إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ۩ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۩ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ۩ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۩ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
بعض ما سمعنا من آيات الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن ننعته بالشيفرة، لو أحسنا فكها والتعاطي معها لفهمنا معاضل أو مُعضِلات كثيرة تبدو لمَن لم يتسَّلح بالرؤية القرآنية ووصلاً مع الخُطبة السابقة بالرؤية الكونية المُؤسَّسة على هذا الكتاب العزيز بلا حل، وهذا أصلاً معنى المُعضِلة، ما يُحَل لا يُسمى مُعضِلة، المُعضِلة هى المُشكِلة التي لا تجد حلاً، ولذا تُسمى مُعضِلة، فما قد يبدو لغير المُسلِمين مُعضِلات يُمكِن أن يُحَل ببساطة بهذه الآية أو بتلك أو بتلك أو بتلك، والقرآن يشتمل على مئات الآيات التي لا أقول تُساهِم وإنما تُقدِّم حلاً شبه مُتكامِل، أما إذا أُوخِذَت في مجموعها وسياقاتها فهو حل تام كامل من جميع الوجوه.
هذه التقدمة كان لابد منها بين يدي الحديث عن مُشكِلة تطرقت إليها عبر السنين غير مرة ويتطرق إليها غيري الألوف من أهل الفكر والذكر من المُسلِمين وغير المُسلِمين، بل في العقود الأخيرة بحسب بعض الإحصائيات كُتِبَت دراسات علمية – ليس بمعنى العلم، أي الـ Exact science، العلم بالمعنى الألماني Wissenschaft، حتى العلوم الإنسانية كلها تُعتبَر علوماً لكن ليس بالاصطلاح الأنجلو ساكسوني – ناهزت الخمسة آلاف دراسة عن هذه المُشكِلة وحدها، ألا وهي مُشكِلة الشر.
أنطوني فلو Antony Flew في كتابه الشهير هناك إله أو يُوجَد إله ذكر أن مُعظَم المُلحِدين المُعاصِرين إنما ألحدوا على هذه الخلفية، لا بسبب أنهم لم يجدوا براهين منطقية أو فلسفية مُقنِعة على وجود الله تبارك وتعالى، وإنما بسبب الشر الذي يسمح به الله إن وُجِد في هذا العالم، لم يسمح بكل هذا الشر؟ شرٌ ومُعاناة وعذابات لا تُحتمَل، مايكل روز Michael Ruse فيلسوف تطوري كبير ورجل راسخ في ميدانه وهو مُلحِد – أحد الملاحدة المشاهير في عصرنا – قال لم أُلحِد لسببٍ آخر، ألحدث فقط لهذا السبب، لأنني لم أجد حلاً لمُعضِلة الشر في العالم.
الشاعر الألماني الذي مات في شرخ شبابه عن أربع وعشرين سنة جورج بوشنر Georg Büchner كتب يقول مُشكِلة الشر هى صخرة الإلحاد التي يتحطَّم عليها كل طرح إيماني وكل طرح تأليهي، إذن هي مُشكِلة كبيرة جداً، ومن هنا القرآن العظيم إذا أنعمنا النظر فيه تعامل معها عبر عشرات الآيات مع مُشكِلة الشر، أنا لم أحص ولذلك لن أُجازِف وأقول مئات ولكن حدث هذا عبر عشرات الآيات، وقد يكون الأمر يتعدى ذلك إلى المئات، الأمر يحتاج إلى دراسة دقيقة استقصائية، لكن عبر عشرات الآيات – هذا مقطوعٌ به – تعامل مع مُشكِلة الشر، لا يكاد يُوجَد جوابٌ طوَّره أو بلَّوره فيلسوفٌ أو لاهوتيٌ أو مُفكِّر إلا والقرآن سبق إليه وكثَّفه بطريقة مُعجِبة جداً جداً، وطبعاً نحن كمُؤمِنين – بفضل الله تبارك وتعالى – نقطع أن الله موجود، يُمكِن أن نشك في وجود أنفسنا ولا نشك في وجوده لا إله إلا الله، بعض الناس يشك في وجود نفسه، وهذه حالات من الاختلال العقلي، لكن لا يُمكِن أن تشك في وجود كل هذا الكون بما فيه بكل غناه، أنت تشك لكن غيرك لا يشك، على كل حال نحن كمُؤمِنين نقطع بوجود الله – لا إله إلا هو – ولا نتردد – وله الحمد والفضل والمنة – ونسأله أن يُثبِّتنا على هذا وأن يزيدنا وأن يكشف عن أعين بصائرنا كل غشاوة وكل حجاب وإلا فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، اطلب تجد كما قال عيسى عليه السلام، ومعنى أنه أقرب إليك من حبل الوريد أن له حضوراً غلّاباً يُمكِن أن تجده بسهولة، لكن لماذا لا تفعل؟ لماذا لا تجده؟ العلة من القابل لا من الفاعل، لأنك أنت المحجوب، هو لا يحجبه شيئ، هو أكبر- الله أكبر، نعود مرة أخرى إلى الله أكبر – من أن يحجبه شيئ، ما عساه ذاك الذي يحجب الله؟ أعوذ بالله، وهو أظهر من كل شيئ، لكن أنت المحجوب، عين البصيرة عندك مُغشَّاة مُغطَاة، عليها حجاب الهوى وحجاب المعصية وحجاب الكبر وحجاب الاستعلاء وحجاب اللدد، كاللدد في الخصام، بعض الناس يُضحّي بحياته الأبدية ويُضحّي حياته بعقله واتساقه المنطقي في سبيل أن يبقى مُصِراً أن على موقفه الإنكاري الجحودي الإلحادي إزاء فلان وفلان مِمَن تصدوا له، لكن المسألة أكبر من هذا بكثير، والعاقل لا يفعل هذا بنفسه، على كل حال المُؤمِنون يلسمون هذا الحضور في مُناسَبات كثيرة جداً جداً، هناك صنف من الأدلة يُمكِن أن ندعوه بالأدلة شديدة الخصوصية، الأدلة التي تُطلَب في المُجادَلات اللاهوتية والفلسفية والفكرية عموماً أدلة عمومية، يُمكِن لأي أحد أن يُعيد النظر فيها من جديد وأن يُقوِّمها ويُقيِّمها ويُعطي رأيه فيها، هذه أدلة عمومية، وهذه من طابع عقلي وطابع علمي واستنتاجي واستنباطي واستقرائي وإلى آخره، لكن هناك أدلة شديدة الخصوصية، ليس من شأن الآخرين أن يُعيدوا النظر فيها، هذه لي، هذا دليلك، هذا دليلها، وهى دلائل التجارب الشخصية التي يمر فيها الإنسان ولا يُمكِن أن يقطع أحد بصحة هذه التجربة وحصولها ووقوعها إلا الذي مر فيها، لكن إن سلَّمنا وقوعها فهذه التجربة مع تسليم وقوعها بطريقة الاستنتاج العقلي المنطقي الاتساقي ترفع احتمال وجود الله بدرجات هائلة جداً حتى في نظر المُشكِّك، ولذلك هذه الأدلة مُهِمة جداً، ولذلك قضية الإيمان – جوهر قضية الإيمان – ليست قضية معرفة وفكر مُجرَّدين، قضية الإيمان قضية اقتراب من الله، قضية اختبار، قضية عيش كما نقول دائماً، أليس كذلك؟
يا سيدي في العلاقات بين البشر وفي العلاقات بين المُحِبين وبين المُتآلِفين ليس المطلوب التنظير، ليس المطلوب التفسيرات، ليس المطلوب الشروحات، المطلوب ماذا؟ الحضور، أليس كذلك؟ أن أشعر بك عاطفياً وأن تشعر بي، هذا هو المطلوب وليس التنظيرات والفلسفات، فما بالكم بالعلاقة مع رب العالمين – لا إله إلا هو – الذي يُمثِّل كل شيئ وهو مصدر كل شيئ وآخر عزاء وآخر أمل وأعظم أمل وأعظم عزاء أيضاً؟ قضية حضور، هل يحضر الله في حياتك أم لا يحضر؟ هل تعيش هذه الحالة الحضورية أم أنت محرومٌ منها؟ هذا هو الإيمان، ولذلك أمثال هؤلاء العارفون – اللهم اجعلنا من العارفين – لا يُمكِن أن يُجادَلوا، لا يُمكِن أن يُزعزِعهم أو يُزلزِل إيمانهم وبالتالي يهز عالمهم الروحي أكبر فيلسوف مُلحِد وأكبر عالم مُلحِد، هذا مُستحيل، وهم يسخرون من هؤلاء ويبكون لهم ولأجلهم ويرثون لأحوالهم وحُقَّ لهم، حُقَّ لهم أن يبكوا وأن يرثوا لهؤلاء المحرومين الذين لم يعيشوا حالة الحضور، لكن لن أستطرد في هذه المسألة.
إخواني وأخواتي:
سأتحدَّث عن مُشكِلة الشر باختصار، طبعاً لا نستطيع – هذا مُستحيل – أن نعمل سكيتش Sketch عام أو أخطوطة عامة لكي نتناول فيها هذه المُشكِلة من جميع جوانبها، هذا يستحيل، أنا أُريد فقط اليوم أن أُدلي ببعض الإيقاظات والإلماعات لعل في بعضها جدة وطرافة فقط، لكن باختصار حتى تكونوا في الصورة – كما يُقال – أقول مُشكِلة الشر عبر التاريخ تمثَّلت في جانبين أو في صورتين وشكلين، الصورة الأولى هى المعروفة بالمُشكِلة أو بالشكل المنطقي لمُشكِلة الشر، تماماً كما عرضها الفيلسوف المُشكِّك المُلحِد إبقيور Epicurus، علماً بأن العرب يُسمونه أبيقور، إبقيور Epicurus قال لا يُمكِن أن يُوجَد الله والشر معاً في الوقت نفسه، هذا مُستحيل، إما أن الله موجود وبالتالي غير موجود الشر، لكن في الواقع الشر موجود ونُعاني منه، إذن فالله غير موجود، يُوجَد عدم اتساق منطقي كما يقول إبيقور Epicurus – هذا معنى كلامه – بين افتراض وجود الله كُلي الخيرية والصلاح والمحبة – أي كُلي الصلاح والمحبة كما يقول النصارى، المُحِب الأعظم والمُحِب الكُلي – وكُلي القدرة والعلم والمعرفة وفي نفس الوقت كل هذا الكم من العذابات والمرائر والشرور في العالم، هذا مُستحيل، هو يرى أن المسألة غير مُتسِقة منطقية، لكن هذه مسألة سهلة تصدى لها اللاهوتيون وتصدى لها المُؤلِّهون أو المُؤِّلهة من شتى الأديان وخاصة السماوية الثلاثة وأثبتوا عكس هذا، قالوا هذا كلام غير صحيح، ليس هناك أي تناقض منطقي بين افتراض وجود الله والتسليم بوجود الشر في الوجود أبداً، ولذلك لن تجد تقريباً الآن فيلسوفاً مُعاصِراً مُلحِداً يتشبَّث بهذا المنظور، لا تُحدِّثني عن دوكينز Dawkins، دوكينز Dawkins ليس فيلسوفاً، هو رجل عالم وللأسف استخدم العلم بطريقة أيدولوجية ليُبشِّر بإلحاد سخيف ضعيف جداً من ناحية فلسفية باعتراف الفلاسفة الملاحدة الآخرين، الرجل ليس فيلسوفاً، لا يعرف ما هى الفلسفة الحقة، لا تُحدِّثني عنه، لكن لن تجد فيلسوفاً مُلحِداً لا يزال يتشبَّث بهذا المنظور، كأن يقول لك يُوجَد عدم اتساق منطقي بين افتراض وجود الله وبين وجود الشر، غير صحيح، هذا الآن انتهى حتى عند الملاحدة، هذه القضية ضعيفة جداً، لكن هذا مُمكِن جداً، مُمكِن جداً أن الله موجود والشر موجود، على أساس ماذا؟ على أساس أن هناك احتمالية ما – لن نقول عُظمى أو صُغرى – أن هذا الإله لديه أسبابه التي لا نفقهها والتي لا نُدرِكها والتي تُبرِّر وتُسوِّغ وجود الشر في الكون، أم ليس مُمكِناً؟

أنا سأُبسِّط هذا، علماً بأنهم تراجعوا عنه هذا، لا يُمكِن لفيلسوف مُلحِد يحترم عقله أن يتشبَّث بالوجه المنطقي لمُشكِلة الشر، هذا كلام فارغ، لا يُمكِن أن يستشهد بأبيقور، هذا كلام فارغ وقد انتهى وإلا كيف يُستشهَد بكلام أبيقور الآن؟ هذا لا يُمكِن، في علم الكلام الإسلامي وفي الأدبيات الإسلامية عموماً عبارة جميلة جداً وبسيطة لكنها عميقة تماماً تقول عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، أنت بحثت فلم تجد، هل هذا يعني أن المبحوث عنه غير موجود في الواقع؟ لا، هذه الحُجة عبَّر عنها الفيلسوف اللاهوتي المُعاصِر الكبير ألفين بلانتنجا Alvin Plantinga بطريقة مجازية جميلة تُوضِّح عمق هذا التكثيف وهذا التصريح، قال لو أن شخصاً يعيش في خيمة صغيرة – خيمة ثلاثة في اثنين مثلاً – وذهب يبحث فيها عن سان برنار Saint Bernard – أكرمكم الله هذا نوع من الكلاب ضخم وذكي جداً – فإنه في لحظات فقط سينظر هكذا حوله ويقول سان برنار Saint Bernard غير موجود، لا يُوجَد في الخيمة سان برنار Saint Bernard، قال وهذا صحيح، هذا النفي منطقي، هذا مقبول منطقياً، لكنه لو ذهب يبحث عن نوسيوم No-See-Um – نوع من الحشرات الضئيلة جداً تتراوح في طولها بين الواحد والأربعة ملليمتر ولكم أن تتخيَّلوا هذا، عُشر السنتيمتر، صغيرة جداً جداً، وهى تُؤذي وتُسبِّب مشاكل كبيرة حين تدلغ الإنسان، نوسيوم No-See-Um لدغتها أكبر بكثير من حجمها – ولم يجدها ثم قال لا يُوجَد نوسيوم No-See-Um في هذه الخيمة فإن نفيه يكون غير منطقي بالمرة ولا نثق به، وهذا صحيح، لماذا فقط هناك النفي منطقي وهنا النفي غير منطقي؟ لأن المبحوث عنه أدق من أن يُرى بالعين بسهولة، صعب جداً أن تراه بالعين، صغير بل صغير جداً ويُمكِن أن يختفي في أي مكان ولا تراه، والآن يأتي سؤال، علماً بأن هذا نفس المعنى الذي عبَّر عنه العُرفاء الكبار وحتى المُتروحِنون من البوذيين وخاصة بوذية الزِنْ والعرفان الإسلامي حين قالوا المُحيط – البحر المُحيط أو الأوقيانوس كما يقولون – لا يُنضَح بفنجان، لا تستطيع بضربة فنجان واحدة أن تنزح المُحيط، هل تستطيع؟ مُستحيل، نفس المعنى الذي عبَّر عنه أحد أذكياء علمائنا الكلاسكيين – ذكي جداً – حين قال لمَن يُجادِله كلامي لؤلؤٌ دقيق الثقوب – لؤلؤ مثقوب ثقوب دقيقة صغيرة جداً، بالكاد يدخل فيها رأس الإبرة – وفهمك حبلٌ، كيف يتأتى النظم؟ انظروا إلى هذا الذكاء، قال كلامي لؤلؤٌ دقيق الثقوب وفهمك حبل، كيف يتأتى النظم؟ أنت عندك حبل، فهمك حبل تخين، كما تقول العامة اليوم مخه تخين أو ذهنه تخين، لا يُدرِك المعاني الدقيقة، لا يستطيع أن يُعالِج دقاق المعاني، يحتاج شيئاً واضحاً خشناً مادياً أمامه ويكون محسوساً، مخه غليظ فماذا نفعل له؟ السوريون يقولون مخه غليظ، هذا نفس الشيئ، وهذا كلام عميق جداً وإن كان لغة دارجة، هنا المعنى لا يُمكِن نظم لؤلؤه، أي لؤلؤ المعاني، لديك مائة حبة لؤلؤة مثقوبة كلها ويُمكِن أن تنظم والآن نُريد نظاماً، ما هذا النظام؟ سلك أو خيط ربما نصف قطره واحد على مائة من الملليمتر، هو هذا، لو عندك مثل هذ السلك يتأتى النظام، تنظم كل هذه الحبات في هذا السلك، هذا مُمكِن الآن، لكن أنت عندك حبل بعرض اثنين سنتيمتر، فكيف تنظم هذا اللؤلؤ؟ هذا لا يُمكِن، فإذن هذا نفس الشيئ، ونحن سنُعبِّر أيضاً بمجاز آخر جميل وواضح، لك الحق أو لنا الحق أن نعترض على الله – تبارك وتعالى – ونُشكِّك في وجوده – نعم لنا الحق فانتبهوا – استناداً إلى مُشكِلة الشر لكن بشرطٍ واحدٍ – قل هذا بكل ثقة – هو أن تُطوى المسافة الإدراكية الفهمية المعرفية العلمية بيننا وبين الله، نتساوى معه في علمه وإدراكه وحكمته وإحاطته، لابد أن تُطوى المسافة، إذا طُويَت المسافة بحيث أنك مُطلِع مُدرِك لكل ما هو مُطلِعٌ عالمٌ به – لا إله إلا هو – ثم وجدت بهذا العلم الذي طويت به المسافة بينك وبين الله – تبارك وتعالى – أن هذه الشرور مجانية وهذه الشرور عبثية وهذه الشرور غير ضرورية وهذه الشرور ليس لها ما يُبرِّرها عندك الحق حينها أن تقول هذا الإله غير موجود أو هذا الإله ظالم، وهنا قد تقول لي كيف أعمل مُقارَنة مع إله ويتضح أنه غير موجود؟ الفرضية أن يكون عندك مثل هذا الإله، هنا يأتي القرآن بعظمته مرة أُخرى، ولي خُطب في هذا الموضوع، هذا مُهِم جداً جداً، لأن بعض الأديان الأُخرى لا تُقدِّم مثل هذه الصورة المفهومية بالغة الدقة والحساسية عن الله تبارك وتعالى، القرآن قدَّمها وبشكل واضح، قال الله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩.

إذن هناك شكلان من أشكال مُشكِلة الشر، هناك الشكل المنطقي لها وشرحت عنه قليلاً، وهناك ما يُعرَف بالشكل الجوهري لمُشكِلة الشر، الشكل الجوهري لمُشكِلة الشر باختصار لا يربط بين وجود الله أو عدم وجود الله وبين مُشكِلة الشر على وجهٍ واحدٍ، وإنما يقول إذا افترضنا أن الله – تبارك وتعالى – موجود ثم رأينا بعد ذلك شروراً – وهذا ما نراه – كثيرة في العالم وفي الوجود فهذا لا ينفي – ليس بالضرورة أنه ينفي – وجود الله، لأن منطقياً لا يُوجَد اقتضاء، لا يُوجَد اقنضاء منطقي، إذن هذه خطوة تراجعية، ليس بالضرورة أن ينفي هذا وجود الله ولكن يُضعِف احتماله، وحتى يكونوا دقيقين لابد أن يقولوا يُضعِف احتماله لجهة بعض الصفات، أي بعض صفاته، يُمكِن أن يكون إله وهو جبّار وقاسٍ غير رحيم، قادر على أن يُوجَد العالم وأوجده بهذه القسوة، يُمكِن أن يكون الإله موجوداً ولكنه ليس الإله الذي حدَّثنا عنه أهل الأديان على أنه كُلي الخيرية والصلاح والمحبة والرحمة، نُشكِّك في هذا، لكن لن ننفي وجوده ضربةً واحدة، هذا أكثر معقولية، أعني هذا الموقف، على كل حال حتى نكون – كما قلت – في الصورة العامة نقول الآن المُؤلِّهة من الفلاسفة الإلهيين واللاهوتيين ردوا على الموقف الأول بما يُعرَف بالدفاع أو بالموقف الدفاعي، كل ما يُثبِت أن وجود الله يُمكِن أن يتسق منطقياً مع وجود الشر وبالتالي الموقف الإلحادي غير مُتسِق منطقياً وغير صحيح وغير مُتماسِك منطقياً لأنه توهَّم وظن أنهما لا يتساوقان منطقياً، هذا الموقف يُعرَف بالموقف الدفاعي، هناك موقف آخر رد به الفلاسفة واللاهوتيون على الوجه الآخر لمُشكِلة الشر وعلى الوجه الجوهري لمُشكِلة الشر، كيف سيكون الرد؟ بتقديم مُبرِّرات، إعادة تفسير للشر كما سوف نرى، سنُعطي إلماعات كثيرة، الشر – مثلاً – ليس وجودياً، الشر في جوهره شيئ عدمي، وشرحت هذا قبل سنوات طويلة وعدة مرات، الشر في جوهره أعدم، الله – تبارك وتعالى – لا يخلق الأعدام، الله يخلق فقط الموجودات، هو لم يخلق شراً، وإنما هي أعدام كالظلام، ما هو الظلام؟ انعدام للنور، الظل ظلام، أليس كذلك؟ هو ظلام طبعاً، تُوجَد بقعة نور أو بحر نور، إذا اعترض أي مُجسَّم – أي جسم – مُصمَت شعاع الضوء ينتج الظلام، حين يتم الاعتراض بالكامل ينتج ظلام تام، هو هذا، وكذلك الحال مع العمى، الله لم يخلق شيئاً إسمه العمى، وإنما العمى هو فقد البصر وعدم تهيؤ الباصرة لمُمارَسة الشهيرة الإبصار، هذا هو العمى، وكذلك الحال مع الجهل، الله لم يخلق الجهل، الجهل هو عدم العلم، وهلم جرا، هذه هى الطريقة، بعض الجوابات والتسويغات قالت الشر إضافي ونسبي، هو ليس مُطلِقاً وإنما هو إضافي ونسبي، أنت عندك لدغة العقرب شر وأي شر لأنها تقتلك، لدغة الثعبان القاتلة شر، بالنسبة للعقرب والثعبان ليست شراً، هذا المسكين يعيش بهذا، أليس كذلك؟ هو يعيش بهذا ويُريد أن يُؤمِّن حياته، يُؤمِّن حياته على هذا النحو، لماذا أنت ترى نفسك يا مركز الكون عندك الحق تذبح هذا وتقتل هذا وتأكل النبات والحيوان وتفعل ما تُريد وحين يأتيك حيوان يُدافِع عن نفسه تقول شر وتعترض على الله؟ تقول لماذا يا رب خلقت هذا الشر؟ الذي خلقك خلقه، قال الله أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ۩، وقال أيضاً وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۩، قال لك احذره وكُن ذكياً، كُن حذرياً، أليس كذلك؟ خُذ حذرك من هذه الكائنات، وأعطاك العقل الذي تتفوَّق به عليها وذهبت واستخدمت حتى هذه الشرور والسموم الخاصة بها وجعلتها تريقات، جعلتها علاجات من أمراض وأشياء مُعيَّنة، ليس من السموم فقط بل ومن أشياء أُخرى، هذا جيد إذن، ظهرت لك حكمة، قال الشرور إضافية ونسبية بحسب المشهد، ما قد يبدو لك شراً ضمن منظور أوسع تتكامل فيه الصورة والحلقات – حلقات المُسلسَل – قد يبدو حكمةً وخيراً، وسنعود إلى هذا.

إذن هذه الطريقة – طريقة اللاهوتيين والمُؤمِنين المُؤلِّهة – في تبرير الشرور وفي كشف بعض وجوه الحكمة في هذه الشرور تُسمى بثيوديسيا Theodicy، هذا المُصطلَح اشتُهِرَ جداً مع الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتس Leibniz، وطبعاً المُسلِمون فعلوا هذ من قبل والنصارى واليهود، ليس فقط ليبنتز Leibniz الذي له مُقارَبة مُتكامِلة قوية في هذا الباب، أي في الثيوديسيا Theodicy، وثيوديسيا Theodicy تعني عدل الله أو عدالة الله، هذا أصل الكلمة، Theos تعني إلهاً طبعاً، ومن ثم هذه عدالة الله أو عدل الله، هذه المُقارَبة الثيوديسية ضد الشر الجوهري، وهناك المُقارَبة الدفاعية – من الدفاع Defense – ضد الشر المنطقي، ضد المُشكِل المنطقي للشر أو الوجهة المنطقية لمُشكِلة الشر، وهذا فقط من أجل أن تكونوا في الصورة يا إخواني، هل هذا واضح؟

نعود الآن إلى المُقارَبة – كما قلت – المجازية، نفس الشيئ مع الطفل الصغير – الكائن الضعيف الرقيق ذي الأربع سنوات – يصرخ ويزعق من أعمق أعماقه بمَن يُغيثه من هذا الأب – من أبيه – المُتسلِّط الصلب الشرس القاسي الذي يُجرِّعه كل يوم ثلاث مرات شيئاً كريهاً – كريه الطعم وكريه الريح – يُسميه دواءً، إذا طُويَت المسافة الإدركية بين إدراك وإدراك أبيه سوف يُدرِك الطفل أن أباه مُحِبٌ ورحيمٌ وحريصٌ عليه، ولو لم يفعل لكان قاسياً ومُهمِلاً ولا مُبالياً ومن ثم يستحق الدعاء واللعن والثبور وعظائم الأمور، أليس كذلك؟ لماذا تركتني حين سطا بي هذا الميكروب؟ هذا المرض بعد ذلك تسبَّب في إقعادي، هذا المرض أقعدني، سأعيش بقية حياتي مُقعَداً في كرسي مُدولَب، السبب في ماذا؟ أنك لم تُهيئ أسباب شفائي بتجريعي الدواء المُر الكريه، نعم مُر كريه حقير لكنه كان لازماً وضرورياً، هذا لو طُويَت المسافة، لكن هى غير مطوية، ولذلك ما من صغيرٍ يُجرَّع مثل هذا الدواء إلا يزعق من قلبه بأن يُنقِذه أحدٌ – الله أو أحدٌ آخر – من هذا الصلب الشرس القاسي، أليس كذلك؟ هذا يحدث طبعاً وهو يكره حتى ابتسامته حين يُجرِّعه الدواء ويراها ابتسامة الوحش، كيف تبتسم لي وتُجرِّعني هذا الشيئ الكريه؟ هو لا يفهم، لا يفهم ما معنى مرض وما معنى علة وميكانيزمات الاستشفاء، لا يفهم كل هذه الأشياء، وضع ابن ثلاث سنوات أو أربع سنوات لا يُؤهِّله، فلماذا أنت تفترض العكس مع الله؟ هنا مُشكِلة الإنسان، مُشكِلة الإنسان – هذا العاقل المُميَّز بالعقل والإدراك والوعي – تماماً من هذه الزاوية، أنه لا يعترف بأن لإدراكه ووعيه وفهمه حدوداً ينقطع عندها ويقف لديها، مهما توسَّعت حدود الفهم والعلم تبقى أيضاً الحدود، هناك في النهاية الحدود كما يقول البوذيون، يقولون هناك حيث ينقطع الشعاع ينقطع الإدراك، يُشبِّهون الفهم بشعاع الضوء، أنت الآن أوقد ناراً أو أشعل شمعة أو مصباحاً وسوف ترى طبعاً في دائرة نصف قطرها عشرة أمتار وليس في دائرة نصف قطرها ألف متر، هذا لا يمُكِن، ينقطع الشعاع ومن ثم لا ترى بعد ذلك، تحتاج أن تمشي وتقترب من دائرة أُخرى لكي تُنير، فكذلك الوعي له حدود مثل الشعاع ومن ثم ينقطع، ألبرت أينشتاين Albert Einstein أحبَّ أن يُشبِّه الإنسان – هذا تشبيه ذكي جداً جداً وجميل – وأن يقول له اعرف مكانك واعرف موضعك ولا تظن أنك إلهاً، أنت لست إلهاً بأي معنى من المعاني، وصعب أن تُدرِك كامل الحكمة الإلهية، صعب أن ترى كامل المشهد، وهنا قد تقول لي هل يا عدنان إبراهيم تراه؟ نعم أراه إجمالياً، ليس بعقلي أو بذكائي وإنما بالوعي، الله الذي أعطاني المشهد الكامل، قال سأُعطيك إياه كهدية إلهية، ولذلك مَن الذي يهدي؟ لا يُمكِن لأحد أن يهدي من بعد الله تبارك وتعالى، إذا لم يهدنا الله كيف سنتهدي؟ أليس كذلك؟ الهُدى من عند الله، أي هُدى؟ حيث يعجز العقل، حيث ينقطع شعاعه، يأتيك الوحي الإلهي ويقول لك أنا سأُعطيك معرفة إجمالية وسأُطمئنك وسأُفهِّمك، بالنسبة لي فيما يخصني أنا إله رحيم ولا أبغي إلا الخير ولست شحيحاً ولست مُقطِّراً ولست بخيلاً ولست مُتشفياً ولست ولست ولست، بالعكس صفتي الذاتية الرحمة والحب، أما العذاب والانتقام فهى من صفات أفعالي، ليست من صفات ذاتي، ومن ثم تطمئن جداً حين تعي هذا، هنا أهمية الرؤية الكونية الإلهية الدينية الوحيانية – من الوحي – بالنسبة لنا، هذا شيئ أتمسك به، وهذا الذي يُعطي المُؤمِن – هذا عطاء الإيمان – استقراراً وسكينة وطمأنينة وثقة غير طبيعية يعجب منها غير المُؤمِن.
الروائي العظيم والمُفكِّر الكبير ليو تولستوي  Tolstoy – تعرفون تولتسوي Tolstoy روائي روسيا العظيم والحرب والسلام وآنا كارنينا Anna Karenina – في سيرته الذاتية المطبوعة حدَّثنا عن إلحاده، في البداية الرجل ألحد، بعد أن انحاز إلى المسيحية والإيمان وكذا ثم ألحد في فترة من الفترات، وأيضاً مُشكِلة الشر كانت السبب الرئيس، قال حجم الشرور الذي كنت ألمسه والقسوة في حياة الناس وخاصة الريفيين المساكين لم أكن حتى أعرف كيف أتحمَّله، كنت أشعر أنني سأُسحَق تحت عبء مُلاحَظة هذه الشرور، لا أعرف كيف أتحمَّل كبشر، لكن ماذا بعد؟ هل استمر في الإلحاد؟ رجع الرجل وآمن إيماناً عميقاً، كيف؟ وجد الجواب عند الفلّاحين، هو قال وجدت الجواب عند الفلّاحين الذين أرثي لهم والذين يعيشون حياة أقسى بكثير مما تصوَّرت، حياة قاسية جداً جداً، حياة إقطاعية رهيبة، قال وجدتهم سعداء ويرون حياتهم رائعة، اقتربت منهم وتساءلت كيف فعلوا هذا؟ كيف يُمكِن أن تفعل هذا؟ كيف يُمكِن؟ اقترب منهم فعلمت منهم أن الأمر ليس بالشروح، ليس بالتفسيرات وليس بالفلسفة، وإنما بالإيمان، يعيشون حالة إيمانية فيتجاوزون المحن والبلايا، عندهم عزاء، كما أقول دائماً الإيمان عزاء وأمل وتفسير، هو يُعطيك تفسيراً أيضاً لأشياء كثيرة كما سنرى بعد قليل، هو يُعطيك تفسيراً لأشياء كثيرة، هذا مُهِم جداً، ولذلك أحد المُفكِّرين الكبار كتب شيئاً جميلاً، وانظر الآن إلى الأناس الأذكياء، نحن نتعلَّم من الأذكياء، بعض الناس يقول لماذا تقتبس الغربيين؟ يا رجل أقتبس الشرقيين والشماليين والجنوبيين، أقتبس كل أحد، إبليس لو وجدت عنده ما يُعلِّمني سأقتبسه، الرسول أذن لنا في هذا، قال صدقك وهو كذوب، قال لك رد عليه، إبليس هنا كان مُحِق والحديث صحيح، فتعلَّم بالله عليك وفتِّح مخك يا مُسلِم، لا تكتب وأنت مُغمَض العينين نعسان، فتِّح مخك لأن أهم شيئ أن تتعلَّم، الحكمة ضالة المُؤمِن، لا تقف عند مَن الذي قال، هل لابد أن يكون عربياً مُسلِماً؟ ليس عندهم الكثير لكي يقولوه، هل تُريد أن أكون صريحاً معك وأُؤلِمك بشكل زائد؟ لا أُحِب هذا وآسف له – فعلاً أتأسف حقيقة – لكن هم ليس عندهم الكثير لكي يقولوه، اليوم في معركة الإلحاد أحسن مَن يُصاوِل ويُجاوِل الغربيون المسيحيون وبعض الغربيين اليهود مثل جيرالد شرودر Gerald Schroeder صاحب كتاب الوجه الخفي لله وصاحب كتاب علم الله، وهذا من أحسن الكتب على الإطلاق وهو بالإنجليزية ولم يُترجَم للأسف إلى العربية، لا ندري متى سيُترجَم، اليهود والنصارى – وخاصة النصارى طبعاً أكثر بكثير – يفعلون هذا، مئات الفلاسفة والمُفكِّرين من أجود ما يكون لأنهم علماء، فيزيائي كبير يُدافِع عن الله، كيميائي أو عالم أحياء أو عالم في كذا وكذا وكذا أو فيلسوف عظيم ويُدافِع عن قضية الإيمان، وهذا الرجل دارس ومُثقِّف كبير وعالم، لكن ماذا عندك أنت؟ قل لي ماذا عندك، يا ليت كان عندك ما عنده، نحن نتمنى هذا، كنا سنفخر بهذا ونقول طرحنا نحن ومُقارَبة مُفكِّرنا فلان وفيلسوفنا تقول كذا وكذا، يا ليت هذا، كل إنسان يُحِب هذا، لكن إذا هذا لم يكن مُتاحاً لن أستكبر، العلم لا يُمكِن أن يُعطي نفسه للمُستكبِرين والمُتعالين والمُتعجرِفين هذه العجرفة الفارغة، هذا لا يُمكِن، انظر إلى النبي الذي لخَّص هذا كلمة بكلمة واحدة بخلاف كلامي الطويل، قال الحكمة ضالة المُؤمِن، المُؤمِن بطبعه كمُؤمِن ينشد المعرفة، لماذا؟ ما العلاقة بين هذا وذاك؟ قال تعليق الحكم بالمُشتَق مُشعِر بعلية ما منه الاشتقاق، لم يقل الحكمة ضالة الإنسان وإنما قال الحكمة ضالة المُؤمِن، كأنه يقول لك كل مَن تحقَّق بالإيمان يسعى سعياً غير مُنقطِع وسعياً دؤوباً مُثابِراً بلا حد وبلا نهاية مُدة حياته إلى المعرفة، لماذا؟ بعنوان الإيمان لأنه مُؤمِن، هناك علاقة وتساوق بين الإيمان وبين المعرفة لأنها تُقرِّبه إلى الله، حين تفهم أكثر يتعمَّق إيمانك، حين تتعلَّم أكثر تُصبِح مُؤمِناً بشكل أحسن، النبي علَّمنا هذا، هل فهمتم؟ هذا هو، ولذلك – ذكرت هذا أيضاً قبل عشرات السنين – جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru في كتابه لمحات من تاريخ العالم – تعرفون نهرو Nehru في الهند وهو صاحب غاندي Gandhi – كتب يقول – انظروا إلى الأناس الأذكياء، هو مُؤرِّخ هنا، في مُجلَّد واحد أرَّخ للعالم، أعني لمحات من تاريخ العالم – أنا لاحظت أن الحضارة الإسلامية اختصرت مرحلة مُعيَّنة ومن هنا سرعة تنشؤها وعالميتها، في قرنين صارت حضارة عالمية ليس لها أي مثيل بشهادة أعدائها، كيف؟ قال لأن كتابهم ونبيهم اختصر عليهم المرحلة الأولى التي تُرغِّبهم في وتحثهم على تقدير وتوقير وتبجيل العلم، قال هو اختصر هذا ومن ثم فجأة انقلبوا أساتذة للعالم، يُحِبون العلم ويُحِبون التأليف والتصنيف والتفلسف والكتب والعلم وكانوا يُترِجمون تراث العالم اليوناني والهندي والفراسي بوزنه ذهباً، أين ستمعتم بشيئ مثل هذا؟ لم تفعل هذا أي حضارة، الحضارة الإسلامية فعلت هذا، يا ليتني عشت في زمان المأمون كنت اغتنيت، يقول لك ائتني بكتاب وخُذ بوزنه ذهباً، والكتب لم يكن وزنها كوزن الكتب اليوم، الكتب كانت ثقيلة لأنها من الرقوق والجلود، الكتاب الذي من ألف صفحة يكون كبيراً وقد يصل إلى سبعة أو ثمانية أو عشرة كيلو، يقول لك ترجم لي هذا الكتاب وستأخذ وزنه ذهباً، إذا كان وزنه عشرة كيلو سوف تأخذ عشرة كيلو من الذهب، أي ستأخذ ثلاثمائة وستين ألف يورو، ترجِمه في خمسة أشهر وخُذ نصف مليون، كانت حضارة عظيمة، لذا قال نهرو Nehru دينهم اختصر لهم هذا.

على كل حال نعود إلى ما كنا فيه، كتب أحد هؤلاء الأذكياء يقول فقط الذين يكونون خارج المحنة وخارج المأساة وخارج المُعاناة هم الذين ينبثق من بينهم الشكوكيين والمُلحِدون، قال هو لا يقدر على أن يتحمَّل، هو يعيش وفي فمه ملعقة من ذهب ويعيش في قصر وفي حياة جنائنية وكأنه في الجنات وعنده في الكونتو Konto بضعة ملايين إذا لم تكن مليارات ومع ذلك يغضب على الله، لماذا؟ قال لماذا تسمح بكل هذه المُعاناة في العالم؟ لماذا تُعذِّبهم وتُهجِّرهم وتذبحهم؟ لماذا الدموع والآهات والأنات؟ لماذا العويل والندب والشَكاة والشُكاة؟ لماذا كله تسمح به؟ اذهب اسألهم هم، هم لا يقولون هذا، وهذا ما حدث بالضبط مع تولستوي Tolstoy، يقول هذا الاسكتلندي اللاهوتي أما الذين يكونون في قلب المُعاناة فكثيرٌ منهم – قال هؤلاء ليسوا قلة – هم الذين يعيشون حياة الرضا، يقول لك أنا راضي، أنا سعيد، وكم استمعنا إلى بعض هؤلاء، قال تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۩، من أجل أن ترجع إليه، هو بعث لك أنبياء وأنزل لك شرائع ووحي يُتلى ولا فائدة، وسلَّط عليك بعض المُنغِّصات – خسارة بسيطة هنا وفقد غير مُؤلِم وفشل مُحتمَل – ومع ذلك لا فائدة ولم ترجع، قال لك خُذ لك هذه إذن، فضربك بضربة صعبة جداً، ضربة فاقرة فكسرتك، كسر من أجل أن ترجع، بعض هؤلاء يرجعون، يرجع الواحد منهم مُتواضِعاً بسيطاً ويعرف حجمه نفسه، يرجع إلى الإيمان، الله يقول أتيتني يا حبيبي، لكن هذا كله من أجلك، أنت لم ترض أن تأتي، فماذا أفعل لك؟ أردت أن أأتي بك أي طريقة وأنت لم تأت، ومن ثم كان لابد أن أفعل هذا من أجل أن ترجع لي.

أنا أعرف رجلاً – حدَّثتكم عنه أيضاً قبل حوالي ربع قرن – كان إماماً، ليس الإمام الراتب وإن كان يؤمنا أحياناً، لكن هو مُؤذِّن مسجدنا، رحمة الله على روحه الطاهرة، عنده صوت جهوري جميل جداً، كل الناس يعشقون صوته، صوته ليس له أي مثيل، كان صوت رهيباً، وهذا الصوت القوي كان في بنية قوية جداً، وهذا الرجل كان قوياً جداً جداً حتى أنني رأيته مرة بعيني رأسي – لم يُحدِّثني أحد وإنما رأيته – وقد جاء صباحاً وقد نسيَ مفتاح المسجد، والمسجد كان يُغلَق بسلسلة كبيرة وفيها قفل، وهو الذي كان يفتح طبعاً، فحين جاء ولم يجد المفتاح غضب قليلاً، قال يا الله – والله أمام عيني – وفتح السلسلة، فصدَّقت ما كنت أسمع عن جبروت هذا الرجل، الشيخ أحمد – رحمة الله عليه – كان قوياً جداً، ثم حُدِّثنا بعد ذلك من أهله وذويه ومَن يعرفه بأن الشيخ أحمد حين كان شاباً كان طاغوتاً، كان طاغيةً، كان جبّاراً عنيداً، لا يكاد يترك أحداً من شره، يضرب هذا ويسطو بهذا ويفعل في هذا، كان هذا الرجل شيئاً رهيباً، وماذا بعد؟ كيف أصبح حافظاً لكتاب الله ومُؤذِّناً للمسجد؟ كيف أصبح رجلاً طيباً وأحبه – رحمة الله تعالى عليه – كل الناس؟ صبَّح ذات صباح – هكذا من غير أي مُقدِّمات – وفقد بصره، طبعاً نحن عرفناه وقد مات – رحمة الله تعالى عليه – وهو أعمى، قضى مُعظَم حياته أعمى أضر، هذا تماماً حين فقد باصرة وجهه وباصرة رأسه انفتحت بصيرة قلبه، كان السبيل لكي تُفتَح بصيرة قلبه أن تُطمَس باصرة وجهه، لا فائدة معه، ومن المُؤكَّد أن الله أرسل له مائة إنذار ولكنه لم يفهم ولم يستقبل الإنذارات، إنذار تلو إنذار تلو إنذار تلو إنذار ثم قال له في النهاية ينبغي أن يحدث هذا لكي يرجع، وهذا ليس انتقاماً أيضاً وإنما رأفةً، قال له حُباً فيك يا أحمد، أنا أُحِبك وكتبت لك الجنة وأُريدك أن تتلو كتابي – صوت جميل يتلو كتاب الله – وتُحفِّظ الناس – وقد حفَّظ الناس – وتُؤذِّن وترفع وتقول أشهد أن لا إله إلا الله خمس مرات في اليوم، شيئ يقشعر البدن، والمُؤذِّنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، يا سلام، انظر إلى المشهد كله، هذه مسألة جميلة جداً، أليس كذلك؟ تولستوي Tolstoy لمس هذا، قال وجدتهم راضين، كانوا من أرضى الناس ليس بالشروحات وليس بهذه الخُطب وليس بالفلسفات وإنما بالإيمان، يعيشون الإيمان، يتقبَّلون كل شيئ من حبيبهم، يعلمون هذا وعندهم يقين أن هذا لخيرهم وأن هذا لصالحهم، أعادوه إلى الإيمان، إذا سألك أحدهم مَن الذي أعاد تولستوي Tolstoy إلى الإيمان؟ قل له الفلّاحون، الفلّاحون الأُميون الجهلة فعلوا هذا، هل هذا واضح؟ ولذلك لا يُمكِن أن يأتيني أي مُلحِد ساذج ويقول عكس هذا، ويبدو أن الإلحاد أصبح مجانياً هذه الأيام، الكل يدّعي الإلحاد، الإلحاد ساذج – ساذج جداً – وسخيف، في أشياء كثيرة – سوف ترى هذا – الإيمان هو صاحب الموقف العميق المُعقَّد المُركَّب، الإلحاد أصبح الآن سهلاً وفجأة يُقال لا يُوجَد الله، يا سلام، ليس بهذه البساطة، المسألة أعقد من هذا بكثير.
إذن حين تُطوى مسافة الإدراك بين الطفل الصغير وبين أبيه سوف لن يبقى مساغٌ للاعتراض، ونحن نقول بالقياس إن تُطوى – وهذا مُستحيل – مسافة الخُلف ومسافة البُعد والشُقة بين علم الإنسان وعلم الله وبين إدراك الإنسان وعلم الله – وسوف نظل نقول كلمة العلم، لا نصف بالله المعرفة حتى ولا بالإدراك وما إلى ذلك تأدباً، هو وصف نفسه بالعلم ومن ثم انتهى الأمر فنقول العلم والعلم الإلهي باستمرار – حُقَّ لك بعد ذلك أن تعترض إن وجدت مساغاً للاعتراض وما أنت بواجد، لماذا؟ نحن نفترض من الآن طبعاً إن حصل هذا سوف ترى أن كل شيئٍ في محله ومن ثم سوف تقول ليس في الإمكان أبدع مما كان، مثلما قال لايبنتز Leibniz من بعد الغزالي بمئات السنين في ثيوديسيا Theodicy، قال لا يُوجَد في الإمكان أبدع مما كان، إذا فهمت جيداً سوف تعلم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، قد يقول لي أحدكم بسِّط لي هذا، كيف هذا بالله عليك؟ نعود إلى النُقطة التي استطردنا بسبب، كما قلنا مُشكِلة الإنسان أنه لا يُريد ولا يزال مُصِراً على أنه ليس لعقله وإدراكه ووعيه حدوداً، وهذا غير صحيح، له حدود ولابد أن تفهم هذا وأن تلتزم هذا، علماً بأن ميزة العقل الإنسان الكُبرى في إدراك أن العقل له حدوداً، إذا قال لي أحدهم ما هى أكبر ميزة للعقل الإنساني؟ سوف أقول في إدراك العقل أنه له حدوداً وأنه غير مُؤهَّل أن يذهب إلى ما لا نهاية في إدراك أي شيئ، أي أنه لن يكون عقلاً إلهياً إن جاز التعبير، هو يُدرِك هذا، الحيوانات – أكرمكم الله – هل تُدرِك مثلنا؟ قد يقول لي أحدكم هل الحيوانات عندها لون إدراك؟ أكيد عندها لون إدراك، وتتحيَّل وتُقدِّم المُقدِّمات وتضع الخُطط، هذا شيئ غير طبيعي، فطبعاً عندها إدراك وهذا طبيعي، ولذا تستسلم لعجزها البدني، الحيوان يُطارِد فريسته فإذا أعيته استسلم، أليس كذلك؟ هل يُدرِك هو أنه عجز أم أنه فقط يستسلم؟ يستسلم لعجزه البدني هذه مقطوع به، هل يُمكِن أن يُدرِك عجزه البدني وليس عجزه الإدراكي؟ يُمكِن وهناك الدليل طبعاً، حين تسأل عالماً في الحيوانات يقول لك قطعاً الحيوان يُدرِك عجزه البدني طبعاً، أي حدود قدرته البدنية، بدليل أن مسافة الإطراد – كما يُسمونها في علم الأحياء – مسافة محسوبة عند كل مُفترِس، هو يرى الغزالة وعنده تجارب وعنده غريزة لكن تجارب هذا الفهد الصيّاد أو النمر – Tiger – أو الأسد كثيرة، وهذه الغزالة بعيدة عنه بمسافة ثلاثمائة متر، يقول لك هناك مجال لأصل لها، لو طاردتها سوف يُوجَد احتمال أن أصل إليها، لكن لو كانت الغزالة على مسافة تبعد اثنين كيلو لن يُحاوِل من الأصل، لن يُحاوِل أن يجري وراء هذه الغزالة، لأن هذا جهد ضائع مُهدَر، إذن هو يُدرِك، يُدرِك مبدئياً قبل أن يُجرِّب عجزه البدني، السؤال الآن هل يُدرِك الحيوان عجزه الإدراكي كما يفعل الإنسان؟ الإنسان يُدرِك عجزه الإدراكي، أليس كذلك؟ هذا المفروض طبعاً، ومبدئياً هو يفعل هذا ويُدرِك عجزه الإدراكي، لكن إذا تعلَّق الأمر بأمور مُركَّبة وأمور يدخل فيها الهوى والأيدولوجيا والموقف العقدي يختلف الأمر، يبدأ يدّعي ليس باسم العقل وإنما باسم الإرادة والهوى والغرض أن ليس ثمة أي حدود ويقول يُمكِن كل شيئ أن يُناقَش وأن نخلص إلى نتيجة، فإذا وُجِدَ شر كثير في هذ الكون بهذا الكون يقول هذا يدل على عدم وجود إله، وطبعاً ببساطة مثل هذا الكلام بطريقة منطقية يُمكِن أن تكشف دغله وسخافته وسذاجته بسهولة يُمكِن أن تكشف عنه الغطاء بسهولة، مثلاً التصريح – Statement – الذي يقول إذا كان في الكون هذا الشر الكثير جداً فإن هذا يدل على عدم وجود الله وكذا وكذا نقول له عفواً، نحن سمعنا أنك تقول الشر الكثير جداً، هل هذا يعني أن الشر القليل مقبول؟ إذا قال لك لأ سوف تعود تُلزِمه – وسوف نرى كيف تُلزِمه – وتفهمه وتُبهدِله، وإذا قال لك نعم أنا مع الشر القليل قل له هذا جيد لأن هذا الكلام فيه تصريح مُضمَّن، هذه نُقطة غليان الشر كما أُسميها، الماء عنده نُقطة غليان، أليس كذلك؟ عند تسعة وتسعين – سلزيوس Celsius وليس فهرنهايت Fahrenheit – لا يغلي، عند المائة يبدأ يغلي، أليس كذلك؟ هذه نُقطة غليان الشر، كأن هذا التصريح فيه كلام مُضمَّن، شر قليل رقيق – Soft – خفيف جميل مقبول، شر كثير غير مقبول وينفي وجود الله، وهذا جيد لكن ما هو الحد الفاصل بين القليل والكثير؟ هيا يا فيلسوف أعطني هذا وقل لي ما هو الحد الفاصل بين الشر الذي يُمكِن أن نحتمله والشر الذي لا يُحتمَل، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ بسبب تولستوي Tolstoy، قد تقولون لي ما علاقة تولستوي Tolstoy بهذه القصة؟ طبعاً لأن استجابات الناس للبلايا والمحن والشرور مُتفاوِتة جداً، شخص يكفر وشخص يقول لك هذه سعادة، ما حصل كان خيراً، لو استقبلت من أمري ما استبدرت ما رضيت إلا بما قُدِّر علىّ، لماذا يا أهبل؟ يقول لك هذا الذي قُدِّر علىّ فتح لي أبواباً من السعادة والرضا وأبواباً من التوبة ومُراجَعة النفس وأبواباً من الإحساس بالآخرين وأبواباً من النمو والنضج الروحي والنفسي، يا رجل أين كنت أنا؟ أنا كنت أعمى، لك الحمد يا ربي لك على تلك المُصيبة، وأسأل الله العافية، تولستويTolstoy اختبر هذا، أليس كذلك؟ ولذلك قال الله مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ۩، قال هذه مسألة علم، هذا علمي وهذه حكمتي أيضاً، هنا العلم والحكمة، ولذا قال لابد من التمييز.
قرأت مرة عن حاخامين رابيين يهوديين في المحرقة النازية، أي الهولوكوست Holocaust، أحدهما كان مُؤمِناً قاطعاً في إيمانه، والآخر ألحد، كل يوم يرى أطفالاً يذهبون إلى غُرفة الغاز وأطفالاً تُشنَق – كانوا يشنون الأطفال الذين عندهم تسع سنوات أمام الناس – ونساءً كذا وكذا ومن ثم ألحد، كان يقول له أين أنت؟ أين أنت من هذا الشر كله؟ لماذا تقف صامتاً؟ كان يُخاطِب الله – أستغفر الله – بهذا، لماذا تقف لا مُبالاياً؟ في البداية هذا الحاخام المسكين ماذا كان يقول؟ الله سيُنقِذنا، لم يُصدِّق أنهم سيُحرَقون ويُشنَقون ويُذبَحون، قال هذا مُستحيل، هتلر Hitler مُجرِم وحقير وغير إنسان ووحش، نحن مُؤمِنين ونعرف الله ومن ثم سوف يُنقِذنا، لكن هذا لم يحدث، مات الصغار ومات الكبار ومات الشيوخ والعجزة أمام عينيه فألحد، ثم اقتيد الاثنان في ساعة واحدة – هذه قصة حقيقية يحكيها الضابط نفسه الذي أعدمهما – إلى غُرف الغاز للإعدام، فانقلب المُؤمِن مُلحِداً وانقلب المُلحِد مُؤمِناً، صدقت يا رسول الله، نسأل الله حُسن الختام، هذه قصة حقيقية وليست مواعظ إسلامية، هذه قصة من الهولوكوست Holocaust، الرابي الذي ظل مُؤمِناً لآخر لحظة حين رأى أنه سيذهب فعلاً إلى غرفة الغاز ألحد، قال لا إله، توقَّفت عن الإيمان بك، وسلَّم نفسه مُلحِداً – والعياذ بالله – للموت، والذي كان ألحد قال اسمع يا إسرائيل، أي شماع يسرائيل Chema Israël، وبدأ يتلو اسمع يا إسرائيل من كتابه المُقدَّس ومات مُؤمِناً، هذا اختبار، وهنا قد تقول لي هذا شيئ يُقشعِر البدن، وطبعاً هذا شيئ يُقشعِر البدن، أنا اقشعر بدني، بصراحة هذا شيئ مُرعِب ويُقشعِر البدن، لكن هنا الاختبار، قال الله وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ۩، أليس كذلك؟ قال الله مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ ۩ وقال أيضاً أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۩ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ۩، يُوجَد اختبار ويُوجَد تمييز، أنت اليوم لا تأخذ أي شهادة حتى تدخل الامتحان مع أكثر من شخص، امتحان القبول هنا في أي كلية في فيينا يدخل ألفان فيه أحياناً وينجح خمسون أو ستون أو سبعون أو مائة من ألفين، هنا تُوجَد غربلة، أليس كذلك؟ وكذلك تُوجَد غربلة إلهية أيضاً، لا يُمكِن أن تأتي وتقول يا رب لماذا لم تجعلني أحد الأولياء الكبار وأحد العارفين العظام ولم تفتح علىّ وتُجِب دعوتي؟ لن يجعلك لأنك الآن لو كشفت عن حقيقة نفسك تعلم أنك في قعر نفسك تُريد هذا لكي تجمع به الدراهم، أنت أهبل، أنت طفل، تُريد أن تكون عارفاً كبيراً ليس من أجل أن تعرف الله وليس من أجل أن تقترب من الله وليس من أجل أن تكون لك دعوة مُستجابة تجعلها رحمة للعالمين ومن ثم تدعو بنفع البشرية كلها، وإنما تُريد بها اجتناء الدراهم، عزَّ عليك أن أحدهم سكّر صُرته وتُريد من الله أن يفتحها لك لكي تأخذ أمواله وذهبه، أنت أهبل، لا يُمكِن أن تكون الطفل المُدلل للسماء، لا تصلح لهذا لكنك لا تفهم، فالاختبارات مُهِمة جداً جداً، وهنا قد تقول لي هل يُوجَد سيناريو Scenario تحليلي مُعيَّن لهذا المسكين الذي كفر عند غرفة الغاز؟ أنا أقول لك هذا كان إيمانه مُقايضة وكان تجريباً، مَن المُجرِّب؟ ومَن المُجرَّب يا رجل؟ أنت عكست الآية، الله هو المُجرِّب، الله هو المُبتلِي، ونحن المُبتَلون بالفتح، لا تقل المُبتلِين، الله مُبتلٍ بالكسر، لكن بالفتح كلنا مفتوحون، مفتوحون على اختبار مفتوح طالما نحن أحياء، هذا اختبار مفتوح ونحن مفتوحون مُبتَلون، مُبتَلون مثل مُصطفَون، اللهم اصطفنا، أرأيت كيف؟ فنحن مُبتَلون، لكن هو أراد أن يختبر الله، قال أنا سأرشو الله بدعوى الإيمان الذي لم يُقِر عندي في نفسي، إيمان مُهتَز مُزلزَل، ومن ثم لن أعترف، كأنه يقول للحاخام الآخر هل أنت شككت وألحدت؟ تباً لك وتُفٍ لك فأنا لم أُلحِد، لكن هذا كذب، هو مُزلزَل جداً من الداخل، والله مُطلِع عليه ويعرف أنه مُزلزَل، لكن ماذا يفعل؟ مُناوَرات، يقوم بعمل مُناوَرات مع السماء، يقول أنا سأدّعي أننا لا أزال مُعتصِماً بالإيمان من أجل أن يقف معي الله إذا كان موجوداً، من المُؤكَّد أنه سيقف معي لأنني – أستغفر الله العظيم – لم أبعه، لكن حين لم يحدث هذا لآخر لاحظة قال لا إله، ذهب وأعلن الإلحاد، علماً بأن الاختبار قد يكون أدق مما كان يظن، لعل كانت هناك فرصة واحتمال لواحد على ألف من الثانية وواحد على ألف كاحتمال لو اعتصم بإيمانه لآخر لحظة أن يُسقَط الجلّاد ميتاً بالسكتة القلبية ثم تُعاد الوردية ويأتي مَن يُهرِّبه في عربة فلّاح وينجو، ما رأيك؟ ليس أنت مَن تختبر الله، إياك أن تفعل هذا، هذا المسكين كان يختبر الله ولذلك انقلب في آخر لحظة.
إذن هذه قضايا مُعقَّدة وقضايا كثيرة ليس لها أول من آخر يا إخواني، كونوا دقيقين وكونوا عميقين في هذه المسائل، هذا إيمان، هذه سعادة الأبد، قال الله وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ۩، بالعكس الله حريص الحرص كله على أن تهتدي وأن تسعد والله، وقد استنفذ الوسائل كلها لكننا لا نُريد، المُلحِد هو الذي لا يُريد فقط، هو الذي يرفض، ونعود إذن إلى ما كنا فيه يا إخواني وأخواتي، الإنسان لا يزال – كما نقول – مُصِراً على أن لعقله قدرة لا نهائية على درك ووعي وفهم كل شيئ وأنه بلا حدود بالذات إذا تعاطى مع المسائل التي ينبغي أن يُؤكِّد فيها محدودية إدراكه ووعيه مُكتفياً بالفهوم الجُملية، هذا فهم إجمالي، يُوجَد علم إلهي، تُوجَد حكمة إلهية، تُوجَد إدارة إلهية، التفاصيل ليست عندي، وهذا يكفي تماماً، إذن التفاصيل ليست عندك، علماً بأنك ستطلع على بعض التفاصيل بحسب ما تسمح القدرة واللطف الإلهي في إبانه، وقد يُفتَح لهذا ما لا يُفتَح لهذا في الوقت نفسه، وقد يُفتَح لهذا بعد أن فُتِحَ لهذا في وقتٍ ثانٍ، وقد يُفتَح لهذا في ثاني الوقت لا في أوله، ما رأيك؟ سوف تفهم فتحك ليس اليوم وإنما غداً، وغداً قد يكون بعد عشرين سنة، ما رأيك؟ لكنك سوف تفهم، علماً بأنني أتحدى أن أي أحد فينا ألا يكون مر بمحن حين حطت بفنائه ضج ثم علم الحكمة بعد ذلك، وهنا قد تقولون هل المُؤمِن يضج؟ من المُمكِن أن يضج بصراحة ومن المُمكِن أن ينفر، وهذا هو الفرق بين الاستجابات كما قلنا، قد يُلحِد أحدهم وقد يرضى آخر ويسعد، وهناك طيف واسع بين الاثنين، فهناك مَن يكره ويتنغَّص أيضاً، أليس كذلك؟ كما نقول بالعامية قد يهتز ويقلق، قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ ۩، إذن الله يقول كُرْهٌ ۩، أنتم تكرهونه، حين يُقال لكم هيا اخرجوا وقاتلوا تتزمَّرون، هل أنكر الله هذا؟ أعوذ بالله، هل قالوا القتال شر ونحن نُقتَل فيه وتترمَّل نساؤنا ويتيتم أولادنا وتضيع ضياعونا وعقاراتنا فلماذا القتال؟ لا، لكنهم يكرهون هذا، قال الله وتودون وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ۩، ردك الله إلى ماذا؟ إلى المشهد الواسع الذي لا يُحيط به إلا هو، قال وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ ۩، في ثاني الأوقات وفي ثاني الأحوال سوف ترى أن في طي هذه المحن كانت هناك جُملة منح، سوف ترى هذا وسوف تعيش هذا، هل تقدر على أن تقول لي أنك لم تعش هذا؟ هذا مُستحيل، كل أحد عاش هذا، أصابته بلية حين نزلت بفنائه ضج وكره وأنكر وتساءل وبعد سنين – لا أتحدَّث عن كل بليه وإنما أتحدَّث عن بلية أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة لكن المُهِم أن هذا حصل – قال يا ربي لك الحمد إلى انقطاع النفس وانقطاع العمر والأمد على أنك ابتليتني بما ابتليتني به قبل كذا سنة، لماذا؟ لما رأى من نتائج هذا الابتلاء، هذه النتائج قلبت له حياته كلها إلى الأفضل والأحسن، ومن ثم قال لو بقيت مُستمِراً بالنجاح ولو أنني نجحت في ذلك الامتحان لانتهيت الآن – مثلاً – إلى كذا وكذا ولكان الاعتبار الاجتماعي ضعيفاً ولكان دخلي الشهري ضعيفاً، وكذلك لم أكن لآخذ فلانة التي ما كانت سترضى بي وأنا ذلك الشخص، لكن فشلي في ذلك الاختبار الذي كاد أن يُحطِّمني في تلك السنة وفي ذلك اليوم قادني إلى التخصص الآخر فانتهيت لأكون فلان اليوم ملء الدنيا سمعاً وبصراً، والكل يود أن يقترب مني وأن يتصل حبله بحبلي، وأعطوني آل فلان ابنتهم وهى من أحسن بناتهم وأجمل بناتهم، وهذه العائلة من أحسن العائلات، والآن دخلي كبير وسُمعتي حسنة، يا ربي لك الحمد على الفشل.
إذن هل فهمت كيف؟ في ثاني الأحوال قد يضح ما هو مُغلَق الآن، قال الله وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ۩.

(انتهى الجزء الأول من الخُطبة بحمد الله)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • السلام عليكم
    كان هناك ما أراه خطأ في حديث الدكتور عن الفرق بين الرسول والنبي، في احدى الخطب وأود توضيحه.
    تحدث الدكتور عن أن الفرق يكمن في أن الرسول هو الذي جاء بشرع جديد أما النبي فهو من دعا بشرع من قبله، وطبعًا رفض تعريف المتكلمين، وأنا أوافقه في هذا الرفض.
    ولكن التعريف الذي تبناه الدكتور غير دقيق، فإذا سألناه على حسب تعريفه، هل سيدنا إسماعيل -عليه السلام- رسول أم نبي؟ على حسب ما تبناه الدكتور هو نبي فهو لم يأت بشرع جديد، إذا كان كذلك فما قوله في قول الله تعالى: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا” (مريم: 54) والآية محكمة في كون إسماعيل عليه السلام رسول نبي، وهناك أدلة أخرى كثيرة لا يتسع هنا المقال لذكرها.
    والأصح من وجهة نظري أن النبي والرسول لا فرق بينهما من حيث الرسالة أو البلاغ، والفرق فقط أن النبي باعتبار ما نبأ به من الله والرسول من حيث البلاغ، والله أعلم.

%d مدونون معجبون بهذه: