إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ۩ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۩ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب في الله، أيتها الأخوات الفاضلات:

في الحقيقة إنما قادني إلى موضوع هذه الخُطبة الفرد – سيكون موضوعاً فرداً، أي مُفرَداً – قصة سمعتها من سيدة آيبة إلى الله، زادها الله هُدىً وأوبةً، وكثَّر من أمثالها، السيدة كاميليا العربي، قبل أيام، لعلهما يومان تقريباً، قصة مُؤثِّرة جداً، هي مصداق من مصاديق هذه الآية التي سمعتم، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ۩، لا إله إلا هو!

قصة عجب من العجب، ولها نظائر بلا شك، تقول هذه السيدة الكريمة – حفظها الله وزادها تسديداً وتوفيقاً – وهي مسؤولة عن جمعية خيرية بالمعادي في القاهرة، تُدعى جمعية أحباب الله، تقوم على مواساة اليتامى والأرامل ورعاية المُسنين وتقديم يد العون لكثير من عباد الله تبارك وتعالى، من المنكوبين والمجروحين والمعوزين، تقول لم يكن عندنا شيئ من مال، ولا شيئ، ولا جنيه مصري واحد، قالت وأعيتني الحيلة، فماذا أفعل؟ فهي مسؤولة عن ثلاثمائة من هؤلاء المحاويج المعوزين، يقوم عليهم وعلى رعايتهم وتدبير أمورهم ثلاثمائة آخرون أيضاً، إذن كما يُقال في رقبتها ستمائة من عباد الله، يحتاجون نوالها، وينتظرون عونها، وليس في يدها شيئ.

قالت وتذكَّرت حديث رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الذي يرويه عن رب العزة والجلال – لا إله إلا هو -، وفيه يقول – سُبحانه وتعالى – وما تقرَّب إلىّ عبدي بشيئ أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إلىّ بالنوافل حتى أُحِبه، فإذا أحببته أصبحت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينه، هذا هو الوعد، فأين الموعود؟ إنه يتوقَّف عليك يا عبد الله، يا مُؤمِن، ولئن سألني – بالتأكيد الجواب جاء – لأُعطينه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنه، وما ترددت عن شيئ قط ترددي عن قبض نفس عبدي المُؤمِن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له من الموت، ولذلك يتردد الله – تبارك وتعالى -، وهذا بلا شك له تأويل، وأكره مساءته، ولابد له من الموت.

قالت وجدت الحل، لقد وجدت السيدة الراشدة العاقلة المفتاح، إنه في التقرب إلى الله – تبارك وتعالى -، ثم هي لا تطلب شيئاً لنفسها، ومن هنا سر الإجابة السريع، لا تطلب شيئاً لنفسها، إنما تطلب شيئاً لعباد الله، قالت فقضيت نهاري في ذكر الله، في الصلاة، في العبادة، في قراءة القرآن، وكذا ليلي، قضيته قياماً وقراءةً وتبتلاً ودعاءً، قالت فوالله الذي لا إله إلا هو لقد كنت في تمام الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي في مكتبي، وفي تمام الساعة الثامنة وخمس دقائق – أيها الإخوة والأخوات – دخل علىّ رجل لا أعرفه، قالت إن شئت سميته صالحاً ولياً، وإن شئت زعمت أنه ملك، فربما كان ملكاً، الأمر مُعجِز، غريب جداً، لا يُمكِن! رجل لا تعرفه، لم تره من قبل، دخل عليها وقال ماذا تحتاجين؟ هكذا مُباشَرةً! ماذا تحتاجين؟ ماذا ينقصكم؟ ماذا تُريدين؟ قالت فقلت له لو دفعت إلىّ جنيهاً واحداً لاشتريت به خُبزاً، إننا في أشد الحاجة والفاقة إلى العيش، إلى الخُبز! ليس عندنا شيئ، قال الله أكبر، ألهذه الدرجة؟ قالت قلت نعم.

قالت فما لبث أن خرج مُسرِعاً، ولم يرث، عاد أيضاً مُسرِعاً، وبيده حقيبة، وضعها على المكتب، وقال انظري، أتكفي هذه أم تُريدين زيادة؟ قالت وفتحت الحقيبة وأخبرني أن بها ثلاثين ألف جنيه، قلت هذا يكفي، بارك الله فيك، ثم انطلق، الله أكبر، الله أكبر، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ۩، هذا مصداق من مصاديق هذه الآية الجليلة الربانية، لقد جعل علماؤنا هذا بُرهاناً من جُملة البراهين الدالة على وجود الله، على تدبير الله، على إلهية الله – سُبحانه وتعالى -، إنه المُدبِّر الخالق الرب، والكل مربوب، لو لم يكن موجوداً سميعاً بصيراً قديراً إذن مَن الذي استجاب لهذه المسكينة التي دعت وتبتلت وواصلت سواد الليل ببياض النهار في التقرب إليه – لا إله إلا هو -؟ مَن هو إلا هو – لا إله إلا هو -؟! هذا بُرهان، ويُمكِن لكل واحد منا أن يُجرِّب صدقية هذا البُرهان في نفسه بشروط لعلنا نأتي عليها بعد قليل.

لعلكم سمعتم مني أو من غيري قصة المُحمَّدين أو المحاميد الأربعة – رضوان الله تعالى عليهم -، التي ذكرها الحافظ الذهبي في تذكرة الحفّاظ، وقبله الإمام الجليل أبو بكر الخطيب البغدادي – رحمة الله تعالى عليهم أجمعين – في تاريخ بغداد، قصة المُحمَّدين أو المحاميد – جمع محمد – الأربعة، مَن هم هؤلاء المُحمَّدون؟ اسمعوا هذه الأسماء، محمد بن جرير الطبري، الإمام الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، إمام الدنيا في عصره، محمد بن جريري الطبري، محمد بن إسحاق بن خُزيمة، محمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، الطبري نار على علم، أشهر من أن يُعرَّف، وأما ابن خُزيمة فهو أيضاً إمام من أئمة المُسلِمين، بل دعاه بعضهم إمام الأئمة، صاحب كتاب التوحيد، وصاحب الصحيح الذي وصلتنا قطعة منه، المعروف بصحيح ابن خُزيمة، وأما محمد بن نصر المروزي فصاحب الكتاب اللطيف قيام الليل، والكتاب الآخر الأشهر، كتاب تعظيم قدر الصلاة، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، وأما الإمام محمد بن هارون الروياني فهو صاحب المُسنَد الشهير بمُسنَد الروياني، طلبة الحديث يعرفون هذا الكتاب جيداً، مُسنَد الروياني!

إنهم أئمة أربعة، كانوا في مرحلة الطلب، كانوا طلبة علم شرعي، جمعتهم الرحلة – أي رحلة الطلب، طلب العلم والحديث والفقه والخير -، جمعتهم الرحلة بمصر، حتى أرملوا، ونفد زادهم، ولم يبق معهم شيئ يقتاتون به، وأضر بهم الجوع، وهكذا اجتمع رأيهم على أن يقترعوا، على أن يستهموا، فأيهم خرجت عليه القرعة خرج إلى الشارع وسأل الطعام لأصحابه، أي يشحذ، لا يُوجَد إلا هذا، إما أن يموتوا وإما أن يشحذوا، أي وإما أن يسألوا، أن يبذلوا بعض ماء وجههم، وهذا شيئ عظيم، نسأل الله أن يكف وجوهنا عن ذل السؤال وعن حر النار غداً – إن شاء الله تبارك وتعالى -، اللهم آمين، وهكذا!

فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خُزيمة – رحمة الله تعالى عليه -، قالوا لابد من خروجك، فاخرج واسأل لنا الطعام، فقال أمهلوني حتى أُصلي لربي، هو الآن يُريد وقد اضطر- انقطعت الحيلة، انقطعت الأسباب – أن يعود إلى الله – تبارك وتعالى -، فقال أمهلوني حتى أُصلي لربي – تبارك وتعالى -، قالوا لك ذلك، لك ما طلبت، فتوضأ الإمام الجليل وقام يُصلي لله رب العالمين، فبين هو في الصلاة – لم ينصرف منها – إذ طُرِق الباب، وإذا بالمشاعل وخصي من خصيان الأمير، كانوا يخصون للأسف العبيد والخدم، وهذا خصي من خصيان الأمير – أمير مصر -، وكانت هناك المشاعل، مشاعل العسس، أي الشُرطة بلُغة العصر، فقال فتحنا الباب فقال أين محمد بن جرير الطبري؟ قالوا هو هذا، فدفعل إليه صرة فيها خمسون ديناراً، والرجل يُصلي – أي ابن خُزيمة -، ثم قال أين محمد بن نصر المروزي؟ فقالوا هو ذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال أين محمد بن هارون الروياني؟ فقالوا هو ذا، فدفع إليه ثالثةً مثلهما، ثم قال أين محمد بن إسحاق – يعني ابن خُزيمة -؟ قالوا هو في الصلاة، قال هذه له، قالوا فقلنا بالله ما القصة؟ شيئ عجيب! ما القصة؟ فقال هذا العبد الأمير – سلَّمه الله – كان قائلاً بالأمس، أي كان ينام نومة القيلولة، كان نائماً وقت القيلولة، وقت الظهر، بعد الظهر بساعة، قال كان قائلاً بالأمس فلاح له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المنام، النبي هو الذي آتاه في المنام، وقال له يا فلان أدرِك المحاميد، فقد أضر بهم الجوع، فسأله مَن هم يا رسول الله؟ قال فلان وفلان وفلان وفلان، قال أين يا رسول الله؟ قال في المكان الفلاني، في الزقاق الفلاني، الله أكبر، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.

ما أعظم رحمته بأمته! ما أوفر شفقته ورأفته بهذه الأمة وعلى هذه الأمة! حتى وهو في الدار الآخرة – صلوات ربي وتسليماته عليه – يهتم بنا، قال أدرِك المحاميد فقد أضر بهم الجوع، عيَّنهم بأسمائهم وبمكانهم، ثم قال لهم والأمير يُقسِم عليكم إذا احتجتم إلى شيئ إلا ما سألتموه، طبعاً من حق المُسلِم على المُسلِم أن يبر قسمه، حتى المُسلِم العادي لو أقسم عليك بالله – في معروف طبعاً وليس في معصية – من حقه عليك أن تبر قسمه، لو قال أُقسِم عليك بالله إلا ما زرتني اليوم في بيتي يجب أن تذهب معه، إلا للضرورة، أن تكون مُضطَراً، وإلا هذا من حقوق المُسلِمين بعضهم على بعض، وأين نحن من هذا؟! أين نحن من هذا وبعضنا يُكذِّب بعضاً – والعياذ بالله -؟ ليس فقط لا يبر قسم البعض، يُكذِّب بعضاً، وينهش بعضنا في لحوم بعض، وهكذا!

أيها الإخوة:

هل يغيب عنكم – ولا أظن أنه يغيب عن مُسلِم – أن الله – تبارك وتعالى – هو مالك المُلك؟ هذه بدهية، ونحن صغار نُردِّدها، لكن ما معنى كونه مالكاً للمُلك – لا إله إلا هو -؟ معنى ذلك أن الخزائن كل الخزائن وخزائن كل شيئ بيده – سُبحانه وتعالى -، الخزائن كلها بيده، والمفاتيح بيد مَن؟ بيد الله، خزائن الرزق، خزائن كل ما يُنتفَع به، خزائن الفهم، خزائن النصر، خزائن التوفيق، خزائن القضاء والفصل والحُكم، خزائن كل شيئ بيده، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ ۩، قال وَإِن مِّن شَيْءٍ ۩، عموم! كل شيئ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ۩، لا إله إلا هو.

إذن بيده خزائن كل شيئ، قال – تبارك وتعالى – أيضاً مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۩ إلا هو، قال مَّا يَفْتَحِ ۩، إذن الخزينة عنده والمفتاح أيضاً بيده، إذا أراد أن يفتح فتح، ولا يُمكِن لأحد أن يُمسِك هذه الرحمة التي فتحها الله – تبارك وتعالى -، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ۩، المطر والرزق بيد مَن؟ إنه في الخزائن العُلوية الإلهية، والمفتاح بيد الله، إذا شاء أن يفتح فتح، وإذا شاء أن يُمسِك أمسك، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ۩، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ۩ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ۩، لا إله إلا هو! رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ۩، هكذا.

إذن الخزائن بيده، والمفاتح بيده، وما علينا إلا ماذا؟ ما علينا إلا أن نجتهد في طلب ماذا؟ في طلب هذه المفاتح، نتوسَّل إلى الله، نتقرَّب إلى الله، نتزلَّف إلى الله، بوصل حبالنا بحبله، حبالنا مُقطَّعة، حبالنا مع الله مُقطَّعة، ولذلك ندعو فلا يُستجاب لنا، لأن الحبال مُقطَّعة، كيف ندعو ونحن مُقيمون على المعاصي أو بعض المعاصي؟ كيف ندعو ونُؤمِّل الاستجابة ونحن مُفرِّطون في طاعات الله – تبارك وتعالى -؟ في رأس هذه الطاعات الصلاة، كم من المُسلِمين أو كم منا مَن يُؤدي هذه الصلوات لا أقول في أول أوقاتها – فقليل قليل قليل ما هم – لكن أقول في أوقاتها؟ أقول ليس في أول أوقاتها أو أوائل أوقاتها وإنما في أوقاتها، لأن هناك مَن يجمعون، لأن هناك مَن يُصلي الفروض الأربعة أو الخمسة في وقت واحد، ويظن أنه يُصلي، مسكين هذا! إنه يأتي بهذا باباً من أبواب الكبائر، الجمع بين صلاتين من غير رُخصة شرعية كبيرة من كبائر الذنوب، فكيف بمَن ترك الصلاة؟!

لقد نص بعض العلماء المُحقِّقين كالشمس ابن الجوزية أو ابن قيم الجوزية، نص على أن ترك الصلاة أعظم الذنوب بعد الشرك بالله، بل قطع بأنه أعظم من قتل النفس المُحرَّمة، وأعظم من الزنا، فما دون ذلك، شيئ عجيب! لماذا؟ لأن النصوص الصحيحة الصريحة أكَّدت أن هذه الصلاة هي رأس مال عمل الإنسان، وأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة بعد التوحيد ماذا؟ الصلاة، أول شيئ التوحيد، بعد التوحيد أول ما يُسأل عن الصلاة، فإن صحت له الصلاة وقُبِلت فعمله – إن شاء الله – صحيح مقبول، وإن لم تصح ولم تُقبَل وكان لها مُضيِّعاً فهو لما سواها أضيع – والعياذ بالله -، بعيد أن يُقبَل له عمل، وهذا شيئ مُخيف، ولذلك كان ترك الصلاة والتفريط فيها من أعظم الذنوب، والناس لا ينتبهون إلى هذا المعنى وإلى هذا المُهِم الخطير الانتباه اللائق به، ثم يدعون ويرجّون الاستجابة، مُستحيل! بعيد جداً، لابد إذن أن نصل الحبال بحبل الله – لا إله إلا هو -، حتى إذا دعونا قال لبيك عبدي، رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، لماذا؟ لأنه من رجال الله، من رجال الله! 

قبيح بالمُؤمِن والمُؤمِنة – أيها الإخوة والأخوات – أن يُضيِّع ساعة من عمره في التزلف للبشر، في التقرب للناس، رجاء نوالهم، لكن أكثرنا يفعل ذلك، أكثرنا إنما يدخل عليه النفاق والرياء والنذالة حتى والخسة – والعياذ بالله – طمعاً فيما عند الناس، يطمع في شيئ من هذا العبد فيتذلل إليه، فلماذا لا تتذلل إلى الله – تبارك وتعالى -؟ كُن عزيزاً، مَن تضعضع لغني – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام – لأجل غناه ذهب ثُلثا دينه، لا يُوجَد دين، مُستحيل أن تكون من المُؤمِنين المُوقِنين الصادقين ثم تُري الذلة من نفسك لواحد من عباد الله رجاء عطائه ونواله، والله لن يُعطيك شيئاً إلا إذا قدَّر الله وقسم، إلا إذا ألهمه الله، فلماذا لا تقصد الشريعة؟ وعليك من هذه التفاريع والسواقي، عليك بالشريعة الأولى، عليك بالمورد الذي لم يُرنَّق، المورد الصافي العذب الأول، إنه رب العالمين – لا إله إلا هو -.

اسمعوا هذه الأبيات العجيبة، التي يهتز لها وتهتز لها أعطاف العارفين بالله – تبارك وتعالى -:

صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأنامِ مَطَالِبي                         وَوَجَّهْتُ وَجِهيِ نَحْوَهُ وَمَآربي.

كل شيئ لله – تبارك وتعالى -، لا أطلب شيئاً من عباد الله، الرغبة في الله، الرجاء في الله، الدعاء لله، الخوف من الله، العمل لله، العمل لله – تبارك وتعالى -، لا لغير الله – تبارك وتعالى -.

صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأنامِ مَطَالِبي                         وَوَجَّهْتُ وَجِهيِ نَحْوَهُ وَمَآربي.

إلى المَلكِ الأعْلَى الذَي لَيْسَ فَوقَهُ                    مَلِيْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتاعِبِ.

قال مَلِيْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ، والسيب هو العطاء.

إلَى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فَاضَ جُوْدُهُ                    وعَمَّ الوَرَى طُرًا بجَزْلِ المَوَاهِبِ.

مُقِيْليْ إذَا زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ عَاثِرًا                            وأسْمَحُ غَفَّارٍ وأكْرمِ وَاهِبِ.

فَمَا زَالَ يُوْلِيْني الجَميْلَ تَلَطُّفًا                          ويَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ.

مَن الذي يُعطيك؟ مَن الذي عوَّدك الجميل؟ مَن الذي عوَّدك الإحسان يا عبد الله؟ أليس هو – سُبحانه وتعالى -؟ فلماذا تنصرف عنه؟ قبيح بالوفي، قبيح بمَن يعرف معنى للوفاء، أن يشرب من الماء ثم يبصق فيه، أليس كذلك؟ فلماذا نعرف نعمة الله علينا ثم نكفر بها؟ لماذا نُوقِن أنه هو الذي عوَّدنا الجميل والإحسان ثم نقصد غيره؟ هذا كمَن يشرب من ماء ثم يبصق فيه، من باب الكفر بنعمة الله، من باب سفه النفس – والعياذ بالله -.

فَمَا زَالَ يُوْلِيْني الجَميْلَ تَلَطُّفًا                          ويَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ.

ويَرْزُقُني طِفْلاً وكَهْلاً وقَبْلَهَا                           جَنْينًا, ويَحْمِيْني وَبيَّ المكَاسِبِ.

قال ويَحْمِيْني وَبيَّ، أي وبيئة، المكاسب المُحرَّمة الموبوءة، ويَحْمِيْني وَبيَّ المكَاسِبِ.

إذَا أَغْلَقَ الأَمْلاَكُ دُوْني قُصُورَهُمْ                    ونَهْنَهَ عن غِشْيانهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ.

قال ونَهْنَهَ، أي ومنع، ونَهْنَهَ عن غِشْيانهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ.

فَزِعتُ إلى بَابِ المُهَيْمِنِ طَارقًا                         مُدِلاً, أنُادي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ.

الله أكبر!

إذَا أَغْلَقَ الأَمْلاَكُ دُوْني قُصُورَهُمْ                    ونَهْنَهَ عن غِشْيانهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ.

الحجّاب والعوذة.

فَزِعتُ إلى بَابِ المُهَيْمِنِ طَارقًا                         مُدِلاً, أنُادي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ.

فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلم أَخْشَ مِنْعَةً                     ولَوْ كَانَ سُؤْليْ فَوْقَ هَامِ الكَواكِبِ.

كَريْمٌ يُلَبيْ عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا                             نَهَارًا ولَيْلاً فَي الدُجَى وَالغَياهِبِ.

سَأسْألُهُ مَا شِئْتُ إنَّ يَمِيْنَهُ                                تَسِحُّ دِفَاقًا بالّلُهَى والرَّغَائِبِ.

اللُهى جمع اللُهية، وهي الطَلِبة، الذي يطلبه الإنسان، يتمنَّاه، ويُؤمِّله، سَأسْألُهُ مَا شِئْتُ، كل شيئ! إنَّ يَمِيْنَهُ، تَسِحُّ دِفَاقًا بالّلُهَى والرَّغَائِبِ.

فَحَسْبِيَ رَبِيْ في الهَزَاهِزِ مَلْجَاًّ                       وحِرْزًا إذَا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوائِبِ.

قال فَحَسْبِيَ رَبِيْ في الهَزَاهِزِ، أي في القلاقل، في الزلازل، وفي المشاكل العويصات للكبار، مَلْجَاًّ، وحِرْزًا إذَا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوائِبِ.

الله أكبر، هكذا فليكن اليقين بالله – تبارك وتعالى -، ولكن – كما قلت لكم – إذا رأينا أو إذا أردنا أن نرى مصداق ذلك في أنفسنا فعلينا أن نبدأ بالأصل، ما هو الأصل؟ القلب، وصدق مَن سماه القلب، لأنه اللُب، إنه القلب، وما عداه فتفاريع، فروع تستمد منه، إذا طاب هذا القلب طابت الفروع، إذا خبث خبثت الفروع، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب، علينا أن نبدأ إذن بإصلاح القلب، وهل ترون القلب يصلح إذا كان بعيداً من المولى – تبارك وتعالى -، إذا كان كافراً بنعمة الله، وإذا كان مُشتَّت الهم والعزمات في شؤون الدنيا كلها وليس هم الآخرة ضمن تهمهه وعزماته؟! كيف؟ مُستحيل! هذا قلب ضعيف، هذا قلب مريض، هذا قلب ضائع، وهذا قلب حائر.

بالأمس استمعت إلى لقاء مع مُفكِّر وعالم شهير، وهو إدوارد سعيد، رجل يُحسِن الكلام، مُتفلسِف، وناقد، يُدرِّس النقد والأدب، لكن – سُبحان الله – قلت الحمد لله على نعمة الإيمان، ترى الضياع بادياً أمامك في الفكر، في التعبير، وفي الآراء، إنسان ضائع، عنده ما يقول، لكن يُعبِّر عن ماذا؟ عن حالة يرثي لها كل مُتزِن وكل مُؤمِن حق، حالة من الضياع وحالة من الضياع، هو وصف نفسه بعبارة واضحة، بأنه في حالة ضياع، نعم! كلما ابتعدت عن ربك – تبارك وتعالى – ضعت أيها العبد والله، ضعت! وأما المعارف والعلوم والشهادات فهذه لا تُجديك شيئاً، لا تُجديك شيئاً.

أيها الإخوة:

المعارف والعلوم كثيرة جداً، وهي أكثر من أن يُحيط بها لا أقول رجل وإنما جيل، جيل من البشر، لا يستطيع أن يُحيط بالمعارف كلها، مُستحيل! يُحيط ببعضها، وقد ترك وسيترك للأجيال التي ذهبت والتي ستأتي الكثير الكثير لتُحيط ببعضه، مُستحيل! فعلى الإنسان دائماً أن يسأل نفسه أي لون من العلوم، أي لون من المعارف، وأي لون من المدارك ومن المفهومات أنا إليه أحوج وحاجتي إليه أحق وبه أمس؟

إذا دخلت الامتحان – إذا كنت طالباً جامعياً أو حتى في المدرسة ودخلت الامتحان – فلن تُغني عنك معلومات كثيرة عبأت بها دماغك، لن يُغني عنك إلا ماذا؟ إلا المعلومات التي تُناسِب ما في الورقة من الأسئلة، وهكذا حالنا في الدنيا والآخرة، إذا لقيت الله – تبارك وتعالى – وفهمك في دينك، فهمك في شرع الله، فهمك في عقيدة الإسلام والتوحيد، فهمك في العرفان، فهمك فيما – كما قلنا قُبيل قليل – يصل الحبل – أي حبلك بحبل الله تبارك وتعالى – فهم ضائع أو تائه أو غير موجود أو باهت أو ضعيف، فماذا يُفيدك؟ لا تُفيدك كل المعلومات الأُخرى والله، لن تُجديك، قد تُفيدك في الدنيا، تُحصِّل بها شهادةً، تُحصِّل بها رزقاً، تُحصِّل بها وجاهةً عند الناس، تتشدَّق بها، وتتمعقل بها على عباد الله، هذا مُمكِن، لكنك فرَّطت في الأساس، فرَّطت في الأساس!

نُطيل التفكير جداً، ونُحسِن التدبير، لماذا؟ نُحسِن التدبير لشيخوختنا، لأيامنا التي ستدهمنا إن كتب الله لنا عمراً، إن مد الله في الفُسحة، كما قال ابن الرومي:

أعمارنا جاءت كآي كتابنا                               منها طوال فُصِّلت وقصار.

هكذا! منا مَن يعيش طويلاً، منا مَن يعيش وسيطاً، ومنا مَن يموت في أول شبابه، في ميعة الشباب وشرخ الصبا كما يُقال، على كل حال فمَن مُد له في المُهلة ومَن مُد له في الفُسحة وعاش يتهمَّم كثيراً ويُحسِن التدبير لأيام الشيخوخة العصبية الواهنة الذاوية الضعيفة، فهو يعتمد على ماذا؟ يعتمد على راتب تقاعدي مُريح، أحياناً يسألني بعض الناس في أشياء كهذه بلا شك، ونحن علينا أن نُعطي الفتوى حسبما فتح الله، لكني والله في أعماق قلبي – أُقسِم بالله – أرثي لهم، أقول عجيب، هذا عجيب، أعند هذا الرجل أمل أن يعيش ثلاثين سنة وهو يُدبِّر لثلاثين سنة؟ جيد، هذا ليس مُحرَّماً، لكن لِمَ لا تُدبِّر لآخرتك كأنك تموت بعد ساعة؟ إذا أردت أن تتبرَّع لشيئ أو لمشروع من مشاريع الخير – لفلسطين أو للعراق أو لمسجد أو لمركز أو ليتامى أو لطباعة كتاب إسلامي أو لأي شيئ – فإنك تحسبها ألف مرة، أو بعض الناس يفعل هذا، يحسب، يقول هذا ينقص من الــ Konto ويكز، المسكين يبخل، فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۩، لأن النبي أقسم أنه ما نقص مال من صدقة، لِمَ تبخل يا مُؤمِن؟ من قلة العقل، ومن قلة الفهم في الدين، كما حدَّثتكم قبل أسابيع عن أبي الدرداء – رضوان الله تعالى عليه -، قال ما من امرئٍ إلا وفي عقله نقص عن علمه، يعلم الأشياء لكن لا يُطبِّقها، لأن عقله ليس كاملاً، لو كان العقل كاملاً يصدر عن كل ما أمر الله، وينتهي عن كل ما نهى الله، لأن الله لا يأمر إلا بما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة، ولا ينهانا إلا عما فيه ضيرنا في الدنيا والآخرة، لكن ما من امرئٍ إلا وفي عقله نقص عن علمه، لو كنا نعمل بكل شيئ نعلمه لكنا من الكملة، لكنا من الواصلين، ولكنا من عباد الله العارفين.

إذن وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۩، يكز ويتراجع لأنه يُحسِبها، لكن إذا دبَّر لأيام شيخوخته أو لأطفاله من بعده يُدبِّر لثلاثين سنة قادمة، ما شاء الله، يا ليتنا نُفكِّر في مصلحة الدين كما نُفكِّر في مصالح أنفسنا وفي أنانياتنا الصغيرة! يا ليتنا نُفكِّر في مصلحة الإسلام الذي نتباكى عليه ولا نخلو من الصدق – بحمد الله تبارك وتعالى – بهذه الطريقة، نعم لا نخلو من الصدق، لكن أحياناً نُبالِغ في مشاعرنا تجاه هذا الإسلام العظيم، نُبالِغ وندّعي أننا من كبار الدُعاة، من كبار القادة، ومن كبار المُجاهِدين في سبيل نُصرة الدين، ثم نحن نبخل عليه بدراهم معدودات، نبخل عليه بأوقات ضئيلات، نبخل بأوقات ضئيلة ونقول لا، لدينا مشاغل، مشاغل دنيوية، قد تكون ترفيهية، نوع من الرفه، نوع من التلذاذ من المُتعة الدنيوية، التي قد يُخالِطها الشُبهة أو الحرام أحياناً، هذه لا نبخل عليها لا بوقت ولا بمال، ندفع آلاف المئات أو الآلاف أحياناً في أشياء تافهة، قد تكون من التكميليات، لكننا نخفض أيدينا إذا استدعى الأمر أن ندفعه للإسلام وللمُسلِمين ولنُصرة هذا الدين، وكيف تكون نُصرة هذا الدين إذا لم تكن نُصرةً لكل قضاياه وفق المُستطاع وقدر الجُهد؟ قضايا الإسلام ما هي؟ هي قضايا المُسلِمين، لا يُوجَد شيئ اسمه إسلام هكذا بالمُطلَق، ليس موجوداً بالمُجرَّد شيئ اسمه إسلام ونُريد أن ننصره، هذا غير موجود، لكن أن إردت أن تنصر الإسلام فانصر قضايا المُسلِمين، تنصر الإسلام، انصر قضايا المُستضعَفين في الأرض، كما قلنا في فلسطين والشيشان والعراق وأفغانستان، في كل مكان! انصر القضايا التي يُمكِن أن تشد في عضد إخوانك، في عضد القائمين على أمر هذا الدين في أسقاع الأرض، في مشارقها ومغاربها، تنصر الإسلام بذلك – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

لكن هذا عجيب، عجيب فعلاً، فأتسأل دائماً فعلاً هل يُوجَد من المُسلِمين ناس لهم أو لديهم مثل هذا التأميل في الدنيا إلى ثلاثين سنة قادمة؟ والله لا يضمن واحد أن يعيش سويعة، هو لا يضمن أن يعيش طبعاً نفساً واحداً، نفساً واحداً! النبي كان يقول ذلك وكان يُشهِد الله على أنه ما رفع لُقمة إلى فيه وظن أنها تقع في جوفه، كان دائماً عنده من الظن أنه ربما لا يستطيع أن يسوغ هذه اللُقمة، لأنه قد تُقبَض روحه قبل أن يسوغ هذه اللُقمة، هكذا!

أُسامة بن زيد اشترى شيئاً بسلف – بدين – إلى سنة، فقال النبي يا لله، إن أُسامة لطويل الأمل، أإلى سنة؟ أيأخذ شيئاً بدين إلى سنة ويظن أنه يعيش اثني عشر شهراً؟ بعض الناس يقول منطق كهذا يُضعِف المُسلِمين عن العمل والكسب، لا والله، بالعكس! لو فهمنا هذا المنطق كما فهمه الصحابة لاختلف وضعنا، هل الصحابة ضعفوا عن العمل والكسب والفتوح؟ فتحوا أرجاء الأرض، فتحوا العباد والعباد، وهل ضعفوا عن تأسيس حضارة ومدنية؟ بالعكس! لقد رأيت ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة فهم بشكل واضح أحسن منا نحن الآن، الذين لا نُريد أن نفهم أحياناً، فهم أن عقيدة القدر كما تلقاها الصحابة كانت هي السر وراء هذا النشاط العارم وهذه الفتوحات التي انداحت بها أسقاع الأرض، وراء كل ما أحدثه هؤلاء من مدنية وما أرسوا من أُسس حضارية عقيدة القدر، عجيب! ونحن صارت لدينا عقيدة القدر هي التبرير الذي نرفعه دائماً ونختبئ وراءه ونتعلَّل به، نقول لأن الله كتب وقدَّر هذا، انتهى! هذا هو، ليس في الإمكان أبدع مما كان، الله أراد هذا، وكما قال محمد إقبال – رحمة الله تعالى عليه -، قال المُؤمِن الضعيف يتعلَّل بالقدر، يرى أنه ضحية القدر، وأما المُؤمِن القوي فيرى أنه قدر الله النافذ وقضاؤه الغالب، هو نفسه القدر، أنا القدر، لو أحسنا أن نُنشئ أجيالاً مُعبأة بمثل هذا المنطق ومُعبأة بمثل هذا الفهم فترى أنها هي قدر الله – تبارك وتعالى – والله لا يقف حيالها شيئ، وتستطيع أن تستجيب أحسن استجابة لكل التحديات، عسكرية واقتصادية وثقافية وحضارية وتربوية، لكل التحديات! إذا رأت أنها هي قدر الله، هي قدر الله، هي قضاؤه الحام والغالب الذي لا يُرَد، لكن نحن للأسف نتعلَّل بالقدر.

أيها الإخوة:

علينا أن نُبديء وأن نُعيد دوماً وأبداً في تحرير وتشحير وتمحيض الصلة بالله – تبارك وتعالى -، وهذا لا يكون ولا يصح إلا على أُسس عقدية سليمة، تستمد من الكتاب والسُنة الصحيحة، وتُطيل النظر في كتاب الله – تبارك وتعالى -، ليس على طريقة الهذرمة، أي تلاوات الهذرمة، وليس على طريقة قراءات المعقلة والحذلقة الإعرابية والصرفية أبداً، إنما أن نقرأ هذا الكتاب وأن نستجيب له استجابةً باطنيةً روحانيةً حقيقيةً، تنفذ إلى مغازيه، تُلامِس مقاصده، وتُلامِس غاياته البعيدة.

بهذا نستطيع أن نُعيد تكوين أنفسنا، وأن نُخرِج من أنفسنا ومن أبنائنا وبناتنا – إن شاء الله تبارك وتعالى – جيلاً يُحسِن الاستجابة لمُختلف صنوف التحديات.

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهديني وإياكم سواء السبيل، وأن يفتح علينا فتوح العارفين به، إني ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                 (الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، إقرارا بربوبيته، وإرغاماً لمَن جحد بها وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، الرسول الشافع المُشفَّع في المحشر، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين ما اتصلت عين بنظر وما وعت أُذن لخبر.

أما بعد:

فاعلموا عباد الله أن الله – تبارك وتعالى – قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، ثم ثنى فيه بملائكة عرشه وقُدسه، فقال – جل من قائل – مُخبِراً وآمراً إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، لبيك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

اللهم أصلِحنا لك كما أصلحت الصالحين، واجعلنا هُداةً مُهتدين غير ضالين ولا مُضِلين، افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك واتباعاً لسُنة نبيك، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك وندعوك ونبتهل إليك ونضرع أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، اللهم عليك بأعدائنا، أعداء الدين، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم أرِنا فيهم تعاجيب قدرتك، وآيات انتقامك، وعلائم بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، فإنهم لا يُعجِزونك.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(23/5/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: