاء العارفين تقمصوا حالات لهذه السواكن، لإبريق الوضوء – مثلاً – أو لسجادة أحدهم، تقمصوها! شيئ غريب، كيف هذا؟ كيف يتم؟ وما معنى هذا؟

على كل حال إلى الآن المسألة في إطار الإمكان وقد تحقَّقت، يبدو أنها من خلال هذه الحكايا وهذه الروايات تحقَّقت في ظروف استثنائية جداً لبشر ومن بشر استثنائيين، ماذا لو عكسنا الحالة؟ هل يُمكِن هذا؟ هل يُمكِن – مثلاً – لحشرة أن تتقمص حالة إنسانية؟ مُستحيل، هذا غير مُمكِن! هل يُمكِن لشِمْبانزِي Chimpanzee أن يتقمص حالة إنسانية؟ يُوجَد إمكان ضعيف، ولذلك هذه الحيوانات – كالشِمْبانزِي Chimpanzee، كالكلب، وحتى كالقرد – يُمكِن أن تتعاطف معك وأن تُرسِل إليك إشارات أنها مُتأثِّرة بحالتك وتشعر بها، يحدث هذا! يحدث حين يموت – مثلاً – صاحب الكلب – أكرمكم الله وأعزكم جميعاً – أن هذا الكلب يُضرِب عن الطعام والشراب وعن المُواقَعة أو السفاد حتى يموت، وهذا حصل مرات كثيرة، نعم حصل مرات كثيرة، هناك قصص الناس يعرفونها، الأسد الذي ضرب – ضربة خاطئة طبعاً – مُدرِّبه الحلو في مصر أحجم بعد ذلك عن أهله وعن الطعام والشراب، وأعتقد في ثالث أو في رابع يوم بدأ يأكل نفسه حتى مات، إذن شعر هو بخطئه، شعر بخطئه! إذن يتواصل معك هو في مُستوى مُعيَّن، لكن أدنى من المُستوى الذي تتواصل أنت معه به أو من خلاله، أدنى بلا شك! يتواصل معك إلى حد ثم يقف.

ولذلك تواصل الشِمْبانزِي Chimpanzee معك أقوى بكثير من تواصل الكلب، تواصل الكلب أقوى من تواصل القط، وتواصل القط أقوى من تواصل الزاحف الذي تُربيه أو السمكة في حوض السمك – Aquarium – مثلاً، أكبر بلا شك!

الذي أود أن أخلص إليه من هذا أمران: وسيلة وغاية، نأتي إلى الوسيلة، كيف يتم التواصل؟ ولماذا هو من ناحية مفتوح ومن ناحية أُخرى محدود ضيق فيقف ويتجمَّد؟ التواصل يتم ما لم تتم حالة من حالات التناسخ، وهي في نظرنا كمُسلِمين مُستحيلة، لا يُوجَد شيئ اسمه تناسخ، هذا كلام فارغ، أي أن تحل روح مخلوق في بدن مخلوق آخر سواء كان إنسانياً أو من نوع آخر، حتى عند الهنادكة هناك حالة أن تحل هذه الروح في الجماد ويُسمى الرسخ، فهناك مسخ وفسخ ورسخ، هذه حالة من حالات الرسخ، عندما تحل هذه الروح في الجماد، وهذا كلام فارغ، هذا الكلام ليس عليه أثارة لا من علم ولا من دين، لا نُؤمِن به! إذن التناسخ غير مُمكِن، التناسخ غير مُمكِن! علماً بأن التناسخ حين يتم بأي طريقة من الطريق تُفقد هُوية وتُولَد هُوية، أليس كذلك؟ بمعنى آخر أن هذه الهُوية المنسوخة ستحل في بنية وستحتفظ بمُقوِّماتها الأولى، نحن لا نتكلَّم عن هذا، لا! نتكلَّم عن تقمص لحالات تخص هُوية مُعيَّنة مع بقاء هذه الهُوية، أي مع محفوظيتها، أيضاً مع بقاء الهُوية الأولى لكن مع امتدادها وانبساطها، لماذا؟ لأنها استطاعت أن تمتد عبر خبرات جديدة ونوعية غير مخبورة قبلاً، يتم هذا إذن في حال انتفى – وهو مُنتفٍ – إمكانية التناسخ بالمعلومات، بأن تقف على أكبر تفاصيل مُمكِنة تخص هذا الكائن، أليس كذلك؟ وهذا يفتح باباً على مأساة اللُغة التشاركية إن جاز التعبير.

اللُغة وهم كبير، وهم كبير يُفهِم الناس ويُوقِع في أذهانهم أنها قادرة على الوصف والتصوير، وهذا وهم كبير جداً، ما فيه من باطل أكثر ما فيه من حقيقة، اللُغة قصاراها أن تُؤشِّر، لكنها لا تستطيع أن تفتح الصناديق، مُستحيل! هذا باختصار، هذه نظرية كاملة، تحتاج إلى شرح طويل، ولكن باختصار هي تُؤشِّر على الصندوق بلُغة رمزية، سواء سمته صندوق كذا أو أي اسم آخر، لكنها لا تستطيع أن تفتحه، ما يفتحه أساليب أُخرى، قدرات أُخرى، ولياقات أُخرى يتمتع بها هذا الإنسان، وتأتي اللُغة بعد ذلك لتُؤشِّر على مُحتويات الصندوق، كبيرها وصغيرها! بحسب ما تتبدا للوعي الإنساني، ومن هنا اختزالية وابتسارية ومسخ اللُغة للخبرة، ولكي تُعوِّض هذا النقص فلابد أن تُصبِح أو تتخلى عن صفتها العملية، اللُغة هي هكذا عملية واقتصادية، وتقوم بمُهِمتها بطريقة حسنة، لكن ينبغي ألا تخدعنا عن حقيقة مُهِمتها، للأسف أحياناً نُخدَع عن حقيقة مُهِمتها، ونظن أنها قادرة فعلاً على الوصف والتصوير، هي لا تفعل هذا! انتبهوا، لا تفعل هذا، لا تستطيع أن تفعل هذا، ما يفعله لياقات أُخرى في هذا الإنسان، ما به يكون الإنسان إنساناً، الوجدان، الشعور، المُعايشة، العقل، الوعي، البصيرة، والنفّاذية! هذا ما يفعله، وليس اللُغة.

ولذلك لو سكنت اللُغة يُمكِن لهذه الأشياء أن تفعل فعلها أيضاً، لكن إلى حين، لأن اللُغة تُؤطِّر الحصيلة في النهاية، تُؤطِّرها وتجعلها قابلة للتواصل والتشارك، ولذا عندها صفة رمزية وصفة تشاركية في نفس الوقت، عندها صفة تشاركية!

على كل حال حتى يضح هذا المعنى باختصار انظروا إلى آخر خبر، هكذا رتَّب المُخرِج وربما مُذيع النشرة الأخبارية أن يختم به نشرته: في طريقها من مدينة زيتوت إلى مدينة عيتوت لقيَ سبعون راكباً – سبعة منهم من الأطفال – مصرعهم في حادث تحطم هذه الطائرة، ألقاكم، السلام عليكم. خبر! تظن أنك وقفت على الحقيقة، تظن أن هذا الخبر صوَّر الحقيقة، لكن هو لم يُصوِّر واحد على مليون، لأن الحقيقة أن هناك أكثر من سبعين عالماً من العوالم – أكثر من سبعين عالماً من العوالم المُتداخِلة المُعقَّدة المُتراكِبة، من الماضي، من الحاضر، ومن آمال المُستقبَل، من المُعاناة، من النجاح، من الفشل، من الزيجة، من النسب، من المُصاهَرة، من الأولاد، من العلائق، من… من… ومن… – هي التي أُخبِر عنها بطريقة ابتسارية أنها انتهت وفُقِدت، اللُغة لا تستطيع ما هو أكثر من هذا، لكن هذه صفتها العملية والاقتصادية، وإلا لفقدت هذه الصفة، لكن على الخيال أن يُعوِّض هذا، وعلى الإنسانية أن تُعوِّض هذا، وعلى الموقف الحقيقي أن يُعوِّض هذا.

ولذلك – انتبهوا – فعل العزاء فعل خطير جداً جداً، فعل العزاء – حين تأتي وتُعبِّر عن حالتك بكلمات – فعل خطير، أكبر من مُجرَّد أنك تحفظ جُملة وتأتي لتُكرِّرها، أكثر الناس هو هذا حالهم، هو يحفظ جُملة ويأتي فقط ليُكرِّرها، هذا ليس مُعزياً ولا يعرف من العزاء شيئاً، ومُستحيل أن النبي قصده حين قال مَن عزى مُصاباً فله مثل أجره بحفظه جُملة وترديدها، يستحيل! انتبهوا وفكِّروا في فلسفة العزاء إذن، من هذا المُنطلَق فكِّروا، كيف تأخذ أنت أجر مَن مات ابنه وأُوجِر في مُصيبته؟ هل تأخذ مثل أجره بقولك خمس كلمات؟ مُستحيل، المسكين يقول مليون كلمة ويُؤلِّف قصائد شعر في ابنه الميت، يُؤلِّف دواوين! ولك مثل أجره، كيف؟ انتبهوا، هذا – كما أقول – يفتح أذهاننا مرة أُخرى على أن نحذر خدعة اللُغة، كيف تلعب معنا؟ ربما هي تخدعنا وربما نحن نخدعها، أي نخدع اللُغة أو نخدع أنفسنا بها، الموضوع أعمق من ذلك!

أعود لأقول الوقوف على أكبر قدر من التفاصيل هام، وهذا ما تقوم به اللُغة الفنية، وتعجز عنه اللُغة العادية، وهذا هو الفرق، الفرق أن الفنّان شاعراً كان أو روائياً أو مُخرِج فيلم حتى أو مُمثِّلاً أو كاتب قصة أو مسرحية يأخذ جُزئية بسيطة، بالنسبة إليك أنت تُعبِّر عنها باختزالية لُغتك في خمس كلمات أو ربما في خمس جُمل على حد أقصى، لكن هذا الفنّان يُحيلها إلى قصة من خمسمائة صفحة، وتُترجَم فنياً في مُسلسَل من أربعين حلقة، وتُبكي الناس وتُسعِدهم وُتطرِبهم وتُشجيهم وتُحرِّكهم وتدفع هممهم وربما تُحطِّمهم، نعم! هذا هو الفرق، لأن الفنّان هروباً من اختزالية اللُغة أراد أن يُعوِّض بخصوبة الخيال وغزارة المُعايشة، لكنه محكوم أيضاً باللُغة، لكن حين يُخرِجها عن شرط اقتصاديتها وعمليتها، يجعلها ثرثارة، مع أنها مُقتصِدة جداً، أي اللُغة، انتبهوا! اللُغات مُقتصِدة جداً جداً، اللُغات لا تكون ثرثارة، نحن نُثرثِر بها، لكن هي لا تُثرثِر ولا تعرف الثرثرة، نحن الثرثارون!

الآن نقفز قفزة لنقول هل يُمكِن لنا أن نتخيَّل شيئاً عن – اللُغة ستخونني، لا أقول عن طبيعة العلاقة، هل أُسميها علاقة أصلاً؟ لا أدري، هل أقول طبيعة الموقف؟ لا أدري – ما يتعلَّق بالله – تبارك وتعالى – وبمخلوقاته أو ما يتعلَّق بالله وبنا نحن؟ طبعاً كل ما سبق من قولنا أو من افتراضنا لإمكانية أن تتقمص حالات البشر الآخرين – الحيوانات العُليا والدُنيا، حتى الحشرات والديدان والأميبا Amoeba، وربما المخلوقات السواكن والجوامد – يتعلَّق بماذا؟ بجُزء يسير وبسيط جداً جداً من الكون، فولتير Voltaire بالغ حين قال عنه كومة تراب، لا! هذا غير صحيح، الأرض ليست كومة تراب، إنها أقل من حبة تراب، وذلك بالقياس إلى موجودات هذا الكون الوسيع، علمياً – بحسب المُعطى العلمي – هي أقل من حبة تراب بالقياس إلى حبات رمال الشواطئ في العالم كله، هذا وضع الأرض في الكون علمياً، فلكياً! وهذا عجيب، الآن ليقفز الخيال قفزته الحقيقية، فيُحاوِل أن يتعاطى مع وهم التصور أو التخيل لكيفية أو لطبيعة أو لنوع علاقة الباري – لا إله إلا هو – بخلقه أو بمخلوقاته، وهذا ليس على هذه الأرض فقط، مع أن هذه الأرض وهؤلاء البشر الذين تعرفهم يُشكِّلون عوالم كثيرة ولهم أكوان مُوازية مُتعدِّدة، لكل واحد منا كون!

قبل أيام سألت أحدهم، قلت له اليوم جميل جداً كما يبدو، هل تُوافِقني؟ فقال طبعاً، هل هذه تحتاج إلى سؤال؟ فقلت له هذه تحتاج إلى مائة سؤال، ليست تحتاج إلى سؤال، وإنما تحتاج إلى مائة سؤال، فقال لي لماذا؟ قلت له ليس بالضرورة إذا جمعنا مُناخ يوم مُعتدِل، عليل النسمات، في حرارة سبع عشرة، وفي طريق زراعي – وكنا نتمشى فيه – يتلوى بين صفين يكتنفانه من السرو الشامخ الوثيق أن يُورِثني نفس الانطباع الذي يُورِثك إياه، مُستحيل! قلت له كُن واثقاً أن هناك مِن الناس مَن يُحيل هذا الطقس يومه إلى يوم غم وهم، ويُحيله إنساناً مُكتئباً، قال لي لماذا؟ قلت لأن هذا العالم ليس عالماً واحداً، هذا العالم لا نلتقطه بوسائل حسنا، لو كنا نلتقطه بوسائل حسنا لخلق انطباعات مُتشابِهة تماماً، لكن نلتقطه بحسنا زائد خلفياتنا النظرية والمفاهيمية، زائد خزيننا الشعوري والعاطفي.

تخيَّلوا إنساناً فُوجِع في أعز مَن لديه في يوم مثل هذا اليوم قبل عشرين سنة، إلى أن يموت سيكره مثل هذا الطقس، إلى أن يموت! سيُذكِّره بالمكروثية، بالحزن، وبالألم، نحن لا نلتقطه عبر مشموماته ومذوقاته ومسموعاته ومرئياته، وإنما عبر الخزين، ولذلك يُعيد هذا العالم تشكيل نفسه وإعادة نفسه وعرض نفسه إلينا بحسب كل هذا الخزين.

هذا كله يا إخواني وأخواتي من مجالي اسمه الواسع، أليس هو الواسع؟ لا إله إلا هو! أليس هو الغني؟ أليس هو الكريم؟ هذا من كرم الله، مائدة واحدة! تصوَّروا هذا الكون كمائدة، لكن هذه المائدة تُعطي كل واحد ما يشتهيه من طعوم وألوان، لكن المائدة العادية – حتى مائدة عيسى – فيها سمك وماء، لكن مائدة الله للخلق، للبصيرة، للعقل، وللمُتأمِّل.

الآن أظن أننا سنقف ونُمسِك كما يُقال مسك اليد ثمن البلادة، كم تُكلِّفنا البلادة! كم يُكلِّفنا ألا نتأمَّل، ألا نتعمَّق، وأن نأخذ الأشياء هكذا باختصاريتها وبسطحيتها ثم نظن أننا نُفكِّر أو نحفظ مأثورات – قال الشاعر وقال الفيلسوف – ثم نظن أننا فهمنا؟ ثمن البلادة فادح، ثمن البلادة وتعطيل ملكة التأمل فادح جداً جداً في الإنسان، والعكس صحيح! لكن كل هذا يبق ضمن حبة تراب من رمال شواطئ الكون السحيق الوسيع.

الآن ما كان يحصل – وعندي صدِّقوني – من قبل هو نوع من تخفيض الله دون أن ندري ودون أننوي، انتبهوا! لم نكن ندري بهذا ولم نكن لننويه، ومعاذ الله وحاشا لله! لكن كل ما كان يحصل – وأنا مُتأكِّد من أن هذا ما يحصل مع الناس وما سيظل يحصل إلى أن يشاء الله – مع أكثر عباد الله هو تخفيض لله إلى مُجرَّد لاقطة، هو – والعياذ بالله – اختزال لله إلى شيئ أشبه بالآلة، شيئ ميكانيكي، شيئ جامد! مع أننا نقرأ ونتلو في كتاب الله – تبارك وتعالى – أنه سميع، بصير، عليم، خبير، بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ۩، لا يعزب عنه شيئ، لا تخفى عنه خافية، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩، رقيب على كل شيئ، وقائم على كل شيئ، إلى آخره، إلى آخره! ومع ذلك كنا وربما ما زلنا نظن أن الله يفعل هذا أو يعمل هذا – مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ۩، الأحسن أن نقول يعمل تبارك وتعالى – بطريقة التقاطية، أي كأنه شرطي كوني، يرصد كل شيئ، يرصد! هذا كذب، وهذا لم يُصل، وهذا قتل، وهذا قال في نفسه كذا، وهذا هم بكذا، وكل هذا هو مُعَد لكي تُحاسَب عليه، ليس هذا أبداً، أعوذ بالله! هذا تصوير ميكانيكي آلي لله، هذا تخفيض لله، هذا جعل الله أقل من إنسان، ما رأيك؟ طبعاً! هكذا يتخفَّض الله أقل من إنسان، صحيح أن الكم الهائل اللا مُتناهي الذي يُحيط به علم الله ورقابة الله وسمع الله وبصر الله يُعجِز الإنسان، لكن كيفياً الإنسان أعلى، للأسف هذا إلحاد إذن دون أن ندري، لأننا لم نتأمَّل، لم نُفكِّر، نحن نُردِّد دن أن نتعمَّق.

هذا ما يحصل مع الإنسان كإنسان، انتبهوا ! ولكي أُوضِّح تخيَّلوا هذه التجربة – بداية تجربة التقمص – لكن مع آلة، مع روبوت Robot! فإذا قيل له يا سيد روبوت Robot تُوفيت زوجة فلان التي أحبها جداً وعشقها جداً وكانت زوجة وفية وامرأة صالحة سيكون ردة فعله التقمصية التعايشية كالتالي: إذن نقص عدد أفراد الأسرة واحداً، نقص واحداً! لأنه آلة، انتبهوا، أو ربما يقول إذن هذا الرجل صار مُحتاجاً إلى زوجة جديدة، أو ربما يقول هذا الرجل يُكابِد الآن حالة من عدم أو من سوء أو من صعوبة تدبر معيشته وشؤونه اليومية والمنزلية، هذه الآلة! علماً بأن بعض الناس آلات وهم لا يشعرون، لأنهم يُبدون ردود أفعال على نحو قريب من هذا، ربما أكثر منه بقليل ولكن ليس بكثير، انتبهوا! هؤلاء آلات، أما الإنسان مُباشَرةً فإن الخيال أيضاً سيلعب دوره والخزين سيأتي بمدده وسيتقمص الحالة مُباشَرةً، وتذرف عيناه، ويقشعر بدنه، ويشعر أنه مدفوع بدافع مواساة غير عادي، ربما يُعطِّل بعض أعماله، بعض مواعيده، وبعض ما كُتِب في الأجندة، لا تُوجَد مُشكِلة! هذا الإنسان، فكيف برب الإنسان؟ انتبهوا، نحن قلنا في البداية – انتبهوا واربطوا بين الأفكار – كلما اتسع مدى هذه التجارب والخبرات التي تعيشها كلما اتسع ماذا؟ مدى إنسانيتك، أليس كذلك؟ الأمداء العقلية والوجدانية عندك ستتسع.

أنا زعيم أن قراءة رواية واحدة أمر هام، اقرأوا رواية واحدة – درامية مثلاً – لأديب عبقري مثل دوستويفسكي Dostoyevsky مثلاً – بالذات هذا الرجل أنا أُجِله وأُحِبه جداً – وسوف ترون كيف تنتقلون إلى أُفق أعلى بكثير مما أنتم عليه، رواية واحدة! فكيف لو كنتم تعيشون خبرات أُناس حقيقيين مما عندهم أمل في تعايشكم، في مُعايشتكم، في مُشارَكتكم، وفي مُواساتكم؟ إذن ما يقوم به الإنسان ليس مُجرَّد التقاط، كأن يلتقط حالة موضوعية بتفاصيل موضوعية ساكنة، لا! أكبر من هذا.

الآن القفزة الهائلة والنهائية، ما الذي يحصل بخصوص رب العزة – لا إله إلا هو -؟ قطعاً هو ليس التقاطاً آلياً، انتهى! هذا مفروغ منه، قطعاً ليس هو مُعايشة وتقمصاً كالذي يحصل مع الإنسان، مع أكبر شاعر فينا، مع أضخم روائي، ومع أكثر الفنّانين هولاً وبراعةً وبداعةً في فنه، لا! هذا غير صحيح، كل هذا يتعلَّق بعالم الإنسان وبخبرات الإنسان وعلى خلفيات الإنسان، أنت حتى تتقمص حالة حشرة ستتقمصها على خلفية إنسانية وليس خلفية حشرية، أليس كذلك؟ ولن تُفلِت من هذا، لكن رب العزة – تبارك وتعالى – أولاً لن يتقمص الحالة، حاشا لله! الله لا تحله الأعراض، انتبهوا! لا تحله الأعراض، أي لا تُوجَد عنده مشاعر لم تكن موجودة عنده، الله لا تُوجَد عنده مشاعر، انتبهوا! لكنه ليس آلة، للأسف بعض الناس حين قرأ العقيدة قراءة مغلوطة منكوسة – رأسها أدنى ورجلاها إلى أعلى – فهم أن الله أشبه بآلة، حتى أكون صادقاً معكم أنا – العبد الفقير، وقلت هذا في خُطب أيام مسجد الهداية – كنت أقول ينبغي ألا نتصوَّر الله – تبارك وتعالى – على نحو إنساني، إلى الآن كان كلامي صحيحاً، ما أخطأت فيه – والآن تذكَّرت هذا – خطأً كارثياً ومُخيفاً ولم يُنبِّهني أحد للأسف الشديد – لأنه لم يُكتَب هذا في كتاب، لم يتنبَّه إليه كاتب ولا عالم للأسف من قبل – أنني خفَّضت الله بعد ذلك إلى أقل من إنسان، جعلته آلة! كنت أقول ينبغي ألا نتعامل مع الله على أنه بشر مثلنا، قلت هذا في خُطبة أيام البوسنة! نحن كبشر يُروِّعنا منظر الدماء، منظر الأشلاء، الصرخات، الآهات، والصيحات، أما رب العزة فليس كذلك، كيف هذا إذن يا عدنان؟ رب العزة عنده طريقة خطية حسابية، قُم بحقوقي أو أد حقوقي ثم طالب بعد ذلك بالنصر أو طالب بما لك، فأنا سأقوم بهذا، هكذا! هذه آلة، أنا كنت أتحدَّث عن آلة، والآن اكشتفت هذا، لم أكن أتحدَّث عن رب العزة، ما أعرفه الآن بفضل الله – تبارك وتعالى – يختلف، وهذا – والله العظيم – ليس مني، ها جاء بشكل إلهامي في أقل من ثانية، لحظة هكذا! ليس مني، من فضله عز وجل، فإن يكن حقاً فله الحمد والمنّة، وإن يكن خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وهو بريء من ذلك ورسوله، لكن أنا – إن شاء الله – مُطمئن إلى أنه حق، لأنه شيئ يرفع الله في تصورنا – هو رفيع لا يحتاج إلى أي شيئ، لكن هذا في تصورنا – إلى أكثر من إنسان، ولا يتورَّط في تخفيضه إلى أقل من إنسان، أي إلى آلة، إلى شيئ ميكانيكي، أعوذ بالله!

الله تبارك وتعالى… ماذا أقول؟ لا أستطيع أن أُعبِّر، لا أقول تقمص، لا أقول مُعايشة، لا أقول تعاطف، لا أقول مُشارَكة، شيئ لا يُوصَف! طبعاً لأن اللُغة لا تصفه، يستحيل على اللُغة أن تصف هذا، هذا لا يُوصَف، لكن الله أعطانا مفاتيحه عبر إفهامنا أنه سميعٌ بصيرٌ خبيرٌ قائمٌ رقيبٌ باطنٌ، انتبهوا! الكلمة المفتاحية الهائلة باطن، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، لكي أُقرِّب لكم هذا المعنى تخيَّلوا عالماً فيه بشر آخرون أو فيه نحن – نفس البشر – لكن صرنا نتواصل فيه ليس باللُغة – اللُغة مُختصِرة كما قلت واختزالية، مُضلِّلة جداً اللُغة، هذه لُغة المُؤشِّر – وإنما صرنا نتواصل فيه ونتعامل فيه بطريقة أُخرى، شعاعية أو راديوية، لا أعرف كيف أُسميها! هذه الطريقة تكفل أن تنتقل المشاعر مُباشَرةً من صدري إلى صدرك، من قلبي إلى قلبك، ومن عقلي إلى عقلك، حين أنظر إليك وأقوم ببعض الحركات – لا أدري ما هي، حركات إشعاعية مثلاً كما قلت – تنتقل كل الحالات الشعورية إليك، الآن هذا التقمص الحقيقي، كيف طبعاً هذا؟ أنت تكون كما أكون، كما أنا فرحان أنت الآن فرحان، كما أنا مكروث محزون مغموم أنت كذلك، هذا تعايش مُمتاز!

طبعاً كل واحد يود هذا، يقول آخ لو أجد كلمات تُعبِّر عن حالتي! أنا أُريد مَن يفهمني يا ناس، هو يشعر أن اللُغة تخذله، يقول أُريد مَن يفهمني، أُريد مَن يُقدِّر حالتي، الذي يده في الماء ليس كمَن يده في النار، قال المُتنبي:

إذا اشْتَبَهَتْ دُموعٌ في خُدودٍ                                   تَبَيّنَ مَنْ بَكَى مِمّنْ تَباكَى.

ليست النائحة المُستأجَرة كالنائحة الثكلى، الإنسان يُدرِك – يُدرِك هذا – خذلان اللُغة له، لكن ليس عندنا طريقة راديوية ننقل بها المشاعر كُليةً، رب العزة – ولله المثل الأعلى -… ماذا؟ الأمر فوق ذلك وبعد ذلك، أكبر من ذلك! ماذا تظن؟ أكبر من ذلك! ليست مشاعرك وعواطفك وحالتك وجُزئياتك حاضرة عند الله، وإنما شيئ أكبر من هذا، لا يُعبِّر عنه لا خيال ولا تصور ولا لُغة، أكبر من هذا! ومن هنا يطمئن الإنسان، ليس إلى عدالة الله فقط – هو العدل المُطلَق، لا إله إلا هو – وإنما يطمئن إلى كرم الله وإلى رحمة الله.

لن تقول لله يوماً أُريد يا رب أن تفهمني، لست مُحتاجاً أن تقول له هذا أبداً، لست مُحتاجاً أن تُدافِع عن نفسك وتذكر له أنا فعلت هذا لأنني مررت بحالة كذا وكذا وصار عندي تفاعل من نوع كذا وكذا، إلى آخره! لست مُحتاجاً، لأنه الباطن، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، في الحقيقة هو أقرب إليك منك، ويعلم منك ما لا تعلمه حتى أنت من نفسك، لكن القضية ليست هكذا، انتبه! بعض الناس يقول هذا ليس بجديد، لا! الجديد ليس هذا، الجديد إياك أن تحمل هذا على معنى التقاطي آلي، أنه يُسجِّل حالتك بموضوعية مُطلَقة، وبالمُناسَبة إذا وُجِدَت موضوعية مُطلَقة فهي عند رب العزة، الإنسان يستحيل أن يكون موضوعياً بالمُطلَق، يستحيل! لا يُمكِن هذا ولا بأي شكل من الأشكال، هذا معروف علمياً، لكن هذا عند رب العالمين، بمعنى هل يُمكِن لأحد أن يُدرِك خلفيتي كما هي لا خلفية أوسع أو أضيق؟ رب العزة، ولا نقول عند الله خلفيات، هو الله، لا إله إلا هو! هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ۩، ولكن يُدرِكها كما هي تماماً، هل تعرف لماذا؟ ستقول لي هذا خطأ، ينبغي أن يُدرِكها بخلفية أوسع، مع التجاوز باستخدام تعبير خلفية في حقه عز وجل، ولا نُجوِّزه! لكن هذا غير صحيح أبداً، هل تعرف لماذا؟ هذه أنسنة لله، أيضاً أنت أسقطت عليه أن يكون محكوماً بالخلفيات، هو ليس كذلك أبداً، وإنما كل ما هنالك أنه هو الذي خلق – هو الذي خلقك – وهو الذي أمد والذي يُمِد حتى هذه الحالة وكل الحالات، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، وهكذا نستطيع أن نستنبط أن العالم الحقيقي والعلم الحقيقي هو علم مَن؟ علم الخالق، مَن خلق يعلم!

هناك نظرية فلسفية لفيلسوف قبل زُهاء ثلاثمائة سنة من أروع ما يكون، لكن لم تجد مكانتها ولم تجد مَن يُبشِّر بها، هو قال لا علم حقيقياً إلا علم مَن خلق، قال تعالى أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩، فيلسوف عميق هذا الرجل، انتبه! كل علم لا يكون مِمَن خلق هو مدسوس ومشوب ومغلوط نسبياً طبعاً، نسبياً! لسنا من العالميين ولسنا من السفسطائيين الذين يُسقطِون مصداقيات العقل والعلم، ولكن هو علم نسبي ومحدود ومشوب، لكن الذي خلق ويخلق – لا إله إلا هو – ويُمارِس عملية الخلق بشكل مُستمِر هو الذي فعلاً يعلم علماً حقيقياً، فالأمر للأسف هكذا، نظل هكذا مخذولين، نقول يعلم، يُحيط، وكذا، لُغة! هذه مُشكِلة اللُغة، ما يُسمى بالمسمسة في الاصطلاح الصوفي القديم.

ولكن على كل حال الآن نحن مُطمئنون إلى أن الأمر هو أمر أكبر من تعايش وأكبر من استيعاب وأكبر من تعاطف، أكبر من هذا! أمر لن نخبره، لم لن نخبره ولكن لن نخبره، لأنه يخص الواحد وحده، الواحد! لا يُوجَد غيره، هو الذي – عز وجل – بيده ذلك، غيره لا يستطيع ذلك، غيره محكوم بخلفيته، ومحكوم بمحدوديته، أنت يا إنسان سنعتبر أنك أوسع كائنات هذا العالم، لكن تبقى محكوماً بخلفيتك، كل ما دونك محكوم بخلفيته زائد محدوديته بالقياس إليك، لأنك أوسع، أما رب العزة فليس عنده لا محدوديات ولا خلفيات، انتبه! هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩.

اللهم سألناك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا أن تُفيض علينا كما أفضت على العارفين وأن تفتح علينا فتوح عبادك الصادقين الواصلين، اللهم نوِّر ضمائرنا وقدِّس سرائرنا وزِدنا علماً وفهماً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا، وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا إلهنا ومولانا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك إيمان لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مُضِرة ولا فتنة مُضِلة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تدلنا عليك دلالة الصادقين يا رب العالمين.

اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين، انصر الإسلام وأعز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تحقن دماء إخواننا المُسلِمين في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم ألِّف بين قلوبهم، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم أنزل عليهم السكينة والروح والإيمان والتأييد والنصر برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (18/5/2007)

 

$

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: