إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۩ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۩ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۩ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

الذي يحدثُ في هذه الأيام الثائرة لا يضعُ حداً ونهايةً لأوضاعٍ بئيسة وقاتمة امتدت على مدى خمسين أو ستين سنة كما قد يقعُ في وهل بعض الناس أن هذه الثورات المُبارَكة تضعُ نهايةً سعيدة لأوضاعٍ تعيسة امتدت على مدى أكثر من نصف قرن، كلا هذا نظرٌ عاجل لم يُصِب المحز، قما يحدث حقيقةً – ونرجو أن يكون كذلك إن شاء الله تعالى – يضعُ حداً لأوضاعٍ تعيسة بئيسة امتدت على مدى ألف وأربعمائة سنة باستثناء الخلافة الراشدة من أيام بني أمية بدايةً مع مُعاوية بن أبي سُفيان وإلى اليوم نهايةً بمُبارَك والقذافي وزين العابدين وإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم – ألحقهم الله بهم عما قريب – لأن الأمة كانت فاقدةً في هذه المُدة على تطاولها لرُشدِها، لم تكن أمةً راشدة بل ظلت أمةً طفلة لا تقود نفسها ولا تُدبِّر شؤونها، يأتي حاكمٌ بأمره أُوتيَ الحكمة وفصل الخطاب فلا يصدر إلا عن رأيه وإلا عن شهواته وأهوائه ويُدبِّر أمر هذه الأمة كيفما أحب وعلى ما اشتهى، فذاقت هذه الأمة الوبال وصار أمرها إلى خبال مع أنها الأمة الأولى في العالم المُرشَّحة والمُرصَدة لأن تكون قائدة بصدقٍ وحق وأن تهدي العالمين – إي والله – باعتبار المُنصِفين في الشرقِ والغرب، فهى أمة خطيرة!

حدَّثتكم ربما في هذه الأشهر الأخيرة أكثر من مرة وربما في دروسي أيضاً عن أن كبار العقليات الاستراتيجية في الغرب لاتزال تُؤكِّد أن القوة الواحدة والوحيدة على ظهر الكوكب التي تمتلك بديلاً حضارياً حقيقياً يُمكِن أن يُرشِد وأن يُلهِم هى الأمة المسلمة، قبل شهرين تابعت هذا وكان لقاءاً حياً – Live – مع زبغنيو بريجينسكي Brzezinski وهو من ضخام العقول الضخام في الاستراتيجية الكونية – كما يُقال – حيث قيل له أن الصين بيدها البديل فقال للمُحاوِر بالفم الملآن “ماذا تُريد الصين؟ ماذا تُشكِّل الصين في نهاية المطاف؟ الصين ليس أكثر من نمو اقتصادي”، فقال له الذي يُقابِله “فماذا إذن؟”، فقال له “العالم الإسلامي والمسلمون هم الذين بيدهم البديل الحقيقي”.

هذه أمة أخرجها الله لتؤدي الشهادة على العالمين فتخبَّلت كما يقول الإخوة العراقيون، خبلت وهبلت على مدى ألف وأربعمائة سنة لأنها لم تبلغ رُشدها، بلغت رُشدها في أقل من جيلٍ واحد ببركة المُصطفى المُحمَّد – صلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم دائماً أبداً – والعود أحمد وببركة خلفائه الراشدين – رضوان الله تعالى عليهم – ومن ثم كانت أمة راشدة فلا تنظر إلى الحاكم على أكثر من أنه أجير أو مُوظَّف!

يقوم أبو بكر الصديق – قدَّس الله سره الكريم ورضوان الله عليه في العالمين في الأولين وفي الآخرين – في أول خُطبة يُلقيها على أمته ويقول “وليت عليكم ولست بخيركم، إنما أنا واحدٌ منكم، إن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، الضعيفُ فيكم عندي قويٌ حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه”، فكانت أمة طاهرة، وعجبت للحس العالمي و للحس الثوري في العالم الذي اجترح مُفرَدة ولفظة الطهارة والطهورية الثورية فيقولون “مسلك ثوري طاهر وتفكيرٌ ثوري طاهر”، فهل نتحدَّث نحن باللغة الفرنسية الحدثية عن طاهر ونجس وعن المُقدَّس والمُدنَّس كما في الثنائية الفرنسية المعروفة؟!

يتحدَّثون عن مُطهَّر مُقدَّس وعن مُدنَّس وعن روح ثورية مُطهَّرة وفية لمبادئها التي هى في نهاية المطاف مصلحة الشعب ومجد الشعب وحس الشعب ونبضه وروحه، ولكن مصدر عجبي أن رسول الله – صلوات ربي وتسليمه عليه – ذكر هذا قبل ألف وأربعمائة سنة – هذا أمر عجيب – حين قال “لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ فيها الضعيف حقه من القوي غير متعتع”، فالنبي يتحدَّث عن منطق التقديس والطهورية وعن أمة مُقدَّسة وأمة مُدنَّسة، فما هى الأمة التي لاتزال تحتفظ بقدسيتها وبطهوريتها؟!

هى الأمة الوفية لمباديء العدالة والإنصاف والحرية والمُساواة والكرامة والمُشارَكة لروح الأمة، فلا يضيع فيها مهضوم ولا يُهضَم فيها حق ولا يُضام فيها مسكين، ومن هنا قال النبي “لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ فيها الضعيف حقه من القوي غير متعتع”، وقد كانوا هكذا زمن الرسول، والرسول نفسه لم يكن معصوماً في نظر الأمة من أن يتلقى بعض الشكاوى مع أنه المعصوم في الحق والواقع صلوات ربي وتسليماته عليه، فيأتيه أعرابي جلفٌ غليظٌ قاسٍ بادٍ – ومن بدا جفا – ويقول له “اعدل يا محمد، ما هذه بقسمة أُريد بها وجه الله”، فيقول “خبت وخسرت إن لم أعدل، مَن يعدل إن لم أعدل؟”.

يقول خالد “يا رسول الله – حين قسم غنائم حنين – أفلا أضرب عنقه؟”، فيقول النبي “لا يا خالد، لعله أن يكون يُصلي”، قال “كم من مُصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه”، فقال “إني لم أُؤمَر أن أُنقِّر ولا أن أُنقِّب – أن أُفتِّش – عن قلوب الناس وبواطنهم”، الله أكبر، مّن الذي ديسَ جنابه؟!
مَن الذي اعتُديَ على طهارته؟!

رسول رب العالمين المعصوم المُؤيَّد من فوق سبع رقاع، ولكن هكذا هى هذه الأمة، ومن هنا كان عمر لا يتهاون مع المُعارَضة ولا ينبسط لها بل يُحرِّضها على نفسه ويقول “لا خير فيكم إن لم تقولوها”، أي يجب أن تُعارِضوني وإذا رأيتموني قد اعوججت ولو يسيراً قوِّموني، يقول سلمان “بحد سيوفنا”، ويستبشر عمر، فهذا أمر مُمتاز بالنسبة له، هذا هو عمر القائد رضوان الله تعالى على عمر ورضى الله عن عمر، وللذين لا يُعجِبهم عمر من أبناء هذه الملة والدين نقول لهم عليكم أن تقرأوا عمر جيداً وأن تقرأوا التاريخ والواقع لكي تعرفوا لماذا نُحِب عمر ولماذا نُستهام بعمر رضى الله عنه أرضاه، يقول عمر “لوددتُ أني وإياكم في سفينة تذهبُ بنا في شرق البحر وغربه، تميل مع أميال الريح، فلن يعجز الناسُ – انظروا حتى إلى البلاغة وإلى اللغة فهو قائد زعيم يعرف كيف يتكلَّم – أن يولوا عليهم رجلاً منهم، فإن استقام أعانوه وإن اعوج قتلوه”، عمر هو الذي يقول هكذا، فهو يقول للناس “نصيحتي ووصاتي وخُطتي في الهدي السياسي لأمة محمد من ورائي وفي عصري أن مَن تُقدِّمونه لابد أن يكون مُستقيماً ومن ثم تُقدِّمون يده العون له ولكن إن اعوج اقتلوه، ويجب أن تُقدِّموه لا أن يتقدَّم هو بنفسه وإلا تُضرَب رأسه”، فلا يُمكِن للحاكم أن يتقدَّم بنفسه فضلاً عن أن يأتي على ظهر دبابة ملعونة، فلعنة الله على عهد العسكر لأنه عهدٌ ليلٌ لا نهار فيه، فقد قفزوا على الحكم في ليلةٍ ففر الصباح ولم يرجع إلى اليوم، ولكن بدأ الصباح بالثورة وبدأ عقل الثورة مع جنونهم ومع ظلامهم الحندس، إذن عمر قال “فإن استقام أعانوه وإن اعوج قتلوه”، فقام طلحة بن عبيد الله الشهيد الحي وقال “يا أمير المُؤمِنين ما عليك لو قلت وإن اعوج عزلوه؟”، أي نعزله عزلاً سلمياً ونُعطيه فرصة في المنفى لأي شيئ، فقال “كلا، القتلُ أنكلُ لغيره وأنكلُ لمَن بعده”، حتى لا تُصبِح الأمة لعبة كل يوم، فيأتي أحدهم ويجرِّب ويقتل له ألفين وثلاثة وخمسة ثم يذهب على المنفى بالمليارات التي سرقها ليلعب بها، ومن أمر عمر بقتله وقال “اقتلوني لو اعوججت”، فعمر كان يُلهِمهم ويقول لهم “ها أنا ذا وأنا القائد المُعلِّم إن اعوججت اقتلوني ولا تبقوا علىّ”، وليذهب الحاكم إلى ستين جحيم من أجل أن تعيش الأمة من أجل أن ترشد أمة.

أكثر ما يغيظ ويحنق ما أقرأه لبعض البُله المُغفَّلين الخالين من الإحساس والوطن والشرف – والله العظيم – والضمير حين يقولون: لماذا تتكلَّمون في زعمائنا فإنهم وإن أساءوا لابد ألا نتكلَّم فيهم؟!

لا حول ولا قوة إلا بالله، ما هذه العقلية العبودية؟!

أنت عبد، أنت رقيق، أنت قن من أقنان الأرض وعبد من عبيد هؤلاء الآلهة الزائفة، ولكن كيف لا يوجد أمثال هؤلاء المُغفَّلين البُله التائهين الحيارى ونحن نرى ونسمع على الشاشات “الله ومعمر وليبيا”؟!

أستغفر الله العظيم، كيف يُقال “الله ومعمر”؟!

يقولون “الله ومعمر” ويستعملون حرف الواو، فماذا فعل لكم معمر؟!

لا عمَّر الله دياركم أيها الهاتفون، هؤلاء لا عمَّر الله ديارهم بل خرَّب الله ديارهم وخرَّب الله مُستقبَلهم، ماذا صنع لكم حتى تقولوا “الله ومعمر”؟!

هؤلاء حتى لم تُثنَّوا بإسم رسول الله، ولو سمعها الرسول لغضب غضباً شديداً ولقال: أجعلتموني لله نداً؟!

ممنوع في العقيدة الإسلامية أن تقول “بفضل الله وفضلك”، ويكن يجب أن تقول “بفضل الله ثم – وتأخذ نفساً – بفضلك” ومع ذلك تظل رائحة الوثنية موجودة، فكيف يُقال “الله ومعمر وليبيا” إذن؟!

رأيناهم كالمجانين – أُقسِم بالله – وكالهبلان، ولكنهم كانوابضع عشرات بفضل الله عز وجل، فهؤلاء هم الذين نجح في أن يستحوذ عليهم، قال الله فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩، لكن نعود إلى موضوعتنا الرئيسة، إذن ألف وأربعمائة سنة والأمة فقدت رُشدها بعد أن رشدت لثلاثين سنة، النبي يقول وصحَّ هذا عنه وصدَّقه التاريخ – إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ۩- في الحديث الشريف “الخلافةُ بعدي ثلاثون، ثم تكون مُلكاً عضاً”، أحسب بالذات مع ستة الأشهر أو الستة الأشهر التي قضاها الإمام أبو محمد الحسن – عليه السلام – في الحكم – سبحان الله – تكتمل ثلاثون سنة تماماً، فهذا شيئ عجب، وبعد ذلك يأتي مُعاوية بن أي سُفيان المُصيبة الداهية البائقة، فمُعاوية هو مُصيبة التواريخ إلى اليوم، يأتي هذا الرجل ليُعلّمِن حياة المسلمين ويقول “السياسة شيئ والدين شيئ، أنا الناطق بإسم الغيب وأنا الناطق بإسم الله وأنا خازن أموال الله فأضعها حيث أشاء وأمنع مَن أشاء، وأولي مَن أشاء ولا خيار لكم حتى لو كانت ابنتي هنداً، لا خيار لكم وإلا فالرد يكون بالسيف”، قال “أمير المُؤمِنين هذا فمَن أباه فهذا”، وهذا الآخر هو السيف، قال له “اجلس وأنت أخطب الناس”، فأمير المُؤمِنين هو يزيد الملعون – لعنة الله عليه – وإن لم يعجبك هذا فسوف تُقط رأسك بالسيف، ومن هنا فقدت الأمة رشدها، لأن الرُشد لا يُجامِع الإكراه، قال الله لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، فلماذا لَا إِكْرَاهَ ۩؟!

قال الله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ ۩، فإذا وُجِد الرُشد انتفى الإكراه، وإذا وُجِدَ الإكراه فلا مكان للرُشد طبعاً، ولذلك أنت لك وصاية وولاية على ابنك الصغير الذي لم يرشد بعدُ فتمنعه على الرُغم منه ومن أنفه وتقول له “هذا ممنوع، هذا يقتل، هذا يُحرِق، هذا يُفسِد” لأنه غير راشد، ولكن إذا رشد الطفل ارتفعت الوصاية عنه وارتفعت الولاية، فهو الآن حر مُكلَّف أمام الله، اتركه حتى وإن كنت أباه، ولا تستطيع أن تفعل غير هذا، فالولد المُكلَّف لا سُلطان لك عليه إلا النصيحة والوصاة كسُلتطك على غيرك من الناس وما دار في مدارها فقط بحكم صلاحيات الأب، ولكن لا يُوجَد إكراه، فكيف أمة تُكرَه يا حبيبي؟!

أمة كاملة تعد بمئات الملايين تُكرَه على أمرها ولا تختار من يلي أمرها ولا مَن يُدبِّر شؤونها على الرُغم منها، ومَن تكلَّم قُطِعَ لسانه وربما عنقه!

رأينا كيف أن الصحفي المصري الشريف إبراهيم عيسى يدخل السجن فقط لأنه تكلَّم وتساءل عن مرض الرئيس، لأن طبعاً الرئيس جل جلاله وتشعشعت أنواره لا يمرض فهو إله معصوم مثل القذافي التائه الذي رأيتم كيف كانت قصوره، فالرجل لا يُريد أن يموت، فهوم يقوم بعمل أشياء تُمكِّنه من العيش وحده إن احترقت ليبيا كلها بالذري، وربما كان هو مَن يُخطِّط لحرقها لأنه مجنون – سيبقى عائشاً وحده، قال هو العبقرية الإلهية في الأرض التي لا تُفرِّط بها كل الشعوب، فهو المجد الذي لا تُفرِّط به كل الشعوب ومن ثم لابد أن يبقى حياً، ولذلك تذهب المليارات في صنع هذه الخنادق المُخندَّقة ضد النووي وضد الإشعاع وضد كل شيئ أيها الإخوة، وهذا شيئ غريب، فالأمة لا خيار لها وممنوع أن تتكلَّم وممنوع أن تعترض وممنوع أن تهجس، ويُشيعون خُرافات من أجل أن يتمكَّنوا من هذا، فالقذافي والقذافيون من ورائه أشاعوا خُرافة أن القذافي يعلم ما في النفوس، وهذه الخُرافة يُردِّدها حتى المُثقَّفون الليبيون، فهؤلاء – والله – مساكين ومضحوك عليهم، وقالوا عنده علاقة بالجن وعنده علاقة بالسحرة، وكل الكتب التي رأيتموها هى عندي في البيت وأنا قرأتها قبل سنوات وكلها كلام فارغ، وهذه الكتب موجودة في المكتبة العصرية وفي دار كتاب العربي في دمشق، وهى كتب مطبوعة وتُباع ببخمسة يورو وبستة يورو، ولكنه خوَّفهم و قال أهل الجزيرة المُغفَّلون قال لك “هذه دراسات عن التلمود وعن السحر وعن الشعوذة، فهو رجل خطير”، وحدَّثني أحدُ مَن أُحِب وأحترم قائلاً “أحد رجاله مرة كان معه، والقذافي كان يقف على سور عالٍ شاهق فخطر في نفسه لو أنه ضرب في ظهر هذا اللعين فهوى من حالق فتخلصت الأمة، فإذا بالقذافي يلتفت مُغضَباً ويقول لرجاله ابعدوه من هنا”، وهذه خُرافات – والله العظيم – وكذب، أنا أقول لك على منبر رسول الله أن هذا – والله – نوع من الكذب، هؤلاء الليبيون مساكين، والذي حدَّثني بهذا رجل مُتخصِّص ومُثقَّف، فقلت له “هذا أمرٌ عجيب”، واعتقد أنني صدَّقت هذا في حين أنني كنت مُستغرِباً من كلامه، فهذه كلها خُرافات كالخُرافة التي تقول أن معه عصا تسمع كل ما يُقال عليه ضده، وهذا كله كذب، لكن السؤال الآن هو: كيف تسنى لهؤلاء الظلمة من بني أمية والعباس والمماليك والترك إلى اليوم أن يحكموا هذه الأمة؟!

لماذا لم تثر هذه الأمة مثل هذه الثورات المُبارَكة السريعة؟!

هوت هذه العروش الظالمة وثُلَّت بطريقة مُدوية وصاعقة وساحقة وسريعة جداً، فحتى هذا القذافي هوى – كما قلت لكم – من اليوم الرابع، وإلا ما معنى أن تكون تقريباً كل ليبيا بيد الثوار وهو يدور فقط في طرابلس ويُصليها ناراً حامية، فكل مَن قال برأسه يُضرَب؟!

الرجل هاوٍ من اليوم الرابع ومُنتهٍ، لكن يُؤسِفني ويُحزِنني هذا القلق والتشوش في رأي المُعارَضة في الداخل والخارج الليبية، عليكم أن تحزموا أمركم وأن تُفكِّروا بذكاء، لا تنظروا إلى مواطئ أقدامكم يا رجال المُعارَضة.

هم رجال شرفاء حقيقةً، كل مَن رأينا ومَن استمعنا أُناس شرفاء يُحِبون وطنهم وعندهم – ما شاء الله – مصداقية عالية حقيقة سواء كانوا مُتدينين وغير مُتدينين، ولكن يا أخي الذي يُعالِج الثورة ومغانمها ومغارمها من وراء حجاب على التلفزيون Television من فندق مُكيَّف إلى مكتب مُكيَّف في الجزيرة وغير الجزيرة والحرة غير الذي يموت كل يوم أخوه وابنه وأبوه وجاره، فكما يقولون “مَن يده في الماء ليس كمَن يده في النار”، فالوضع صعب جداً جداً والرجل أثبت للعالم أن ليس عنده أي حد ليقف عنده أبداً، فهو غير مُنضبِط بأي ضابط، ولذلك العالم مُتقلقِل ويقول لك “نحن لا نستطيع أن نتخذ خُطوات انفرادية، لابد أن يقول الشعب الليبي كلمته”.

أنا أحببت أن أقول هذا مع أنه ليس من الحكمة أن أقوله وأن يُسجَّل عليه ولكنني سأقوله، وأنا نصيحتي للمُعارَضة الليبية في الداخل والخارج كلمة واحدة “قولوا بلفظ واحد نحن ضد أي تدخل عسكري تقليدي، ولكن نحن مع ضربة عسكرية جوية على العزيزية وعلى سرت وعلى كل مكان لهذا اللعين، ضربة عسكرية لن تأخذ أكثر من نصف ساعة أو ساعة أو ساعة إلا ربع ليس أكثر وسوف تُسحَق هذه المواقع بالكامل، ثم اتركونا وشكر الله سعيكم وبذلك ستكون كفَّرت أمريكا عن جريمتها في حق الليبي، فهى أجرمت حين تركت هذا الطاغية المُجرِم وحين مدت الحبل له وسكتت عنه في أول أيامها سكوتاً مُطلَقاً”، ومن هنا نقول لأمريكا “إذا أردتِ أن تُكفِّري عن ذنبكِ في حقنا كشعب ليبي وجِّهي هذه الضربات الجوية الصاعقة واصعقيه، وبعد ذلك شكر الله سعيكم واتركونا، نحن سنُدفِّف وسنُكمِل على البقايا الباقية، مَن استسلم طوعاً أعملنا فيه حكم العدل والإنصاف إن شاء الله تعالى، ومَن كان غير ذلك فليس له إلا الموت، واتركوا الشعب بعد ذلك يُكمِل الثورة”، لكن لا يُمكِن أن نبقى هكذا وأن نسمع الآن عن صواريخ غراد وعن تدخل بيلاروسيا وغير بيلاروسيا وعن وجود أشياء وطيارين من أوكرانيا ومن صربيا ومن روسيا يأتون لكي يُذبَح الشعب، ففي كل يوم تقع مجازر ومذابح ومع ذلك نبقى هكذا بحجة أننا نعتصم بالطهورية الثورية، فنحن نخاف من أهل حارتنا وأهل جيراننا حتى لا يُقال لنا أننا تآمرنا مع الأجنبي، كما لو كان القذافي يتآمر – ما شاء الله – مع رسول الله على الشعب الليبي، هو أصلاً يضع يده طيلة حياته في يد أعداء الأمة، وهذا واضح ومعروف والامة تعرف هذا جيداً، والرجل مُستعِد أن يضع يده في يد إبليس – وهو نفسه إبليس -على أن يذبح البقية الباقية مِن كل مَن يقول له ثلث الثلاثة كم؟!

فما هذه الطهورية الغبية؟!
أنا سأكون واضحاً وسأتكلَّم بالحس الذي أشعر به وبضميري وسأقول “نحن نحتاج إلى ضربة جوية لن تستغرق أكثر من عشرين دقيقة من أجل أن تسحق العزيزية وتمحوها عن وجه الأرض ثم نحن سنُحيلها إلى أحسن بُستان – بإذن الله – وأحسن مُتنزَه في ليبيا كلها وسنُسمي هذا المُتنزَّه بمُتنزَه الثوار”، فلماذا لا تفعلون هذا؟!

المجلس الانتقالي في بنغازي وافق، وأنا قلت من قبل عشرة أيام أن هؤلا أذكياء، وأوصيت إخواني الليبين وقلت لهم “رجاءً بلِّغوا كلامي هذا لبعض مَن يُسمَع كلامه لعله يصل” لأنه كلما تمادى الوقت لن يكون هذا في صالح الثورة، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى هذا، فالرجل يشتري الذمم، وعنده مليارات مُمليرة لفعل هذا، فنحن لا نأمن لمشائخ بعض القبائل مِمَن قد يُدفَع لهم، فقد يأتي القذافي إلى شيخ مسكين لا يمتلك مائتين ألف دينار ويقول له سوف هعطيك سبعين مليون دولار أو سبعين مليون يورو شريطة أن يقف معه لأن هذا مُخطَّط أمريكي، وانظروا إلى الإعلام وإلى التضليل الفظيع الذي يُمارَس، استمعت مرة أو مرتان إلى إذاعتهم ووجدت – أُقسِم بالله – وقاحة عجيبة جداً جداً جداً، يقول لك “لا يُوجَد مُعارَضة ولا ثورة ولا مُظاهَرات، فالشعب كله يعيش من أجلي وعلى استعداد أن يموت من أجل سواد عيوني”، فهل ما زال عندك أي عيون أو سكسوكة في هذا الوجه الممسوخ؟!

لعنة الله عليك، هذا شيئ عجيب يا أخي، ظلم شديد ومع ذلك يقول لك “الشعب كله مُستعِد أن يموت”، ولكن ما الذي سوف تُقدِّمه للشعب؟!

لا شيئ، لم نسمعه أبداً ولو مرة واحدة يقول “أنا مُستعِد أن أُقدِّم لشعبي شيئاً”، فقط يقول “الشعب مُستعِد أن يموت من أجلي” وهذا شيئ لا يُصدَّق، مَن أنت يا أخي؟!

إذن علينا أن نكون واضحين، والآن سنعود إلى موضوعتنا الرئيسة:

كيف استطاع هؤلاء أن يفعلوا ما فعلوا؟!

بنفس الأسلوب الذي يمهر فيه القذافي الآن، عن طريق الاستخفاف بالناس والاستخفاف بعقول الناس، قال الله وَنَادَى فِرْعَوْنُ – فرعون يُنادي ويقف مثل ما يقف القذافي اليوم – فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، والقذافي اليوم يقول “أنا لدي كل القوة، فأنتم لم تروا شيئاً بعد، وسوف نُطارِدكم ونقتلكم”، وأنا – والله العظيم – يومياً أُفكِّر في هذا ربما أكثر من خمسين أو ستين مرة، أُقسِم بالله هذا لا يُغادِر ذهني، أين وُجِدَ في تاريخ الدنيا زعيم أو ملك أو شيئ يُهدِّد شعبه كما يُهدِّده المُحتَل والمُستعمِر؟!

هذه لغة لا يقولها أي زعيم ولا يقولها أي رئيس أو أي ملك أو أي شيخ أو أي سُلطان أو أي قرد يحكم في أمته، هذا مُستحيل أن يُقال، لكن القذافي يقول “سوف نُطاردِكم شارعاً شارعاً وبيتاً بيتاً وزنقة زنقة وفرداً فرداً”، ما هذا؟!

ما شاء الله على الشجاعة يا قذافي، ما هذه الشجاعة والبطولة التي تُمارِسها في حق شعب دوَّخته لمدة أربعين سنة وحرمته وجنَّنته ودمَّرته وكرثته بك والآن تقول أنك ستُطارِده زنقة زنقة وفرداً فرداً؟!

الله أكبر يا أخي، هذا يقوله باراك Barack للفلسطنيين ويقوله موسوليني Mussolini وغراتسياني Graziani الذي أباد نصف الشعب الإيطالي، لكن يبدو أن معمر القذافي عنده نفس الخُطة فهو يُريد أن يقول “سأُبيد نصف الشعب الليبي كما أباد غراتسياني Graziani وموسوليني Mussolini نصف الشعب الليبي ولم يحدث شيئاً، بل بالعكس في عام تسعة وأربعين جاء العالم الحر – ما شاء الله – وأراد أن يعمل وصاية وانتداب Mandate على ليبيا، وقالوا تأخذ إيطاليا طرابلس بعد ما أبادت إيطاليا الفاشستية الليبيين”، فالأمم الُمتحدة قالت في عام تسعة وأربعين أن إيطاليا سوف تأخذ طرابلس، والقذافي الآن عنده نفس المنطق على أمل أن يأخذ تشاد والنيجر – مثلاً – إلى جانب ليبيا، فهذا شيئ غريب بل هو جنون، هو يقول: أنا عندي الكثير من القوة فأنتم لم تروا شيئاً بعد، وسوف نبدأ في استعمال القوة الآن لأنني أنا الملك أما أنتم فلستم بشيئ يا جرذان، مَن أنتم؟!

أي أنه يقول مَن تكونون؟ مثلما قال فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ۩، ففرعون رأى نفسه أفضل من شعبه ومن موسى وهارون وجماعته ومن هنا قال على موسى أنه مهين وذلك حين قال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ۩، لكن فرعون كان – والله – مُؤدِّباً جداً وسوف نُعطيه الدكتوراة في الأدب بالنسبة لما قاله القذافي الذي قال “جُرذان، شراذم، ملووثون، مجانين، مُخبَّلون، مُقمَّلون، أوساخ”، أقسِم بالله هذا شيئ لا يُصدَّق والله، فهل هذه لغة رئيس؟!

هل هذه لُغة يُخاطِب بها الراعي رعيته؟!

هذا غير معقول، والعالم يسمع هذا وهو مذهول مصدوم، ويقولون ما هذه الأمم؟!

ولذلك الآن بدأوا يحترموننا، فعلينا أن نثور على هؤلاء لأننا لن نسمح بعد اليوم لأحدٍ أن يقول لنا “أنتم أوساخ ومُقمَّلون ومهلوسون وكلاب وجُرذان وصراصير”، سنموت ولن نسمح بهذا!
ورحمة الله على حكيم المعرة الذي قال:

مُلَّ الْمُقَامُ فَكَمْ أُعَاشِرُ أُمَّةً                أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلَاحِهَا أُمَرَاؤُهَا

ظلموا الرعيّة، واستجازوا كيدها         فعدَوْا مصالحَها وهم أُجَراؤها

قال أنا مللت وأرغب في أن أموت على الرغم من أنه لم يعش في أوضاع مثل هذه، لكنه قال أن هؤلاء ينبغي أن يكونوا أُجراء عند الشعب، لكن هذا الحاكم يظن نفسه رباً يُحيي ويُميت ويبني ويُفني ويبرم وينقض، فمَن أنت؟!

أنت لا شيئ، أنت فقط أجير، ويجب أن تفهم أنك لست أكثر من أجير عند الشعب، وتُدَق عنقك ويُقطَف رأسك إن ظننت أنك أكثر من هذا.

لكن الشعوب لم تقل هذا ولم تفهم هذا، وسؤالي اليوم هو: لماذا لم تقل الشعوب هذا من قبل؟!

لماذا سكتنا ألف وأربعمائة سنة؟!

ما الذي يحدث؟!

نعم تكلَّم بعض الثوار بل كثير من الثوار في عشرات الثورات ومئات الثورات لكن للأسف لم تكن ثورات شعوب، كانت ثورة نُخب تعلَّق بعضها بآل البيت وغير آل البيت، وهذا لا يصح فينبغي على الشعب كله أن يتحرَّك بكل نُخبه وبكل قطاعاته وبكل تمثيلاته كما يحدث الآن بفضل الله تبارك وتعالى، فهذا هو المطلوب وهذا هو المُنتظَر.

يقول القرآن الكريم فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ۩، الله أكبر، فالله يقول أن فرعون استخف بقومه بعد أن أوشك الملأ حول فرعون أن يُصدِّقوا موسى وخامرهم تصديقه وقالوا هذا صادق وعنده آيات من أعجب الآيات – تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۩ – لأنهم رأوا آيات موسى وضعاً ورفعاً أو نزولاً وارتفاعاً لما نزلت ولما كشف عنهم الرجز، يقول القرآن الكريم لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، فكُشِفَ بإذن الله تعالى عنهم رأوا الآيات نزولاً وارتفاعاً، فأرادوا أن يُصدِّقوا وخامرهم التصديق وقالوا أن موسى بن عمران رجلاً صادقاً لكن اللعين فرعون قال لهم “هذا الرجل ليس عنده أي شيئ، أنا الملك الذي لدي كل شيئ وأتحكَّم في كل شيئ، هذا ليس لديه ذهب أو مجد أو إذاعات وتلفزيون Television ولا يستطيع أن يتحدَّث مثلي” فصدَّقوا كلامه، ولذلك قال الله فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ۩،فالخفيف يُقلقِله أدنى شيئ وأدنى حركة فيكون كالغنم العائرة بين الغنمين، مرة يكون جهة الشمال ومرة يكون جهة يمين كالمُنافِقين لأنه خفيف، ومن ثم يكون له رأي كل يوم وموقف كل يوم وإحساس كل يوم، فمرة يبكي عليك رحمةً بك ومرة يبكي منك قهراً وتغيظاً، فهو شخص مُنفصِم وهذا أمر عجيب، لذلك قال الله عن مثل هذا فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩، لكن لماذا حدث هذا؟!

لماذا صدَّقتم فرعون اللعين بعد أن رأيتم آيات موسى ومعاجز موسى البواهر القواطع الصوارم؟!

قال تعالى مُعلِّلاً إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ۩.

هذا القرآن عجب، فإذا أردت أن تدرس السياسة وأن تفهم السياسة وعلم الاجتماع السياسي عليك أن تتعلَّم القرآن، فالله علَّل هذا الاستخفاف بقوله إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ۩، وهذا ليس تذييل رباني مشائخي كما قد يظن البعض، كلا هذا كلام رب العالمين واضع السُنن والدساتير والقوانين الإلهية، هو واضع سُنن الاجتماع والتاريخ والكون، لأن (إن) في غير مقام التأكيد تكون في النحو العربي لماذا؟!

للتعليل، القاعدة تقول: (إن) في غير مقام التأكيد تكون للتعليل، مثلما سُئل رسول الله عن رأيه في القط فقال “إنها من الطوّافين عليكم والطوّافات”، فيُريد يقوله “إنها” أي لأنها، فيكون المعنى أنها طاهرة وليست بنجسة لأن (إن) هنا للتعليل وليست للتأكيد، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه جيداً لأن (إن) لم تكن للتأكيد كانت للتعليل، ولذلك الله يقول أطاعوه لأنهم كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ۩.
الله أكبر، فهل تُريد يا رب العالمين أن تقول لنا وتنصح لنا بشكل واضح أن العصمة مِن أن يُضلَّل وعينا ويُزيَّف فهمنا ويُخدَّر حسنا في أن نكون مُستقيمن أتقياء؟!

نعم، لأن مَن يطلب وجه الله لا يُمكِن أن يُضحي بالحقيقة من أجل رغبة أو رهبة، لكن – والله العظيم – بعض الناس مُستعِد أن يُضحي بشعبه ومصير شعبه وأجيال شعبه من أجل أنه يُريد مالاً أو يُريد أن تتم له صفقة أو مصلحة مع القذافي اليوم، ويقول سوف أسكت حتى تنقضي المصلحة ثم لكل حادثٍ حديث، فلعنة الله على الظالمين وألا بُعداً للفاسقين، لعنة الله على كل المصالح وعلى كل المجد، كيف تُضحي بأمتك وشعبك من أجل مصلحتك؟!

لكن مَن الذي يُضحي بكل شيئ من أجل الحقيقة؟!

مَن ليس فاسقاً، مَن لا تغلبه شهوة فرجه أو بطنه أو شهوة منصب أو أي شهوة من هذه الشهوات المعنوية أو المادية، فالرجل الذي يخاف الله لا يفعل هذا.

إذن نحن رأينا مَن يقول “كل الشعب مُستعِد أن يموت من أجلي” ولكننا قرأنا في سيرة الملك الصالح مُوحِّد ليبيا محمد إدريس السنوسي – روَّح الله روحه وأعلى مقامه في عليين – أنه دخل مرةً مسجد – أعتقد في بني غازي – لكي يفتتحه فجعلوا يهتفون بإسمه ويقولون “إدريس”، فغضب غضباً شديداً وقال “اسكتوهم”، فسكتوا ودخل الملك مُغضَباً وقال لهم: كيف يُهتَف بإسمي في بيت الله؟!

ثم قال وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ۩، فما هذا الذي يحدث؟!

هذا هو إدريس – قدَّس الله سره – الذي لم يُرده الشعبي الليبي وأراد حكم إبليس فابتلاهم الله أربعين سنة عجفاء بإبليس، ونسأل الله حُسن المخلص وسرعته.

نعود إذن إلى قضية الاستخفاف، فهذا الحاكم يستخف بعقول الناس ويجعلها خفيفة وبالتالي يجعلك تُفكِّر بطريقة الخفيفين من الناس لا الراسخين الواكدين، ولكن كيف يتم هذا؟!

هناك وسائل كثيرة طبعاً وآليات وتقنيات مُعقَّدة جداً من ضمنها تقنية الزحزحة Theme Shifting كما يُقال، لكن ما معنى زحزحة الموضوع؟!

الآن كل الإعلام الليبي الرسمي يقول “هذا كذب وتزوير، وهذه مُؤامَرة الجزيرة ومُؤامَرة الخونة من دبلوماسي ليبيا الخونة ومن مُمثلي ليبيا الخونة ومن جيش ليبيا الخائن”، فكل ليبيا أصبحت خونة إلا القذافي وأحبابه وهم بضع مئات، وهذه كلها مُؤامَرات فالوضع هاديء والأمور كلها مُمتازة والموانيء تعمل هى والمدارس والجامعات والشوارع، فكل هذا كذب ومُؤامَرة، وهذا هو معنى الزحزحة Shifting، ونحن سوف نُصدِّق اعتباطاً وتنزلاً طبعاً أن كل هذا مُؤامَرة، ولكن ليست هذه هى الموضوعة الأساسية، فالموضوعة الأساسية هى أنك تحكم من أربعين سنة، فماذا فعلت بليبيا وبالليبيين؟!

قرأنا لك واستمعنا إليك مئات المرات في خلال الأربعين سنة، ونحن نعرف ليبيا ونعرف الحال في ليبيا، واستمعنا إلى ألوف الليبيين ليس في الفضائيات وإنما في الحياة ورأيناهم كيف يعيشون، الشيئ الوحيد الذي نجح فيه القذافي وهذا يُحسَب له لأنه يحتاج إلى عبقرية وإلى جهد دؤوب وإلى برامج وخُطط هو الفشل، لكن قد يسألني أحدكم قائلاً: كيف نجح في الفشل؟!

هذا ليس فلسفة وإنما واقع، من السهل جداً على الفرد منا أن يفشل، هذه عملية سهلة جداً جداً جداً بل بالعكس هى عملية قريبة للطبيعة ولمنطق القصور الذاتي، فالواحد منهم يجلس لا يُحِب أن يعمل أو أن يتحرَّك ومن ثم يفشل ، وهذا هو منطق الـ Inertia، فأسهل شيئ على الفرد أن يفشل، لكن الشعوب صعب جداً أن تفشل لأن الشعوب ليست كالأفراد، فلكي تُفشِل شعباً أو لكي يفشل شعب ما لابد أن تكون عبقرياً مثل عبقرية المجنون القذافي، فلابد من خُطط ومن برامج لأن إذا سكت رجل واحد في الشعوب سوف يتكلَّم ألف رجل، وإذا خرَّب وأفسد شخص واحد سنجد ألف رجل مِمَن يُحِبون أن يُعمِّروا لا أن يُخرِّبوا، فهذا شعب كامل، لكن الآن لابد من خُطط لكي تستطيع أن تُخرِّب على الشعب كل شيئ، ومسيرة القذافي كلها هى مسيرة مُخطَّطة ودقيقة جداً جداً جداً لتدمير الشعب الليبي وتدمير كل شيئ في ليبيا، وقد نجح في هذا، فهذا هو الشيئ الوحيد الذي أشهد له أن نجح فيه أكثر مما نجح أي إنسان، علماً بأن ليبيا لا تُقارَن بتونس مُطلَقاً، تونس تُعتبَّر دولة حديثة مُتقدِّمة جداً بالقياس إلى ليبيا، وطبعاً من المُستحيل أن تُقاس ليبيا بمصر، ونحن نتحدَّث عن مصر مُبارَك وليس عنها الآن فيكفي صحافة مصر، لكن ليبيا لا يُوجَد فيها أي شيئ، لا تُوجَد صحافة ولا يُوجَد أدب أو إعلام أو موسيقى أو فن أو جامعات أو صحة أو أي شيئ، هى بلد مُدمَّرة بالكامل وهى ليست دولة بالمعنى الحديثة للدولة، فنحن لا نعرف حتى الشعب الليبي وهذا الأمر أحزنني جداً، لكن أعجبني جداً تعليق الرائع عزمي بشارة حين قال “من حسنات هذه الثورة أننا بدأنا في أن نعرف الليبيين ومن ثم أحببناهم”، فالرجل يقول هذا بكل ثقة، فالشعب طيب وعنده طاقات مُمتازة وعنده شرف وعنده وطنية، والآن نحن بدأنا في أن نتعرَّف أيضاً علىى البلدان الليبية مثل درنة وطبرق وأجدابيا والزاوية وإلى آخره، فبدأنا نسمع بهذه الأشياء التي لم نكن نسمع بها من قبل لأن الزعيم كان مُتضخِّماً ومن ثم أصبح أكبر من ليبيا، بل هو عند نفسه أكبر من كل الأرض ومن كل الكون، واستمعنا إليه في الأمم المُتحدة وهو يقول لأوباما Obama يا ابني، قال له “ابني أوباما Obama”، لكن سوف ترى ما الذي سيفعله ابنك العاق – إن شاء الله – الذي يُريد أن يجرك إلى المحكمة الجنائية الدولية – بإذن الله – ليقطع أصلك وفصلك بإذن الله، بأي منطق تتحدَّث يا تائه؟!

هل وصل الخبل إلى هذه الدرجة؟!
كيف تقول لرئيس أعظم دولة يا ابني؟!

هل عندك واحد من مليون من العلم ومن القدراته العلمية والاجتهادية التي عند أوباما Obama الذي لا يُعَد رجلاً عادياً بل هو نابغة ومن ثم صار بنبوغه رئيساً لأمريكا؟!
انظر إلى أوباما Obama حين يتكلَّم في دقيقتين وانظر إلى كلامك حين تتكلَّم في ثلاث ساعات، فأنا أسمع جعجعة ولا أرى طحناً، كما يُقال قنطار خروب ودرهم عسل، فلا يُوجَد أي مُحصِّلة بالمرة، ومع ذلك يقول لأوباما Obama بكل غرور وغطرسة “ابني أوباما Obama”، فالرجل أضخم ليس فقط أضخم من شعبه بل هو لا يرى – والله العظيم – الشعب الليبي – أُقسِم بالله – أصلاً، هو لا يراهم حتى كالصراصير لأنه لا يراهم شيئاً، فهو أعظم في نفسه من الأرض ومَن عليها – أستغفر الله العظيم – لأنه مُتألِّه ومجنون، وبالتالي نحن لا نرى إلا الزعيم ولا نسمع إلا الزعيم ولا نُشاهِد إلا الزعيم دائماً، لكن أين ليبيا؟!

أين أدباء ليبيا ومُثقَّفو ليبيا وصحفيو ليبيا وإعلاميو ليبيا وفنانو ليبيا وموسيقو ليبيا ومُغنو ليبيا وراقصو ليبيا وفسّاق ليبيا وكفّار ليبيا وملاحدة ليبيا؟!

لا يُوجَد شيئ في ليبيا ولا عن ليبيا، كل شيئ مُختفٍ، فقط يُوجَد الزعيم، فما هذه اللعنة؟!

إذن هذه هى الزحزحة، ونحن لا نُريد هذه الزحزحة وإنما نُريد الموضوع الأصلي، فإذا سلَّمنا أن هذه مُؤامَرة هذا لا يعني أنك لا تستحق أن يُثار عليك، فمن ثلاثين سنة ومن خمس وثلاثين سنة بل من يوم ما سلَّمت الشعب سُلطتك في عام سبعة وسبعين كان ينبغي أن يُثار عليك، لكن الآن وضح مَن هو القذافي وما هو مُخطَّط القذافي!
الشيئ الثاني للأسف الشديد هو من أسوأ ما يلجأ إليه هؤلاء الطواغيت في كل عصر، وهو الاستعانة بفقهاء السُلطان ووعاظ السُلطان الذين ينعقون كالبوم والغربان اليوم في الفضائيات وفي الإنترنت Internet وفي الكتب الـ PDF والـ Word Documents، فإلى قبل أول أمس تقريباً كان يُقال لك “الحاكم لا يُخرَج عليه في أمة مسلمة إلا أن كفر وإلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله بُرهان، فإذا كفر جاز الخروج عليه لأن الكافر لا يجوز له أن يحكم المسلمين أما إن لم يكفر فلا يجوز”، ثم وجدوا أنه يُوجَد من الحكّام مَن لديهم الكفر أفضل من الإيمان فخرجوا لنا فقهاء العصر هؤلاء الذين يدّعون أنهم من السلف الصالح برسائل لتسويغ عدم الخروج على الحاكم الكافر، ويُوجَد كاتب على الإنترنت Internet على هيئة Word Document ألَّفه فضيلة الشيخ الكذا كذا يقول فيه “بيان أن كفر الحاكم لا يُسوِّغ الخروج عليه”، فحتى وإن كفر لا يجوز الخروج عليه، فأي فقه هذا يا أحبابي، يا مشائخ الإسلام؟!
قالوا “حتى لو كفر ممنوع أن تخرج عليه”، يا ما شاء الله عليهم، وطبعاً يضحكون على الناس ويقولون “هو سُلطانٌ غشوم”، بمعنى أنهم يعلمون أنه غشوم ولكن يقولون في وجهه أنه أعدل من محمد رسول الله لكن في ظهره هو أظلم الظالمين، ولكنهم يقولون “نحن مُضطَّرون إلى هذا وإن كان من الصعب أن نركب هذا المركب، لكن هذا السُلطان الغشوم خيرٌ من فتنة تدوم، أي حتى لا تحدث فتنة فيُسرَق ويُذبَح الناس”، وهذا هو نفس منطق زين العابدين والبلطجية الذين خرجوا من تونس ونفس منطق الممحوق مُبارَك ونفس منطق القذافي، فهم يقولون “سوف تحدث فتنة وحرب أهلية وسوف يموت الألوف من الناس فضلاً عن أنهم سيذبحون بعضهم بعضاً بسبب القبليات والنزعات الطائفية”، وهذا نفس منطق فرعون ونفس منطق الرومان واليونان ونفس منطق الفرس القدماء، ففرعون اللعين قال إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْأي أن دينهم المُستقيم يتمثَّل في أن يعبدوا فرعون مصر لأن موسى يدعوهم إلى عبادة إله واحد وهو الله وهذا سوف يُخرِّب الدين ويُخرِّب عقول الناس كما كان يعتقد فرعون، فدين فرعون هذا مثل دين القذافي بالضبط أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ۩، أي أنه يقول سوف تحدث حرب أهلية وسوف يذبح بعضكم بعضاً لأن معنى الفساد هو الحرب الأهلية، ولكي نفهم هذا سوف نعود إلى آية الحرابة، الله – تبارك وتعالى – يقول إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، فهذا هو الفساد إذن، أي أن الله سمى تذبيح الناس والاغتصاب والسرقة والقطع والحرق والتدمير فساداً، ففرعون هدَّدهم بالفساد وبالحرب الأهلية وقال لهم ” الناس سوف تأكل بعضها بعضاً ومن ثم لابد أن أبقى وأن تبقى الأيدولوجية الفرعونية هى الحاكمة، فلا نهتم بموسى ولا بدينه”.

توماس هوبز Thomas Hobbes في كتابه في الفكر السياسي Leviathan – أي التنين وهو هذا المخلوق البحري الأسطوري الشهير – يقول “كان من عادة قديماً الفرس من قبل ألوف السنين إذا مات ملكهم أن يتركوا الناس خمسة أيام كاملة بلا قانون وبلا أمن وبلا حاكم، فيذبح بعضهم بعضاً ويسرق بعضهم بعضاً ويغتصب منهم مَن يغتصب، فتُصبِح الحالة ذرية ورديئة جداً جداً، وبعد خمسة أيام يأتي الملك الذي هو ابن السماء وسليل الآلهة لكي يحكم، فيُقدِّم له الناس وجوههم وأعيانهم وعامتهم فروض الطاعةِ والتبجيلِ والتقديس، لأن الملك يأتي ويأتي معه النظام والأمن”، وهذا هو نفس الأسلوب الحقير المُتبَع الآن مع الشعب الليبي، فأسلوب الفرس هو نفس أسلوب فرعون وهو نفس أسلوب يزيد – لعنة الله عليه – بن مُعاوية الذي ثار عليه أهل المدينة وقالوا “والله لو لم نجد إلا أولادنا وهذه الأحجار لقاومناه به”، أي أنهم قالوا سوف نُقاتِل هذا اللعين لآخر نفس لأنهم عرفوا مَن هو يزيد وماذا يفعل يزيد، علماً بأن الذين قالوا هذا هم الصحابة والتابعون وأبناؤهم، فأرسل إليهم الملعون مُسرِف بن عقبة – كان إسمه مسلم لكن سماه المسلمون مُسرِف – ودخلوا المدينة من أحد جوانبها للأسف بسبب مُؤامَرة وخيانة من آل مروان – هذا الفرع الأموي اللعين الرذيل – وأعملوا السيف في الناس وعطَّلوا الأذان ثلاثة أيام بلياليها بأمر يزيد الذين أباح لهم هذا لأنه قال لهم “إن حصلتم وإن ظفرتم بهم فكل شيئ مُباح لكم ثلاثة أيام بلياليها”، أي أنه أباح لهم القتل والزنا والسرقة والخمر وكل ما يُريدون، ففعلوا الأعاجيب وافتُضَت ألف بكرمن بنات الصحابة والتابعين اغتصاباً.

إذن هذا هو نفس المنطق لدى القذافي ولدى مُبارَك ولدى زين العابدين لكن القذافي طبعاً بلغ أكثر من هذا، فمُبارَك بالنسبة له يُعَد بركة فعلاً، وزين العابدين هو سيد المُؤدَّبين بالقياس إلى القذافي الذي يضربهم الآن بالصواريخ، وهذا شيئ لا يُصدَّق، أُقسِم بالله الآن يضرب شعبه بالصواريخ التي تُضرَب بها الدول والجيوش، ومع ذلك يقول لك أن هذا كله لا يحدث وأن هذه الأنباء كاذبة بل ويُطالِب بلجان تحقيق، فهل كل مَن نراهم كذَّابون وكل الشعب الليبي يكذب وكل الساسة والدبلوماسيين الذين يظههرون على التلفزيون Television كذَّابون لكن أنت وابنك المعتوه فقط الصادقون؟!

هذا غير معقول، لكن هذا هى نفس الحيلة وهذا نفس المنطق الذي يقوم على الفساد والدمار، لكن هذا غير صحيح بفضل الله، فالذي يُحدِث الفساد والدمار هم هؤلاء أنفسهم ولا أحد غيرهم، وهذا هو منطق السُلطة، فهم يُحدِثون هذا الفساد من أجل أن يبقوا في السُلطة.

للأسف الوقت يُدرِكنا بسرعة وبالتالي سأترك هذه النُقطة، إذن الشعب الليبي كالشعب المصري من قبل والشعب التونسي أثبت العكس تماماً، وأكَّد على أنه بغير سُلطة هؤلاء المُفسِدين أكثر أمناً وأكثر أخوة وأكثر مُسالَمة وأكثر حباً، وهذا شيئ غريب، فحتى السارق الذي خرج من السجن بدأ الآن يُحافِظ على مُمتلكات الشعب والأمة، لأنه بدأ يشعر الآن أن هذه الدولة دولته وأن هذه المُمتلكات له، فهذه بلده وأرضه التي يجب أن يُحافِظ عليها، لكن بالأمس القريب لم تكن له وإنما كانت للقذافي وطغمته وزمرته، ومن ثم كان يسرق منها أفضل من أن يسرق غيره، وهذا المنطق فيه شيئ من الوجاهة، لكنه أدرك اليوم أن هذه الأرض للأمة وبالتالي يجب أن نُحافِظ عليها جميعاً، وهذا الذي حدث بالفعل، فالآن الشعب الليبي غير مُهدَّد بالمرة بحرب أهلية بل بالعكس هو – والله – على قلب رجل واحد، هذه وحدة مُعمَّدة بدماء الشهادة الزاكي.

سأختم الخُطبة بنُقطة أخيرة وهى أن لكل ثورة من الثورات شعار مُثلَّث ولن نقول ثالوثاً، فهل لثوراتنا من شعار؟!

لابد أن نقترح شعاراً وخاصة في الحالة الليبية الآن، فالثورة الفرنسية كان شعارها “حرية، أخوة، مُساواة “، وطبعاً هذا الشعار منغوم حتى باللغة الفرنسية على إيقاع واحد وتم اختياره اختياراً دقيقاً، فهم نادوا بالحرية لأن الملكيين كانوا يُفهِمون الناس ويلقون في روعهم أن الملك ومَن وراءه يحكمون بإسم الحق الإلهي، فليس للشعب ولا لأحد من الشعب حقٌ عليه ولا حرية بإزاء فعله، فهذا كان ممنوعاً عليهم، وهذا المنطق كان موجوداً للأسف حتى لدى توماس هوبز Thomas Hobbes في كتابه التنين حيث قال “الملك المُطلَق – أي الديكتاتور – يحكم وله حق تفسير القانون”، أي أنه هو مرجعية تفسير القانون، فالملك هو الذي يُفسِّره، وهذه نظرية ديكتاتورية طبعاً ومن ثم جاءت الثورة الفرنسية وقالت هذا غير صحيح، فالذي يحكم الشعب والذي يتكلَّم الشعب ولا حق لهذا المك إزاء الشعب، وهذا هو الصحيح ولذلك كانوا يُنادون بالحرية.

ثم نادوا بالمُساواة لأن إلى الأمس القريب فقط كان يُوجَد طبقة النبلاء والديوكات Dukes – أي الدوقات – والمركيزات والمراكيز من الذكور والإناث، وهؤلاء كان يُتعامَل معهم على أنهم مصنوعين – ما شاء الله – من ذهب في حين أن سائر الشعب صُنِعَ من خشب وبالتالي كان لهم حقوق ليست لبقية الناس، فجاءت الثورة وقالت هذا عهدٌ ولّى وانتهى، علماً بأن طبقة رجال الدين كانت فوق الجميع ولكنها كانت دون الملوك تقريباً، فلما جاءت الثورة الفرنسية قالت “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، فنحن لا نُريد رجال دين ولا نُريد ملوكاً، نُريد اليوم فقط المُساواة، فنحن أبناء وطن واحد وأبناء أب وأم وبالتالي لابد من المُساواة بيننا.

ثم نادوا بعد ذلك بالإخاء، وذلك لأن فرنسا دفعت كسائر أوروبا مئات الألوف من خيرة أبنائها وبناتها في حرب الكاثوليك والبروتستانت، لأن هذا الحزب هو حزب الشيطان في نظر الثاني الذي هو في نفسه حزب الله، والعكس صحيح وبالتالي لا هوادة في حرب حزب الله لحزب الشيطان، ومن ثم قتل بعضهم بعضاً، فولتير Voltaire في كتابه عن التسامح وضع إحصائية رسمية قال فيها “أربعون في المائة من سكان أوروبا ذهبوا ضحية الحروب الدينية”، أربعون في المائة ذهبوا ضحية سواء كانوا من الكاثوليك أو من البروتستانت، أي أن نصف سكان أوروبا ذهبوا ضحية هذه الحروب، ومن هنا جاءت هذه الثورة الذكية وقالت هذا غير صحيح ونادت بالأخوة، قالوا “نحن أخوة، وعماد أخوتنا الوطن الواحد وليس الدين ولا المذهب، فاتركوا هذه الأمور من أجل الأخوة”، وهذا صحيح ومن ثم هم أحسنوا في هذه الجزئية.

جمعية تركيا الفتاة التي اضطلعت بأعباء الثورة كان على رأسها الفيلسوف الحداثي العصراني أحمد رضا، وهو الذي اختار شعار الثورة لديهم وكان دقيقاً في اختياره، فهو شعار الثورة الفرنسية ذاته ولكن مع تغيير، فحذف الإخاء ووضع العدالة وأبقى على الحرية والمُساواة، ومن ثم كان الشعار هو “حرية، عدالة، مُساواة”، أي أن أحمد رضا في تركيا الفتاة أتى بالعدالة، فمن غير المعقول أن يُقال للشعب التركي أنتم إخوة لأنهم فرغوا من هذه المسألة من قديم، فهم إخوة فعلاً، فالمسلم في تركيا أخٌ لأخيه المسلم وأخٌ للمواطن الآخر وإن لم يكن مسلماً، فهكذا علَّمهم الإسلام علماً بأن تركيا كانت تستطيع بجرة قلم سُلطاني أن تُبيد أو أن تُهجِّر كل الأقليات الدينية ولكنها لم تفعل، والسُلطة الدينية رفضت هذا في وجه سليم الأول – حدَّثتكم بهذا من قبل – ودفعت ثمن هذا، حيث أنها فعلت هذا مرة فمُزِّقتَ بعد ذلك وأصبحت رجلاً ضعيفاً لأسباب كثيرة منها الأقليات الدينية ثم أتت الامتيازات أجنبية وإلى آخره.

إذن أحمد رضا كان ذكياً حين تحدَّث عن العدالة ولم يتحدَّث عن الأخوة، فالشعب التركي الثائر كان يطلب العدالة بإزاء الامتيازات الأجنبية التي تغوَّلت حقوقه وأخذت نصيبه وخيره بإسم امتيازات أجنبية، فقالوا “نحن نُريد العدالة، فلنا ما لنا، ولكم ما لكم أيها الإجانب”.

في الثورة الصينية كان يُوجَد سون يات سين Sun Yat-sen المُلقَّب بأبي الشعب، وهو مُؤسِّس حزب شعب الدولة “الكومينتانغ”، سون يات سين Sun Yat-sen قال “مفهوم الأخوة لا يعنيني، فعبر تاريخ الصين الطويل الذي امتد إلى خمسة آلاف سنة ارتقى أكثر من مرة آحاد من آحاد الرعية إلى سُلطان ابن السماء، فمفهوم الأخوة مُتوفِّر عندنا، والأخوة في الوطن عند الصينيين مثل أخوة الدم بل وأزيد، فهم عندهم هذه المعاني من قديم، وعندنا أيضاً المُساواة حيث كانت تجري اختبارات علمية معرفية يرتقى من خلالها الناجح إلى أعلى سلم وظيفي في الدولة، فهذا موجود في الصين من أربعة آلاف سنة وبالتالي لا نحتاج إلى المُساوة، فالقضية لدينا ليست قضية مُساواة أو أخوة أو حرية، ولكن القضية لدينا تتمثَّل في أننا نُريد قومية يحل فيها الوطن محل الدولة لمُعالَجة مُشكِلة المانشوريين والتتار والتبت على الحدود الصينية”، وهذا يدل على ذكاء هذا الرجل، فهذا كلام رجل ذكي وليس كلام رجل شاعر مثل أحمد شوقي مثلا، فكل ثورة عندها تحدياتها، واستجابة لتحدياتها تصوغ شعاراتها، ومن هنا قال سون يات سين Sun Yat-sen “نحن نُريد القومية”، ثم قال “ونُريد الديمقراطية “، فلماذا اختار الديمقراطية ولم يختر الحرية؟!

قال “الحرية موجودة لدينا، ونحن نُريد ما هو أبعد من الحرية، فليس المُهمِ أن يتحرَّر الشعب ولكن المُهِم هو أن يُبرهِن حريته بالمُشارَكة في الشأن العام وهذا ما تتكفَّل به الديمقراطية”، وهذا يدل على أن سون يات سين Sun Yat-sen   كان ذكياً جداً، ثم قال “ونُريد الاشتراكية”، لكن لماذا ختم بالاشتراكية؟!

قال “أنا لست ضد الاستثمارات الأجنبية في بلدي – كان هناك استثمارات غريبة رهيبة وخاصة للإنجليز – ولكن أنا أُريد أن نتعاطى مع هذه الاستثمارات على سُنة المُشارَكة، فلا تظلمونا ولا تُظلَمون”، فإذن استجابة لموضوع الاستثمارات الأجنبية التي أكلت كل شيئ صاغوا العنصر الثالث في مُثلَّثهم الشعاراتي وطالبوا بالاشتراكية وهكذا!

ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين في مصر لن نتحدَّث عنها لأنها معروفة طبعاً ونحن درسناها من قبل، فهى أمرت بالاتحاد لأن العرب كانوا يحتاجون هذا في ذلك الوقت، وأمرت بالنظام في أمة فوضوية وأمرت بالعمل، ولن نشرح هذا الآن ولكننا سنختم الخُطبة بالقول الآتي:

نحن نُريد شعارات لثوراتنا، ولدينا مُقترَحات طبعاً نقترحها كما يقترح أي أحد، وطبعاً بلا شك أن قدس أقداس الثورة وحجر أساسها وبيت قصيدها هو الحرية، فلا يُمكِن لأي ثورة عربية أن تتخلى عن أن يكون رأس شعاراتها المُثلَّثة هو الحرية، فالشعوب قُهِرَت من ألف وأربعمائة سنة وبالتالي أول ما تحتاج إليه هو الحرية، وفي الحالة الليبية أنا أقترح سريعاً – لأن الوقت ضاق – أن يكون العنصر الثاني هو البناء، فأول ما تحتاج إليه ليبيا بعد الحرية – أُقسِم بالله – هو البناء، فهذه الدولة وهذا الشعب واجه التهديم على مدى ثنتين وأربعين سنة، وبالتالي ليبيا تحتاج إلى أن تُبنى، فيُبنى فيها الإنسان وتُبنى فيها الدولة والمُؤسَّسات الرسمية ومُؤسَّسات المُجتمَع المدني، لابد من البناء يا أيها الليبيون.

أرجو أن أرى ليبيا بعد أشهر – إن شاء الله تعالى – في ثوب جديد، فتكون الدولة العربية الأولى التي تستضيف المُثقَّفين والعلماء والأدباء والفلاسفة، وأريد أن أرى مهرجانات ثقافية وعلمية وتربوية يومياً حتى نستطيع أن نُواكِب العالم، فلابد أن تفعل ليبيا هذا على عجل لأنها مُهدَّمة تماماً.

أما العنصر الثالث والأخير فأقترح أن يكون الاتحاد وليس الوحدة، فالوحدة تحتوي على معنى دمجي عضوي كالدولة المُتوحِّدة البسيطة، فلابد أن ننتبه إلى هذا لأننا لا نُريد الوحدة وإنما نُريد الاتحاد، نُريد شيئاً مثل الدولة الاتحادية الفيدرالية، فنحن نحتاج كعرب إلى الاتحاد حتى لا نغرق في فهم الوحدة، ومن هنا نأمل – إن شاء الله – في الاتحاد.

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمن على هذه الأمة بحرياتها كاملةً إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (4/3/2011)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: