إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله – جل من قائل – من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ۩ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

لو أن امرأً ما شيَّد أو شاد بناءً عظيماً شاهقاً جيملاً مُزخرَفاً لكن على غير أساس لترجَّح ولتُوقِّع أن يخر هذا البناء في أي ساعة من نهار أو ليل، وربما أهلك كل مَن كان بداخله.

بناء الدين ما عساه يكون أساسه ومبناه؟ بكلمة واحدة الصدق، فلو أن امرأً أمعن في التدين قولاً وعملاً على غير أساس لقطعنا بأن عمارة تدينه كلها خربة أو آيلة إلى الخراب قريباً، لن تُجديه جدوى لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه شاد وعمَّر على غير أساس، فما لا أُس له مهدوم، ومبنى الدين وأساسه الصدق، ولذلك جعل السادة العارفون – عرِّفني الله وإياكم جميعاً به ودلنا عليه دلالة الصادقين – الصدق المقام الأعظم للأولياء والعارفين، أعظم المقامات الصدق!

قد يقول قائل هل أعظم من الإخلاص؟ نعم، أعظم من الإخلاص، لأن المرء يُمكِن أن يكون مُخلِصاً كاذباً، إذا أخذنا الإخلاص بمعناه الجوهري – إفراد الله بالتوجه – فنعم أنت تُفرِد الله بالتوجه، لا تدعو إلا الله تبارك وتعالى، ولا تقصد إلا إياه، لكنك كاذبٌ مع الله، نعم! تدعوه، تتقرَّب إليه، تزدلف إليه، ترغب فيما عنده، وترجوه، لكنك كاذبٌ في نيتك، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩.

وكما أن مبنى الدين والإيمان على الصدق فمبنى الرياء والنفاق على الكذب، المُنافِق يُؤسِّس على كذب، والمُؤمِن يُؤسِّس على صدق، الله – تبارك وتعالى – يُريد منا ابتداءً وانتهاءً الصدق، وإذا تحدَّثنا عن الصدق فهو يُريد منا – وأعظم ما يُريد منا وأول ما يُريد منا – الصدق في النوايا.

مَن لم يصدق الله – تبارك وتعالى – في نواياه – ومن هنا أتى إنما الأعمال بالنيات، مَن صدق فيها ومَن كذب فيها، أي في النية – ويبدأ هذه البداية تكشَّف عمله عن هباء ولو عمل خمسين سنة، عن هباء! هواء، فراغ، لا شيئ، لماذا؟ الأساس ضائع، ولذلك اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩، والقرآن فصَّل تفصيلات عجيبة حقيقة وجديرة بأن يُتفقَّه فيها أعظم الفقه وأن نُطوِّل عندها الوقفات، فصَّل تفصيلات بديعة وعجيبة، فحدَّثنا عن الصدق في المُدخَل والصدق في المُخرَج، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ۩، وهذا المُدخَل إن فُسِّر بمُدخَله المدينة – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – والمُخرَج بمُخرَجه مُهاجِراً من مكة – شرَّفها الله وزادها مهابةً وبراً – إلا أنه أعم بلا شك، قولاً واحداً أعم! ولذلك أُثِر عن بعض السلف – رضوان الله عليهم – أنه كان إذا خرج من بيته نظر إلى السماء وقال اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مُخرَجاً لا أكون فيه ضامناً عليك، أي أعوذ بك أن أخرج مُخرَجاً أكون فيه غير صادق، أنت خرجت اليوم أو الساعة من بيتك لتأتي المسجد، هل خرجت مُخرَج صدق أو مُخرَج كذب؟

مُخرَج الصدق أن تخرج لله، طاعةً لله، لا لكي تُرى ولا لكي تُسمَع ولا لكي يُثنى عليك ولا… ولا… ولا… أبداً! إنما لله، بخوعاً لأمر الله، طاعةً لأمره، لا إله إلا هو! حفظاً لحدوده، فعلاً لما يُرضيه ويُحِبه ويُدني إليه، هذا مُخرَج الصدق!

كذلك الذي يخرج في طلب العلم، في زيارة جاره المريض أو حتى غير المريض، زيارة أخيه المُؤمِن أو جاره، هذه كلها مخارج، الذي يخرج حتى في مُرمة معاشه، يسعى على رزقه، يُمكِن أن يجعل النية أن خروجه لله تبارك وتعالى، وتعلمون أحسب الحديث الشهير – حديث الإمام الطبراني وابن أبي الدنيا أيضاً في كتاب العيال – حين رأى – صلى الله عليه وآله – وكان معه نفرٌ من أصحابه شاباً جلداً قوياً يسوق إبلاً له، كان في رعيها! فقال بعض الصحابة أما لو كان هذا في سبيل الله لكان خيراً له، أي لو كانت هذه القوة وهذا الجلد وهذا الجسم في سبيل الله في الجهاد لكان خيراً له من هذا، هذا يرتزق، يرم معاشه! فقال – صلى الله عليه وآله، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير، مُعلِّم! النبي كان مُعلِّماً، وهو خير المُعلِّمين، لا يدع فُرصة إلا يأمر فيها بمعروف، يُوضِّح فيها مفهوماً، يُصحِّح فيها غلطاً شائعاً، يضع أتباعه وإخوانه وأصحابه دائماً على السواء، دائماً! لأنه ما أراد ديناً كالذي نتعاطاه اليوم، دين تخدير وتسكين، فضلاً عما جعلناه عليه من دين تبغيض وشنآن وتنفير وقتل وتذبيح وتكفير، ويُحمَل هذا كله على الله ورسوله والعياذ بالله، نسأل الله أن يُهدينا وأن يُصلِح أحوالنا – لا تقولوا هذا، أما إنه لو كان خرج يسعى على أبوين كبيرين فهو في سبيل الله، أما إنه لو كان خرج يسعى على أهل بيت له – أي زوجته وأولاده، لكي يمونهم ويكفيهم ويكفهم عن تكفف الناس – فهو في سبيل الله، أما إنه لو كان خرج على نفسه – يمونها ويكفها عن السؤال، يكفي نفسه – فهو في سبيل الله، يا سلام! حتى الخروج يا رسول الله – صلى الله على رسول الله وآله – في الرزق؟ حتى الخروج اليومي الذي نتعاطاه؟ نعم، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ۩، يكون لله تبارك وتعالى، ونكون صادقين في هذا، لا نخرج لكي تزداد أموالنا ونتباهى بها، أنا أغنى وأنا أكثر تمولاً منك! كلام فارغ، هذا كله متاع الدنيا القليل، وعما قليل إما هو ذاهب أو نحن عنه ذاهبون، ليس هذا، هذا هو الإنسان الرباني.

إذن مُخرَج الصدق، وقبله مُدخَل الصدق، يعمان! هذا المُدخَل وهذا المُخرَج يعمان أشياء كثيرة، يُوشِك أن يأتيا على كل حركة الإنسان وتقلباته وسعيه في دنياه، أيضاً هناك قدم الصدق، لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۩، اللهم اجعلنا من أهل قدم الصدق، والقدم حقيقته ما يُقدَّم، ولذلك فُسِّر بالعمل الصالح، وفُسِّر بالجنة، وفُسِّر بمحمد، كيف قدم الصدق محمد؟ أي الإيمان بمحمد، آمنوا بالله وبالنبي العربي الأُمي وقدَّموا هذا، سيجدونه أمامهم يوم القيامة، لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ۩، فحقيقة القدم ما قدَّمه المرء وما يقدم عليه، ما قدَّمه وما يقدم عليه! وبحول الله ولُطفه وحُسن جزائه وبره بنا نقدم على الجنة إن شاء الله تعالى، نعم نقدم على الجنة وإنما نقدم عليها بما قدَّمناه لها، هذا هو! قدَّمت الإيمان – الإيمان بالله وبرسول الله – والأعمال الصالحة والمبرات الطيبة، كل هذه قدم، قدم صدق! يكون هذا لله، ليس للناس، لله! عملت هذا لله، إيمانك لله، أعمالك الصالحة لله، كله لله! ولذلك وصفها بهذا المُركَّب الإضافي، قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۩، وما عند الله غير ضائع، ما عند الله ثابت حاق بإذن الله تبارك وتعالى، وقدم الصدق هو الجنة لأننا نقدم عليها بما قدَّمناه لها.

لسان الصدق، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ۩، وَجَعَلْنَا لَهُمْ – للأنبياء المذكورين أو المذكور جُملة منهم في سورة مريم عليها السلام – لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ۩، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ۩، لسان الصدق هو حُسن الثناء على المرء يا إخواني، إبراهيم يدعو الله ويرغب إليه، وانظروا إلى الدعوة المُستجابة، قرآن عجيب! القرآن يقول هذه دعوة إبراهيم، هو دعا أن يجعل الله له لسان صدق في الآخرين، اليوم لا ترى يهودياً ولا نصرانياً – مسيحياً – ولا مُسلِماً إلا هو يعتزي بالانتساب إلى إبراهيم ويُجِل إبراهيم، وإبراهيم على الرأس ونعمة ألف عين، عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسله الصلوات والتسليمات، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ – تنازعوا شرف الانتساب إليه – بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۩، أليس كذلك؟ هو هذا، فالله لباه وأعطاه سؤله، أجاب دعوته، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ ۩، لكن قال لِسَانَ صِدْقٍ ۩ لأن لسان الصدق ليس هو حُسن الثناء فقط، حُسن الثناء بالصدق وليس بالكذب، أن يُثنى على المرء صدقاً وليس كذباً، الآن طبعاً يُوجَد الألوف من الأساطير، كل الأمم لديها أساطيرها، لا تخلو أمة من رجال أسطوريين، ليسوا خُرافيين وإنما أسطوريين، الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon عند قومه أسطورة، أي Legend وليس Myth، ليس خُرافة أو قصة أو Fable أو كذباً، لا! أسطورة بمعنى شيئ مُقدَّس أو شيئ كبير أو شيئ يُفتخَر به، مثل عمر بن الخطاب أو عليّ – مثلاً – لدينا أو أبو بكر الصديق، أساطير! وكذلك صلاح الدين أسطورة، هذه أساطير، الأساطير لا تعني الأكاذيب، لا! الأساطير هي الشخصيات العظيمة الباذخة التي تُوحي وتُلهِم، مُثل عليا، يُوجَد فرق! للأسف طبعاً بعض الناس لا يُفرِّق بين أسطورة وخُرافة، أي بين Legend وبين Myth، هذه ليست خُرافة Myth، ليست Fable، إنما Legend، أي أسطورة، كل الأمم لديها أساطير وتُثني عليهم أحسن الثناء وأعطره، لكن مُعظَم هذه الأساطير يُثنى عليها أحسن الثناء بالكذب لا بالصدق، وكما قلنا مرة أبطال كل أمة يُوشِك أن يكونوا مُجرِمي أمم أُخرى، أليس كذلك؟ هو بطل عند أمته، وهو مُجرِم لعين عند ضحاياه الذين ذبَّحهم واستقاهم كالأغنام وسبى نساءهم وهتك أعراضهم وأخذ بلادهم وسفك دماءهم، لكن إبراهيم يقول لا، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ۩، يُثنى علىّ أحسن الثناء وأعطره وأجمله بالصدق، لا بالكذب، وكذلك الأنبياء، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ۩، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعل لنا جميعاً لسان صدق في الآخرين، أن يُثنى علينا حسناً وصدقاً أو حسناً بالصدق، لا بالكذب.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۩، الجزاء الحسن إنما يكون على ماذا؟ على صادق الأعمال وصادق القُرب، لا على مُجرَّد القُرب والأعمال، لا! على الصادق، ولذلك أثقل شيئ يتكابده المرء ويتعاطاه ويتعاناه الصدق، بخلاف الكذب والرياء، أخف شيئ! أخف شيئ على المرء الكذب، أن يكذب وأن يدّعي أنني وأنني، أنني شديد الإيمان بالله، مُحِب للخيرات، مُحِب للبشر، مُحِب لإخواني، ومُحِب للناس، سهل! كلام هذا، كله كذب، زُلفى للناس، طلب المحمدة عند الناس والمنزلة وحُسن الثناء، سهل! الصدق صعب جداً جداً يا إخواني، أثقل شيئ، ولذلك الصدق مُجاهَدة ومُكابَدة ومُعاناة، وجزاؤه بقدره، جزاؤه عظيم، ولا جزاء حسن إلا بالصدق، لا يُمكِن!

قال الله هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩، في قراءة ورش وغيره هذا يومَ، فهذه على العدة، قراءة ورش قال الله هَذَا يَوْمَ – بالفتح – يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ على العدة، لكن هَذَا يَوْمُ – بالضم – يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩ – لو تأملتم – على التحقق، فهي أبلغ! قراءة حفص أبلغ، قال الله في آخر المائدة هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ – اللهم اجعلنا منهم – صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩، الله!

إذن لا فوز عظيم إلا بماذا؟ إلا بالصدق، الفوز العظيم سبيله الصدق، قال الله هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩، نسبه إليهم، أضافه إليهم! لماذا؟ كان يُمكِن أن يُقال هذا يومُ ينفع الصادقين الصدقُ، لو قال – تبارك وتعالى – ذلك لكان الصدق أشبه – تعرفون بماذا؟ – بمتجر، يغدو إليه مَن شاء ويأخذ منه ما أحب وأراد ثم يمضي، شيئ سهل وحمله سهل، لا! إنما قال صِدْقُهُمْ ۩، صِدْقُهُمْ ۩ الذي كابدوه وحملوه وتعنوه وجاهدوا به أنفسهم والخلق لكي يعتصموا، ولذلك قيل علامة الصادق أنه لا يُحِب أن يرى الناس مثاقيل الذر من عمله الحسن، لا يُحِب! الصادق لا يُحِب هذا، لأنه يعمل هذا لله، فهنا يتفق الصادق مع المُخلِص الذي تشحَّر لله وتمحض لله تبارك وتعالى.

والصادق أيضاً يا إخواني لو دنا واقترب موته ما كره ولا شعر بعار أن يُكشَف عن سره، لماذا؟ لأنه صادق وسره مُنير مُتألِّق مُلتمِع، ستموت بعد ثوانٍ، سيُكشَف الخباء، سيُكشَف عن السر، لا بأس! ليس هناك ما يُعتَر منه، ليس هناك ما يُستحيا منه، مِن أين أخذوا هذا المعنى اللطيف؟ من قوله – تبارك وتعالى – فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، لأن الموت يكشف العورات، هذا أحد المعاني أو أحد الوجوه في هذه الآية العجيبة، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، لأن الموت يكشف السر، ولأن الموت يُفضي إلى دار الجزاء على الأعمال، ومُبتدأ الأعمال – وهو الأهم – هي النيات.

إخواني وأخواتي:

لا أُحِب أن أتحدَّث عن الصدق حديثاً علمياً أو أكاديمياً تفصيلياً، أُحِب فقط أن أتحدَّث عن جُزئية واحدة وأمضي، خُطبتي اليوم قصيرة بإذن الله تبارك وتعالى، أُحِب فقط أن أتحدَّث عن معنى واحد فقط، وأُمهِّد بالقول بين يدي هذا المعنى بهذه الجُملة، لو تهيأ لامرئٍ أن يُقسِّم الدين وأن يُقسِّم الإسلام تقسيماً ما لكان من بين ما يجوز من التقسيم القول الدين والإسلام والإيمان شطران، وأحدهما أشرف من الآخر وأعظم وأسبق وأعلى، كل الدين! النية وما عداها، هذا هو! نصف الدين أو شطر الدين – على الأقل الشطر، على الأقل – النوايا، وما عدا النوايا يُمثِّل الشطر الآخر، أعظم الشطرين النوايا، أسبق الشطرين – الأساس – النوايا، وأشرف الشطرين النوايا، إنما الأعمال بالنيات، ثم أُذكِّر بقول الله – تبارك وتعالى – وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا – اللهم اجعلنا منهم، آية عجيبة – وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۩، اللهم اجعلنا منهم ولا تحرمنا يا الله بجودك وكرمك ومنّك، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۩، مَن هم الَّذِينَ صَدَقُوا ۩؟ الذين تحقَّقوا بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وأتوا ما ذُكِر سرداً من الأعمال الصالحة ووجوه البر، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۩، ما معنى هذا؟ هذا يُمكِن أن يكون معناه – وهذا مُمكِن جداً وواضح – أن مَن صدق الله – تبارك وتعالى – هيَّأ الله له ويسَّر عليه هذه المذكورات، ما رأيكم؟ حتى هذا في حق الكافر، هنا قد يقول لي أحدكم يُوجَد إيمان، الله يقول مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ۩، لكن هذا مُمكِن حتى في حق الكافر! افترض – أي افرض – كافراً ما من الكفّار، ولا يعلم أي الأديان خير وأي الأرباب خير وأي السُبل خير، مُشوَّش! المسكين الأمور عليه مُختلِطة، تعرف ما الذي يُريده الله منه في هذه الحالة؟ هذا ليس مُسلِماً وربما ليس مسيحياً ولا يهودياً، رجل ضائع، تائه المسكين، في حال تشوش كامل، الله يُريد منه الصدق، الصدق في النية، نية ماذا؟ نية أن يهتدي، نية أن يعرف ما هو خير، فوالله الذي لا إله إلا هو لو صدق الله كافر تائه مُشوَّش سينفعه الصدق، ماذا عن مُلحِد لا يُؤمِن بالله؟ لا يُؤمِن لكن في نفسه صادق أنه لو تبرهن له وجود الله لآمن به، لكن المسكين مُشوَّش، الأمور مُختلِطة عليه، شُبهات علمية على تشغيبات فلسفية على مُغالَطات منطقية، المسكين لا يعرف شيئاً، ضائع! على سوء في عالم من أهل الأديان وأتباع الرُسل وإجرام، فالأمور اختلطت عليه، المسكين اشتبه، أصبح مُشتبِهاً! الله يُريد منه صدق النية، أن يكون صادقاً في تعرف وجه الحق، فلو صدق الله سينفعه الصدق، كما قال تعالى في حق الذين في قلوبهم مرض، أول ما يسمعون بمعركة – هيا اخرجوا ودافعوا عن الله ورسوله – تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، الله قال فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩، لكن هم غير صادقين، لم يكونوا صادقين! فهذا الكافر ينفعه الصدق لو كان صادقاً، وعما قريب وعما قليل سيعرف بعون الله – وسيُميِّز الحق من الباطل، والخاثر من الزُباد، والنور من الظلام، سيقول هذا حقٌ وهذا باطلٌ، من أين أتته الهداية؟ ليس بحوله ولا قوته ولا طوله ولا ذكائه، هو مسكين مُشوَّش! وإنما من الله تبارك وتعالى، ولله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، الله لا يُعجِزه ألا يُناهي السُبل والطُرق التي يهدي بها عباده، يُمكِن أن يهدي كلاً من خلقه – حتى ما كان منهم في مثل حجم الذر- بسبب من أسباب الهداية، يُمكِن أن يهدي كل خليقة، كل نوع خليقة بسبب من أسباب الهداية، بطريقة تختلف عن أختها، ما رأيكم؟ طبعاً لا يُعجِزه، عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، يجعل له سبباً ووصلةً وسبيلاً وطريقاً مُختَصة للهداية، تهديه ويحصل بها برد وثلج اليقين، لأنه صدق الله، هل هذا واضح؟

وهذا عكس الذي يُعلِّم الناس الإيمان والإحسان والعرفان وهو كاذب، ليس صادقاً، ليس قصده أن يعرف الناس الله حقاً، بل ليس قصده أن يعرف هو الله حقاً، قصده – والعياذ بالله تبارك وتعالى – مثلاً – كما قلنا قُبيل قليل – أن يُثنى عليه بالحسن، أن يُقال ما أضرعه! فيلسوف زمانه، عالم أوانه، مُتوسِّع يا أخي، دائرة معارف، هذه نيته! عارف بالله، ما شاء الله، عليه سيم الصالحين، كذّاب! هو كذّاب وهذا هدفه، هذا المُشرِك الصغير القميء، هذا – والعياذ بالله – تدور عليه الدائرة ويُختَم له بشر الخواتم، شر الخواتيم! لأنه ما صدق الله تبارك وتعالى.

ولذلك مَن صدق الله – تبارك وتعالى – في نيته هُديَ إلى تحقيق الإيمان وعمل الصالحات والسلوك الحميد الحسن مع عباد الله ومع خلق الله، والإخلاص – إخلاص الوجه والقلب – لله تبارك وتعالى، قال تعالى أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۩، إذن جزاء الصدق هذا، ومبدأ هذا ما هو؟ الصدق، إذن الصدق هو المبدأ، إذن أهم شيئ في القضية برمتها أساساً الصدق، قبل أي شيئ، الصدق!

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – أكَّد على هذا المعنى بأسلوبه النبوي البديع الجميل، قال إن الصدق يهدي إلى البر، النبي يفهم هذا، الآن اقشعر – والله – شعر بدني ورأسي، النبي حين تُفكِّر في كلامه تجده قرآنياً، وهذا في الصحيح طبعاً، في الصحيحين من حديث ابن مسعود، النبي كل فقهه وكل علمه لو فكَّكته وحلَّلته قرآني، يمتح من كتاب الله، كله! قد يظن أحدهم أن هذه عبارة عادية، أنا شخصياً قلت هذه العبارة كثيراً وشرحتها، لكن ما كنت أفهم بهذا العمق، ما فهمتها يوماً بهذا العمق، إن الصدق يهدي إلى البر، كلام! نُكرِّر كلاماً لا نفقهه، لا! لو وقفنا وقفة مُتأنية مُتماهِلة لفهمنا، إن الصدق يهدي إلى البر، إذن لا بر بغير صدق، إذن لن تصل إلى البر ما لم تصدق الله في نيتك، وهذا بينك وبين الله، ولا يعلمه إلا الله، بل أحياناً قد لا تعلمه أنت، قد تقول لي كيف؟ وعَّرت الطريق علينا، لا! لا تعلمه أنت، لأنك مردت على، دأبت على، وتعوَّدت على مُخادَعة نفسك، ستقول لي وهل الإنسان يخدع نفسه؟ أكثر ما يخدع المرء إنما يخدع نفسه، ما رأيك؟ والله! أكثر ما يخدع المرء إنما يخدع نفسه، لذلك لو دعا امرؤٌ ربه – تبارك وتعالى – يجب أن يدعو وأن يجعل من ضمن دعواته الأوائل – من أولى دعائه – أن يقول اللهم عرِّفني بنفسي، اللهم بصِّرني بذاته، اللهم وعِّني بأهدافي ومقاصدي أو قصودي ونواياي، اللهم اجعل لي مرآة أرى فيها حقيقة نفسي الأمّارة، الكذّابة، المُنافِقة في بعض المرات، المُرائية، المُخادِعة، والمُخاتِلة، وهذه حقيقة الصدق! إذا عرفت هذا واجتزته بإذن الله تعالى – وهذه أكثر العقبات صعوبة ومشقة – أنت دخلت سبيل الصادقين بإذن الله تعالى، انتهى! تُصبِح صادقاً، لماذا تدعو بهذا؟ لماذا تُريد هذا؟ تُريده لله، لا لشيئ آخر، الأمور واضحة الآن لديك، واضحة! هذا هو الصادق.

النبي يقول الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وطبعاً يقول وإن الرجل ليصدق ولا يزال يتحرى الصدق حتى يُكتَب عند الله صديقاً، إذن مبدأ الصديقية الصدق، وأعلى الصدق الصديقية، اللهم اجعلنا من الصديقين، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ – مُباشَرةً بعد النبيين – وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ۩، الصدق! صدق النية أولاً، وهو الأهم والأخطر، صدق النية أولاً، الله يُريد منك أولاً أن تصدقه في النية.

يقول أحدهم لي أنا – والله – يغلب علىّ – مثلاً – شهوة النساء، أنا ضعيف أمام النساء، أقول له سهلة، من أسهل ما يكون! يقول لي كيف سهلة؟ ثلاثون سنة وأنا أُعاني وأُكابِد، وأزل ثم أتوب وأستغفر ثم أعود في حافرتي، كيف سهلة؟ أقول له ولا أسهل منها! هل تعرف لماذا لم تستقم على طريق العفة وطريق الطهارة؟ لأنك ما صدقت الله يوماً، كذّاب! ما صدقته يوماً، والله لو صدقته دقيقة أو ساعة من زمان وأردت العفة بصدق لأعفك الله، يقول أحدهم لي أنا ضعيف أمام شهوة المال أو أمام شهوة الشُهرة أو أمام السُلطة والقوة أو أمام… أو أمام… أو أمام… وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩، كلنا ذلك الرجل، وأنا أولكم، كلنا ذلك الرجل، ما منا أحد إلا وهو ضعيفٌ هشٌ أمام شهوة أو أكثر من شهوة من شهوات الدنيا، مثل المال، النساء، الشُهرة، السُلطة، والمحمدة، أشياء كثيرة! والتميز بين الناس، والتميز على الناس، أشياء كثيرة! والحل سهلٌ ميسورٌ جداً، أن تصدق الله تبارك وتعالى، انتبه! طبعاً تقرأ إدارة الذات والتنمية والبشرية وتسمع المُحاضَرات الفارغة، وأنا لا أقول العلم فارغ، لكن هناك مُحاضَرات في حق المُسلِم الصادق هي أشياء فارغة، لماذا؟ لأنها تُريد أن تُفهِمك أن الأمر كله طوع يديك، رهن الإشارة منك، أنت البطل، أنت بطل الأبطال، محمدك – صلى الله على محمد وآله – لم يكن ذلك البطل، محمد كان يقول أعوذ بالله، أعوذ بك أن تكيلني، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، كان يقول له يا رب أنا لست بطلاً، أنا لست بطل الأبطال، أنا لست أقوى الأقوياء، أنا لست أذكى الأذكياء، أنا عبدك محمد الضعيف، الذي لا يسوى شيئاً ولا يقدر على شيئ بدونك، وهذا معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، لكنهم يُعلِّمونك في مُحاضَرات ودورات التنمية البشرية وتدريب الذات أنك تفعل هذا وحدك، هناك طرق مُعيَّنة، كلام فارغ! الطريق واحدة وبسيطة جداً، أن تصدق الله، كيف؟ ونختم بالمثال ومن ثم يكون اتضح – إن شاء الله – المقال بعون الله تعالى، نختم بالمثال!

رجل ضعيف أمام المال، أينا ليس ضعيفاً أمام المال؟ قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۩، مَن هذا المُراد بــ إِنَّهُ ۩؟ الإنسان! إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۩، الإنسان! والإنسان هو أنا وأنت وهو وهي وهم، كل البشر، كل بني آدم ضعفاء أمام المال، صرت لا أُحِب ولا أُحبِّذ هذه الطريقة الكاذبة في التعبير أيضاً حين يتحدَّث بعضهم – مثلاً نفترض – عن أغنياء أو عن سلاطين وحكّام، يقول أحدهم لك هؤلاء من أجل دنيا حقيرة ومن أجل دنيا يسيرة فعلوا كذا وكذا، غير صحيح! تكذب أنت أيضاً، أيها الواعظ تكذب على نفسك وعلى الحقائق وعلينا، والله تكذب! ليست الدنيا حقيرة ويسيرة، على الأقل في نظرك أنت، وواضح أن دنياهم ليست حقيرة ويسيرة، مَن عندهم الملايين والملايير، هذه ليست دنيا حقيرة ويسيرة، دنياك أنت حقيرة، دنياي أنا حقيرة، مَن عندنا الملاليم والألوف، هذه دنيا حقيرة، دنياهم ليست حقيرة، هل تعرفون لماذا أقول هذا؟ أقول هذا وفي القلب ألم ولوعة، لأننا نرى أنماطاً مِن هؤلاء يتحدَّثون بهذه اللُغة الكاذبة ثم يبيعون أنفسهم لقاء دُريهمات من هنا وهناك، والنتيجة تحريض الأمة بعضها على بعض وإدخال الأمة في نار حرب ضروس تأكل الأخضر واليابس، ويُحمَل هذا على الدين، على الله والرسول أيضاً، هذا من الدين! والسبب الحقيقي بعض المال من الدنيا الحقيرة اليسيرة، هذا كذب، لا! واضح أنك يا مولانا مُحِب جداً للدنيا، مُحِب جداً ولم تعرف طريق – ماذا أقول؟ لا أقول العصمة – النجاة، لم تعرف طريق النجاة من هذه الهلكة، الدنيا بحد ذاتها والمال بحد ذاته ليس شراً، الله سماه خيراً، وقال إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ۩، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۩، إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي ۩، سُليمان بن داود، لا! المال خير، لكن متى يعود شراً؟ يعود شراً إذا ساقك إلى الشر، إذا بديته على الخير وضحيت بالخير من أجله عاد شراً، إذا استعملته واصطنعته في الشر عاد شراً، هو من حيث ذاته بغير هذه الاعتبارات هو خير، الله قال خير، خير! يُتقرَّب به إلى الله، يُنفَع به العباد، تُبنى به المشافي والجامعات والمدارس وتُعبَّد الطرق وتُبنى المساجد، إلى آخره! هذا كله بالمال، فالمال خير، ليس شراً، جيد! إذن كلنا ذلك الرجل الضعيف أمام الخير، أمام المال! ماذا نفعل؟ سهلة جداً، النية.

تُقبِل على الله بصدق، وتقول يا الله عند الامتحان، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، نحن في ابتلاء دائماً، تقول يا رب أنا الآن معروض علىّ هذا العمل، معروض علىّ هذه الوظيفة، معروض علىّ هذا العرض، وفيه إغراء كبير، مال كثير! اللهم إني أسألك – وهنا تسأل صادقاً، ولا يعلم هذا منك إلا الله، وأنت ربما تعلم بعض العلم أو كله أو أكثره، تعرف نفسك، سله! أنا أقول لك هنا القضية كلها في هذه الجُملة وفي هذه اللحظة، والله العظيم يا إخواني، انتبهوا! في هذه اللحظة كُن صادقاً – بعزك، أسألك بنورك الذي ملأ أركان عرشك، أسألك بعلمك فإنك تعلم ولا أعلم، بقدرتك فإنك تقدر ولا أقدر وأنت علّام الغيوب، إن كنت تعلم أن هذه السبيل – سيري في هذه السبيل، مُوافَقتي على هذه الصفقة أو على هذا العرض أو على هذه الوظيفة أو على هذا العمل – خيرٌ لي في ديني ودنياي، في معاشي ومعادي وعاقبة أمري، عاجل أمري وآجله، إن كنت تعلم أن هذا يُرضيك ويُدنيني إليك يا رب العالمين وترضى به عني اللهم يسِّره لي واكتبه لي واقدره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك اللهم لا تُيسِّره ولا تكتبه ولا تقدره ولا تُبارِك فيه، اللهم خُذه مني، الله! وتقول هذا بصدق، ستقول لي هذا سهل وصعب، طبعاً هو سهل يسير على مَن يسَّره الله عليه، وصعب – أصعب من الصعب – على عابد الدينار والدولار وليس عابد الله، صعب! سيقول فُرصتي، جاءني هذا العرض الذي أنتظره من عشرين سنة، سأُملين، نعم ستُملين وستُدخَل النار، إياك يا مسكين، لذلك الإيمان الحقيقي عقل، المُؤمِن الحقيقي رجل عاقل، لا يبيع الأبد بالدنيا الفانية، هذه فانية، أي الدنيا! ما قيمة أن تعيش سبعين سنة أو ثمانين سنة أو مائة سنة أو مائة وعشرين سنة أو مائتي سنة؟ لا شيئ! هناك لا ينتهي، عمر لا ينتهي، أبد! هذا العاقل، لا يُمكِن أن يضع الله في كفة والدنيا في كفة، حاشا لله، الله دائماً وحده، هذا معنى التوحيد أيضاً، انتبه! مَن جعل الله في كفة ومَن دخل الله طرفاً في أي حساب ليس مُوحِّداً وليس مُؤمِناً، الله لا يدخل طرفاً في أي حساب، الله أكبر – هذا معنى الله أكبر، أليس كذلك؟ – من كل شيئ، الله يُتوجَّه إليه فقط، يُستمَد ويُستهدَى ويُستلهَم، لا إله إلا هو! لا نُدخِله في مُفاوَضة، لا نُدخِله في مُعاوَضة، ولا نُدخِله في حساب طرفاً، طبعاً قد تقول لي أنا اليوم نجوت، جعلت الله طرفاً في حساب، طرفه الله والطرف الثاني مليون دولار، ونجوت! بديت الله اليوم، لكن أنت من الآن دخلت سبيل المُشرِكين وسبيل الكذّابين، وأنا أُبشِّرك – والعياذ بالله – بُشرى الشر، أنت هالك لا محالة، لأن غداً أو بعد غد قد يُعرَض عليك مليار، ألف مليون! أليس كذلك؟ مُنذ البداية الله ليس طرفاً في أي حساب، الله فوق الدنيا وفوق مَن وما في الدنيا والآخرة، فوق الجنة والنار، فوق كل شيئ، هذا معنى الله أكبر، هذا معنى أنه واحد أحد، لا شريك له، ليس الشريك هُبل واللات والعُزى فقط، والمليون والمليار والدنيا والآخرة، يُمكِن لهذه الأشياء كلها أن تكون شركاء لله، لا! لا شريك له، كُن صادقاً مع الله.

أختم وهذا مُهِم بقدر أهمية هذه النُقطة، الله سيبتليك، ابتلاءات! والذي يُبتلى يُخفِق مرة ربما وينجح مرات، أو العكس! بعض الناس الخائبين – اللهم اجعلنا من الفالحين جميعاً وجمعاوات – إخفاقاته أكثر، الله يبتليك وإتماماً للابتلاء يُبطِل هذه الصفقة، يُغيِّر قلب المُدير أو رئيس المُؤسَّسة عليك، يقول لك لا، نحن وجدنا مَن هو خيرٌ لك منك، توكَّل على الله، الله سيرزقك من واسع، الآن – انتبه – إتمام الاختبار، لو كنت صادقاً واللهِ – بكسر الهاء يا إخواني – لتفرحن، ستقول الحمد لله، يا رب لك الحمد، دعوتك وأنت تعلم صدق نيتي، دعوتك أن تصرف عني هذا المال الكثير – هذه الملايين – إن لم تكن في مرضاتك وفي سبيلك وفيما يُدنيني إليك، أنت صرفتها، يا رب لك الحمد، أنت لطيف بي، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ۩، وتظل تبكي من الفرح، أنت صادق، أنا أقول لك سر في هذه الطريق ولا عليك، ولا عليك! والله لو كادتك السماوات بمَن فيهن والأرض بمَن فيهن لجعل الله لك من بين ذلك مخرجاً، والسر ما هو؟ الصدق، أنك صادق!

ستقول لي وضح السبيل، وطبعاً إذا صحت النية وضح السبيل، وضح السبيل لأن النية وضحت وصدقت، وضح السبيل لأن هذا المثال كافٍ، وعليه فقِس! قِس شهوة النساء، شهوة حُب الشُهرة، شهوة حُب المحمدة والثناء، شهوة التميز، شهوة التسلط، وشهوة السُلطة والتنفذ على العباد، كل الشهوات التي ما منا أحد إلا وهو ضعيف إزاءها أو إزاء بعضها، أقبِل على الله دائماً بهذا، وبالمُناسَبة هذا منطق العبودية، هذا هو سلوك العبد، هكذا هو العبد المُؤمِن، هكذا هو العبد الرباني.

العبد الرباني لا يُعوِّل لا على علمه ولا على ذكائه ولا على شطارته ولا على علاقاته وعلى خبرته في الحياة أبداً أبداً أبداً، خبرة ماذا؟ أنت ترى مَن وصل عمره إلى سبعين سنة وهو من أهل الدين لكنه دجّال كبير ونصّاب ومُجرِم وأصبح لعنة على الأمة، أليس كذلك؟ أين كُتبه في الدين؟ أين اللحية؟ وأين المشيخة؟ كله لم يعد ينفع، لا علم، لا خبرة، ولا حياة، لا تقل لي كل هذا، طريق العبودية الإقبال على الله – وعلى الله وحده – بصدق النوايا.
اللهم اجعلنا كذلك يا رب العالمين، واجعلنا من أهل ذلك بفضلك ومنّك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

أرجو أن يكون فعلاً قد وضح ما أردت إيصاله إليكم، فكِّروا في هذا ملياً وفكِّروا فيه عميقاً، لا أحد منا بحوله وقوته وقدرته وعلمه وخبرته يستطيع أن ينجو من شهوة المال أو شهوة النساء أو شهوة السُلطة، لا يستطيع! ضعيف، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩، أنا ضعيف وأنت ضعيف، كلنا ذلك الضعيف، لكن ليس هذا مُنتهى القصة، ليس هذا آخر المطاف، لا! يوجَد حل بفضل الله تبارك وتعالى، أنا العبد الضعيف إزاء هذه الأشياء كلها – بعون الله – سأستمد من ربي، من مولاي، من سيدي، ومن خالقي، سأستمد منه – لا إله إلا هو، من هادي أهل السماوات والأراضين – العصمة والمنعة والحفظ، بماذا؟ بصدق النية، أن أصدق في ماذا؟ في إرادة مرضاته، هذه القضية! إرادة مرضاته، طبعاً أُريد الدنيا، وهذا طبيعي، كل واحد فينا ما دام في الدنيا يُريد الدنيا، يُريد شيئاً يأكله، شيئاً يشربه، شيئاً ينام عليه، شيئاً يركبه، شيئاً يلبسه، ويمون أهله، طبيعي! أليس كذلك؟ يُريد أن يتعلَّم، ويُريد كذا وكذا، الإنسان هكذا مُحتاج وفقير، هو فقير! أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۩، صحيح! فقير وضعيف، لابد من هذه الأشياء كلها، ولكن دائماً دائماً دائماً حين التزاحم وحين التعارض – إن وقع تزاجم وتعارض، وهو واقع في أحوال كثيرة وعلى أنحاء كثيرة – لابد من تبدية مرضاة الله، انتهى! حتى إن كان أحياناً في تبدية مرضاة الله ما قد يكون وعداً لي بالهلاك، قد أهلك! فأنا على شفا جرف من مجاعة، على شفا أنا أشحذ وأمد يدي، انتهيت! الديون برَّحتني، وهذا عقد سيُساعِدني بغض النظر عن أي شيئ، إياك! لا تفعل، وبالمُناسَبة مَن الذي سيختار؟ الله سيختار لك، أنت فقط كِل الأمر إليه، سله بصدق، قل له مرضاتك عندي أبدى من كل شيئ يا رب، حتى لو انتهيت إلى الفقر والكُدية والمسألة بل الموت أو السجن، مرضاتك! فاختر لي، الخيرة بيدك، لا إله إلا أنت، ورضني بما اخترت، وبالمُناسَبة ستقول لي أنت ذهبت وتعمقت وهذا معنى صلاة الاستخارة، هذا صحيح! كأنني فقط شرحت لكم الاستخارة لكن من زاوية أُخرى، لأن الاستخارة نحن أدمننا عليها – نفس الشيئ – على نحو خاطئ، إلا مَن رحم ربي، وإن شاء الله لا يكونون قليلاً، فقط الاستخارة – إلا مَن رحم ربي – تعرفون لماذا؟ لكي نتيسَّر لنا ما نُحِب ونهوى، ما هذا؟ لعبنا بالدين! نحن نلعب بالدين بالمُناسَبة، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، تغلط وتتأوَّل وتُقيم وتحط! وهذا الدين جهاز دقيق، المُعامَلة مع الله لا يُوجَد ما هو أجمل منها، لا يُوجَد ما هو أحلى ولا أبرك ولا أكرم – أُقسِم بالله – من المُعامَلة مع الله، لكن – انتبهوا – لا يُوجَد ما هو أدق ولا أكثر حساسية من المُعامَلة مع الواحد الأحد الغني عن العالمين، الذي لا يرضى بل يغضب ويسخط على مَن أشرك معه في شيئ أحداً غيره، وعلى مَن جعله طرفاً في حساب، فعلك تذهب تدعوه ويلعنك، لأنك تدعوه وقد جعلته طرفاً في حساب، إياك! المُعامَلة مع الله جميلة ومُمتازة، لا يُوجَد ما هو أكرم ولا أحسن منها! ولكن هي حساسة، أنت يا أخي تذهب تُعامِل رئيساً أو ملكاً وتظل لساعات تسأل، ما الذي يُغضِبه؟ ما الذي يُرضيه؟ ما أحب الألوان إليه؟ هل هناك روائح يتأذى منها؟ هل هناك حركات لا يُحِبها؟ هل بعض الناس لا يُحِبهم حتى لا أذكرهم أمامه؟ إلى آخره! تُريد ماذا؟ ألا يقع وألا يبدر منك ما قد يستفز هذا الملك أو الرئيس، لئلا يسطو بك في أسوأ الأمور، وربما في أحسنها يمنع نواله عنك، أليس كذلك؟ يا ضعيف، يا فقير! كلنا ذلك الضعيف، فكيف بالمُعامَلة مع رب العالمين؟ هو الأولى بالمُراعاة وبالرعاية وبتعظيم الجانب، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۩، وبالتوقير وبالخشية، الله! ليس العباد، ليس الملوك والرؤوساء، وليس الأغنياء، الله وحده!

اللهم اهدنا كما هديت عبادك الصالحين، وعرِّفنا بك كما عرَّفت إليك وعليك عبادك العارفين، اهدنا الصراط المُستقيم فلا نضل ولا تغضب يا رب العالمين.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة من هذا المكان ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا سجيناً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه برحمتك ولُطفك يا خفي الألطاف، يا رب العالمين.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 فيينا (15/9/2017)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • كما عودنا الدكتور عدنان خطبة تتكلم مع العقل والمنطق . ومفيدة جدا . حفظه الله وزاد الرجال من امثاله

%d مدونون معجبون بهذه: