إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ۩ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ۩ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

صورةٌ شائهة وشكلٌ مقبوح ومنظرٌ دميم، أنفٌ طويل وأسنانٌ حادة كالخناجر وقرنان ناتئان بارزان، تلكم هى صورة إبليس في المخيال البشري، هذا هو إبليس، هكذا دأب الفنانون على تصويره وهكذا أدمن رجال الدين من كل المِلل تقريباً والنِحل على تشكيله، ولكن الشاعر العارف سعدي الشيرازي – رحمه الله تعالى  – يفجأنا في ديوانه بوستان – وهو ديوان آخر غير گلستان أو جنة الورد، هو مُختلِف عنه – حيث يقول سعدي فيه “لست أدري – هذه ترجمة شعره بالعربية – في أي كتابٍ قرأت عن أحدهم رأى في المنامِ إبليس؟ قدٌ كالصنوبر – قده أو طوله لأنه طويل – ونظرٌ – أي بصر أو باصرة – كالحور العين – عينان جميلتان شهلاوان واسعتان حوراوان – ووجهٌ كالشمس يشع نوراً، فقلت له: أأنت هو؟ يا للعجب، فلم صوَّروك إذن كالح الوجه عبوساً قمطريراً كأنما دُهِنَ وجهك بالخل؟ فهكذا صوَّروك في إيوان شاهي فارس، فقال ما الحيلة والقلمُ في يدي غيري؟ أنا لم أُصوِّر نفسي وإنما عدوي هو الذي صوَّرني”

وطبعاً هذه الجُملة الأخيرة من هذه المقطوعة هى ما أراد الشاعر العارف الكبير وهو شاعرٌ عالمي أن يُدير مقطوعته الشعرية عليها، أي على هذه الجُملة وهى أن العدو لا يُنصِف، ولكن نحن نُريد أن نتناول هذه المقطوعة التي فجأتنا حقيقةً من زاويةٍ أخرى، فهل لدينا في كتاب الله – تبارك وتعالى – أو من صحيح الأخبار ما يُؤكِّد أن إبليس – لعنة الله تعالى عليه –  شائه الصورة أو قبيح المنظر أو مقبوح الخلقة وذميمها؟!

كلا، ليس لدينا ما يُؤكِّد هذا باستثناء آية واحدة في كتاب الله من سورة الصافات، فليس هناك ما يُشير لا من قريب ولا من بعيد إلى هذه المسألة، أي إلى أنه مقبوح الصورة، فنعم هو مقبوح الباطن والسيرة بل هو الأقبح – لعائن الله عليه مُتتابِعة إلى يوم الدين – لكن ليس هناك ما يُؤكِّد أنه مقبوح الصورة عدا قوله تبارك وتعالى  أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ۩ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ۩ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ۩ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ  ۩، فالآية فيها إشارة إلى أن رؤوس الشياطين شائهة ومناظرها مقبوحة مُسترذَلة ذميمة ودميمة، ولكن بعض الملاحدة على ما أشار صاحب روح المعاني اعترض على التشبيه الواقع في الآية فقال: إنه تشبيهٌ بما  لا يُعرَف، فمَن هو الذي رأى رؤوس الشياطين ؟!
لا أحد، ولو افترضنا أن أحداً ما رآها فهل رآها المُستمِعون؟ هل رآها المُخاطَبون بالقرآن الكريم حتى يقع التشبيه برؤوس الشياطين؟ قال الله طَلْعُهَا طلع شجرة الزقوم – كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ۩، والجواب عن هذه الشُبهة المُتهافِتة الرقيعة سهلٌ جداً، وهو ما ذهب إليه جماهير من المُفسِّرين بدءاً من عبد الله بن عباس الترجمان ومحمد بن كعب القرظي وسائر المُفسِّرين الكبار حيث قالوا “التشبيه لم يقع بشيئٍ في الخارج”، فلم ير أحد رؤوس الشياطين والناس لم يروا رؤوس الشياطين لكنه وقع بما قرَّ واستقر في أذهان الناس ومُخيِّلاتهم، ففي أذهان الناس ومُخيِّلات الناس إبليس شائه الصورة ومقبوح الخلقة وهذا يكفي، وهذا كثيرٌ جداً في كلام الأبيناء وفي تعبيرات الفصحاء البُلغاء، امرؤ القيس كان يقول:

أَيَقتُلُني وَالمَشرَفِيُّ – السيف – مُضاجِعي        وَمَسنونَةٌ – عن سهامه ونشابه – زُرقٌ كَأَنيابِ أَغوالِ

والأغوال صنفٌ من الشياطين، صنفٌ من الجان، فمَن الذي رآها فضلاً عن أن يرى أسنانها الزرق المسنونة؟ لا أحد، ولكن هكذا قرَّ في مُخيِّلة الناس أن الأغوال أسنانها مُسنَّنة وهى زرق، لذا قال “وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كَأَنيابِ أَغوالِ“، إذن يُمكِن هذا، وهذا كثيرٌ جداً، وإلى اليوم يقولون “فلان كالعنقاء Phoenix”، ولا يُوجَد عنقاء ولا ما يحزنون أصلاً، فالعنقاء لم تُوجَد يوماً، هى فقط هذا الطائر الأسطوري الفينيقي في الأسطورة الشرقية الشهيرة الذي يخرج دائماً من تحت الرماد وتتجدَّد له حيوات وحيوات فلا يهلك أبداً، فهذا الطائر غير موجود لكن يصح أن يُشبَّه إنسان – كما يقولون – بسبعين روحاً لأنه ينجو من كل مهلكة على الدوام فيُقال “فلان كالفينيق”، أي كطائر العنقاء، ولا يُوجَد عنقاء ولا Phoenix ولا ما يحزنون لكن هذا يجوز، وهذا كثيرٌ جداً في كل اللغات، فما الذي يُنكَر من وقوع مثله في كتاب الله تبارك وتعالى؟ لا شيئ، إذن هذه الآية ليست نصاً في قبح صورة الأبالسة والشياطين أبداً، إنما وقعت على ما أشار الحبر وغير الحبر على ما قرَّ في أذهان الناس.

بعض الناس كالإمام الجبائي – أبو علي وأبو هاشم الجبائيان – رأس المُعتزِلة في وقته قال في قول الله طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ۩ أن هذا سوف يكون يوم القيامة، أي إذا اُدخِلَت الشياطين نار جهنم والعياذ بالله – الشياطين من الإنس والجن  – فإن خلقهم تتشوَّه بلا شك، وكل مَن دخل جهنم تتشوَّه خلقته مُباشَرةً، قال الله وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ۩، فتقلص الشفة العُليا حتى تصير في مُنتصَف الرأس، وتتدلَّى تلك الشفة السُفلى حتى تضرب سُرته، وهذا ما يحدث فقط للشفتين، فضلاً عن أن أسنانه سوف تبرز بلا لثة، فكيف يصير المنظر؟ هذا هو الكلح والكلوح، قال الله وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ۩، فاللهم لا تُشوِّه خلقتنا بنار جهنم والطف بنا يا لطيف بخفي ألطافك وعظِّم علينا امتنانك وأسبغ علينا نعمتك.

إذن الجبائي يقول “هذا يحدث في جهنم للشياطين، فيصير منظرها شائهاً جداً مُستفظَعاً”، ولكن اعترض عليه العلماء فقالوا “وأيضاً هذا تشبيهٌ بغير حاصل في الخارج”، فمَن رأى الشياطين وقد أُدخِلَت جهنم وحصل لها ما حصل؟ لا يُوجَد، إذن هذا غير صحيح، والأول كان أفضل.

إذن ليس لدينا لا في الكتاب ولا في صحيح السُنة ما يُؤكِّد أن إبليس أو الشياطين بعامة شائهة الخلقة وأنها بقرون وأنياب وعيون من نار وأنوف طويلة أيضاً مُدبَّبة وإلى آخره، فهذا غير صحيح، ولوخلق الله – تبارك وتعالى – إبليس على هذه الخلقة المُستفظَعة المرذولة لأقام لنفسه العذر في إبائه من السجود لآدم ولقال لماذا أسجد له وأنا أتسخَّط قدري؟ لماذا سوّيته وفي أي صورةٍ من الحسن ركَّبته ثم تأمرني من بعد أن أسجد له وقد مسختني وشوَّهتني؟ ولكن إبليس لم يعتذر بهذا العذر، فهذا العذرغير موجود، بل بالعكس هو قال أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩، فإبليس رأى في نفسه مزايا وخصائص، وقطعاً أنه كان من الناحية البدنية ومن الناحية التركيبية غير منقوص، فكان تاماً ويتمتَّع بعافية ظاهرة وبجمالٍ وضَّاء فضلاً عن ما وقر في ذهنه المُختَل من شرف أصله ومحتده لأنه من نار، ولذلك دخله العلو ووسوَس له كبرياؤه، تقول الآية الكريمة أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ۩، فهو استكبر كأنه لا يرى في نفسه نقيصة، ومن ثم حتماً لم يكن شائه الخلقة إبليس، وقد يقول قائل أنه تشوَّه ومُسِخ بعد المعصية، لكن هنا يثور السؤال لأن وهذا مُجرَّد دعوى وتحكم بلا دليل: فما بالنا لا نرى الطغاة والمُجرِمين من قتلة الشعوب وأمراء الحرب الذين يدفعون بالألوف والألوف في أتون نيران مصالحهم ومنافعهم ولا يلوون على شيئ ولا يأبهون بشيئ ولا يقيمون حُرمةً لشيئ وهم الأشر من بين الإنس لأنهم هم شياطين الإنس – شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ۩ – يُمسَخون ولا تُشوَّه خلقهم، بل أن كثيرٌ منهم يتميِّز بقدر غير يسير من العافية الظاهرة والجسم شديد الأسر والبنية القوية؟ قال الله وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْعن المُنافِقين ورؤوس النفاق – وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۩، بسبب المنطق العذب السلس اللاذ وحلاوة الثغر وجمال الابتسام، مثل أصحاب الابتسامات الصفراء أمام التلفاز والفضائيات وهم قتلة الشعوب وهتَّاكو للأعراض والحُرمات، ولكن هناك جمالٌ ظاهر، فحذَّرنا الله – تبارك وتعالى – وحذَّر نبيه أن يغتر بأمثال هذه المظاهر، فجمال الصورة والخلقة لا تعني شيئاً كثيراً عند الله – تبارك وتعالى – ولا جمال المقال، قال الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ۩، قولٌ لاذٌ جميلٌ سلس ومنطق مُتماسِك ويحلف ويُشهِد الله أيضاً لأن قدوته وأسوته شيخه الأكبر إبليس، لذا كل حلَّاف – والعياذ بالله – هو مهين، فكل حلَّاف هو شخص إبليسي وشيطانٌ رجيم، قال الله وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ۩، فلا يحلفُ بالله كذبا إلا مَن فيه شيئ من الشيطنة والأبلسة والعياذ بالله، وإلا فمقام الله أعظم وأجل من أن يُحلَف باسمه أو يُشهَد باسمه – سبحانه وتعالى – على أمرٍ كذب وزور وإفك مُبين، إذن شيخهم هو إبليس الذي قسم أبوينا، تقول الآية الكريمة أنه قال إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ۩ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ۩ لعنة الله تعالى إنه شيخ الكذبة والمُغرِّرين والمُضلِّلين، قال الله يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ۩.

 إذن ما الحكاية؟ من أين أتت مسألة تشوّه خلقة إبليس وقبح منظره؟

أتت فيما يترجَّح لدى الظن من قصود طيبة لدى رجال الدين والتربويين عبر العصور الذين تلمَّحوا فيها إنبغاء حصول النفرة بادئ الأمر بمُجرَّد سماع إبليس وما يُنسَب إلى إبليس وما يُنسَب إليه إبليسُ، فهذه هى صورة الشيطان وهذه هى شاكلته المقبوحةٌ المُستفظَعة المهولة المرذولة المذمومة، فإذا سمع الناشئ شيئاً يُنسَب إلى إبليس يُقال “مسلك إبليسي، فكرةٌ شيطانية، شيئٌ مما يُحِبه الشيطان ويدعو إليه ويُسوِّل به وينزغ به ويدعو إليه” حصل له ابتداءاً النفور، وهذا شيئٌ سائغ ابتداءاً إلا أن له لوزام لزمت عنه، وهى ليست باللوازم الطيبة وليست باللوازم الحسنة، وسأذكر منها اثنين.

اللازم الأول أننا لا نتعاطف مع مقبوحي الصورة، فلو أن إنسان وُلِدَ بشكل غير جميل وغير وضيء فإن الناس لا يتعاطفون معه، وإلى اليوم في كل الحضارات تقريباً حصول هؤلاء على وظائف عمومية صعب، وهذا أمرٌ معروف، فتلطف الناس معهم وتيسيرهم لأمورهم وشؤونهم صعب بل هو أصعب من غيرهم كثيراً، وهذه خطيئة، فاللازم الأول خطيئة إذن، أما اللازم الثاني فهو اغترارنا بالشكل الجميل والصورة الوضيئة والمنطق العذب السلسال، وهذه حماقة.

إذن هما لازمان تتوزَّعهما الخطيئة والحماقة، لكن لماذا حماقة وغفلة إذن؟!

لأن الشكل الوضيء والصورة الحسنة قد تُخفي وراءها روحاً مُظلِمة ونفساً خبيثة وطبعاً مُتوحِّشاً  وأعماقاً مُظلِمة، حندسية شديدة الإظلام، وأنت تغتر بالشكل الوضيء، ولا بأس بالرجال من طولٍ ومن قصرٍ وكذلكم بالإماء، قال الشاعر “لا بأْسَ بالقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ قِصَرٍ“، وقال الله وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۩، فالشكل والمنظر جميل واللباس مُستعطر، فتفوح رائحته الطيبة ولكن باطنه أخبث من الخبث نفسه وأعفن من النتن والعفن ذاته، قال الله هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۩، فالله يقول هُمُ الْعَدُوُّ ۩ فهؤلاء المُكمَّلون حساً هم النقصة معنىً، فأُمرٌ عاديٌ أن يجتمع الأمران، أي أن يكون المرء كاملاً في الحس وفي البدن والصورة لأنه أُوتيَ بسطةً في بدنه لكنه مبخوس الحظ في نفسه وروحه، فمن المُمكِن أن يجتمع الأمران كما يجتمع ضدهما أيضاً،وكذلكم المنطق العذب ينبغي ألا يُغرينا، قال الله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ۩، فهو أكبر الأعداء كما يقول الشاعر:

يُعطيك مِن طرفِ اللسانِ حلاوةً                ويَــرُوغُ مِنكَ كما يَـــــرُوغُ الثعلب

وأين الثعالب بل الذئبان – أي الذئاب – والفواتك الضواري منه؟!
قال الله وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ۩، لأنه مُستكبِر، فهناك جمال في المنطق وفي الأخذ والعطاء ولكن في الداخل يُوجَد كبر وعلو وغطرسة داخلية –  والعياذ بالله – ورغبةٌ وانفهاقٌ واندلاعٌ في الفساد والإفساد.

إبليس اختلفت صورته إلى حد ليس باليسير بين الأديان والمِلل والنِحل والفلسفات المُختلِفة، ففي الديانة العبرانية كما لمَّح الأستاذ الكبير عباس العقاد – رحمه الله تعالى – كان دور إبليس هو دور النكرة، فيُمكِن لكل نكرة أن تُؤدِّي هذا الدور، وأنا أُعلِّق على هذا بقولي أن هذا يعكس سوء ظن بالطبع البشري لدى العبرانيين، ومن تاريخهم وتواريخ تمرداتهم ومسالكهم المنكورة إزاء رسلهم وأنبيائهم ما يُؤكِّد حقهم في أن يُسيئوا الظن بالطبع البشري وإن كان الطبع محصوراً في حدود قبيلة مُعيَّنة من الناس، أولئك هم أنفسهم.

 لكن في الديانة المسيحية يُؤدِّي إبليس دوراً محورياً، فالشيطان بعامة يُؤدِّي دوراً محورياً مركزياً يمتد مع كل مراحل ويتخلَّل كل مراحل وأطوار قصة الخلق بدءاً من لحظة الإغواء فالسقوط – بالتعبير النصراني أو المسيحي – وإلى اليوم، فلولا إبليس ما كانت الغوايا ولولا إبليس ما كان السقوط ولولا الغوايا والسقوط ما كان لزوم الكفارة والفداء والغفران، وهذا هو لب المسيحية أو لب النصرانية،  فإبليس يلعب فيها دوراً رئيساً، ولذلك يُدعى بالشرير، فالشرير مُهِم جداً لديهم، وهم يتعوَّذون بالله منه صباح مساء ويقولون “احفظنا من الشرير، أعذنا من الشرير”، فهو يلوح لهم بكل ثنية ويتمثَّل لهم بكل قارعة وطريق وعند كل مرحلة!

أما في الإسلام العظيم –  لا أتحدَّث عن المسلمين وإنما عن الإسلام نصاً، أي في الكتاب الكريم بالذات وصحيح السُنة – إبليس دوره استثنائي ضعيف وليس محورياً وإنما هو دورٌ هامشي، وهو دور المُخادِع المُخاتِل المُتلصِّص المُفتقِد للسُلطان والقوة، قال الله  إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان  ۩ وقال فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ۩، إذن كيدٌ ضعيف ولذلك قال الله أيضاً إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩، ولذلك تقول الآية الكريمة على لسان إبليس وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۩، أي أن هذا كل ما كنت أملكه، فأنا دعوت فقط.
لذلك هو لا يستطيع أن يأمر بقوة فضلاً عن أن يُكرِه ويلز ويقهر، وإنما هو يُوسوِس فقط، لذا تقول الآية الكريمة مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۩، فهو يُوسوِس ويُزين بهجسٍ خفيف وبكلامٍ جميل معسول مُستعذَب، فلا يقول لك أن هذه الهلكة سوف تتردى فيها، كلا وإنما يقول عكس ذلك، وقوله تبارك وتعالى إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ۩ دلالةٌ على أن كيده في حد ذاته ضعيف، ولا نقول أن كيده ضعيف بإزاء  كرم الله ولطف الله، فبإزاء كرم الله لا شيئ يقوم أصلاً، لا كيد ولا سعي ولا حسن ولا قبح، فكل شيئ يتلاشى، وإنما نقول أن كيد الشيطان في حد ذاته وبحد ذاته ضعيف، ومن ثم يجب أن ننتبه إلى هذا جيداً، وهذه إشارة إلى قوة مبلغ العقل الإنساني واقتداره على التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة، فكيف إذا تهدَّى هذا الإنسانُ بهُدى شرع الله وتضوَّء بأنواره واستعصم بالعروة الوثقى من تقوى الله وخشيته؟ لا سبيل للشيطان عليه إذن، فالعقل بحد ذاته لديه هذه القوة وهذه اللياقة في أن يُميِّز، ولذلك كيد الشيطان بالإزاء كَانَ ضَعِيفاً ۩، لكن قد يسأل أحدهم: فما بالنا نرى أكثر الناس مصروعين لإبليس وخُطط إبليس وطرائق إبليس؟ على حد ما قال أبوالقاسم الحريري في مقاماته على لسان أحد أبطاله في مقام من المقامات:

وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى           بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي

فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ                    طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي

أي أنه يقول “أنا مُعلِّم وأستاذ وبروفيسور Professor كبير ومايسترو Maestro، بل أتفوق على إبليس نفسه، فإبليس يحتاج لي وأنا لا أحتاجه”، وهذا مُمكِن جداً، قال تبارك وتعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا  شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وبدأ بشياطين الإنس – يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۩، وأخرج الإمام أحمد في المُسنَد – رضيَ الله عنه – عن أبي أمامة الأنصاري – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال “قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لأبي ذر يا أبا ذر تعوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن، فقال أبو ذر يا رسول الله وهل للإنس شياطين؟ أي أنمبلغ العلم أن الشياطين من الجن، فأن يكون في الإنس شياطين هذا شيئٌ جديد بديع لم يُسمَع بمثله، فقال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – نعم، شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ هو يتلو شطر الآية –  يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۩”، كأنه يقول له ألم تقرأ الآية؟ أين أنت من هذه الآية؟وطبعاً حتماً أبو ذر تلا الآية وربما كان يحفظها ولكن الإضافة صعبة جداً والمقام لا يتسع لأُوضِّح لكم كيف، فقوله شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ۩ لا يعني بطريق القطع – هذا ليس نصاً – أن في الإنس شياطين، فالإضافة هذه تحتمل أربعة أو خمسة معانٍ على الأقل، ولكن هذا الموضوع طويل فعودوا إلى المُوسَّعات في كتب التفسير وقطعاً ستقعون على هذا، لكن على كل حال أبو ذر ليس رجلاً لا يستحضر الكتاب أو لا يفقه ما يتلو أو يتمناه أماني، كلا ولكنه ربما ذهب بالإضافة مذهباً آخر، فالرسول أكَّد أن الإضافة بمعنى البيان هنا، كأنها بموقع من البيانية، أي شياطين من الإنس وشياطين من الجن، فالإضافة هنا بيانية، وهذه هى فائدة التفسير النبوي، إذن ذهب – عليه الصلاة وأفضل السلام –  هذا المذهب، وإلا فالأمر أعقد من هذا بكثير ومثله لا ينطلي على أبي ذر، لكن هكذا هى العربية القح – من البادية – الصميم، فهو يعرف هذا لأنه يعرف ويحذق العربية ويُجوِّدها جداً وإلى الغاية، شأنه شأن كل الصحابة في تلكم الحقبة، حيث لم تدخلهم لكنة ولا شوَّهت لغتهم رطانة أعجمية.

نعود مرة أُخرى إلى حديثنا، فمن أسف أن بعض العلماء أصروا على أن يجعلوا هذا الضعف ليس في الكيد والاحتيال وإنما في البنية، لكن ما يعنينا من بنية إبليس نحن؟ ما يعنينا من بنية الشياطين؟ هذا لا يعنينا أبداً، وإنما يعنينا كيده وسُلطانه، فما مبلغ كيده إذن؟ وهل له من سُلطان؟!
كيده ضعيف وليس له سُلطان!
روى عبد بن حُميد  وأبو بكر بن المُنذِر وغيرهما من طريق مُجاهِد بن جبر – التابعي الجليل وتلميذ ابن عباس – عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال لا يهولنكم الشياطين  – أي لا تخافوا من الشياطين لأنهم ضعاف – واحملوا عليه، أي حتى إذا تبدى لك الشيطان – وكانوا يعتقدون أن الشيطان قد يتبدَّى حتى في شكل إنسي – فاحمل عليه، قال تعالى إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ۩”، ولست أستروح إلى هذه الطريقة وأنا جازم بأن ابن عباس لم يقل هذا، لأن القرآن يقول إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ۩، ولم يقل إن بنية الشيطان، فما الذي يعنيني في بنيته؟ المعركة ليست معركة على حلبة مُصارَعة بيننا وبين الشياطين، لكن المعركة في السلوك وفي الاهتداء إلى الحق وفي تمييز الحق من الباطل، فهذا هو إذن، ومع ذلك هم يقولون لك احمل عليه واذهب صارعه وضعه تحتك وما إلى هنالك،وهذا الكلام ضعيف جداً ولا يصدر عن الحبر – رضيَ الله عنه وأرضاه – أبداً، ولذلك يقول مُجاهد مُعقِّباً “فكنتُ إذا ترآى  لي الشيطان في الصلاة حملتُ عليه فيذهب عني”،وهذا الكلام أيضاً غث وليس ثميناً، فليس هذا هو المُهِم، لكن المُهِم هو أنه إذا عرض لك بسوء أو بوسواس يُوقِعك في معصية لله – تبارك وتعالى – أن تحمل عليه بنور الهُدى وعصمة التُقى والخشية، فهذا هو المُهِم وهذا هو المعقد، وليس المُهِم هو أن تحمل عليه وأن تُصارِعه وتفتخر بهذا!

كان يلذنا جداَ حكاية الفاروق عمر – رضوان الله تعالى عليه – التي يرويها ابن مسعود وكيف أن عمر صرع الشيطان ووضعه تحته، لكن ليس هذا هو المُهِم، فالمُهِم هو أن تصرع هواك!

نعود إلى صورة إبليس في القرآن الكريم، ففي القرآن الكريم تصريحٌ في مواطن كثيرة أنه عدونا المُبين وأنه بيِّن العداوة، فلا تحتاج طويلاً إلى التأمل وإمعان النظر وإنعامه حتى يضح لك أنه عدوك، فهو عدوك الذي لا يقودك إلا إلى ما فيه هلاكك وبوارك وخسارك في الدنيا والآخرة، ومن هنا قال الله فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۩.

ثانياً: الشيطان – لعنة الله تعالى عليه – ليس له سُلطان على عباد الله الذين استعصموا بأمر الله وبشرع الله، وهذا أمر يجب أن ننتبه إليه، أما العباد الذين أعطوه عن طواعية مقاداتهم وقالوا له “أنت الخرّيت وأنت المُرشِد وأنت الدليل فقُدنا حيث تشاء” وانصاعوا له طبعاً بلا شك هؤلاء هم الذين يُخاطِبهم بقوله وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ۩، وهو يقول أنا لن أُصرِخكم ولن أُنقِذكم ولن أُساعِدكم، فأنا أصلاً واقع في الهلكة قبلكم ومعكم، هذا هو إذن، فعلى هؤلاء له هذا السُلطان، ليس سُلطان القهر والإلجاء وإنما سُلطان الانقياد الطوعي، فهم انقادوا له طوعاً فصار له سُلطان زائف عليهم، ومن ثم يأمرهم فيُطيعوه ويُصرِّفهم فيتصرَّفوا فيما صرَّفهم فيه – والعياذ بالله – فلعنة الله عليهم وعليه وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩، أما المُؤمِن فلا سُلطان للشيطان عليه.

الشيطان يأمر بماذا؟ يأمر بالفحشاء ويأمر بالمُنكَر والعياذ بالله، لذا قال الله وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ ۩، ويأمر بأن نقول على الله ما لا نعلم، وهو يعد ويُمني طبعاً ولكن بماذا؟ يعد بالفقر وبالسجن وبالموت وبذهاب الأحبة والأوداء وبخسارة التجارة وبطلاق الزوجة وبفقد الحيثية والمنزلة، فهو يعدك بكل مُنغِّص، ولذلك ترى ضعيف الإيمان البعيد من الله والقريب من الشيطان دائماً في حالة زرية، فلا يهنأ له نوم ولا يهنأ له طعام ولا شراب، فهو في قلق دائم وفي حسابات دائمة ومن ثم يكون مُلتاثاً ومغلوباً على أمره لأن مقادته بيد الشيطان، أما المُؤمِن فهو مُرتاح بسبب أنه لا يخاف لا من ضائقة رزق ولا من سجن ولا من موت ولا من شيئ، لأنه في جنب الله وفي كنف الله وفي رعاية الله، فهو يعلم نفسه ويعلم نيته ويعلم دوافعه وبواعثه فيما يأتي وفيما يذر، وهو مُطمئنٌ إلى أنه في كنف الله تبارك وتعالى وبالتالي يشعر بالراحة، قال الله أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، فهذا هو.

إذن كيد الشيطان ضعيف، والله – تبارك وتعالى – كل شيئٍ في قبضته، ونحن مع الله لأنه ولينا، فإذن مما نخشى ومما نخاف ومما نرهب؟ لا شيئ يُرهِبنا ولا شيئ يُخيفنا ولا شيئ يُقلَّقِلنا ولا شيئ يُزعّزِعنا، ولكن الإيمان يأخذ بأيدينا، والمقصود بالإيمان إيمان التجربة وليس إيمان الكلام والخطاب والمنابر، وإنما إيمان التجربة وإيمان العمل وإيمان الصدقية، أي الإيمان الصحيح الرجيح المليح النظيف الطهور المُبارَك.

الشيطان يأمر بالتبذير، كتبذير الوقت والصحة والمال، قال رسول الله نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ”، فالتبذير ليس فقط في المال وإن كان تبذير المال مُصيبة لكن تبذير العمر مُصيبة مُركَّبة، أي أن يضيع العمر في لا شيئ، وأكثر أعمار مَن ترون من الناس تضيع في لا شيئ وسيندمون عليها أشد الندم، بل أكثر هؤلاء تضيع أعمارهم في ما يُسخِط الله وفي ما يُوجِب غضب الرب – والعياذ بالله – بسبب احتقاب المعاضي والاستكثار من السيئات ومن المُوبِقات، والشيطان يضحك ويتفرَّج قائلاً فهذا أمرٌ جميل بالنسبة له.

إذن هذا هو التبذير، قال الله إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ۩، فنحن بدل أن نشكر نعمة المال ونعمة الصحة ونعمة العمر والوقت نكفر هذه النعم بل ونتوسَّل بها إلى غضب الله – لا إله إلا هو – وإسخاطه، وهذا من الشيطان والعياذ بالله.

هناك النزغ بين الناس من أجل كلمة أو من أجل نظرة أو من أجل تصرّف يسير، فالشيطان ينزغ ويقول لك: ماذا أراد أخوك بهذا؟ إلى ماذا قصد؟ هو قصد أن يُهينك وقصد أن يُحقِّرك وقصد أن يُسيء إليك وقصد أن يُشكِّك فيك، وهكذا فتحدث عداوة عظيمة تصل إلى القطيعة وربما الاحتراب من أجل نزغة من الشيطان، قال الله وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۩، ولذلك لا تجدون أحداً يُحِب المعاصي ويُحِب الفواحش ويكذب على الله وعلى الدين ويُزيِّف على الناس بإسم الله وبإسم الرسول وبإسم العلم والفقه ويمشي بين الناس بالنميمة – والعياذ بالله – ويقطع مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ۩ ويُزعِجه أن يرى الناس في تواد وفي محبة ويشي بالصالحين ويسعي بهم إلى السُلطات وإلى المُجرِمين وإلى أعداء الله ورسوله إلا وهو من مردة شياطين الإنس الذين أُمِرنا أن نتعوَّذ بالله منهم، فنعوذ بالله من هؤلاء!

شياطين الإنس موجودون وهم أخطر من شياطين الجن، وهم يُوسوِسون أيضاً ويُحِبون أن يستزلوا الناس وأن يُفسِدوا عليهم صفاءهم الروحاني وأن يُخرِّبوا عليهم ما عمَّر الله من دينهم، قال الله مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۩ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۩ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ۩، إذن أيضاً يُوجَد وسواس خناس من الناس والعياذ بالله لأنهم شياطين أيضاً، ولذا قد يقول قائل “هذا هو الشيطان إذن، لقد التقي  به مئات المرات ولذا أن أعرفه وأعرف له مصاديق كثيرين، ففي ظني فلان من الشياطين إذن، فهو لا يزال يحلف صباح مساء باسم الله كاذباً – والعياذ بالله – من أجل دُريهمات ومن أجل أن يدرأ عن نفسه تُهمة يسيرة بسيطة جداً جداً وكان يُمكِن أن يعترف بخطئه وينتهى كل شيئ لكنه لم يفعل بل يحلف على المُصحَف”، فهذا شيطان – والعياذ بالله – من الشياطين، فهو دائماً ما يحلف بالله لكن إذا وقر لدى الناس كذبه وعلموا أنه أستاذٌ مُبرِّز في الكذب أصبح يحلف بالشرف خاصة إذا تزوَّج وصارت له زوجة، فيحلف الآن بشرفه وبشرف أهله ومن ثم يذبح شرفه على مذبح مصلحته وانتهازيته وبالتالي هو شيطان، هو شيطان في شكل إنسان أو في جثمان إنسان كما قال الرسول، فهؤلاء شياطين في جثامين إنس – والعياذ بالله – وفي إهاب بشر، والواحد منهم إذا رزقه الله الولد يكون بذلك فرَّج عنه كثيراً لأنه سوف يحلف بحياة أولاده دون أن يُبالي أعاشوا أم هلكوا، لأنه شيطان لا يهمه إلا مصلحته وإلا نفسه، فهو شيطان ولا يُؤمِن بالله إيماناً حقاً، لأنه يقول قد حلفت به مائة مرة فلم يُعاجِلني ولم يُؤاخذني  ومن ثم سأحلف به وسأحلف الآن بأولادي ولن يهلكوا، وإن هلكوا فهذا ليس أمراً عظيماً، إذن هو شيطان لكن للأسف يُوجَد بشر على هذا النحو والعياذ بالله، فهناك مَن يحلف حتى بحياة أولاده وقد يُعرِّضهم للهلاك!

هناك قصة لطيفة تُروى عن النبي الحكيم سليمان عليه السلام – ابن داود – تُفيد بأن جاءته حدأة – يُسميها العرب حداية، والحدأة هى جارح من جوارح الطير – يوماً فقالت له: أي نبي الله سل لي ربك أمهولٌ هو أم عجول؟ أي هل هو يُمهِل أم يعجل على عبده إذا أذنب وتجاوز؟ فناجى ربه وعاد إليها بالجواب فقال يقول لكِ الله – تبارك وتعالى – إنه مهولٌ – قال الله فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ۩، فأين يخرجون والكون كونه والزمن كله في يده لا إله إلا هو؟ ومن ثم لا يضيع أي شيئ ولذلك هو لا يعجل –  غير عجول، فاستشعرت الراحة الحدأة فانطلقت، وهى في جو السماء مرت على قومٍ من الناس يشوون لهم على نارٍ لحماً، فهبطت وخالستهم واختطفت قطعة لحم ولم تفطن إلى جمرة كانت لا تزال لاصقة بقطعة اللحم، وجاءت بالقطعة ووضعتها في عُشها تزق بها أولادها، فاحترق العُش بما فيه وفقدت فراخها وعُشها، فانكسرت نفسها وابتأست وعادت إلى النبي الحكيم وقالت له أي نبي الله الأمر عجب، ألم تُخبِرني آنفاً بكذا وكذا؟ فقال بلى، قالت فقد حدث معي كذا وكذا، فقد عاجلني ولم يُمهِلني، وهذا ذنب صغير لأنني كنت أسترزق من أجل أولادي وفراخي، فناجى  ربه ثم عاد إليها بالجواب قائلاً: أيتها الحدأة يقول لكِ الله – تبارك وتعالى – إنه مهولٌ غير عجول، فهو حليم لا يعجل ولكن هذه ذنوب ٌ قديمة وقد آن وقت الحساب.

عندك يا حدأة يا غبية ذنوب بالمئات وبالألوف من قديم، والله يمهل ولا يعجل طيلة هذه السنوات لكن الآن قال قد جاء وقت الحساب، وهذا يحدث مع كثيرين من الناس ولا يتفطَّنون لا هم ولا غيرهم، وفي الحديث “السعيد مَن وُعِظَ بغيره”، وانظروا الآن إلى الحكم على حبيب العادلي، وهذا أول غيث العدل إن شاء الله، وطبعاً هذه التُهم فقط للتكسب بالمال العام واستغلال المنصب، فأين تُهم إطلاق الرصاص على الناس وقتل الشعب؟ هذه التُهم  فيها إعدام إن شاء الله تعالى، فنسأل الله أن يأخذ العدل مجراه فيه وفي سيده وأسياده، فالله أمهلهم وترك لهم الحبل على الغارب، ولا يُوجَد طبعاً حبل على الغارب عند الله، وإنما يُوجَد إمهال ومكر إلهي وإملاء عنده لا إله إلا هو، قال الله وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۩، فالآن – سبحان الله – أخذهم أخذ عزيزٍ مُقتدِر، فصاروا في التحوت بعد أن كانوا في السماك الأعلى، بل صاروا تحت التحت وأدون من الدون، فنسأل الله أن يُكرِّر عبرتهم وعظتهم في كل طواغيت العرب في سوريا واليمن والبحرين وفي كل مكان، فهم لا يتورَّعون من قتل شعوبهم ولا من هذه الذنوب الفظيعة، فهؤلاء أبالسة فعلاً، فإذا أردت أن تنظر إلى إبليس من البشر فلتنظر إلى هؤلاء الحكّام الطواغيت، فهؤلاء أبالسة حقاً، ونحن لم نر يوماً إبليس يخرج ويقتل الناس لأنه لا يملك هذا السُلطان –  ليس له سُلطان أصلاً – ولكنننا رأينا هؤلاء وعشنا معهم خلال عشرين سنة وثلاثين سنة وأربعين سنة ووجدناهم يذبحون شعوبهم وينتهكون أعراضهم ويستبيحون دماءهم وأموالهم ويُصادِرون حرياتهم، فهؤلاء أبالسة حقيقيون.
نحن في النهاية نرى أن خُطة القرآن وتصوير القرآن الكريم للشخصية الشيطاينة أو للشخصية الإبليسية هى أصح تربوياً وأثقل في الميزان، أي ميزان المُقارَنة والمُكافأة، ولكن كيف هذا؟!

أولاً: هذه الخُطة لا تترك لأحدنا هامشاً وسيعاً طويلاً عريضاً يتحرَّك فيه مُتنصِّلاً من تبعات أفعاله وعواقب ولوازم اختياراته، فلا يُمكِن أن يقول “لست أنا المُذنِب – والله – وإنما الشيطان، فالشيطان أغواني يا أخي، لعنة الله على الشيطان”، هذا لا يُمكِن أن يُقبَل، فعن أي شيطان تتحدَّث؟ الشيطن ضعيف، ألا تقرأ كتاب الله؟ كم مرة نسب الله – تبارك وتعالى – أفعالك إلى الشيطان؟ لم يحدث هذا أبداً، بل أن الله قال فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ۩ وقال أيضاً مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، فالفعل يُنسَب إليك أنت، لأن هذاعملك وفعلك، وهو فقط كان له التزيين وأنت قبلت هذا لفساد مزاجك، فمزاجك – والعياذ بالله – غير صحيح وغير سليم.

بعض الناس تكون عنده الزوجة الحسناء التي يتمناها الملك من الملوك – والله العظيم – ولكنه يزهد فيها ولا يُحِبها بل ويبحث عن القذورات ويدفع فيها الأموال، لأنه قذر النفس ولأن مزاجه مُختَّل، وهذا الذي أُريه النبي في المشهد العُلوي في شكل رجال يتركون اللحم الطيب النظيف، فتعافه نفوسهم – يعافون اللحم الطيب الهنيء الزكي – ويأتون إلى لحم أسود مُنتِن خبيث فيأكلونه ويمضغونه، ولذا سأل النبي قائلاً مَن هؤلاء يا جبريل؟ أي مَن هؤلاء البشر؟ فقال جبريل هؤلاءِ أناس – والعياذ بالله – من أمّتك – هؤلاء ليسوا فقط يهوداً أو نصارى أو هندوساً أو غير ذلك، وإنما هم من أمة محمد يا حبيبي، ومن المُمكِن أن يكونوا من المُصلين في المساجد، ومع ذلك يتركون الشيئ الطيب ويذهبون إلى الشيئ الخبيث لأن يلذ لهم الخبيث – يتركون الحلال فلا يطْعمونه ويأتون الحرام الخبيث فيأكلونه وهُم الزناة، وأنا أقول له لمَن يفعل هذا “أنت مسكين يا أخي، اذهب وتعالج روحياً، ابك على نفسك ليل نهار لأن فيك مُشكِلة نفسانية وروحية”، فهذه نفس خبيثة، وإلا كيف تعاف الطيب ويلذ لك الخبيث الذي يُغضِب الله – تبارك وتعالى – ويُنتِن جهنم؟! فالزناة تُنتِن منهم نار جهنم  – والعياذ بالله – لأن النار لا تُطهِّرهم، ومع ذلك تجد مثل هذا الخبيث – رجلاً كان أو امرأة – يستسهل الزنا.

يكون عند الواحد منهم المائة ألف لكنه يستقلها ويرى في يد أخيه عشرة قروش فتهوله وتروعه ويُريد أن يغلبه وأن يُخادِعه عليها، فما هذا الخبث وهذا الطمع وهذا الجشع وهذه النفس الحقيرة؟ ما هذا؟ هذا لا يشبع حتى لو أتاه الله الدنيا بما فيها ومعها أمثالها، فهذه نفس مريضة مُعتَّلة لأنه لم يُربّ نفسه تربية إيمانية ثم يتنصَّل في اللحظة المُناسِبة من أفعاله.

قرأت مرة لأحد الأذكياء أنه يقول “الشيطان يرى أعظم انتصارٍ له حين لا يُرى على المسرح وحين يُظَن غيابه بالكامل، فيُقال الشيطان غير موجود ونحن فقط الموجودون”، وأنا أقول هذا فهمٌ سليم وصحيح إذا تعلَّق الأمر طبعاً بالإنجاز أو بما يُظَن إنجازاً وكسباً وإيجابية ونجاحاً، فتجد أن أحد هؤلاء البشر يقول لك إذا ظهر شيئ على أنه إنجاز وكسب رغم أنه شيطنة وأبلسة أن هذا منه ومن ذكائه وأنه هو الذي خطَّط ورسم لأنه كان ذكياً، وفي الحقيقة هو كله من تسويل وتزيين الشيطان، فالشيطان هو الذي زيَّن له هذا، ولكن الشيطان يسره جداً ألا يظهر، ويرى نفسه مُنتصِراً حين يغيب لأنه خبيث وعنده إخلاص حقيقي في الشر، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فإخلاصه في الشر مثل إخلاص المُؤمِن في الخير، فالمُؤمِن يتصدَّق بصدقة – مثلاً – ولا يُحِب حتى أن تعلم شماله ماذا أنفقت يمينه، فلا أحد يدري بها، لا زوجته ولا أبوه ولا أمه ولا الذي تصدَّق عليه، لا أحد يدري مَن الذي تصدَّق أو مَن الذي عمل هذا الخير، فيفرح المُؤمِن ويرى أن هذا انتصاراً له، لكن المُؤمِن المرائي ضعيف الإيمان يغضب ولا تسعه الدنيا إذا لم يُنسَب إليه الفضل، فيقول هذا المسكين: كيف يا أخي لا أُكرَّم وأنا الذي سوّيت وأنا عملت؟  ونحن نقول لهذا الشخص إذن أنت تعمل للدنيا، فأنت أنت بارئ من الإخلاص، لا يُوجَد عندك إخلاص ومن ثم أنت لا تعبد الله وإنما تعبد نفسك يا مسكين، وأنت في أول مَن تسعَّر بهم نار جهنم يوم القيامة كما في الحديث في صحيح مسلم.

هذا هو، فالشيطان مُخلِص حقيقةً في الشر، وبالتالي لا يهمه أن يظهر ولا يهمه أن يُعزى إليه أي فضل، بل يُسعِده جداً أن تعزو نجاحه إليك فتقول هذا نجاحي أنا، وهو سوف يُصدِّق على كلامك ويقول فعلاً هذا نجاحك أنت، فالمُهِم هو أن تُمعِن في هذا الطريق حتى تهلك.

وأنا أقول أيضاً تعقيباً على هذه الجُملة من طرفٍ آخر “والشيطان يرى انتصاره الأعظم أيضاً بالمُقابِل حين لا  يُرى على المسرح إلا هو، وذلك حين نغيب نحن ولا يُرى إلا الشيطان، فيُقال الشيطان فعل والشيطان عمل والشيطان دبَّر ونفَّذ، لكن ذلك يحدث إذا تعلَّق الأمر ليس بالإنجاز والمكسب وإنما بالشر وبالضر وبالمُصيبة وبالفشل، ومن هنا تجد مَن يرتكب الشرور ويقول لك “ليس أنا مَن فعل وإنما الشيطان، فالشيطان يتحمَّل تقريباً تسعة وتسعين في المائة من الجُرم، لكن أنا عبد مقهور تسلَّط عليه بمكره العجيب القوي”، وهذا غلط طبعاً، والشيطان هنا أيضاً يُسعِده أن تنسب فعلك إليه، لأنه في نهاية المطاف يوم القيامة لن يتحمَّل عنك وزرك –  لعنة الله تعالى عليه – وسيقول لك سأحمل مثل وزرك، وصحيح أن الله سيُحمِّله مثل وزرك لكن أنت أيضاً سوغ تحمل وزرك فلا تتنصَّل!

إذن القرآن يُقلِّل من تدخل إبليس ومن مُدخَلية إبليس ويُعطيه دوراً استثنائياً وهو دور الخداع والتزيين والتسويل، وهذا دور ضعيف حقير لكن هذا هو دور إبليس وليس أكثر من هذا، والاستعاذة من قلب مُخلِص ومُرتبِط بالله تطرده إلى مبعدة – بإذن الله – وتُخسئه مخسأ الكلب – أكرمكم الله وأكرمكن – ومن ثم لا يبقى لك هنا إذن أي هامش وسيع عريض لكي تتنصَّل من تبعات أعمالك فتنسبها للشيطان، لكن هنا سوف تقف أنت مُباشَرةً إزاء نفسك لكي تُحاسِبها!

الإمام ابن الجزري يحكي قصة عن أحد الصالحين تقول بأنه كان كل ليلة قبل أن يضع رأسه على الوسادة يُخرِج صحيفة ويكتب فيها ماذا فعلت اليوم وماذا أحسنت ووماذا أسأت، ويقول قد أسأت في جنب الله في كذا وأسأت في جنب العباد في كذا وعملت كذا كذا كذا، فأستغفر الله على ما فعلت، أي أنه يعتذر ويُصلِّح ويُعيد الحقوق إلى أصحابها، فيعتذر من الناس ويستسمحهم كل يوم.

يقول ابن الجزري: فتُوفيَ إلى رحمة الله فرآه أحدهم في المنام فقال له يا فلان ما فُعِلَ بك؟ فقال أوقفني تبارك وتعالى بين يديه وقال لي يا عبدي كفيتني حساب نفسك اليوم بما كنتُ تُحاسِبها في الدنيا فادخل الجنة.

يقول عمر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن، فانه ما يخفف على العبد الحساب يوم القيامة أن يكون حاسب نفسه“، وهذا الرجل الذي ذكر ابن الجوزي قصته كان يُحاسِب نفسه كل يوم، أما الشياطين – تحديداً شياطين الإنس – فلا والله لا يُحاسِبون أنفسهم، لأن لديهم ضمير مطاطي مُتسِع عجيب، فضميرهم أوسع من الهرم وأوسع من الدنيا، فتجد الواحد منهم يُبرِّر كل شيئ إذا سرق وإذا كذب وإذا قتل وإذا غش وإذا حقد وإذا انتقم وإذا كفر، فكل شيئ مُبرَّر عنده، ودائماً هو على صواب وأنت على خطأ، ودائماً هو على حق وأنت على ضلال، فدائماً هو المُحِق والقدر هو المُبطِل، فالله – عز وجل – هو الذي يُعاكسِه، أما هو فهو مظلوم وضحية ومسكين رغم أنه يفعل كل شيئ خاطيء لكنه يكذب على نفسه.

والله من أحوج ما يحتاجه الواحد فينا أن يكون صادقاً مع نفسه، يا ليت أن الله – تبارك وتعالى – يمنّ علينا جميعاً بهذا الضمير اليقظ الصاحي أو الصاحي اليقظان الذي يقول لكل واحد منا: هذا حق وهذ باطل، أنت مُبطِل هنا، أنت كذَّاب، أنت فعلت هذا وهذا ليس لله وليس للدين بل انتصاراً لنفسك، أنت فعلت هذا غشاً ولم تفعله نصيحةً، أنت فعلت هذا حقداً وحسداً ولم تفعله انتصاراً للحقيقة وللعدالة، فلماذا تكذب على نفسك؟ لم تكذب إذن؟

يا الله، لو منَّ الله على الواحد منا بمثل هذا الضمير فأنا أقول لكم أن هذا سوف يقطع الطريق إلى الله بخُطوتين، فبخُطوتين سوف يصل الواحد منا إلى رب العالمين لا إله إلا هو.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنّ علينا بتعريفنا بنقصنا ودغائلنا ودخائلنا، اللهم طهِّر ضمائرنا وقدِّس سرائرنا ونوِّر أبصارنا وبصائرنا واهدنا بهداك واجعلنا مِمَن خافك ورجاك برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

سُئل الحسن البصري يوماً: يا أبا سعيد هل ينامُ إبليس؟ فقال لو نام لاستراح الناس، علماً بأنني لستُ مع هذه القولة وأيضاً لعلها لا تصح، لكنه على كل حال قال “لو نام لما لاستراح  الناس“، وهذه القولة تعكس الصورة الخاطئة لإبليس، وهى أن إبليس هو المسؤول عن تسعين في المائة من أخطائنا ومن جرائمنا وهذا غير صحيح، هو مسؤول ولكن بنسبة أقل من هذه بكثير، فالمسؤول الأعظم نفوسنا الخبيئة، قال الله وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ۩، إذن الله قال النفس، وتقول الآية الكريمة أيضاً وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، فاللهم ارحمنا برحمتك الوسيعة، وقال الله أيضاً فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ۩، إذن المُشكِلة في النفس يا أخي، فأين النفس؟ لا تقل لي “لو نام إبليس لاستراح الناس”، فالناس لا يستريحون لأن الناس هم الناس، فيهم الخبث والكبر والدجل وهذه الصفات السيئة التي لا يُطهِّرها إلا الصلة الحقيقية بالله – تبارك وتعالى – ومحبة الله وخوفه ورجاؤه، فالمرء يحتاج إلى عقل كبير لكي يكون من الأتقياء، ولذلك نفى الله العقل عن كل مَن عصاه، فكل مَن عصى الله لا عقل له حتى ولو كان ما شاء الله يحمل مائة جائزة نوبل Nobel، والله العظيم لا عقل له لأن كل مَن عصى الله جاهل منزور العقل، ومَن أطاع الله ودبَّر أمره بهُدى الله هو العاقل وإن كان أمياً لا يفك الخط، فهذا هو العاقل لأنه يمهد لنفسه سعادةً أبدية، وذاكم أحمق غافل حتى ولو كان حاملاً لعشرة جوائز من نوبل Nobel – هذا لو وُجِدَ مثله أصلاً – لأنه يحفر ويُعمِّق حفرته في جهنم والعياذ بالله، فهذا من أحمق عباد الله، فإما سعادة أبدية وإما شقاء أبدي، فأين العقل؟ قال الله اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩.

إذن النفس، لابد أن نعود باللائمة على النفس، ولذلك أقسم الله بها حين قال وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩، فهذه أقسم الله بها تبارك وتعالى، وَلا ۩ هنا زائدة، لكن الله يُقسِم بها لمكانتها ولمثابتها عنده تبارك وتعالى، فالنفس اللوَّامة هى الضمير اليقظان الصاحي.

إخواني وأخواتي:

قبل أن اُغادِر هذا المقام الكريم اُحِب أن أُعلِّق لأن بعض الناس ربما يُريد أن يستمع تعليقاً على استشهاد الشيخ أسامة بن لادن.

أولاً: الرجل أفضى إلى ربه – تبارك وتعالى – ولا يجوز لأحد أن يتحكَّم في مصيره وأن يُغاصِب الله صلاحياته لأن هذا أمر الله تبارك وتعالى، ومن ثم هذا لا يعنينا !

ثانياً: لا يعنينا أن ندخل في نقاش بيزنطي عقيم فنتساءل هل قُتِل أم لم يُقتَل وهل ما حدث كذب أم صدق وهل هو قُتِل في العام الأخيرة أم مات قبل سنة أو سنتين بالفشل الكلوي وإلى آخره، فهذا نقاش بيزنطي ولا يعنينا، ومن غير المُفيد أن نعرف الحقيقة بخصوص هذا الموضوع!

الذي يعنينا أن أسامة بن لادن وأتباعه وقاعدته لم يتحصَّل من ورائهم ومن وراء سعيهم للأمة خير، بل كل ما تحصَّل الآن للأسف الشديد ضرٌ كبير لحق بهذه الأمة، فذهب العراق منا وأفغانستان إلا قليلاً تقريباً، فوقعت حروب ومجازر، وحدث تأليب للمسلمين بعضهم على بعض، فضلاً عن ما وقع من مآسي أيضاً وأعمال مُستشنَعة مُستبشَعة، وهذه أعمال إرهابية فلابد أن نكون واضحين، لأن اتخاذ المدنيين العزل هدفاً من أجل خدمة أيدولوجية وأهداف سياسية هو إرهاب لا يسمح به لا الله ولا رسوله ولا الشرع ولا المُقسِطون من بني البشر، فهذا هو الإرهاب إذن وإلا ما دخل هذا المدني أياً كان؟ فالمدني لا يُقاتِل ولا يُمكِن أن تأخذه في طريقك لتُحقِّق به هدفك، فهذا هو الإرهاب إذن، علماً بأن هذا هو القدر المُتفَق عليه في تعريف الإرهاب، وهناك أشياء إشكالية مُعقَّدة غير مُتفَق عليها، لكن هذا القدر كل العقلاء يُسلِّمون به، فأخذ مدني في الطريق من أجل أن تُحقِّق أهداف سياسية يُعَد إرهاباً.

وهذا الإرهاب الذي حدث في أكثر من عاصمة في الغرب للأسف كانت نتيجته هى أن شاهت صورة الإسلام وتأخَّر الإسلام وصار الكل يتطوَّع وينتدب نفسه لكي ينصح للمسلمين ولكي يقول لهم كيف عليكم أن تفهموا الإسلام وكيف عليكم أن تُجدِّدوا دينكم وكيف عليم أن تُصلِحوا أمن أوضاعكم وكيف عليكم أن تُعيدوا النظر في كتابكم وسُنتكم، ثم قالوا ما رأيكم في أن نُؤلِّف لكم قرآنا جديداً نُسميه الفرقان الحق وسوف يكون أحسن لكم من هذا الكتاب الذي خبَّلكم هذا التخبيل؟ وهذه حماقات وقباحات ورقاعات وسخافة والعياذ بالله، فالكل بدأ يتطوَّع ويتكلَّم بإسم أنه الهادي للمسلمين، مَن يُحسِن ومَن لا يُحسِن، ومَن يعرف ومَن لا يعرف، وكأن المسلمين أمة من الحمقى وأمة من القصَّر وأمة من الأغبياء، ونحن لسنا كذلك، لم نكن كذلك ولسنا كذلك أبداً بفضل الله تبارك وتعالى، لكن للأسف:

 وَجُرْمٍ – أي رب جُرمٍ – جَرّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ          وَحَلّ بغَير جارمِه العَذابُ

ولذلك التقييم النهائي هو أن مسعى القاعدة وأعمال القاعدة لم تُفِد الأمة حقيقةً بل أضرت بالأمة كثيراً، وواضح الضرر طبعاً، فضلاً عن أنها أُخَّرت القضية الفلسطينية وعقَّدتها وأزَّمتها، ولكن بالمُقابِل – وهذا من لطف الله تبارك وتعالى ومن مكر الله الكريم الطيب بهذه الأمة وصُنعِه لها – جاء مقتل الشيخ أُسامة في الوقت الذي أثبتت فيه الشعوب قدرتها على التغيير والإصلاح وتعديل الوجهة والمسار بأقل الأثمان وذاتياً تقريباً، إذن نحن نستطيع أن نقوم بهذا، فما كان على ابن لادن أن يسعى في إحداثه وإنجازه ألف سنة ولن ينجح نجح فيه الشعب التونسي في أسابيع وكذلك نجح الشعب المصري في أسابيع وإن شاء الله سوف ينجح الليبي، وهو نجح تقريباً لأن ثلاث أرباع الطريق قُطِعَت، وإن شاء الله ينجح الشعب السوري – بإذن الله – والشعب اليمني والبحريني وكل المظلومين وكل المُضطَّهدين سوف ينجحون – بإذن الله تعالى – لأن لهم الحق في هذا، فللشعوب الحق أن تحكم نفسها بنفسها!

واليوم ثلاثة – ليبيا وسوريا واليمن – دول من بين ستة دول في العالم لا تزال تحكم حكماً عسكرياً، فما شاء الله نصيب الأسد – نصيب الأسد وليس بشار الأسد – عندنا وعند الأمة العربية التي لا يزال يحكمها مجموعة عساكر، وهذه مهزلة علماً بأن هؤلاء العساكر هم الذين يأكلون أيضاً مُوازَنات الدولة تقريباً، ففي سوريا ما يُنفَق على الجيش أكثر مما يُنفَق على التربية والتعليم والصحة والخدمات، فما هذا الجيش أصلاً؟ ولماذا هذا الجيش ما شاء الله الذي لم يُحرِّر الجولان ولكن احتل درعا؟ فهذا الجيش احتل درعا كما يُقال وهذا يدل على حجم العار الموجود، فما شاء الله على جيش المغاوير هذا، فهؤلاء المغاوير يحتلون شعبهم ويحتلون العزل أمثالنا ولكنهم في ذات الوقت أشاوس وأبطال، والعزل يتحدَّون هذا العار والنار ويرسمون طريق الشرف ومهيع الكرامة، في حين أن هذا ما شاء الله يقول أنه احتل درعا ثم انسحب من درعا أمس، ولكن الجولان مُحتَلة، فهل استعدت جولانك؟!
هو لم يستعد الجولان وإنما احتل درعا، وهذه مهازل ومساخر، فصرنا نعيش فعلاً في مساخر حقيقة كما أُسميها ومُفارَقات لا تنسلك في ذهن مُحترَم، ولكن الحمد الله.

إذن – بإذن الله – نحن نأمل أن ينتهي دور القاعدة وعهد القاعدة وأيدولوجية القاعدة وأن نشرع في دور جديد للأمة وللجماهير وللشعوب بإذن الله تبارك وتعالى، فهذه الجماهير لا تُعلَّم بل هى التي تُعلِّم، هذه الجماهير هى التي تصنع التاريخ وتفرض اللحظة وتكتب التاريخ – إن شاء الله – قريباً بما يُشرِّفها وبما يجعلها تقتعد ثانيةً تحت الشمس في المكانة التي تليق بها وهى جديرة بها.

(6/5/2011)

http://fb.me/Dr.IbrahimAdnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: