إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُوَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، النعمةُ المُهداة والرّحمةُ المُسداة والسّراجُ المُنير، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلِّم تَسليماً كثيراً .
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ۩ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ۩ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لعل سياقاً آخراً في القرآن الكريم لا يُضارِع هذا السياق الكريم، وهو بعض سياق في كثرة ورود وتكرر الأمر ب والإغراء بطاعة الرسول واتباعه صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، وقد جعل سبحانه وتعالى من جاعل الهدايةَ رهناً بكمال إطاعته وتمام مُتابَعته والفلاحة والفوز، قال الله وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ۩ ، على أنه قال – سبحانه من قائل – بعقبِ ذلك وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، فكأن الآية الكريمة تُشير من طرفٍ ليس يخفى على ناظر مُتأمِّل وحادق مُستبصِر بأن التمكين في الدنيا والعز والظهور رهنٌ أيضاً بكمال مُتابَعته، كالثمرة أو كالنتيجة أو كالحاصل مِن ولمُتابَعته صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

لسنا بصدد تقصي أو استقصاء الحاثة والمُغرية باتباعه والاقتداء به ، فهى كثيرةٌ طيبةٌ وفيرة منثورةٌ في مواضع ليست تغمض على مَن تتبَّع كتاب الله فضلاً عن مَن استظهره وحفظه، ولكن الذي نُريد أن نخوض فيه بعض خوضٍ بما تيسَّر بتوفيق الله – تبارك وتعالى – مسألة أن هاته الآيات الكريمات وإلى جانبٍ منها النصوص النبوية الشريفة التي تُؤكِّد معناها وتُعزِّز جوهرها ومغزاها لا يدلون على وجوب مُتابَعتهِ في كل ما نُسِبَ إليه وصدر عنه، حتى صارت هذه المسألة من المسائل التي تُعنِت الخلق وتشجي الحلق، فإذا لبست لباساً يُخالِف ما صح من لبسته نعتوك بالبدعة ومُشابَهة الكافرين وثرَّبوا عليك كل تثريب وأنكروا ودمدموا، وهذا في باب اللباس والزينة، ومَن خالف ما ترجَّح لديهم في بابِ تغيير الشيب وصبغ الشعر أعظموا القول فيه وربما بهتوه في دينه وأمانته وذمته بإسم مُتابَعة السُنة ومُخالَفة السُنة، لأنه مُخالِفٌ لسُنة الحبيب المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، فضلاً عن عشرات إن لم يكن أكثر من عشرات المسائل مما يدخل في باب العاديات المُعتادات والجبليات وبعضٌ منه يلتبس ويلتصق ويمتزج بالعباديات، فهناك مسائل أتاها عليه الصلاة وأفضل السلام مُلتبِسة بالعبادة على أنها ليست من جوهرها واختلفت فيها الأنظار من صاحبٍ وتابع فضلاً عن مَن عقَّبهم، أعني أن الصحابة أنفسهم اختلفوا فيها وتفاوتت أنظارهم، فمنهم مَن رأى أنها من قبيل العبادة والقُربة، وأقل أحوالها وأدنى درجاتها أن يُثاب فاعلها، وبعضهم شدَّد أكثر من ذلك، ومنهم مَن رأى أنها ليست بشيئ، وأنها مُجرَّد اتفاق غير قاصد، أي صدرت على جهةِ أو وجه الاتفاق لا على وجه القصدِ، ومن أشهر هاته المسائل التحصيب بخيف كنانة، المكان الواقع بين منى وبين الحرم وهو إلى منى أقرب، فالنبي حين نفر قاصداً طواف الوداع بالبيت – شرَّفه الله وصانه وكرَّمه وحماه وزانه وأعلى مُقامه – نزل بخيف بني كنانة المعروف بالمُحصَّب وصار يُطلَق على هذا الفعل التحصيب، وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم انبعث قاصداً البيت ليطوف به الوداع، فاختلفت أنظارهم رضوان الله تعالى عليهم، آلتحصيب سُنةٌ تُؤثَر عنه أم أمرٌ اتفاقي لا يعني شيئاً؟ فذهب عبد الله بن عمر – وهذا أليق به رضيَ الله عنه لتمام مُتابَعته وحرصه الأشد على المُتابَعة حتى في العاديات، وقد عُرِفَ بهذا وشُهِرَ به رضيَ الله عنه وعن أبيه – إلى أنه سُنة، أي إلى أن التحصيب سُنة، فيما ذهب الحبر ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – إلى أنه ليس بشيئ، أي مُجرَّد اتفاق، وهو مذهب أم المُؤمِنين عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها، حيث قالت ليس التحصيب بشيئ، إنما هو منزلٌ نزل به أو نزله رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ليكون أروح لخروجه، أي اختلفت الوجهات، لأنه مُقترِنٌ بهذا العمل النسكي التعبدي أو العبادي، ومن ذلك هويه – صلى الله عليه وآله – على اليدين عوض الركبتين، فذهب الإمام الأعظم أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه – ومَن وافقه إلى أن هذا الهوي ليس يدخل في باب العبادة أو التعبد، إنما صار إليه النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لما أسن وأبدن، ومعنى لما أسن أي علت سنة، وأبدن أي حمل اللحم وصار بادناً فثقل وزنه صلى الله عليه وآله، وأبو حنيفة هذا رأيه لكن المسألة طويلة عريضة ومعروفة، فهذه مسألة الهوي على اليدين أو على الركبتين وفيها سُنن قولية، وهذا الذي يُعكِّر على موقف أبي حنيفة، ليست المسألة يُنفصَل فيها وعنها فقط بتأويل الفعل، فهى فيها سُنن قولية، ولكن أنا أعرض فقط لنماذج ولست بسبيل الترجيح والاسترواح، وهذا مُلتصِق بالعبادة، ومن ذلكم ما يُعرَف بجلسه الاستراحة، وهى جلسةٌ أو جُليسةٌ خفيفةٌ كان يجلسها – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعد السجودِ وقبل القيام إلى الركعة الثانية أو الرابعة في الصلاة الرباعية وطبعاً في غير الرباعية، ففي القيام من السجود إلى الركعة الثانية يجلس جلس استراحة ثم يقوم، وكذلك إلى الركعة الأخيرة، ومن ثم اختلف العلماء، فمِن قائل هى تعبدية، أي عبادة وسُنة، ومن قائل أن فعلها النبي لما أسن، وهذا الذي استظهره الإمام المُحقِّق ابن القيم الجوزية – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه عن الصلاة وحكم تاركها ، استظهر أن النبي صار إلى ذلك لما أسن وضعف – عليه الصلاة وأفضل السلام – فصار يحتاج إلى الراحة، ومن هنا تسميتها جلسة الاستراحة، وهذه المسائل اختلف فيها الصحابة، واختلفوا في مسائل كثيرة أخرى تتعارك وتتقابل فيها الأنظار وربما تكافأت، ومن المسائل المشهورة في هذا الباب مسألةُ اجتهاده عليه الصلاة وأفضل السلام في أمور الدنيا، ولكي نُحوصِّل لكم الأقاويل والمذاهب وهى كثيرةٌ مُتشعِّبةٌ جداً نقول باختصار ليس مِمَا تُنوزِعَ فيه – أي هذا ليس في محل النزاع وليس يقع في محل النزاع – اجتهاده صلوات ربي وتسليماته عليه في شؤون الدنيا، له أن يجتهد في شؤون الدنيا سلماً وحرباً، واجتهاده ليس مُلزِماً لأمته والصحابة عرفوا هذا ولذلك ربما استفصلوه قائلين أهذا يا رسول الله عن وحيٍ أُوحيَ إليك، أي عن أمرٍ من لدن الله أم عن رأيك المحض؟ فإن قال له عن محض رأيي وظني وتقديري ربما خالفوه وربما أسعدوه فوافقوه، كما اتفق للسعدين شيخي الأوس والخزرج ابن معاذ وابن عبادة رضيَ الله تعالى عنهما، والواقعة مشهورة جداً في الأحزاب – في الخندق – حين تألَّبت عليهم العرب والأعاريب ومنهم غطفان وهى قبيلةٌ عظيمة كثيرة العدد، فالنبي فاوضهم على أن ينصرفوا لقاء أن يُعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولكنه كان مما يحسن أن يستشير فيه، وهذا من تواضعه ومن حُسن إدارته وسياسته وكمال إمامته لأمته، فكان مما يحسن أن يستشير أصحاب الشأن وأصحاب البلد وأصحاب هاته الثمار، فاستشار السعدين فرجعا إليه بالقول: يا رسول الله أهذا أمرٌ أمرك الله – تبارك وتعالى – به أم شيئٌ تصنعه لنا؟ أي هل هذا وحي أم من باب التدبير الشرعي ومن باب السياسة وتصرّفه بالإمامه كرئيس دولة؟ قال بل أمرٌ نصنعه لكم، فقالوا لا والله لا نعطيهم إلا السيف، أي أننا لا نُريد، ونصر الله المسلمين بالطريقة التي حكاها في سورة الأحزاب، وكان الخير فيما ذهب إليه السعدان، على أن النبي ما بغاهم إلا الخير، لأنه كان من أمته بمثابة الوالد من أولاده بل أرحم، وفيما صح عنه أنه قال أنا لكم بمثابة الوالد، بل هو أرحم لقول الحق جل مجده النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۩، فالله يقول أَوْلَى ۩ لأنه أرحم بنا من أنفسنا، الله أكبر!
وطبعاً هنا اهتبلها فرصة لكي أقول كيف يكون أرحم – وهو كذلك بلا شك وبلا تردد – وكيف يصح أن يكون أرحم بنا من أنفسنا ثم نُصحِّح بعد ذلك عنه عشرات الأحاديث أنه كان إذا غضب ربما لعن وسب؟ حاشاه لا يكون كذلك وإن صحَّحوا الأحاديث عنه،النبي أرحم بهذه الأمة المُوحِّدة المرحومة من أنفسها ، بل كان – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُعنِت نفسه ويُتعِبها ويُحزِنه ما يرجع إليه الكفار والمُشرِكون حتى سلَّاه الله – تبارك وتعالى – بقوله فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ۩، أنت تُريد أن تقتل نفسك من أجل ماذا؟ اتركهم، قال الله فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۩، لأنه كان بهذه المثابة من الرحمة، ونحن مُحتاجون – إي والله – أشد الاحتياج وأحق الحاجة وأمسها إلى تعظيم الكلام وترديده وتكراره وتأصيله والتمثيل له والإتيان بشواهد جُملةً وتفصيلاً لجعل خطابنا وفهمنا الإسلاميين رحمانيين، هذه الأمة فيها غير قليل الآن من القسوة والعنف والغِلظة، فنحتاج إلى قدر هائل لترجيح كفة الرحمانية في فهمنا وفي خطابنا، ولنجعل الرحمانية معياراً حتى نعود إليه في تقييم أمور وأحكام نقطع بها أو قطع بها مَن سلف، فحاشاه ما نُسِب إليه، كان – صلى الله عليه وآله وأصحابه – أرحم بنا ولا يزال من أنفسنا، وكفاكم أنه ادخر دعوته المُستجابة لنا يوم القيامة، فهو لم يدع بشيئ لنفسه ولخويصة نفسه ولا لأهل بيته الذين علم أنهم سيُضامون ويُشرَّدون ويُقتَّلون ويُذبَّحون ويُؤسَرون بعد موته، وهذا لوفور شفقته وعظم رحمته بنا، صلى الله عليه وآله وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وخير ما جزى وكافأ رسولاً في رسالته، صل عليه إلى أبد الآبدين وصل عليه في الملأ الأعلى. اللهم آمين.

على كل حال هذا أيضاً كان الصحابة مُتيقِّظين مُتلفِّتين مُدرِكين له جداً، وربما اشتبه عليهم الأمر – كما قلت – فاستفصلوا بالسؤال، وهناك قصة الحباب بن المنذر المشهورة جداً حين نزل النبي دون الماء، وكان الخير والحكمة والسداد في أن ينزل بعد الماء لا دونه، فنزل على رأي الحباب فارس الأنصار وشاعرهم، هو كان شاعراً مُجوِّداً وكان فارساً كميتاً رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، ولكن هناك مسائل كثيرة غير ذلك اختلفت فيها أنظار الصحابة، ولأن الموضوع طويل وفيه شيئ أيضاً من غموض والتباس نُريد أن نُرتِّب الكلام فيه بطريقة منهجية.

أولاً وعلى طريقة الأقدمين الذين رأيتُ أن أبحاثهم في هاته المسأل المُهِمة جداً والخطيرة الشأن والشريفة – هذه المسألة من أهم مسائل الأصول – رأيت أن كلام الأقدمين من بعض الوجوه أحسن تنسيقاً وأضبط منهجياً من كلام المُعاصِرين، فالمُعاصِرون لا يزالون يكتبون الأبحاث والمقالات والرسائل ويخلطون بين وجوه القول في المسألة، لكن الأقدمون فاقونا في هذه المسألة، وبوضوح كل ما يُعزى وكل ما يُشمَل بأفعالهِ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الجبلية الطبعية هى أفعال ينبعث إليها الإنسان ويأتيها بحكم البشرية، أي لأنه بشر، فيقوم ويقعد ويُسافِر ويُقيم ويرتحل ويأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويلبس اللباس ويأتي أهله وأشياء أخرى كثيرة يفعلها الإنسان بحكم الفطرة وبحكم الغرائز وبحكم الجبلة، فإذا لم تقم قرائن أو تتوجَّه أدلة على أن المقصود ببعضها أو بنحوٍ من أنحاء بعضها العبادة والقربة فهذه ليست تشريعية، أي لا تدخل في التشريع أصلاً وإن أدخلوها في السُنة، هى تُنسَب إلى النبي ولكن هذه السُنة ليست تشريعية، ولذلك – تسهيلاً للكلام في المقام – كل ما ليس تشريعياً ليس يدخل في مبحثنا هذا، فالكلام في هذا المبحث في تصنيف وتقسيم وتنويع التشريعي، فالتشريعي من سُنته أقوالها وأفعالها وتقريراتها – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – منه ما يكون مُلزِماً ومنه ما يكون غير مُلزِم،
وهذا معنى قول المُحدَثين المُطلَق والنسبي في السُنة، ما هو المعيار الذي نُميِّز ونُفرِّق أو نميز – يُقال أيضاً نميز من ماز يميزُ أو نُميِّز من ميَّز يُميِّز – به مُطلَق السُنة من نسبيها؟ ونُريد بالمُطلَق للتوضيح والبيان أيضاً ما يتصف بصفة العري والخلو من القيود الزمانية أو الظرفية الحالية البيئية سواء كانت اقنتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو عسكرية وإلى آخره، ولذلك وصفه أنه ثابت ومُلزِم في كل الأعصار والأمصار لكل الأشخاص إلا ما قام الدليل على استثنائه، فهذا مُطلَق، أي شرعٌ دائم عام، ويُقال له مُطلَق السُنة مثلاً في اصطلاح بعض المُحدَثين، فلا بأس هذه لغة حديثة، وهناك بالإزاء أو في القُبال النسبي، وهو عكسه تماماً، ومن ذلكم حكايات الحال أو ما يُعرَف بقضايا الأعيان أو وقائع الأعيان، وقد شُهِرَ عن إمامنا الشافعي – رضوان الله تعالى عليه – قوله حكايات الأحوال – أي قضايا الأعيان – إذا طرقها الاحتمال سقط بها الاستدلال، وهذه قاعدة تُؤثَر عن الشافعي ، ولكن تُؤثَر عنه قاعدةٌ أخرى أيضاً، والقاعدتان منقولاتان في الفرق الحادي والسبعين من فروق الإمام العلَّامة الأصولي والفقيه والفيزيائي المُخترِع المالكي الشهاب القرافي المدفون بقرابة مصر، وهو من أكبر العقول الإسلامية في كل العصور – رحمة الله تعالى عليه – وأصولي وفقيه لا يُشَق له غبار، كان على مذهب السادة المالكية وكان فيزيائياً ومُخترِعاً لآلات، فهذا الرججل – رحمة الله تعالى عليه – موسوعة، وكتابه الفروق من أعظم الكتب في هذا الباب، وفي الفرق الحادي والسبعين تكلَّم عن قاعدة الفرق بين هاته القاعدة وبين قاعدة أخرى تُنسَب أيضاً إلى إمامنا الشافعي أبي عبد الله، وكم للشافعي من منة على الأصول وأهل الأصول وبالتالي على الفقه والفقهاء، ولذلك كان الإمام أحمد يقول أنا لا أدع الدعاء للشافعي دبر كل صلاة، فسأله ابنه لماذا؟ لماذا الشافعي بالذات بعد كل صلاة تدعو له؟ فقال يا بُني الشافعي له منةٌ في عنقِ كل طالب
عالم – كل عالم وطالب علم – والشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل تجد منهما عوضاً أو خلفاً؟ هو يعرف مَن هو الشافعي، لأنه أسَّس علم الأصول تنظيراً وكتابةً في الرسالة المشهورة التي أهداها إلى عبد الرحمن بن مهدي بناءاً على طلبه، وكان ابن مهدي في البصرة، أما الشافعي قيل كان في مكة، وقيل كان في العراق وهذه الرسالة العراقية، لما صار إلى مصر بعد مائة وتسع وتسعين كتبها مرةً أخرى فهى الرسالة الجديدة وهى التي وصلتنا، وعلى كل حال هذا الشافعي، والقاعدة الأخرى التي أوردها القرافي أيضاً من قواعد إمامنا الشافعي، فماذا يقول؟ يقول حكاياتُ الأحوال إذا تُرِكَ فيها الاستفصال نُزِّلَّت منزلة العموم في الأقوال، وهذا أمر عجيب، كأنهما مُتناقِضتان، لكن القرافي – رحمة الله عليه – بيَّن أنهما ليستا مُتناقِضتين وليستا مُتعارضيتن، وهكذا ابن الشاطر شارح الفروق للقرافي، لكن كيف؟
أولاً في أي حكاية حال وفي أي واقعة عين تصل إلينا مُسنَدةً عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – ثم يطرقها احتمالٌ بإيغال النظر من طرفنا فيها أنها ربما كانت ذات وجهين أو أكثر من وجهين تُكسَى هنا بثوب الإجمال – بتعبير الشافعي في موضعٍ آخر – ويسقط بها الاستدلال لأننا لسنا ندري، لكن ما معنى يسقط بها الاستدلال؟ أي لا مفهوم لها ولا عموم لها، ويُقتصَر بها على محلها فقط، يُقال هذه تحكم بحكمها محلها وليست مِمَا يُعمَّم فيها الحكم، والإمام الشافعي مثَّل لهذا، وهذا مذهبه برضاع الكبير، وأنا سآتي بهذا المثال لأنه أثار ضجة من سنين وتكلَّم الشيخ فلان بل المشائخ تكلَّموا كثيراً في هذه المسألة، أي قصة رضاع الكبير – والله تبارك وتعالى أعلم – وهى ربما تكون أيسر مما ذُهِبَ إليه وفق النظر بهاتين القاعدتين، لكن كيف؟ القصة أن سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة – رضيَ الله تعالى عنهما – ربَّت في حجرها وفي حضنها غُلاماً، وهو سالم مولى أبي حذيفة الذي كان من أجود الصحابة صوتاً بالقرآن الكريم وكان مُجاهِداً أيضاً لا ينثني له عزمٌ في مُكامَعة الأعداء، ومعروف موقفه في الردة – رضيَ الله عنه وأرضاه – وقد ذهب شهيداً، والنبي استمع إليه ليلةً يقرأ القرآن، عائشة قالت له استمع إلى هذا، ما هذا الصوت؟ ما هذه القراءة؟ فقال الحمد لله الذي جعل مثلك في أمتي، فانظر إلى تقدير الكفاءات وانظر إلى النفس الكريمة، ويُقال كيف أخرج النبي هذه الأمة العظيمة؟ بالصدق – أي والله – وبالمحبة وبتشجيع الكفاءات والقدرات، لا بكبتها وقتلها وعقابها من باب الحسد والضغينة، هذا مُستحيل، لكن أين نحن؟ يُنادى باتباع السُنة، فاتبع السُنة في هذه الأشياء أيضاً، هذا هو الجوهر، يجب أن تكون صاحب خليقة حميدة ونفسية صافية طيبة وتُحِب الخير من الكل وللكل، قال النبي عن سالم الحمد لله الذي جعل مثلك في أمتي، المُهِم قالت له يا رسول الله كذا وكذا، وحكت له ما هو معروف لنا جميعاً من شأن تربيتها وحضانتها لسالم وقد لخَّصته لكم، حيث كبر سالم واحتلم الآن، فقالت ويدخل علىّ وأنا فضل مُتفضِّلة – أي واضعة ثيابي كأنني أمه وكأنني إحدى محارمه – فعرفت في وجه أبي حذيفة الكراهة، أي الغيرة، فأبو حذيفة بدأ يغار، كأنه يثول هذا ليس ابناً صُلبياً لي وليس من رحمك، ونحن استلحقناه وربَّيناه هكذا لوجه الله، فقال لها عليه الصلاة وأفضل السلام أرضعيه تحرمي عليه ويذهب ما في نفس أبي حذيفة، والحديث في الصحيح – الحديث مُخرَّج في الصحيح – في مسلم، فالنبي قال أرضعيه تحرمي عليه، وهذا أمر عجيب، هذا حالم بالغ والرضاع المعروف أنه إنما يكون في السنتين الأوليين أو ما قارب ذلك لاختلاف الأحناف في المسألة – الحنفية – ولكن هذا حالم، وهذه واقعة عين أو حكاية حال، وحكايات الأحوال ووقائع الأعيان اختلفت فيها الأنظار جداً، فعمر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وعامة الصحابة وكل أزواج رسول الله – أمهات المُؤمِنين رضوان الله عليهن وعنهن – باستثناء عائشة – رضيَ الله تعالى عنها – ذهبوا إلى أن رضاع الكبير لا يُحرِّم، أي ليس له أي أثر، سواء رضع أو لم يرضع لا حكم له وكأنه شرب ماءاً، لأن الرضاع المُحرِّم ما فتق الأمعاء كما قال أبو هريرة فيما صح عنه، إنما الرضاع من المجاعة، أي حين يجوع الصبي فلا يتيسَّر ولا يكفيه إلا الحليب، وهذا في الفترة الأولى لأنه يغتذي بالحليب، فهذا معنى الرضاعة من المجاعة، وهو ثابت في الصحيحين مما اتفق على تخريجه، لكن على كل حال عائشة اختلفت وخالفت فقالت هذا حكم عام، ليس يُقتصَر به على محله في واقعة سالم مولى أبي حذيفة وإنما هو حكم عام، ولذلك ثبت عنها أنها كانت إذا أرادت أن تُدخِل بعض طلَّاب العلم من أبنائها وهى أم المُؤمِنين عليها أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات إخوانها أو أخواتها بإرضاعهم، والآن ليس لدينا أي نص – وأنا لا أتخيل هذا مُطلَقاً ولا أحسبه كان – أنهن كن يُرضِعن الحالم أو شيخاً كبيراً مُباشَرةً، هذا مُستحيل، وإنما الذي يغلب على الظن أنهن كنا يُقطِّرن له ويحتلبن الحليب ثم يشربه وهذا يكفي، فهكذا كان مذهبها، هذا مذهب عائشة لكن نحن لسنا نرتاح إليه، كما لم يرتح له جمهور الصحابة وسائر أمهات المُؤمِنين وخاصة أم سلمة رضيَ الله عنها، خالفن مُخالَفة واضحة بيِّنة، والآن سوف نرى كيف الترجيح يكون في هذه المسألة، ولكن لابد أن نطرق بالشرح والبيان القاعدة الثانية التي تقول حكايات الأحوال أو وقائع الأعيان إذا تُرِكَ فيها الاستفصال نُزِّلَّت منزلة العموم في الأقوال، بمعنى أن الواقعة ترد على رسول الله ويكون لها بطبيعتها أكثر من وجه والنبي يعلم هذا، فواضح أن لها أكثر من وجه – وجهان ربما أو ثلاثة أو أكثر – لكن النبي لا يستفصل، فترك الاستفصال هنا في مقام الواقعة وفي مقام الإجمال يُنزَّلَّ منزلة العموم في المقال فتعم، ومن ثم فرقٌ بين القاعدة الأولى والقاعدة الثانية، ونأتي الآن إلى مسألتنا وهى مثال لنا – مُجرَّد مثال – لنعرف كيف يُمكِن أن نتعاطى معها، فهناك طريقة فقية مُعيَّنة، وقد اختلفوا – كما قلنا – في حكم الواقعة الخاصة، هل تبقى وتظل مُختصَّة بمَن اتفقت له أم يُعَم أو يُعمَّم حكمها؟ مذهب الشافعي إذا ذُكِرَ التخصيص بلا شك اقتصر الحكم على المحل، أما إذا لم يُذكَر ولم يُصرَّح بالتخصيص فمذهبه ومذهب جماهير العلماء أنها تبقى خاصة أيضاً، ولكن هذا فيه كلام وفيه نُدحة للنظر.

الشيخ العلَّامة – شيخ الأزهر في وقته – محمد الخضر حسين التونسي – رحمة الله تعالى عليه – كتب بحثاً من سبعين صحيفة يرد به على الشيخ محمود شلتوت الذي لم يكن شيخ الأزهر وقتها وكان مُجرَّد أحد علماء مصر، فكان شيخ الأزهر هو الشيخ محمد الخضر حسين التونسي، العلَّامة الكبير راسخ القدم حقيقةً في العلوم الشرعية واللغوية، شأنه شأن الطاهر بن عاشور الذي كان – سبحان الله – صديقه وتربه، ومَن قرأ للشيخ الخضر أيضاً يعلم منزلة هذا الإمام العلم – رضوان الله تعالى عليه – في تحقيق العلوم، وهذا شيئٌ عجب،وللإنصاف أنا قرأت بحث شلتوت وقرأت بحث الخضر ووجدت تفاوتاً كبيراً بين المقامين، واقرأوا البحث وهو جميل جداً، وقد ردَّ الشيخ الخضر على الشيخ الجليل شتلوت – هكذا يقول الشيخ الجليل – بسبعين صحيفة، فالشيخ الخضر حسين يقول المسألة ليست هكذا، وأتى فيها بزُبدة وخُلاصة أقوال الأصوليين الكبار، ورأى أن واقعة العين أو الواقعة الخاصة إن وُجِدَ فيها وصفٌ أو سببٌ يُوجَد بعد ذلك أو وُجِدَ في وقائع أخرى فإن حكمها يتعدَّى إلى الوقائع الأخرى وإلا يبقى خاصاً بها، لذلك بناءاً على هذه الخُلاصة نحن نستروح جداً ونرتاح إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية كما أتذكره، علماً بأنني لم أُراجِعه وقد قرأته قبل فترة ولكنني أتذكره – إن شاء الله – جيداً، فشيخ الإسلام كان يرى – رحمة الله تعالى عليه – أن رضاع الكبير يُحرِّم إذا كان في مثل حالة سالم مولى أبي حذيفة ونحن مُرتاحون جداً لهذا، بمعنى أن امرأة ربَّت طفلاً صغيراً مُذ كان ربما عمره سنة أو أقل من سنة أو نحو سنة أو زُهاء ذلك، فهو طفل صغير حتى لو كان مُميِّزاً ولكنه طفل صغير، وهى ربَّته في حجرها واحتضنته وآوته إليها، وكبر هذا بعد ذلك، فليست تنظر إليه إلا على أنه ابنٌ لها، وليس ينظر إليها إلا على أنها أمٌ، والآن لا يزال المسلمون في بعض النواحي والأطراف الإسلامية كما في البوسنة – مثلاً – والهرسك ومقدونيا وفي الشيشان يرون زواج بنت العم إحدى الكُبر، فهم لا يتخيلونه أبداً، وقد حدَّثني عالم جليل فقيه منهم وهو رجل مُفتٍ قائلاً والله أنا أعلم أنه حلال وأعرف آية الأحزاب وأعرف كل هذه الأشياء، ولكن – والله – لو جاء أخي يطلب ابنتي لابنه لقتلته، قال أعلم أنني سأدخل النار لكن ماذا أفعل؟ سأدخل النار، وهذا لقوة العادات أيها وقبضة التقاليد والعادات القوية جداً أكثر مما نتخيَّل، ثم قال لي وهذا لا يفقهه الدعاة العرب مع الاحترام والتجلة، فأنتم تأتون هنا وتظنون أننا لا نفقه شيئاً ولا نعرف الأدلة، نحن نعرف ولكن لدينا عاداتنا وتقاليدنا، والله لم يأمرنا بتزويج أبناء العم، هو أباحه لنا ونحن لا نُريده، لماذا؟ لأنهم يرون بنت العم لطول المُلابَسة والمُخالَطة كالأخت وكالمحرم لابن عمها، فقلت له لدينا في العراق بنت العم تقريباً إذا لم يُرخِّص لها ابن عمها بالزواج قتلها وربما قتل زوجها، فهى تُقتَل لأنه الأولى بها، فقال هذا أمر عجيب،وشيئ قريب من هذا كان إلى وقتٍ قريب في فلسطين مع بنت العم، وعندهم مثل عامي يقول ابن العم يُنزل بنت العم عن الخيل، أي وهى تُزَف إلى عروسها يُنزِلها من على الخيل ويأخذها لكي يفسخ عقدها بأي طريقة وبعد ذلك يتزوَّجها، فقال هذا أمر عجيب، لأن العادات والتقاليد تختلف، وعلى كل حال هذه مسائل كثيرة، فإذن لأن هذا الطفل تربَّى معها – كما قلت – وتربَّى في حجرها وفي حضنها هى أمه، فلا بأس في هذه الحالة أن نُعدِّي الحكم الذي رخَّص به رسول الله في حالة سالم مع سهلة بنت سهيل، فنفعل نفس الشيئ، أنتِ ربَّتيه في حجرك وما إلى ذلك فلا مُشكِلة، أرضعيه الآن تحرمي عليه، فالنبي قال هذا، ولكننا لا نقول يُمكِن لموظَّفة في مكتب أن تُرضِع – ما شاء الله – موظَّفاً معها، ونجعل عادل إمام – هدانا الله وإياه – يسخر منا، فعادل إمام يُطلِق النكات على هذه الفتاوى العجيبة ويسخر منا وهوعنده بعض الحق، والآن يُريدون أن يسجنوا هذا المسكين وأنا أدعو إلى إطلاق سراحه، الرجل طيَّب حياتكم ونكَّت وتظرَّف فكيف تسجنونه الآن؟ بإسم ماذا؟ لماذا الانتقام؟ يا أخي هذا كلام فارغ وهو – والله – عيب، هذه الأفعال عيب وهذه الوعود مُعتِمة، هل هذه هى الأخلاق والديمقراطية والإسلام؟ هذه الأشياء مُعتِمة وغير طيبة وتجعل الناس يضجون ويجفون الإسلام وأهله والحكم الديمقراطي الرشيد، أهذه هى الديمقراطية؟ هل بدأتم بهؤلاء؟ أنتم لم تفرغوا من مُحاكَمة كبار الدجَّالين وكبار السرَّاق واللصوص، علماً بأن هذه ليست سياسة، فنحن طلَّقنا السياسة، وعلى كل حال نعود ونقول في مثل هذه الحالة هذا يُمكِن، لماذا؟ لأن الوصف والسبب موجود، نعم هو حالمٌ الآن أو راهق البلوغ ولكنه رُبِّيَ في حجرها وفي حضنها وتراه ابناً ويراها أماً لكن يغار الذي استلحقه وهو بمنزلة أبيه، فلا بأس أن نأخذ بحكم الحديث، وهذا كلام جيد، ولا أعتقد أن علمانياً أو مُلحِداً يرفض هذا، فالواحد منهم سوف يقول هذا معقول جداً جداً جداً، ولدينا الواحد سيقول هذا معقول من غير رضاعة، أصلاً واضح أنها أمه، والآن بالذات في الأفكار الحداثية وما بعد الحداثية صار يُعاد النظر في مفهوم الذكورة والأنوثة والأبوة والأمومة،وهم لا يقبلون بل يتضايقون من مفهوم الأمومة على أنه مفهوم بيولوجي فقط، أي الأم حملت ثم تركت، ويقولون لا، وهذا مفهوم اجتماعي وتربوي، أليس كذلك؟ والعامة تقول الأم التي ربَّت وليست فقط التي حملت، فهم يقبلون هذا وهذا شيئ معقول، هذا له مساغ في الشرع ومساغٌ في العقل، ومساغه في الشرع يظهر من حديث سهلة بنت سهيل رضيَ الله عنها وأرضاها.

على كل حال حتى لا نُطوِّل بهذه المُقدَّمات وقد ذهبت الخُطبة في المُقدَّمات نعود إلى موضوعنا، إذن أولاً لابد أن نُخرِج من نُقطة البحث ومحل النزاع أفعال الرسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الجبلية الطبعية، إلا ما قام الدليل على التقرّب إلى الله به، أي أنه في قربة، فهناك أشياء مندوبة وهناك أشياء منهية، مثل كيف ينام ويكف يلبس، فهذا يحدث بالفطرة، كل البشر يلبسون وحتى الشعوب البدائية يسترون عوراتهم ولهم ألوان في الأزياء واللباس، فالنبي يلبس وهذا في حكم العادة، هذا تبعث عليه الجبلة والفطرة، فهذا في التستر والتزين أيضاً، قال الله يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ۩، هذا فطري غرزي، سبحان الله الفطرة تبعث عليه، وما زاد عن ذلك قال فيه وَرِيشاً ۩، فالفطرة أيضاً تبعث على التزين وتتحكَّم فيه الثقافة السائدة، كأن يُقال هذا أجمل أو هذا أحلى أو هذه الكرافتة جميلة أو ليست جميلة وما إلى ذلك، فهذه الأشياء ثقافية وهذه الأشياء مُتحرِّمة، وعلى كل حال هذا القرآن وهذه السُنة، ولكن هناك لون مُدخَلية للشرع أحياناً في هذه القضايا، ففي قضايا اللباس – مثلاً – والتزين ماذا حُرِّمَ حُرِّمَ على ذكور هذه الأمة المرحومة؟ حُرِّمَ عليهم لباس الحرير والذهب، فهذا ممنوع طبعاً، حرامان على ذكور أمتي، حلالان مُباحان لإناث هذه الأمة، فهنا لا نقول هذه قضايا عادية ولا نقول يا أخي النبي حرَّمها ولكن نحن نراها قضايا عادية، لماذا؟ لوجود وعيد، فالنبي توعَّد مَن لبس الحرير والذهب في الدنيا بألا يلبسهما في الآخرة في الجنة، أي حتى وإن أُدخِلَ الجنة، فإذن هذا حرام عليك لأن فيه وعيد، وهو وعيد شديد لأنك سوف تُحرَم من هذه المُتعة، وحرير الجنة ليس كحرير الدنيا وذهب الجنة ليس كذهب الدنيا، وكذلك الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، فالأصل أن يكون مباحاً لكن جاء الشرع بتحريمه، قال الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة كالذي يُجرجِّر النار في جوفه، وهذا وعيدٌ شديد، فلا تقل لي هذه أمور عادية، يُوجَد دليل أخرجها من هذا فأصبح لها حكمٌ شرعيٌ نلتزمه ولا نتعدَّى حده بإذن الله وتوفيقه، وبالتالي نأخذ بهذا لكن هذه المُستثنيات قليلة.

هناك آداب أتى بها المعصوم – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – كما قال عمرو بن أبي سلمة وهو ربيبه: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك، فهذه آداب إذن، والنبي أرشدنا إلى أن الأكل بالشمال – والعياذ بالله – فعلُ الشياطين و سُنة الشياطين وأن الشرب بالشمال سُنة الشياطين، أي دون اليمين أما إن تعاونتا فلا بأس به، ولكن أن تُفرَد وتُخَص بالأكل دون اليمين فهذا فعل الشياطين، ونحن ننتهي عن، ولكن في ماعدا ذلك وفي ما وراء ذلك الأمر لا تحريج فيه، فالأمر واسع، لا تأثّم ولا تحرج إن شاء الله تعالى.
يأكل النبي على الأرض ونحن نأكل على المائدة أو على الخوان فلا بأس، انتبهوا لأن هذا يجوز، وهذه الأمور عادية ولم يرد فيها نهيٌ عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – يصح ويستند، فنحن كذلك إذن، والنبي يأكل بيده وقد كانت الملعقة معروفة ولكنه لم يكن يعتادها ربما هو وقومه، فلنا أن نأكل بالملعقة لأن لم يرد أي نهيٌ عن الأكل بالملاعق وبالشوك، ومن ثم نأكل بها، وربما بأدوات أخرى على ألا تكون من الذهب والفضة لأن هذا فيه نص فأهلاً وسهلاً وليس هناك أي مُشكِلة يا أخي، فلا تقل لي خالفت السُنة، لم نُخالِف السُنة، وهذه السُنة غير تشريعية، موضع التشريع فيها مُحدَّد فقط ومعروف في ماذا، والعجيب أن تسمية الله مطلوبة في كل وقتٍ وحين، وختم الطعام بالحمدلة مطلوب في كل وقتٍ وحين، على سبيل طبعاً الندب والإغراء لأن هذا ليس واجباً، فلا يُوجَد إثم لو تركت هذا، ولكن هذا مندوب وأجره ثابت بإذن الله، وكذلك الأكل أيضاً باليمين والأكل مما يليك باستثناء الفاكهة لك أن تجول يدك فيها، فهذا جائز مع الفاكهة، لكن مع الأكل العادي تأكل مما يليك، فهذا أدب من آداب الأكل صحت به السُنة عن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، وهذه الأشياء ثابتة بيطبيعتها، فاليوم وبعد مليون سنة وعلى القمر وعلى المُشتري وفي أي مكان نُسمّي باسم الله ونأكل باليمين ونأكل مما يلينا، فهذا ثابت ولكن – كما قلنا – نأكل على سفرة أو على خوان أو على مائدة ونأكل باليد أو نأكل بالملعقة أو نأكل بغير ذلك، فكل هذا مُتحرِّك ولا بأس ولا حرج فيه، وكذلك الحال مع كيف النبي ينام وكيف يضطجع وكيف كذا وكذا، فهذه كلها ينطبق عليها هذا إلا إن ظهر فيها قصد القُربة فنتابعه طلباً للأجر، واختلفوا في أمر يكاد يلتصق بأمر عبادي، وهى ضجعته – عليه الصلاة وافضل السلام – بعد سُنة الفجر،حين كان يُصلي سُنة الفجر قبل الفريضة كان يضطجع على يمينه مُدةً قصيرة ثم يقوم بعد ذلك إلى صلاة الفريضة، فاختلفوا هل هذه مندوبة أم أنها لا تخرج عن عن حد المباح، بعض العلماء قال مندوبة وبعضهم قال مباحة، والنبي كان يستريح ويطلب فيها نوعاً من الراحة فاختلفت الأنظار، مع أنها بين عبادتين وذلك بين السُنة وفريضتها أو الفريضة وسُنتها، وعلى كل حال هذه ليس فيها نزاع كبير، فعلى الناس الذين شدَّدوا على الأمة أن يُخفِّفوا من غلوائهم، فلا تُشدِّدوا على الناس في قضايا اللباس والطعام والحركات الجبلية، العلماء يسَّروا فيها من يومهم بفضل الله تبارك وتعالى، وقلت لكم غير مرة أن النبي لبس الجبة الرومية ولبس كسروانياً ولبس لباس أهل اليمن ولبس جبة مصرية التي بعث بها إليه المقوقس، وكل هذه الملبوسات ليست من لباس قومه، هى لباس تنتمي إلى أمم وثقافات مُختلِفة، ولم يجد النبي حرجاً أن يلبس هاته الملبوسات، وهى تتوفَّر فيها الشروط الشرعية المعروفة، كأن تكون ساترة فقط للعورة وليس فيها تشبّهاً بخصيصة من خصائص لباس المُشرِكين والكفار، أي خصيصة من خصائصهم فانتبهوا، وهنا قد يقول لي أحدكم أنت تلبس الكرافتة على المنبر يا عدنان، وأنا أقول له هذه ليست من خصائص المُشرِكين، هذه من اللباس العادي، بمعنى إذا رأيت مَن يلبس كرافتة – وأنا ألبس كرافتة – هل تعرف أنه بوذي؟ لا تعرف، هل تعرف أنه مسيحي أو يهودي أو مسلم؟ لا تعرف، ولكن لو رأيت مَن يلبس لباساً خاصاً وقلت هذا لباس الرابيين ولباس الحاخامت اليهود فإنه يحرم لباسه لأنه خصيصة دينية لهم ورمز ديني، إذا رأيت مَن يلبس لباساً وقلت هذا بوذي أو هذا هو الرداء البوذي فإنه يحرم أن تلبسه لأنه خصيصة دينية، فهذا هو الضابط أو هذه هى الضابطة وبكل بساطة، فيماعدا ذلك كل هاته ليست من خصائصهم الملية الدينية ولا تميزهم، وحتى في موضوع الصبغ النبي قال غيِّروا هذا الشيب ولا تشبَّهوا باليهود، واليهود كانوا لا يصبغون، فالنبي قال اصبغوا الشعر، إذا شاب أحدكم يُغيِّر، ولكن بعض الصحابة لم يُغيِّروا، لماذا والنبي أمر بهذا؟ ليست القضية أنه أنه أمر، لكن القضية في أي باب أمر؟ في أبواب قضايا تخص الزينة والحلية الظاهرة، والأصل فيها أنها ليست للتشريع وإنما للإرشاد، وهذا يُسمّيه علماء الأصول أمر إرشاد أو نهي إرشاد، فالله حين نهى وقال لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ۩ قال العلماء هذا نهي إرشاد، فمَن سأل من الصحابة لم يقع في إثم، أي لم يأثم، فهو ليس مأثوماً أبداً ولكن هذا نهي إرشاد، وقد تأتي أوامر للإرشاد، والنبي يقول هنا اصبغوا وغيِّروا الشيب، فهذا أمر للإرشاد وله حكمة، وقد يُقال مُعلَّل بعلة ظرفية وقتية،ولذلك الإمام عليّ – عليه السلام – لم يكن يصبغ ولم يُغيِّر شيبه، وأنس بن مالك لم يُغيِّر، وأُبي بن كعب لم يُغيِّر، وسلمة بن الأكوع لم يُغيِّر ، وغيرهم – رضوان الله عليهم أجمعين – الكثير، وقيل للإمام عليّ أنت لا تُغيِّر الشيب وقد أمر رسول الله بتغييره، فماذا أجاب الإمام عليه السلام؟ قال كان ذلك والإسلام قُلٌّ، كان الإسلام قليلاً مُستضعَفاً يُتربَّص به وبشيعته وأتباعه فالنبي أحب أن يُظهِر هيبة المسلمين في نفوس الكافرين، أي أننا كلنا شباب قادرون على القتال والمُكامَعة والمُناضَلة والمُصاوَلة والمُجاوَلة، فنحن شباب ولسنا شيوخاً مُتهدِّمين، والإمام علي قال هذا هو السبب، فهو قال كان ذلك والإسلام قُلٌّ، ثم قال أما وقد اتسع نطاقه وضرب بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وما اختار لنفسه، أرأيتم كيف يكون الفقه؟ هذا فقه الصحابة والعقول الكبيرة، ولكن هذه تُجعَل لنا قضية كبيرة على الصبغ، يُقال هذه وبدعة ولا يجوز وهذا خالف لأنه صبغ بالسواد ولا يجوز بالسواد وما إلى ذلك، وكل هذه قضايا إرشادية، مَن أحب أن يتوسَّع فيها فليقرأ تفسير المنار للشيخ رشيد رضا رحمة الله تعالى عليه، فهو توسَّع جداً في هذه المسألة، أي مسألة الصبغ، وهذه من القضايا الإرشادية المُعلَّلة بعلة وقتية أو بعلة ظرفية، فإذا زالت العلة يزول الحكم، هكذا فهم الإمام عليّ عليه السلام.

حتى الرمل مُلتبِس أيضاً، فنعود إلى المُلتبِس في العبادة وسنتحدَّث عن الرمل في الحج، في الأشواط الثلاثة الأولى كانوا يرملون، أي يُسارِعون الخطوة كالذي يُهروِل لكن هذا دون الهرولة بقليل وإسمه الرمل، والرمل في الصحيح أنه ليس أمراً تشريعياً. وإنما أمر به النبي لعلة ظرفية، في صحيح البخاري قال الفاروق عمر – رضى الله تعالى عنه وأرضاه – وقد استلم الركن – أي الحجر الأسود – والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يستلمك ما استلمتك، ثم أقبل فقال ما لنا وما للرمل؟ أي ما حكاية الرمل هذه؟ حتى الآن نحن نرمل، ما لنا وللرمل؟ إنما كان شيئاً – أي الرمل كان شيئاً – فعلناه نُرائي به المُشرِكين وقد أهلكهم الله تعالى، وسنحكي لكم قصة المراءة هذه، لكن هم فعلوا هذا لكي يروا المُسلِمين ويخافوا منهم، وهذه في قضية الحديبيبة كما تعلمون، وحين عادوا ثم أتوا بعد ذلك قال المُشرِكون أصحاب محمد وقظتهم حُمّى المدينة، أي محمومون ضعاف، فربما سوَّلت لهم أنفسهم أن يغروا بهم، ولذا النبي أمرهم بالرمل، فانظروا إلى حكمته البالغة وإلى العقلية السياسية الإدارية الواسعة، وكان الرمل بين الركنيين الشاميين، لماذا؟ لأن الكفار كانوا في تلكم الجهة، ولذا فقط بين الركنين الشاميين كانوا يرملون، لكي يقولوا لهم نحن أقوياء، وبعد ذلك يمشون مشياً عادياً على الهينة، أي على هينتهم، ثم أقبل عمر على نفسه فقال شيئٌ صنعه رسول الله فلا نتركه، أي سنتركه للبركة، فنتبرَّك بذكر الرسول ونحفظ هذه القضية، وإلا هو يعلم – أي عمر – أنه ليس تشريعاً، ولذلك حين سأل أبو الطفيل – أبو الطفيل عامر بن واثلة آخر الصحابة موتاً على الإطلاق، فآخر صحابي مات هو أبو الطفيل عامر بن واثلة رضوان الله عليه – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده الحبر عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – وقال له يا عبد الله إن قومك يزعمون أن رسول الله وأصحابه رملوا وأن ذلك سُنة قال صدقوا وكذبوا، فانظروا إلى الفقه، هذا ابن عباس وهو حبر وبحر فعلاً، قال صدقوا وكذبوا، فكيف هذا؟ كيف يجتمعان؟ قال أبو الطفيل فقلت ما صدقوا وما كذبوا؟ أي كيف صدقوا وكذبوا؟ فقال صدقوا لأن رمل رسول الله ورملنا معه، وكذبوا لأنه ليس بسُنة، ثم حكى له هذه الحكاية، أي حكاية الحديبية وانصرفنا وأتينا من قابل وإلى آخره، فلن نذكرها كلها حتى نختصر، ثم قال أبو الطفيل فقلت يا أبا العباس إن قومك يزعمون أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – طاف بين الصفا والمروة – أي سعى، فهذا يُسمّى طوافاً أيضاً، قال تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۩ – راكباً بعيره – أي راكب على البعير أو على الجمل – وأن ذلك سُنة، فقال صدقوا وكذبوا، قال أبو الطفيل فقلت ما صدقوا وما كذبوا؟ قال صدقوا لأنه طاف بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا لأنه ليس بسُنة، وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كان لا يُدفَع عنه الناس ولا يُصرَفون، الله أكبر، وابن عباس هو القائل في حديث آخر شهدت – وطبعاً ابن عباس شهد مع النبي حجة الوداع – حجة الوداع مع رسول الله، ولم يكن الناس يُصرَفون ولا يُدفَعون ولا إليك إليك، أي لا يُقال لهم ابعدوا وانصرفوا، وهذا من تواضع النبي صلى الله عليه وسلَّم، فعلينا أن نتعلَّم منه وعلى الزعماء والقادة الروحيين والسياسيين أن يتعلَّموا التواضع من رسول الله، فهو لا يُدفَع عنه الناس، ولكن طبعاً إذا الناس لا يُدفَعون عنه سينالونه بأيديهم وربما ضيَّقوا عليه ولم يبلغ صوته إذا أرشد أو أمر أو نهى الناس، ولذا قال ابن عباس ولا يُصرَفون فركب على بعيره لئلا تناله الأيدي وليبلغ صوته الناس، فهذه ليست حكاية سُنة، فلا يأت لي كل أحد ببعيره ويقول لي هذه سُنة، وبعد ذلك يُصبِح طوفان البعران، هذه مُصيبة ولن ننتهي منها، إذا كنا نفعل هذا ونحن بشر بين الصفا والمروة وتحدث المشاكل فماذا لو طوفنا ببعير؟
انظروا إلى الفقه الذي عند الصحابة، هكذا كانوا يفهمون، لكن اليوم تجد بعض الناس يقف مع ظاهر النصوص، فيُقال لك كيف يا أخي تقول هذا؟ قال الله تبارك وتعالى وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۩ وقال أيضاً وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ ۩ فضلاً عن أنه قال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۩، ونحن نُطيع لكن يا أخي ليست المسألة بالحماس والشاعريات، المسألة تُريد فقهاً وتُريد تعمقاً، وعلى طريقة وفي منهاج الصحابة نسير، وهم أعمق هذه الأمة إيماناً وأدقها وأحسنها فهماً رضوان الله عليهم.

قال أبو الطفيل ثم قلت له يا أبا العباس إن قومك يزعمون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سعى بين الصفا والمروة – العرب كانوا يتأثّمون من السعي بين الصفا والمروة – وأن ذلك سُنة، قال صدقوا، فهذه سُنة طبعاً، السعي مذكور في كتاب الله وهو سُنة دون أي كلام، لا أقولها كذبوا وإنما صدقوا، ثم شرح له رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فهذه هى المسألة ومثلها مسائل كثيرة، وهناك أمور أيضاً – كالتي نحن بصددها – تختلط بالعبادة بشكل واضح، كيف هذا؟ النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عفا لأصحابه ولأمته عن زكاة الخيل، قال قد عفوت لكم صدقة الخيل، فما معنى ذلك؟ هل معنى ذلك أن الخيل ليس فيها زكاة إلى يوم الدين؟ عمر لم يفهم هذا الفهم، والنبي صرَّح بأنه عفا عنها، أي عفا للأمة عن صدقة الخيل وقال لا زكاة وأن الخيل لا تُزكَّى، والخيل مُرتفِعة الأثمان جداً، لكن جاء عمر وضرب عليها – أي على كل خيل وعلى كل فرس – ديناراً، لماذا؟ فهم عمر أن هذا العفو السمح من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُعلَّلٌ بعلة، هذا فهم سيدنا عمر، فما هى العلة؟تشجيع الأصحاب – رضوان الله عليهم – على استنسال الخيل والاستكثار منها فضلاً عن أنها حمولتهم وركوبتهم، قال الله وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ ۩، فهذا أيضاً حمولة، وقال أيضاً وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ۩، فهى ركوبة وحمولة، وهى آلةُ ودابةُ الجهاد والقتال، ولذا هى مُهِمة جداً، فعليهم ألا يزهدوا فيها ومن ثم سنضع عنها الزكاة لكي يستكثروا منها، فاستكثروا لعدم وجود زكاة لأنها مُهِمة جداً في الحرب، ولكن في زمان الفاروق اختلف الوضع، فانظروا إلى الفاروق عجيب، لكن إذا ذكر إسم الفاروق من المُمكِن أن يقول لك أحد العامة – أحد العامة وليس العلماء، فالعلماء يعرفون هذا جيداً – الفاروق كان تقياً جداً وكان قوَّالاً وقوَّاماً بالحق وبالقسط ومن المُؤكَّد أنه كان حروفياً ظاهرياً على طريقة ابن حزم فيما بعد، لكنه لم يكن كذلك أبداً، الفاروق ربما يكون الصحابي رقم واحد في الاجتهاد بالرأي، وهو دائماً ما يُعلِّل ويقيس، وفي كتابه في القضاء المشهور لأبي موسى الأشعري قال وقس الأمور على أمثالها وأشباهها، فعمر فقيه الرأي رقم واحد في الصحابة، وهو عنده هذه الجرأة وعنده التقوى، وبعض الناس يسألني عن بعض آرائي بسبب هذه النُقطة، فوالله سألتني أخت فاضلة قبل فترة وقالت لي نحن نتعجَّب ونظن أنك بجرأتك على الكلام والقول لا تخشى الله تبارك وتعالى، وكان ذلك بعد أن التقت بي، فقلت لها للأسف هذا الذي قرَّ في وجدانات الناس، يظنون أن الذي يستعمل عقله ويتعمَّق في المسائل ويأخذ بالوجوه وبالأنظار ويدخل المُعترَكات إنسان لا يعبأ بدينه ولا تهمه آخرته، فحاشا لله، وإلا عمر وهو الفقيه صاحب الرأي رقم واحد وليس من أصحاب الحرف والجمود على الحروف، بل هو – رضوان الله تعالى عليهم – غوّاص على المعاني وسبَّارٌ لها وللمغازي – المغازي جمع مغزى – أيضاً، وعلى كل حال عمر رأى أن الناس استكثروا من الخيل وارتفعت أثمانها وأصبحت بضاعة رائجة جداً جداً جداً لأن ليس عليها زكاة، فضرب عليها الزكاة وألزمهم ديناراً على كلٍ منها، وهذا الصحيح وبه نأخذ حتى إلى زماننا هذا، لم لا؟ هذا اجتهادٌ في محله.

حين بعث النبي معاذ بن جبل إلى اليمن وأمره أن يأخذ الجزية منهم أمره أن يأخذ ديناراً عن كل حالم أو معافر أي ثياباً معافرية، وهو نوع من الثياب يُنسَج أو يُخاط في اليمن، ولكن بعد ذلك في صحيح البخاري عن ابن أبي نُجيح – رحمه الله تعالى – قال سألت مُجاهِد – أي ابن جبر الفقيه المكي الشهير تلميذ ابن عباس المُفسِّر – ما بال زكاة أهل الشام أربعة دنانير، وزكاة – أي وما بال زكاة – أهل اليمن دينار؟ قال أحسب أنه كان من باب التيسير، فأهل الشام عندهم القدرة ومن ثم يدفعون أربعة، وأهل اليمن فقراء وليس لديهم القدرة فنُدفِّعهم ديناراً، أرأيتم ما جرى؟ لم يقل له النبي قال يدفعون ديناراً ومن ثم سنطلب ديناراً دائماً، كيف يُطلَب دينار دائماً؟ هل هذا مُمكِن في كل الأمم والأحوال والظروف؟ هذا غير معقول، والشريعة في أكثر مسائلها معقولة المعنى، وهناك معانٍ معقولة ربطت بها الأحكام وناطت بها الأحكام، ولذلك الفقيه الكبير عمر بن الخطاب – هذا أكبر خليفة وأكبر سياسي وإداري رضوان الله عليه شاء مَن شاء وأبى من أبى – أجرى الله على يديه من الخير والبركة والفتوح والأمن والاستقرار في وقته ما لم يُجر مثله بعد ذلك، ولن نقول أكثر من هذا احتراماً لرسول طبعاً بلا شك لأن الرسول هو الأصل، ولا يُوجَد قياس بين عمر والرسول، فالرسول صاحب الشأن كله أصلاً، ولولا محمد ما كان عمر ولا غير عمر رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، ولكننا نقول أجرى الله ما لم يُجر مثله بعد ذلك وإلى اليوم، فإلى اليوم لم تشهد الأمة فترة ذهبية كفترة الفاروق رضوان الله عليه، فانظروا إلى هذه العقلية الإدارية الهائلة العظيمة، ماذا فعل؟ قال أنا أُصنِّف أصحاب الجزية أصنافاً، المياسير الأغنياء يدفعون ثمانية وأربعين درهماً، والأوساط – أوساط الناس و البرجوازيون قليلاً – يدفعون أربعة وعشرين درهماً، وذوو الدخل المحدود – على قد حالهم كما نقول بالعامية – يدفعون النصف، أي اثنى عشر درهماً، ولم يقل له صاحبٌ يا عمر اتق الله، أما تخشى الله؟ خالفت رسول الله وخالفت النص، هو يعلم أن النص معقول المعنى!
هناك مسألة أخرى قريبة من هذه المسألة وهى مسألة تقدير نصاب المال الذي فيه حد قطع يد السارق، والنبي قطع وعنده حديث قولي لكن فيه كلام في ثمن المجن، وهذا الحديث بالذات مُرسَل على كل حال، وذلك حين قال لا قطع في ثمر مُعلَّق ولا في حريسة جبل، فإذا آواه الجرين ففي مثل ثمن المجن قطعٌ أو حدُ أو كما قال، وحريسة الجبل هى الأنعام التي تُرعَى في الجبل مكشوفة وليست مُحرَزة، فلو سرق أحدٌ منها لا قطع، وهناك قاعدة الشريعة وهى ادْرَءُوا الحدود عن المسلمين بالشُبهات ما استطعتم، وهذا بابٌ يتسع، فبتعمق الدراسة والبواعث النفسية والاجتماعية والاقتصادية يتعمَّق باب درء الحدود بالشُبهات حتى لا تكاد تقام، فالحدود ردعية تلويحية وهذه حكمة الشريعة، وطبعاً المُراد بلا قطع في ثمر مُعلَّق الثمر الذي يكون على أمه من غير حراسة ومُعلَّق، فهذا قد يُؤخّذ، ولكن إذا آواه الجرين وإذا وُضِعَ أيه في مخازنه وصوامعه – هذا حرز مثله – الآن أصبح مُحرَزاً فإذا امتدت إليه يد قُطِعَت، وهذا من حكمة الشريعة، والمُهِم الآن هو ثمن المجن، وأيضاً ثبت أنه قطع – عليه السلام – وأمر بالقطع في ربع دينار، والآن الإمام مالك وفقهاء الحجاز قطعوا في ثلاثة دراهم، فقهاء العراق كأبي حنيفة ومَن إليه قالوا القطع في تسعة أو في عشرة دراهم، وهذا أمر عجيب، وأهل الحجاز يقولون القطع في ثلاثة، لكن أهل العراق يقولون في في عشرة، ثم قال السادة العلماء – عطَّر الله ذكراهم ونوَّرنا بأنفَاسهم وبركاتهم وأعاد علينا منها – الاختلاف تبعٌ لاختلاف سعر الصرف، ولست أستريح إلى هذا التخريج، بالعكس النفَس العُمري والطريقة العُمرية تجعلني أستروح إلى شيئٍ آخر، فما هو؟ أول شيئ نصاب الزكاة حين قُدِّرَ في زمان رسول الله تقريباً قُدِّرَ بمائتي درهم فضية،
وُجِدَت أواقانٍ مُعيَّنة تُساوي مائتي درهم، لكن ماذا فهم العلماء من ذلك والمُجتهِدون؟فهموا أن المائتي الدرهم هى ما يكفي أسرةً طبعاً مُتوسِطة – هذا في المُتوسِط – لسنة، وهذا الكلام جميل جداً جداً جداً جداً، ولكن السؤال الذي يثور من فوره ومن تلقائه هل الذي يكفي أسرةً في ذلكم العهد يبقى كافياً لكل أسرة في كل عهد؟ كلا، ولذلك أنا أدعو وبكل بساطة أن يتغيَّر تقدير نصاب الزكاة من عصرٍ إلى عصر ومن مصرٍ إلى مصر كما فعل الصحابة في الجزية، فالمسألة في نصاب القطع ليست تتبع كما ظنوا سعر الصرف أبداً، وإنما تتبع القوة الشرائية للنصاب الذي حدَّد النبي وقطع فيه، فربع دينار في فترة رسول الله كان له قوة شرائية تُساوي وربما كانت تكفي، فنفترض – مثلاً – أن الربع دينار كان يكفي أسرة مُتوسِطة من سبعة أنفار أو ستة أنفار لأسبوع، ويُمكِن أن نحسبها مُقارَنةً بمائتي درهم نصاب الزكاة وإلى آخره، فالمُهمِ أننا نحتاج معياراً مُعيَّناً، وهذه القوة الشرائية تتفاوت من عصر إلى عصر ومن مصر إلى مصر، فعلى العقل أن يكون له لون جولان هنا.

للأسف الوقت يُدرِكنا كالعادة ونحن إلى الآن تقريباً في شبه مُقدِّمات وربما درنا على مسألة واحدة من مسائل كثيرة لن تكون أقل من عشر مسائل رئيسة وتحتها أمثلة بالعشرات، ولكن لمَن أراد أن يتوسَّع أقول أن هذه المسألة فيها كتابات قديمة وكتابات مُعاصِرة ومُحدَثة – قبل المُعاصِرة – أيضاً، ومن أجود الكتابات القديمة فيها :ما كتبه الإمام الشهاب القرافي في كتابين له، أولاً لديه كتاب الفروق كما قلت لكم، فعودوا إلى الفرق الحادي والسبعين لأنه يتحدَّث عن هاته المسألة، وتُوجَد شروح طبعاً ابن الشاطر وغير ابن الشاطر على فروق الإمام القرافي وهى جيدة، ثانياً الإمام القرافي له كتاب بحياله وكتاب برأسه أيضاً إسمه الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، وهو كتاب جميل وفيه لون تفصيل عن ما أورده في الفروق لأنه كتابٌ بحياله في هاته المسألة، كذلك الإمام الغزالي له أنظار منثورة في كتبه وخاصه في المُستصفَى، والإمام الشاطبي – رحمة الله تعالى عليه – له أنظار كثيرة وخاصة في المُوافَقات.

حجة الإسلام الإمام الشاه ولي الله الدهلوي – أحمد بن عبد الرحيم المُتوفى في ألف ومائة وست وسبعين للهجرة – هو صاحب حجة الله البالغة والذي اعتدّه الإمام الشهاب الآلوسي مُجدِّد الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري، رحمة الله على الاثنين وعلى سائر علمائنا وأئمتنا، فهو له كتاب إسمه حجة البالغة فصَّل فيه تفصيلاً مُستجاداً السُنة التي سبيلها سبيل التشريع، فهو فصَّل فيما صدر عن رسول الله وسبيله سبيل التشريع، وما صدر عنه وسبيله ليس سبيل التشريعات، وعنده تفصيلات دقيقة فعودوا إليها وقد استفاد منها كل مَن أتى بعده.

الإمام الشاه ولي الله الدهلوي – أحمد بن عبد الرحيم رحمة الله تعالى عليه – مُجدِّد علم الإسناد والتحديث في الديار الهندية، وكلهم الآن يعودون إليه، ما من مُحدِّث في الدائرة الهندية معروف إلا ويعود بإسناده إلى الشاه الدهلوي، وهذا من عظيم بركاته على شبه القارة الهندية، وأيضاً مما كُتِبَ في هاته المسألة البحث الذي ألمعت إليه وهو بحث شيخ الأزهر العلَّامة الإمام محمد الخضر حسين الذي أتى في زُهاء سبعين صفحة أو سبعين صحيفة، وهو مطبوع الآن ضمن مجموعة أعماله الكاملة في المُجلَّد الثالث، فهذه سبعون صحيفة يرد بها على الشيخ الجليل محمود شلتوت – رحمة الله على الجميع – ولذا هذا البحث لابد أن نعود إليه، ولكي أكون أميناً مع الحقيقة يجب أن أقول تقريباً أول خمسين صحيفة يُناقِش فيها الشيخ شلتوت في مسألة اجتهاد النبي وهل النبي يجتهد أو لم يجتهد، علماً بأنني لم أُكمِل لكم المسألة، فالنبي باتفاق العلماء يجتهد في أمور الدنيا وشؤونها ويُصيب ويُخطيء في شؤون الدنيا، أما الخلاف ومحل النزاع هل هو مُتعبَّدٌ لله بالاجتهاد في الدين وفي شؤون الدين؟ هنا اختلف العلماء، جماهير العلماء قالوا نعم له أن يجتهد بغلغلة النظر في النصوص وفي المعاني ووجوه الأحكام وأن يخرج بشيئ، وطبعاً عامة اجتهاده صواب وقد يُخطيء ولكنه لا يُقر من الوحي على خطأ، ولذلك نحن مُتعبَّدون أيضاً باجتهاداته الشرعية، فاجتهاداته غير اجتهادات المُجتهِدين في هذه الأمة، فجمهور العلماء قالوا له أن يجتهد ووقع منه ذلك، أي اجتهاده جائز، بل حكوا الوقوع وأتوا بأمثلة ونُوقِشوا في أكثرها إن لم يكن في كلها، لكن ابن حزم منع اجتهاده بالكلية وقال لك الرسول لا يُتعبَّد بالاجتهاد في الدين، فالرسول يُوحى إليه، والإمام الغزالي – وهو مَن هو – في المُستصفَى – آخر كتبه الأصولية وأعمقها وأعظمها – توقَّف في المسألة، فإذن المسألة حرجة جداً ومن ثم توقَّف، لماذا توقَّف؟ لأنها تتكافأ فيها وجوه الأدلة، ولذا المسألة صعبة وليست سهلة، وكُتِبَت فيها رسائل دكتوراة الآن في هذا العصر، وعلى كل حال أبو حامد توقَّف فيها، فانظروا إلى تواضع العلماء، في حين أننا – نحن المساكين وأمثالنا – نقطع في جُملة من المسائل، لكن أبو حامد توقَّف وقال لا أعرف هل يجوز أن يُتعبَّد بالاجتهاد أم لا يجوز، قال لا أدري ولا أعرف ومن ثم لا أقطع لأن المسألة مُعقَّدة، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فنسأل الله أن يُعلِّمنا بعض تواضع أبي حامد الغزالي لأننا لسنا كذلك للأسف، وعلى كل حال هذه مسألة اجتهاد النبي وهذا كتاب الخضر حسين – كما قلنا – أو رسالته في هاته المسألة.

الشيخ شتلوت – شيخ الأزهر رحمة الله عليه – أيضاً له بحثٌ آخر في السُنة التشريعية والسُنة غير التشريعية، ويُمكِن أن تجدوه وافياً تاماً في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة فعودوا إليه، وبعد ذلك أيضاً لدينا الشيخ عبد المنعم النمر وهو من مشائخ الأزهر وعالم كبير ورجل جريء – ما شاء الله – في الاجتهاد وعنده بعض الأنظار المُستحدَثة له، وله كتاب في هذا الباب لكن تقريباً لم يخرج عن جُملة ما ذكر هؤلاء، على أنه اجتهد في بعض المسائل وخالف فيها النص، فهو أتى باجتهاد لم يُسبَق إليه مُخالِفاً النص ولكن من باب التفريع على ما فهم من هاته القواعد.

العلَّامة الشيخ يوسف القرضاوي – أمتع الله به وأمدَّ عمره – في كتابه السُنة مصدراً للمعرفة والحضارة له بحثٌ ممتاز جمع فيه أطراف أقاويل هؤلاء جميعاً تقريباً، وذلك في زُهاء سبعين صحيفة أيضاً بالضبط مثل بحث الخضر حسين، والعلَّامة الإمام المُجدِّد محمد رشيد رضا في تفسير المنار تكلَّم أيضاً كلاماً فيه نوع من توسع وأيضاً يحسن الرجوع إليه، علماً بأن هذه فقط مراجع منهجية لمَن أراد أن يتوسَّع في هذه المسألة.

اليوم الوزير المغربي الدكتور سعد الدين العثماني رسالته كانت بعنوان تصرّفات الرسول بالإمامة وطُبِعَت مُلخَّصة، فهى موجودة لكن طُبِعَ منها مُلخَّص صغير في زُهاء مائة صفحة، فهذه رسالة إسمها تصرّفات الرسول بالإمامة ويُمكِن أن تعودوا إليها لأنها مفيدة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وتسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أصلِحنا واصلِح بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدنا واهد بنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا الجُلة وبنورك الذي ملأ أركان عرشك وصلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة أن ترفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن المُسلِمين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أهلنا في سوريا الشام برحمتك يا أرحم الراحمين وبقوتك يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا نسألك بك ونتوسَّل إليك بك يا رب العالمين أن تقتل مَن قتَّل النساء والأطفال والشيوخ في سوريا الشام، اللهم أحصهم جميعاً عدداً، اللهم قتِّلهم بدداً، اللهم لا تُبق منهم أحداً، اللهم ارفع هذا المقت وهذا الألم وهذا العذاب وهذه الدموع وهذه الدماء عن بلاد الشام برحمتك يا أرحم الراحمين، يا الله، يا الله، يا الله، يا عزيز، يا جبّار، يا قهّار، يا رب العالمين، يا مَن لا يُعجِزه شيئ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(1/6/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: